آخر مقالات علمي الاجتماع والنفس
المزيد
علما الاجتماع و النفس
قد يسجل المتتبع للمنجز الفكري للأستاذة رحمة بورقية1 الملاحظات التالية:
1-تنوع وغنى أعمال الباحثة حول بنيات وثقافة المجتمع المغربي،
2-عمق طروحاتها التي تمتح في جزء كبيرمنها من إسهام الإبستيمولوجيا المعاصرة؛ إلى جانب استلهام التراثين السوسيولوجي والأنثروبولوجي استلهاما نقديا، أسعفها على تقليب الظواهرالاجتماعية من كل وجوهها، بحثا عن القواعد الخفية المتحكمة في البنيات والمؤسسات؛ وسعيا للإمساك، قدرالإمكان، بالمعاني المحتملة التي تتضمنها تلك القواعد، دون أن تبديها أوتفصح عنها،
3-عدم اطمئنانها"للظاهر من الأشياء الاجتماعية" 2، ونزوعها"إلى البحث عن آليات إنتاج الثقافة والمعنى..بتأويل الواقع الاجتماعي وفك رموزه"3 بماهو نص (=الواقع)دينامي يستعصي على التحليل التبسيطي؛ والتعليل الميكانيكي المكتفي باختزال عوامل التطورفي عنصروحيد.
فالتأويل منظوراستراتيجية عند ذ.رحمة بورقية إلى جانب التاريخ، والتحليل النفسي، وسوسيولوجيا المعرفة..غرضه استثارة الواقع لحمله على الإفصاح عن انتظاماته ومنطق اشتغاله...ولربما هذا ما تسنى لنا استشفافه بين ثنايا الأعمال التي اقترحتها منذ إنجازها لأطروحتيها الجامعيتين 4؛ مرورا ب"مواقف"5 و"النساء والخصوبة" 6، ووصولا إلى عملها الموسوم ب"رهانات المعرفة والثقافة".
يطرق مؤلف"رهانات المعرفة والثقافة" الذي جاء في 328 صفحة إشكالات راهنية قوية؛ وقضايا متعددة لها وصْلٌ بما يَمُورُ به عالم اليوم بدء من لحظة سقوط جدار برلين وانهيارالمنظومة الشمولية السوفياتية(=الدول الممزقة)، فبروزالأحادية القطبية كحالة كونية جديدة تدعمها قوة الرأسمال المالي الهيمني العابرللقارات الذي أقحم كوكبنا في خضم حضارة جديدة تتمثل أبرزمتغيراتها في:
-انكفاء الإيديولوجيات، وبروز أزمة النظريات الكبرى. وطبقا لهذا ارتأى منظروالكوكبية أن التاريخ الراهن بلغ أوجه ومنتهاه بانتصارالليبرالية على ماسواها من التيارات الفكرية؛ والأنماط الاقتصادية كما على باقي المذاهب والعقائد7 التي عرفتها البشرية خلال تطورها التاريخي؛ وبالأخص النهج الاشتراكي.
-إعادة تشكيل العالم من خلال إلغاء
حدود الزمان والمكان بفضل تكنولوجيا المعلومات فائقة السرعة التي أقحمت البشرية في مغامرة معرفية لاسابق لها في التاريخ؛ ولامحدودة في الأفق مما يستلزم مراجعة مسترسلة ودَؤُوبَة لكل منظوراتنا؛ وأنماط حَيَوَاتِنا اليومية التي درجناعليها وألفناها؛ وتجديد أساليبنا في تنشئة وتأهيل أجيالنا الطالعة..
-إعادة النظرفي النظام الدولي السابق الذي تشكل عقب "مؤتمريالطا" في فبراير1945. فمن المحقق أن هاته الصياغة الجديدة للعالم تمخضت عن تحولات كونية هائلة على كل المستويات؛ من مستتبعاتها الجلية تأزيم الدولة-الوطنية؛ وتفكيك أوصالها بإشعال فتيل الحروب بين مختلف مكوناتها العرقية؛ وتأليب أطيافها الدينية بعضها على البعض بسبب ضعف اندماجها ضمن نسيج ثقافي وطني موحد.8
أقترح اليوم ترجمة هذا المقال لمايتي كلافيل إلى العربية. ولكن يجب في البداية التعريف بالكاتبة. هي عالمة اجتماع، بعد أن كانت مديرة دروس في أوريم -لورين (OREAM-Lorraine) من عام 1966 إلى عام 1968، ثم أستاذة باحثة في جامعة باريس إكس-نانتير، أصبحت منذ عام 2000 باحثة مساعدة في IPRAUS (UMR 7136 AUS، شركة الهندسة المعمارية تابعة إلى المركز الوطني للبحث العلمي). هي مؤلفة على وجه الخصوص لكتاب "علم الاجتماع الحضري" (باريس، أنثروبوس، 2002)، وهو العمل الذي يحاول تقييم الأبحاث الاجتماعية حول المدينة والحضري في فرنسا، وتواصل أبحاثها حول أشكال التحضر المعاصر والطبيعة الحضرية.
تمكن هنري لوفيفر من بيان وإظهار الروابط المعقدة التي تربط المجالات بمجتمعاتها، وتوضيح إلى أي مدى يشكل المجال جزء لا يتجزأ منها، ليس فقط كمنتج ولكن كأداة إنتاج، وقوة إنتاجية. بالنسبة إليه، المجال ليس مجرد ناقل اقتصادي، بل هو أيضا رافعة من الرموز واللغة ومستودع للصور. وهكذا ميز نفسه عن الباحثين الآخرين، الذين كان مؤلفوهم المرجعيون هم نفس المؤلفين، لكنهم اختزلوا هذه الروابط إلى اعتماد بسيط: المجال كبنية فوقية، والمجال كمكان لتطبيق نمط الإنتاج. لقد فصل نفسه عن الآخرين، الذين سعوا، متبعين علماء الاجتماع في مدرسة شيكاغو، إلى قوانين توزيع السكان بالإضافة إلى تضمين المجالي في الفوضى الاجتماعية، دون الاهتمام بالسياسة (ولا بالاقتصاد).
إن الفكر النقدي لـهنري لوفيفر مذهل بسبب مزيج المراجع التي تبدو قديمة اليوم، والجرأة في الخطوات النظرية، وتفسير الظواهر الاجتماعية وبناء تفكير معقد حول المجال الاجتماعي.
إن ما يتعلق بدور الدولة، وانتشار ما يسمى بالنموذج الشيوعي، لم يعد ذا أهمية اليوم، وما يقوله عن الرأسمالية، رغم وصفها بأنها تدبيرية ولم تعد تنافسية، لا يأخذ في الاعتبار أشكال عولمتها، ولا أبعادها المالية. ومن ناحية أخرى، فإن تحليلاته للمجال، وتأملاته المتكررة حول إكولوجيا كوكبنا، وكذلك وجهات النظر التي يقترحها أو يذكرها، يمكن تناولها اليوم.
ليس من قبيل الصدفة بلا شك أن يتم إعادة نشر جميع كتبه في الولايات المتحدة وأن يتجلى الاهتمام بهذا الفكر مرة أخرى في فرنسا كذلك.
يقول بوذا " نحن نتشكل بأفكارنا، نحن نصبح ما نفكر به، عندما يكون العقل نقياً تكون الفرحة ظله الأبدي ". ويقول جيمس هارفي روبنسون :" إن العقل الحديث حديث جزئيا لأن جوانب كثيرة منه ساكنة فينا منذ أيام ماضينا السحيق".
1- مقدمة:
يقول آلفين توفلر، في كتابه المعروف صدمة المستقبل، مشددا على البنية المعقدة لمفهوم العقلية "إن كل شخص يحمل في داخل رأسه نموذجا ذهنيا للعالم، أي تصورا ذاتيا للعالم الخارجي، ويتكون هذا النموذج الذهني من عشرات فوق عشرات من ألوف الصور([1]). إنها نمط ذهني من التصورات الذاتية للعالم تساعد الإنسان على تحقيق تكيفه مع عناصر الوجود وتجعله يمتلك نمطا كليا من التفكير يعتمده في النظرة إلى خصائص الوجود.
ومن أجل أن يستطيع الإنسان أن يواجه التغير السريع والعاصف يجب على الفرد أن يغير من مخزونه من تلك الصور بمعدل يتناسب مع هذا الذي يجري به التغيير في داخل المجتمع " ([2]). " والمعرفة الجديدة إما أن توسع من سابقتها أو تنسخها وفي كلتا الحالتين فإنها تفرض على المعنيين بها أن يعيدوا ترتيب مخزونهم من الصور ([3]). ويصف توفلر آليات تغير الذهنية فيقول: " إن أمواجا تلو أمواج من الصور الجديدة لا تني تهاجم دفاعاتنا وتهزم تصوراتنا الحقيقية في مختلف مجالات الحياة: في التعليم وفي السياسة، وفي الطب وفي العلاقات الدولية ([4]). وكنتيجة لهذا الغزو المتواصل فإن معدل تآكل الصور القديمة يرتفع باضطراد ([5]).
في هذه الصورة البديعة التي يقدمها توفلر لمفهوم العقلية، نجد أنفسنا إزاء مفهوم إنساني متمرد ومغامر، ونعلم منذ البداية بأننا سنواجه صعوبات منهجية في البحث عن تضاريس مفهوم قوام آلاف مركبة من الصور الذهنية. ويجب الاعتراف منذ البداية، أن مفهوم العقلية Mentalité من هذه المفاهيم التي تزداد غموضا كلما اشتد المرء في طلبها، وتزداد صورتها تعقيدا كلما ألحّ الباحث على التأمل في تضاريسها. وهو يشكل واحدا من المفاهيم الإشكالية التي تتداخل بصورة معقدة مع منظومة من المفاهيم المركبة ولاسيما هذه التي تثير الجدل الفكري منذ عهود بعيدة المدى في تاريخ العلوم الإنسانية([6]).
يشير مفهوم العقلية Mentalite إلى تكوينات معقدة واعية وغير واعية، شعورية وغير شعورية، حاكمة للسلوك الإنساني، إنها نظام معقد من المشاعر والأفكار والتصورات والقيم التي تجعلنا نتصرف على نحو ما، وننظر إلى الكون برؤية خاصة، ونقف من أشياء العالم موقفا محددا يفرضه هذا النظام بمؤثراته المختلفة. فالعقلية هي النظام الأكثر غموضا في تكوين الإنسان والأكثر أهمية وخطورة في حياته، وفي هذا الغامض تتحرك أكثر عناصر الوجود الإنساني وتتفاعل لتقدم للإنسان أكثر صيغه الإنسانية تكاملا. وبعبارة أفضل يمكن القول بأن العقلية تشكل الروح الخفية والغامضة التي تشكل الطاقة الأساسية للحركة والوجود الإنساني. وهي في النهاية نظام من السلوك والنظرة إلى العالم يتشكل ويتبلور في الأفران الثقافية للمجتمعات الإنسانية. وهذا يعني أن السلوك عبارة عن ترجمة عملية للتصورات الذهنية المنبثقة عن ثقافة ما فالفرد في أي مجتمع مغمور بتراث ثقافي يتجاوزه وهو التراث الثقافي للحضارة التي ينتمي إليها. "وهو من خلال هذا التراث يدرك العالم ويحكم عليه، غير أن هذا التراث عندما يتجمد ولا يتجدد يسير نحو الضمور فالزوال، ويحول بالتالي بين الفرد وبين كامل إدراكه لذاته وغيره، ومن هنا كانت هناك صلة دائرية بين تجدد المجتمع وتجدد الفرد فكل منهما يجدد الآخر "([7]).
” وعلى كلٍّ فإن (الشيءُ) يستردُ سيطرته على الإنسانِ في مجتمع ما بعد التحضرِ، حيث يتمتعُ هذه المرة (شأنه شأن كل مجتمعٍ استهلاكيٍ) بعالمٍ مثقلٍ بأشياء، بيد أنها أشياء خامدة وخالية من الفعاليّة الاجتماعيّة “ (مالك بن نبي: مشكلات الحضارة - مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي).
” هناك "عالم الأشياء" ويشمل كل الوسائل المادية التي تُنتجها الحضارة، وهناك "عالم الأفكار" الذي يظل مزدهراً لينتج كل تقدم في المجالات المختلفة، ويظل عالم الأفكار في حركية وتدافع وإنتاج وإعمار لعالم الأشياء إلى أن يتمكن (الشيء) من (الفكرة) ويطغى عليها فيؤدي إلى جمودها وسكونها، ولا فرق بين البلاد المتخلفة والمتقدمة في مفهوم طغيان عالم الأشياء لأنه لأسباب عديدة، منها عصور الاستعمار، أصبح التماثل والتشابه كبيراً إلى حدٍ ما، وتطابقت مظاهر المنتج والمستهلك، فأصبح الشيء يطغى في البلاد المتخلفة بسبب ندرته، ويطغى في البلاد المتقدمة بسبب وفرته، فيؤدي هنا إلى عقدة الكبت والميل نحو التكديس، ويؤدي هناك إلى نوعٍ من الإسراف والتشبُّع “ (مالك بن نبي: مشكلات الحضارة - مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي).
كما هو معلوم لدينا أن النظريات النقدية اختلفت في رؤيتها لمشروع الحداثة، نجد أنها اختلقت أيضاً في رؤيتها لمفهوم ما بعد الحداثة، لكن هذه الرؤية - في وقتنا المعاصر - أقل إيديولوجية وتشنجاً، وأكثر مصداقية وقابلية للتعميم من ذي قبل، وتنطلق من مقولة أساسية أن التكنولوجيا هي التي تشكيل عالمنا الاجتماعي، أو كما يقال: التكنولوجيا هي محرك التغير، والمعرفة وقودها. وهكذا أصبحت معظم النظريات والمقاربات السوسيولوجية في مرحلة ما بعد الدولة القومية تركز على التكنولوجيا أكثر من الإنسان، إذ يجري الحديث عن سوسيولوجيا المعلومات والمعرفة ومجتمع الشبكة وثورة التكنولوجيا، فهي بهذا مشغولة ببنية هذه الثورة وطبيعتها، أكثر مما هي مشغولة بعالم الإنسان، ولعلها لن تكون قادرة على قراءته تماماً، بالنظر إلى أن ثورة المعلومات جعلت المجتمع في حالة من التغير اللا مستقر والثورة الدائمة. هذه هي إحدى التحديات المعرفية التي تواجه علم الاجتماع الجديد، وهي سرعة تغير المعرفة السوسيولوجية وتقادمها، من جهة، وفقدان القدرة على التنبؤ الاجتماعي، من جهة أخرى، ودخول المجتمع في مرحلة من التغيير أشبه ما تكون بالثورة التكنولوجية الدائمة، التي لا تخدم النظام، بل تدمره تدميراً خلاقاً، وتبعث عن هذا التدمير الخلاق مجتمعاً، تصبح فيه ثورة المعرفة هي النظام والإبداع، والثبات هو الفناء. إن جنون التكنولوجيا هو عنوان هذا التغيير، ودراسة أثرها على تشكيل السلوك الإنساني وإعادة إنتاجه بأنماط مختلفة هو موضوع العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن.
في عملها البارز، "الظهور الجندري في المجتمع الملاوي الساحلي الشرقي"، تسبر الأنثروبولوجيا إنغريد رودي أغوار التحولات الجندرية في ماليزيا، مع التركيز على تأثيرها على الحياة الاجتماعية والاقتصادية للنساء في الساحل الشرقي. تعود رودي إلى ماليزيا بعد مرور عشرين عاماً على دراستها الأولية لتلقي الضوء على الثبات والتغير في الأدوار الجندرية، مما يسلط الضوء على كيفية تأثير العمليات التاريخية الكبرى والأحداث الشخصية في تكوين الهويات الجندرية.
وتعتبر إنغريد رودي أول امرأة عالمة أنثروبولوجيا في النرويج، تمثل شخصية رائدة وملهمة في مجال علم الأنثروبولوجيا. لا تقتصر أهميتها على كونها امرأة في ميدان غالبًا ما كان يهيمن عليه الرجال، بل تتعدى ذلك إلى إسهاماتها العلمية والأكاديمية التي أثرت بشكل كبير في فهم الثقافات والمجتمعات المختلفة. تميزت رودي بأبحاثها المعمقة وميدانية العمل، حيث غالبًا ما كانت تغوص في الثقافات التي تدرسها لفهمها من الداخل. هذا النهج لا يوفر فقط فهمًا أعمق للثقافات المختلفة، ولكنه يبرز أيضًا أهمية النظرة الأنثروبولوجية التي تقدر الاختلافات الثقافية وتحتفي بها. تغطي الدراسة طيفاً واسعاً من الجوانب الحياتية كالأسرة، التعليم، الاقتصاد والطقوس، مستخدمة مناهج أنثروبولوجية لرسم صورة مفصلة للحياة اليومية للنساء، وتكشف عن قدرة النساء على التأثير في أدوارهن الجندرية رغم القيود المفروضة عليهن. في فترة الستينيات والثمانينيات، شهد الساحل الشرقي الماليزي تغيرات كبيرة في مكانة المرأة، حيث تمتعن بأدوار متنوعة كزوجات، أمهات، ورائدات أعمال، مسيطرات على الأسواق ومؤثرات في الاقتصاد الأسري والسياسات العائلية. تلك الحقبة كانت محورية في تاريخ ماليزيا، حيث بدأت مكانة المرأة تعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية الرئيسية في المجتمع. من الستينيات إلى الثمانينيات، دفع النمو الاقتصادي والتحديث في البنية التحتية والخدمات العامة نحو توسيع الفرص الاقتصادية للنساء، مما ساهم في تمكينهن من تولي أدوار متنوعة في المجتمع. تغيرات أدوار النساء داخل الأسرة ومشاركتهن الاقتصادية المتزايدة كان لها تأثير بارز في الاقتصاد المحلي والأسري.
عتبة:
لابد للمهتم بالسوسيولوجيا في المغرب أن يسجل الحضور الفكري المتميزالذي حققه عالم الاجتماع المغربي د.عبد الصمد الديالمي سواء بإنتاجاته المكتوبة أومقابلاته الصحفية المثيرة بسجالياتها القوية، أوباستراتيجية تفكيره، والكيفيات اللامهادنة التي يَطْرق بها القضايا اللاهبة المُرْبِكَة حقا للمؤسسة التقليدية؛ والمزعجة إلى أبعد الحدود للعقل الاتباعي الاجتراري في مجتمعنا .
فغير خاف أن مدار اشتغالات الدكتورعبد الصمد الديالمي يتمحور بالأساس حول الجنس والجنسانية الموضوعتين اللتين قادتاه رأسا إلى الاقتراب أكثر من طبيعة المجتمع المغربي وتعميق النظر فيه سَبْراً لأغواره بالاعتماد على أَسْلاب العمل السوسيولوجي الاختباري المصغي جيدا للواقع في أدق تفاصيله. فقد سمحت له دراسته التأسيسية التي وقَّعَها بعنوان "المرأة والجنس في المغرب" 1 من بناء سؤالاته الاستفهامية التي ستشكل حجر الزاوية في مشروعه العلمي وهي: ما موقف الشباب من الجنس؟ ما موقف السلطة من الإشكالية الجنسية؟ أضف إلى ذلك ماهو منظورالإسلام للجنس؟ وكيف يتعاطى الفقه مع القضايا المستجدة حول هذه الموضوعة في مجتمع داهمه التحول على كافة المستويات والصُّعد؟
إنها السؤالات ذاتها المحركة لإسهامنا الذي يروم، جهد المستطاع، النظر في المنجز السوسيولوجي لعبد الصمد الديالمي من أجل إعادة بناء طروحاته الأساسية ومحاوره الكبرى.
أولا: ملاحظات حول السوسيولوجيا الوطنية:
إلى الجيل الجامعي المغربي الذي تتلمذ للرواد المغاربة 2 واضعي اللبنات الأساسية للسوسيولوجية الوطنية؛ تنظيرا وممارسة، ينتمي الأستاذ عبد الصمد الديالمي بكل تأكيد.
انٰهَمَمَ هؤلاء الرواد بعيد لحظة الاستقلال السياسي بتشييد معرفة سوسيولوجية حَرَّكها حذر فكري من المعرفة الغربية؛ ويقظة إبستيمولوجية من التراث العربي الإسلامي الجاثم على ذاتنا المطمئنة إلى وهم الوحدة وميتافيزيقا الكلية 3 عوض منطق التكرار التوَّاق للاختلاف الذي يشغل حاضرنا، ويهم مستقبلنا 4 .بهذا المعنى سينصب نظر المدرسة السوسيولوجية المغربية على الإشكاليات ذات الارتباط بمرحلة تصفية الاستعمار؛و مشروع بناء الدولة الوطنية وماواكب ذلك من نقاشات وتحليلات، ومنظورات كانت، بمعنى ما، صدًى لما كان يعتمل في الساحة الدولية من صراعات فكرية قوية وتوجهات سياسية متصادمة تراوحت بين الغَرْبَنَة والتحديث ذِي المنزع الاشتراكي أو الليبرالي(=الاغتراب)؛ أوالموصول بالمشروع القومي العروبي بكل أطيافه(=الاعْتِراب)؛ أو ذاك المرتبط بحركة القارات الثلاث المنافحة عن" الإبداع الذاتي" و"الخصوصانية "؛ المقولتان المركزيتان في التحليلات الفكرية لدى منظري ما سمي آنئذ بالأمم الجديدة 5 .
في خضم هذا المخاض الفكري والسياسي خلقت المدرسة السوسيولوجية الوطنية المغربية التي تفاعلت، في الوقت نفسه، مع رؤى وتيارات فكرية وفلسفية مَوَّارة، شكلت على نحو ما الخلفية النظرية، والقاعدة الثقافية للنقاشات وأثناء مطارحة القضايا الهامة في ذلك المنعطف الدقيق التي شهدها عالمنا؛ على اعتبار أنها انصبت بشكل جوهري على سؤالات التنمية التي ستجنح بالأبحاث المختلفة صوب توصيف طبيعة التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية المغربية؛ وفحص بنياتها وانتظاماتها الداخلية في أفق إنتاج معرفة حقة تشمل كل مفاصل المجتمع؛ وتسعف في إمعان النظر مليا في معاطب التطور؛ وللإشارة بأصبع مستقيمة إلى معرقلات التغير.
و اعتبارا لهذا اقتضى الأمر درأ المناولات الماكروسوسيولوجية لفائدة المونوغرافيات والبحوث، القطاعية الرامية إلى تفهم دقائق الظواهرالاجتماعية وكيفيات تشكلها في الزمان والمكان 6 .
و تبعا لهذا تطارح الباحثون مواضيع لها وصل بإشكالية التقليد والتحديث والبنى المخزنية ثم بمكونات الطبقة السياسية، وآليات الارتقاء الاجتماعي والسياسي بالإضافة إلى علاقة الدولة بالإدارة والمجتمع، وبطبيعة التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية المغربية، إلى جانب الثقافة الشعبية بما هي حقل خصيب لتشابك الرموز وتداخل العلامات 7 التي تسائلنا من أجل الحفرعميقا في الذاكرة الجماعية للوقوف على جروح مجتمعنا المطمورة في تمثلاتنا وأفكارنا 8 ؛ فضلا عن قضية المرأة في التراث الإسلامي الموضوعة الرئيسية في أعمال العالمة الاجتماعية المغربية الأستاذة فاطمة المرنيسي.
و لأن الباحثين المغاربة يضعون هاته القضايا أمام السؤال السوسيولوجي؛ ويشرحونها بمبضع وتقنيات البحث العلمي، فقد نظر إلى السوسيولوجيا-ومايزال هكذا الأمر-كتخصص مزعج، وإلى ممارسيها كمشاغبين بحسبانهم يمارسون الشك الباعث على السؤال والموقِظ لشعلة التفكير.
ألا يرى الحس المشترك إلى السوسيولوجيا-والفكر الفلسفي - النظري-كفرع معرفي مزعج؟ أوَلَيْسَ التساؤل السوسيولوجي علامة على حيوية الذهن؛ ودلالة على يقظة الوعي المخلخل للعادة، وللتمَثُّلات المتجذرة في الأذهان؟
إن فضح الانخداع الذي يرعاه الجميع ويَحُضُّ عليه هو يقينا مهمة من المهام الصميمية للسوسيولوجيا كممارسة نقدية 9 ، وعلم للإرادة الحرة. 10 وتأسيسا على هذا ليس غريبا أن تُوَقِّعَ الطبقة القيادية بالمغرب، بالنظر إلى عدم تثبتها ؛ في تبين الفرق بين السوسيولوجيا و"السُّوسْيالِيزْم"على قرار وَصْدِ أبواب معهد علم الاجتماع بالرباط في وجوه مرتاديه وأساتذته سنة 1970 11 معللة إجراءها الإداري بزعم مغرض وواهٍ مؤداه "أن السوسيولوجيا لاتنتج إلا جَهًلَة ومشاغبين 12 " و"ليتوزع دم قبيلة السوسيولوجيا بين قبائل العلوم الإنسانية بكلية الآداب 13 "
هذا،بلاغرو، هوالمناخ الذي تشكلت فيه البوادر الأولى للمدرسة السوسيولوجية الوطنية والمَسَاق الذي تبرعم في خضمه الجيل الذي ينتسب إليه الأستاذ عبد الصمد الديالمي فكريا، وثقافيا، وسياسيا، وانْوَسَمت به مرحلة دقيقة جدا من تاريخ المغرب الراهن على، إثر إنعاش سياسة التَّقْلَدة التي انتهجتها الدولة المخزنية 14 ؛ واحتداد الاصطراع بين القوى المتعارضة داخل المجتمع بحيث انتهجت فيما بينها أسلوب العنف والعنف المضاد على مدار المرحلة الزمنية التي امتدت من الستينيات إلى مطالع سبعينيات القرن المنصرم.
ثانيا: المجتمع المغربي من خلال جِنْسَانِيَتِه:
بمجرد التحاقه جامعة فاس سنة 1977 أستاذا للسوسيولوجيا سينهمك عبد الصمد الديالمي برسم مساره كعالم اجتماع ؛ وسينكب في الوقت عينه على إنجاز مشروعه العلمي حول الجنس والمجتمع؛ وهوالمشروع الذي" كان مزعجا لزملائه ولكثير من مناضلي الاتحاد الوطني لطلبة المغرب آنذاك، لا لشيء سوى لأن موضوع بحثه وكيفيات اشتغاله عليه وتدريسه لم يكن لأن يهضم بسهولة " 15 إلى حد أن" الدْيَالْمِيَات ظل النعت الذي يصف به أساتذة وطلبة كثر أي اقتراب من أطروحة وأنماط تحليل عبد الصمد الديالمي " 16 خصوصا أولئك الذين لم يكن لهم نصيب من الاطلاع على كتابات "فاطمة المرنيسي" التي تمحورت حول المسكوت عنه في تاريخ الإسلام والتأويل الذكوري القبلي لأصحاب السير والتفاسير. من ثم فالقول بأن عبد الصمد الديالمي"سيرحل بالسوسيولوجيا الوطنية بعيدا عن إشكالات المؤسسين وسؤالهم الأساسي حول كيفيات التعاطي النقدي مع السوسيولوجيا الكولونيالية 17 وموضوعاتها " 18 هو في تقديري كلام مجانب تماما للصواب لأنه غاب عن كاتبه ارتباط عبد الصمد الديالمي بالمدرسة السوسيولوجية الوطنية. ومصداق هذا الكلام اعتراف الديالمي نفسه بفضل أساتذته العلمي عليه حينما يقول:"بفضل قراءة "رايش"، خرجت بالخصوص بمشروع علمي هائل، ضخم... بدأته تحت إشراف أستاذي الدكتور محمد جسوس سنة 1975 . كانت أول أطروحة جامعية في المغرب حول المرأة والجنس. بهذه المناسبة، لن أنسى ذكر أستاذي الآخر الذي جعلني أحتفظ دائما بنكهة سيكولوجية في أعمالي، أقصد الدكتورعبد الواحد الراضي، الأستاذ الأول الذي جعلني أكتشف وأحب علم النفس. الآن وبعد ثلاثين سنة بالضبط من قراءة "الثورة الجنسية"كبر المشروع وأصبح يتمحور حول مفهومين أساسيين، الإسلام والجنس ..." 19
إلى جانب ذلك خصص الدكتورعبد الصمد الديالمي الكثير من كتاباته للنسوية الكولونيالية القائمة على التمييز التفاضلي بين المرأة الأمازيغية والمرأة العربية، فقام بنقدها ليتخلص من خلفياتها العرقية والدينية 20 .
إن رهان الاقتراب من حقل ملعون كهذا يحف به الكبت/ التهميش21 ، وتعريته من منظور سوسيولوجي، هو"ضرب من الإيمان الموضوعي بالفلسفة الوضعية، ومساهمة في إرساء سيادة خطاب علمي وعقلاني"22 بصدد القضية الجنسية باعتبارها إشكالية تقبل الدراسة والتنظير. ذلك أن القضية الجنسية إن كانت خصبة فهي بالغة التعقيد والخطورة لاندراجها ضمن علاقة الرجل بالمرأة؛ وبكل ما يرتهن بهاته العلاقة كالحق في التعليم، والعمل، والاقتراع، والسلطة، وبالحق في المتعة أي بالبناء الديموقراطي 23، وبكل ما يمكن من:
1– طرح مسألة التنمية كمقصد للعلوم الاجتماعية. وقد حدده عبد الصمد الديالمي في هذه الموجهات: كيف يمكن أن تتحقق التنمية دون الانتقال من الجنسانية الممزقة بين الدين والعلمنة إلى الجنسانية المدنية المندمجة؟ وبأي معنى يستطيع الفرد-المواطن أن ينتج في ظل القمع الجنسي، وفي ظل التحريم والتجريم؟ وهل بوسع المكبوت جنسيا أن يحب حقا ويعمل بوعي ويدرس بجد وأن يتواصل بشكل إيجابي مع الغير ويتعايش معه باتزان؟
يكتب عبد الصمد الديالمي في هذا الصدد: "إن التنمية (= البشرية) تنمية جنسية أيضا. وتقوم التنمية الجنسية على الحق في الجنس(=المستقل عن الزواج)إذ "لاتنمية مع العنف الجنسي بكل أشكاله وسياقاته ." 24
2 – الاقتراب أكثر من الأفكار الاجتماعية والتصورات العفوية السائدة في مجتمع لايقدم نفسه بالسهولة التي نخالها.
فلئن كان"سيغموند فرويد" قد اعتبر الكبت الجنسي مكونا أساسيا من مكونات الحضارة والثقافة 25 ؛ فإن"فلهلم رايش" استطاع بارتكازه على منظوره الراديكالي الثوري في السِّيكْسبُول" 26 Sex – pol »
أن يربط بين الكبت الجنسي وضعف قدرة الفرد على النقد والتمرد. فحينما تحظرالمجتمعات القمعية الجنس على الفرد فهي بهذا تساهم في إضعاف قواه الذهنية؛ وتعطيل ملكاته في النقد والتقييم والمحاججة؛ ومن ثم إلى شل كل قدراته على التمرد والمواجهة، والاحتجاج والثورة لأجل تغيير الأوضاع ؛ لتحل محلها سلوكات المحافظة، ومواقف سياسية سلبية تطبعها اللامبالاة بسبب الشعور بالنقص وتبكيت الضمير؛ ويغلب عليها منحى التسلط والنزوع إلى الديكتاتورية 27. لذلك يدين" فلهلم رايش"المجتمعات الطبقية مثلما يدين كل حضارة قمعية تراتبية مضادة الجنس لأنها "تخلق بنية طبعية تمتنع باطنيا عن الجنس وتعجزعن بلوغ الأورجاسم الحقيقي" 28؛ المُخَلِّص الحقيقي من التوتر الجنسي، والمحرر الفعلي من الإعاقة الباطنية 29، وبحسبانها عِلَّة أساسية مُفَجِّرة للأَعْصِبًة
Névroses
التي تزيد من تفجيرها وتفاقمها الأوضاع المُتَرَدِّية الموصولة بالسكن، ونمط التنشئة، والمرتبطة بالاستغلال، والقانون والإيديولوجيا المهيمنة..لأن داخل كل صراع طبقي يَثْوي بالتأكيد صراع جنساني وكبت جنسي 30 يعرقل انفتاح الفرد، ويُعَثّر حريته وانطلاقته في الحياة 31؟ .
ثالثا: الجنس في مجتمع متحول :
بالارتكاز على نتائج أبحاثه الميدانية التي استمرت لأزيد من خمس وثلاثين سنة؛ لاحظ عبد الصمد الديالمي حصول انفجار جنسي هائل لدى المغاربة، ذكورا وإناثا، من مختلف الشرائح العمرية صاحبه تغيرلافت في مسلكياتهم ، وتصوراتهم وثقافتهم الجنسية .
نستطيع رَدَّ هذا النشاط الجنسي المكثف إلى تداخل ديناميتين اثنتين: دينامية خارجية وأخرى داخلية .
الدينامية الخارجية :
تعيش المجتمعات الإنسانية اليوم طفرة كبرى همت العلوم، والاقتصاد، وشملت السياسة، والاجتماع كما الثقافة دون أن توفر باقي مناحي الحياة الأخرى كتمثل الذات، والنظرة إلى العالم، ونظام الصيرروة .
وليس من شك أن هذه الطفرة تؤشرعلى إقبال الإنسانية على حضارة جديدة متغايرة جذريا عما درجنا عليه وعهدناه من استمرارية تاريخية على مدار القرون الثلاثة الماضية 32 بالنظر إلى مايلي :
1 - الفرص المهمة التي يحملها العلم بكشوفاته الجديدة و اختراعاته المثيرة ومناهجه الخارقة وتقنياته العجيبة التي اكتسحت الإنتاج والإدارة؛ وكذا العلاقات الإنسانية حيث أحدثت شروخا عميقة في البنيات الاجتماعية والفكرية للمجتمعات وخلخلة في الحيوات الشخصية للأفراد بسبب قوة انتشار الثقافة الجماهيرية؛ وصدى وسائل الاتصال الحديثة مما كان له انعكاس على وجدانيات الناس، وحميمياتهم، وارتباطهم بأغيارهم، وعلاقاتهم بالزمان والمكان، وعلى الشعور بالاستقلالية والحرية والمسئولية الفردية جراء الانهيار التدريجي للأنساق التقليدية التي تؤطر؛ الأفراد والجماعات فكريا، ودينيا وأخلاقيا 33.
2 – انفجار: الانفتاح؛ الكوني؛ الذي: يَسَّر: تقارب: الإنسانية على؛ الكوكب؛ الأرضي بشكل غير مسبوق: عملا بما سماه "هنري كيسنجر" قواعد القرن الواحد والعشرين" 34 التي صَيَّرت العالم" قرية صغيرة "مشرعة الأبواب لانكسار متاريس الزمان وحدود المكان .
3 – هيمنة قانون القوة والمنافسة على أوسع نطاق؛ واحتداد التزاحم بدون عراقيل أوقيود .
فلا مكان في عالم اليوم لمن لا يمتلك الفعالية، أو لمن يفتقر للاقتدار العلمي، والتسلح بالمعرفة والاحتماء بالتكنولوجي. عالم اليوم هو عالم المفاجئات بامتيازلأنه فضاء مفتوح على الرجَّات المباغتة والهزات الفجائية. إنه عالم اللايقين، واللاثبات، وعالم اللااستقرار35.
زمن الكوكبية هو زمن المراجعات المنتظمة لتصوراتنا، وإعادة تشكيل دؤوبة لمرجعياتنا، ونماذجنا الإرشادية التي درجنا عليها في التربية والتعلم، وفي السياسة والثقافة، وردود الأفعال كما التطلعات والآفاق. إنه اختصارا زمن حضارة مستفزة تحملنا على إعمال التفكير في زادنا الثقافي بصيغ جديدة بغاية إعداد مستقبل أضحى فيه اقتصاد السوق التبضيعي، والتشييئي يحتل الصدارة، وإله المال مرتكز ثقافة36 النيو-ليبرالية الأساس، وجيش الأوليغارشية العالمية 37 المتحكم في كل شيء والعامل على تفكيك الدول وتمزيق كياناتها بزرع بذور الشقاق والفوضى والنزاعات المسلحة والسطوعلى البيئة وتشويهها على نحو ممنهج لاسابق له ..
الدينامية الداخلية :
مكنت مفعولات الكوكبية الشاملة من تكسير بنيات المجتمعات التقليدية، وأنساقها الثقافية، وإحداث هزات قوية على مستوى الهويات جراء ضعف"متانة الأسوار التي تحمي الثقافات الوطنية المحلية، وهشاشة الحدود الفاصلة بين المنظومات الثقافية" 38. ومكنت، بالموازاة مع ذلك، من وقوع سلسلة من التطورات لها وصل متين باليومي نحو العلاقات الاجتماعية، والممارسات السلوكية والتصورات والذهنيات وبالقناعات الإيديولوجية الخاصة، يجدر بنا تصنيفها في هكذا نقط:
1 – تأزيم النهج التبعي للاقتصاد المغربي. فمن المعلوم أن هذه الأزمة بلغت أوجها في مستهل عقد ثمانينيات القرن الفارط جراء التطبيق الصارم ل"برنامج التقويم الهيكلي" الذي فرضته المؤسسات المالية الدولية على المغرب فتحصل منه تغير في الوظائف الاقتصادية للدولة -العناية كتحرير الأسعار وخفض النفقات العمومية في القطاعات الاجتماعية، ولاسيما في قطاعي التعليم والصحة وتراجع صارخ في فرص الشغل بالأساس تجميد المشاريع الكبرى التي سبق للدولة تدشين انطلاقتها إبان الوفرة الاقتصادية على إثر تدفق عائدات البلاد من الفوسفاط؛ وانتعاش الصادرات المغربية في منتصف السبعينيات 39.
من ثمة كان لسياسة التقشف المنتهجة والتي عمقتها حدة الجفاف، انعكاسات سلبية على المجتمع والإنسان تمثلت في تسارع الهجرة القروية باتجاه المراكز الكبرى وتداعيات التمدن العنيف على المجال الحضري وما ارتبط به من مشاكل ترتهن بالشغل والسكن وبتراجع القدرة الشرائية للمواطنين... نتج عنها انهيار المنظومة القيمية وتفكك البنى الأسرية فالتعاطي لمختلف أنواع المخدرات ناهيك عن تنامي الانحراف والجريمة...إنها الظواهر التي أذكت استياء الطبقة الاجتماعية المعدمة والفئات غير المندمجة في الدورة الاقتصادية التي أشعلت فتيل انتفاضة يونيه 1981 وأحداث 1984 فغضب دجنبر 1990 40.
2 – فعندما بات العثورعلى عمل قار إشكالا حقيقيا حتى بالنسبة للفئات المتعلمة نظرا لفقدان الشهادات والاستحقاق لكل قيمة اعتبارية في سوق الشغل؛ وابتغاء مواجهة شبح العطالة المضني لم يجد الشباب بجنسيه مناصا من اللجوء إلى الحلول الفردية الذاتية كالبحث عن النجومية السريعة في مجالات الرياضة والفن أوالاختيار القسري للهجرة الدولية أو في تجر شبح عالم الكحول والمخدرات أو الانخراط في أعمال السمسرة أو بتجريب أسلوب"النضالية الاحتيالية " للحصول على تزكية حزبية لخوض غمار لاستحقاقات الانتخابية؛ أوالارتماء في أحضان التأسلم طلبا لاندماج اجتماعي؛ أو بحثا عن توازن مفقود لتضميد جراح نفس مكلومة ودفاعا عن هوية لاتطمئن لشيء قدر اطمئنانها لتطابقها وثباتها 41. .
3 – و في السياق نفسه لاحظ عبد الصمد الديالمي إقبالا لا نظير له على العمل الجنسي بديلا للعمل القار إذ صار أمرا واقعا زادت من تعاظمه سيرورة التفقير التي سرعت الانتقال من البغاء الهامشي إلى العمل الجنسي غير المهيكل وغير المنظم 42.
عوامل متعددة ومتداخلة ساهمت في تفجير هذا النشاط الجنسي المتنامي نذكر منها:
أ – تطورالمستوى التعليمي وتمديد فترته وولوج المرأة عالم الشغل المأجور .
فقد لاحظ عبد الصمد الديالمي أن معدل سن الزواج بالمغرب ارتفع بالنسبة للنساء(وهوما يلاحظ في صفوف الرجال أيضا)من 17.3 سنة 1960 إلى 26.4 سنة 1997 43 لينجم عن ذلك تأخر سن الزواج وارتفاع مطرد في نسبة العزاب .
ب – الدور الهام الذي لعبته بعض الوسائط الثقافية في الرفع من درجة الوعي الصحي للوقاية من الأمراض المنقولة جنسيا؛ أو درءا لحمل غير مرغوب فيه خارج إطار الزواج.
ج - تقدم علم الجراحة الطبي الذي توصل إلى رتق غشاء بكارة بعض الفتيات على إثر فقدها لسبب أولغيره؛ فمعلوم جدا ما للبكارة من رمزية قصوى في المجتمعات البطريركية التي جعلت من أنثروبولوجيا الشرف، وعذرية الفتيات تخصيصا، شأنا ذكوريا بالأساس وملكية عائلية بامتياز 4.
د - انتشار إيديولوجيا الاستهلاك الجنسي عبر وسائل الإعلام المختلفة المسموعة؛ والمكتوبة والمرئية .
ه - دافع البحث عن شريكات جنسيات لدى العديد من الذكور كتعبيرعن رغبة دفينة في امتلاك حريم مستحيل؛ أو لمصادفة متعة جنسية "غير محترمة" يعسر تحقيقها في إطار العلاقة الزوجية أو لاقتناص لذة عابرة مع عشيق 45؛
أو كنية مبيتة يرجح أن تكون انتقاما من زوج عنيف؛ أو خائن في بعض الأحايين .46
مكن العمل الجنسي ممارسيه من تغيير أنماط سلوكهم؛ و مظاهرهم الخارجية المتمثلة في تسليع الجسد ومسرحته بارتداء الألبسة الفاخرة واقتناء مجوهرات وسيارات فارهة أسعفتهم في الحصول على خدمات وامتيازات"الرشوة الجنسية " 47 ومراكمة مكاسب مادية مهمة جدا؛ وأرصدة بنكية معتبرة يسرت لهم السكن في شقق راقية وساعدتهم على فتح صالونات للحلاقة والانخراط في أسلوب حياة المجتمع الاستهلاكي، والاستسلام لإغراءاته اللاتقاوم وليغيروا أوضاعهم الطبقية ومراكزهم الاجتماعية 48 وليتحول العمل الجنسي بالنتيجة إلى اقتصاد حقيقي للبغاء وإن بشكل سري وغير مُمَأْسس ينشط القطاع السياحي وينعش الدورة الاقتصادية في أوج فتورها بجلب العملة الصعبة التي أفاد. من سيولتها العمال الجنسيون ومساعديهم وبعض شركات الأسفار، ووسائل المواصلات وأرباب الفنادق والعلب الليلية وشركات الخمور ومروجو المخدرات وصالونات التجميل وبعض الموظفين 49 .
و ترتيبا على ذلك لم يعد"البغاء"موضوعا يثير التقزز والخجل في كثير من مجالس الناس وفي الحافلات والمقاهي وبين الجيران ووسط الأسر في الحفلات الخاصة. لأن"حمى البغاء"ركبت كل الرؤوس لتتقبله أسرعديدة طفقت لم تعد تشعر بأية غضاضة وهي تتواطأ مع بناتها بدفعهن إلى جلب المال عبر الاتجار في اللذة من أجل مواجهة تكاليف الحياة المرتفعة .
فقد صار المجتمع سوقا جنسيا، وتجارة بين بائع ومشتر تخضع لقانون العرض والطلب ومعاملة لها قنوات وأثمنة لا احتكام فيها للأخلاق والمثل 50 والقيم الإنسانية، إلى حد أن العمل الجنسي أمسى نشاطا تجاريا رائجا لدى الطالبات الجامعيات اللواتي عمدن إلى تقديم خدمات جنسية لزبنائهن الراغبين في اقتناص لحظات تجمع بين اللذة الجنسية والمتعة الفكرية مما سمح لعبد الصمد الديالمي وبالحديث عن" الشيخات المثقفات " 51.
تُجْلِي هذه المعطيات التي سقناها؛ وبما لايدع مجالا للارتياب، اتساع رقعة العلاقات الجنسية داخل المجتمع المغربي الذي غدا سوقا جنسية، كما تجلي أيضا أن العمل الجنسي أضحى سلوكا احترافيا-مهنيا يمارس بكل الأشكال والطرق، وفي وكل الأماكن الآمنة منها وغير الآمنة، الملائمة وغير الملائمة 52 من لدن كل الشرائح العمرية لكلا الجنسين وكل الفئاتة السوسيو مهنية. إن دل هذا على شيء فإنه يدل على أن إطار الزواج لم يعد كافيا تماما لاستيعاب كل السلوكات الجنسية كما كان عليه الأمر فيما سبق جراء تجاوز جنسانية اليوم حدود الزواج؛ وحدود الشرع، والقانون لتتكرر يوميا معبرة عن نفسها بصورة صريحة في الفضاء العمومي 53.
و تبعا لذلك فإن اجتياح الرغبة وملحاحية إشباعها بكل الطرق يجعل من مقولة الاستمساك/الصيام الجنسي بالنسبة للشباب لاعقلانية بالمرة؛ غير واقعية بالمطلق في محيط أضحى كله مغريات تجذبه إلى الاستهلاك الجنسي، أوتطالبه بالزواج مع أنه عاطل ليس بمستطاعه إعالة نفسه .
ضمن هذا المساق عبر مبحوثو عبد الصمد الديالمي، غير ما مرة، عن ضرورة إيجاد مسالك مقبولة للتوفيق بين أحكام القيمة التي ترى إلى الممارسة، الجنسية خارج التمأسس الزوجي زنا وفسادا وحراما وبغاء إن لم نقل فاحشة ودنسا وقذارة يلزم اجتنابها 54 ، وبين الحق في الممارسة الجنسية قبل الزواج كحق إنساني أساسي وحرية فردية إذ لابد للاجتهاد الفقهي أن يتفهم حاجات الشباب الطبيعية، وحقهم الإنساني في الجنس دونما خوف من أية تبعات قانونية؛ أو أي إحساس بالذنب. لنتوقف عند نص لعبد الصمد الديالمي ينتقد مقتضاه موقف الفقيه الذاهل عن تطورات العصر ويؤزم نظرة "العالم" الحسيرة عن رؤية الواقع المجتمعي المتقلب. يقول: "فأنا أتعجب لأن كل العلوم تتطور وكل المهن تتطور وتقبل التطور التاريخي إلا مهنة الفقيه فتتشبت بهوية لاتعرف الإنصات إلى طلبات الواقع، وهذا الموقف ينفر الشباب من الإسلام من خلال نفورهم من الفقهاء، لأنه يرى فيهم رقباء ينتجون إسلاما يمنعهم من تحقيق المتعة خارج زواج أصبح متعذرا..." 55 ولاسيما أن شريحة عريضة من شباب اليوم تلفي نفسها وعاجزة تماما عن العثورعلى سكن قار لتكوين أسرة بالنظر إلى الأزمة البنيوية التي يتخبط فيها الاقتصاد المغربي التي جعلت من المجتمع المغربي مجتمعا مسدودا 56.
إن الإنصات لقول المستَجْوَبين هو إنصات لنبض الواقع وإصغاء لإيقاع بلد داهمته تحولات شمولية، تعبرعن علمنة موضوعية للمجتمع وعن انتقال جنسي حقيقي يؤشر في العمق عن حداثة جنسية صامتة غير واعية تعبرعن ذاتها من خلال الانفجار الهائل للسلوكات الجنسية بما هي تعبير عن الذاتية في شفافيتها وفرادتها؛ وعقلانيتها، ثم عن استقلاليتها وحريتها في التصرف والفعل، الاختيار 57 رغم سطوة التقليد؛ ورغم صلابة مقاومته التي تتبدى في سيادة الأخلاق الجنسانية الإسلامية التي تترجمها فصول بعينها من القانون الجنائي المغربي المجرم منطوقها صراحة "للفساد والبغاء" ولكل أضراب "الدعارة".إنه "التناقض بين قانون صارم وبين ليونة تطبيقية انتقائية يسمح للدولة بأن تصيب عصفورين بحجر واحد: من جهة تبقى" وفية "لإسلاميتها الدستورية ومن جهة أخرى تسمح للعمل الجنسي بان يوجد في واضحة النهار.. وأن يقوم بتأدية وظائفه النفعية المتعددة . 58
تناقض يفصح بصورة جلية عن تخلف القانون عن الواقع ؛ وتلك هي بالتحديد المفارقة التي تجعل الإنسان المغربي (= كما العربي)عرضة للحملات الأمنية التطهيرية الموسمية والانتقائية. فلئن كانت الدولة تشن تلك الاعتقالات تباشر تلك الاستنطاقات الظرفية التي تتوسل بها تطبيق القانون لحماية الأخلاق العامة ولإظهار الدولة بمظهر راعية مثل وقيم، المجتمع وحامية الإسلام فإن عبد الصمد الديالمي يلفيها مأسسة لا مستساغة للتدخل في الحياة الخاصة للمواطنين من التعامل الاحتقاري الحاط من قيمة الأفراد؛ والمحتقر لحاجاتهم الإنسانية الطبيعية المشروعة؛ وإحراج رغباتهم وحميمياتهم كآدميين، وربما لتحسيسهم بأنهم مجرد كائنات لم تَرْقَ بعد إلى مرتبة المواطنين الذين لهم الحق في ممارسة حرياتهم 59 بعيدا عن كل حجر من الغير. لذلك يحتمل أن يكون سلوك الدولة هذا، إلى جانب البؤس الجنسي المترتب على الحرمان السكني أوضيقه؛ من الدوافع التي تحمل الشباب على الإقدام على ما يسميه عبد الصمد الديالمي" الترميق الجنسي- المكاني" المتمثل في "اقتناص جنس سريع وخائف في أماكن غير ملائمة غابة، مصعد، سطح، مرحاض، سيارة...)..." 60 أومن السببيات التي تجنح بهم نحو تطوير شخصيات أصولية متشددة تجد عزائها وسلوانها في الحركات الدعوية الإسلاموية 61.
إن إقرارعبد الصمد الديالمي بالانتقال الجنسية لهو إقرار بوضع فعلي ومرحلة قائمة وحاصلة بالتأكيد؛ ثم بتحول يجري في المجتمع المغربي رغما عن المرجعية الدينية الإسلامية، ورغما عن الأخلاق الجنسية التقليدية .
على سبيل الختم :
من كل ماسبق يُحَصِّلُ الدكتورعبد الصمد الديالمي القول إن هذا الانفجار الجنسي، الذي يتبدى بمظاهر شتى، ليس بمطلق الأحوال انحرافا أو تجاوزا للقانون؛ ولا فتنة أوتفككا أوجاهلية جديدة؛ كما تَزْعم الأصولية الإسلامية وتَدَّعِي ، بقدر ماهو استجابة لمداهمة الحداثة ولطبيعة التحولات التي فرضتها على البنى الاجتماعية ولم تستثن منها الذهنيات ولا المنظورات التي نحت منحى التمرد على الأخلاق المضادة للجنس .
ذلك أن الممارسات غير الزواجية، فضلاً عن الترميق الجنسي الارتزاقي، وكل أشكال التحايلات، والتواطؤات والابتزازات؛ هي مؤشرات موضوعية على معركة حقيقية جارية تطالب بالعدالة الجنسية؛ وبالحق في اللذة ضد البطريركية وإيديولوجيتها القانونية، وضد الفقيه المتمذهب 62.
واعتبارا لكل هذا فإن ما يبدو خللا، أوفتنة، وانحلالا ليس يعدو سوى تعبير عن معالم جنسانية عصرية حداثية ترفض الأبيسية، وتسائل مرجعياتها اللاهوتية كيما تضع سلطتها القانونية في أزمة. 63.
إن هاته السلوكات الجنسية رفض الأبيسية كمنظومة منبنية على وجود سيطرة رجولية -قضيبية وسيادة المعيارية الغيرية 64 ومرتكزة على اللامساواة والتمييز بين الجنسين وعلى سطوة الكبيرعلى الصغير. وبهكذا معنى فالأبيسية هي من حيث أبعادها العميقة نظام اجتماعي-سياسي قامع لتطلعات أطفاله. كابت لجنسانيتهم. حذر منها لئلا يكتشفوا، بطريقة أو بأخرى، جنسانية جديدة مضادة قد تكون دافعا إلى فضح لاعدالة الأبوية، بتكسير الأساطير التي ترتكز عليها وتؤسس لها 65.
ثم إنها تستفهم النظرية الفقهية على ضوء"سوسيولوجيا الفقه "الدراسة التي تنصب على"بنية الفقه التنظيمية، أدواره، قيمه ووظائفه...(و) لمهنة الفقيه والنظام الفقهي وهي دراسة من خارج الحقل الفقهي يقوم بها غير الفقهاء" 66 من أجل تجاوز الفهم السطحي والمبسط للظواهر الدينية؛ وقصد إنتاج إسلام ملائم للعصر بعيدا عن التقليد والاجترار؛ وثقافة الاتباع والتكرار.
بحيث تستلهم الأسلحة النظرية القادرة على تقديم الإيضاحات الممكنة "حول واقع تاريخي هو واقعنا الذي لم نشعر صراحة بطابعه اللامنطقي والعبودي والرجعي" 67، باعتماد الإبيستيمولوجيا، ومناهج العلوم المعاصرة، المحرضة على الشك وإبداع السؤال المستفز والهادف إلى الاقتراب من القضايا بخطابات تساير الراهن وتتماشى؛ والإيقاع المتحرك والمتسارع للحياة، بعيدا عن الأساليب الفقهية في التحجيرعلى الإسلام بحصره في قراءة نصية وعظية وإرشادية تُطَمْئِنُ الذات وتريحها من هم السؤال، وهاجس البحث وفضيلة الاجتهاد 68.
و أخيرا لا آخرا، إنها ممارسات جنسية تطالب بمراجعة فصول بعينها من القانون الجنائي تجنبا لجنسانية ممزقة سمتها اتساع الهوة بين معايير دينية تقليدية تسترسل في الاعتقاد بأن الجنس قبلة الزواج فاحشة وإثم؛ وسلوكات جنسية ما انفكت تتعلمن دون أن تعي علمنتها تلك، وهوما يترتب عليه طلاق بين المعايير والسلوكات التي تسم مرحلة الانتقال الجنسي كمرحلة يفقد فيها الدين سطوته على الحياة الجنسية العمومية، لتنتظم كل السلوكات وفق المبادئ العقلانية للدولة المدنية التي تَتَعَلٰمَن فيها المعايير والسلوكات الجنسية معا؛ ليغدو المعتقد الديني شأنا خاصا يعني الفرد-المواطن وحده دون غيره، لا قانونا يؤسس لنظام الحياة في المجتمع 69 .
إحالات مرجعية :
1-الديالمي(عبد الصمد): 1985، المرأة والجنس في المغرب دراسة سوسيو تحليلية، دار النشرالمغربية الدارالبيضاء، المغرب .
2- القصد هنا الأساتذة محمد جسوس وبول باسكون ونجيب بودربالة وفاطمة المرنيسي على سبيل الذكر .
- Khatibi (Abdelkébir):1971, La mémoire tatouée, Autobiographie d’un décolonisé, Denoël, Paris France . p: 133. Voir: Khatibi( Abdelkébir):1983, Double critique, In Maghreb pluriel. S.M.E.R- Denoël, p:47et sq. Paris, France.
Voir aussi: Khatibi( Abdelkébir): 2008, Le Scribe et son ombre. Editions de la différence, Paris ,France, p: 33.
4 - بنعبد العالي(عبد السلام):1991، أسس الفكر الفلسفي المعاصر، مجاوزة الميتافيزيقا، الطبعة الأولى ، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ص: 12 وص: 53 .
5 – عبد الملك(أنور):1985، تغيير العالم، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 95 ، الكويت، ص ص: 243 – 244.
و أيضا:
عبد الملك(أنور): 1978، الفكر العربي في معركة النهضة، ترجمة وإعداد: بدرالدين عرودكي الطبعة الثانية، دار الآداب، بيروت، لبنان، ص: 151 .
6- نحيل هنا على سبيل الذكر إلى الدراسات المنشورة في هذا العدد من النشرة الاقتصادية والاجتماعية :
- Etudes sociologiques sur le Maroc , Nouvelle Edition 1978 , B.E.S.M, Rabat , Maroc .
7 – Op.Cit. pp: 46 - 49 et p: 52 .
Voir aussi: Khatibi(Abdelkébir):1974, La blessure du nom propre, Denoël. Lettres nouvelles .Paris
8- الخطيبي(عبد الكبير): 1993، المغرب العربي و قضايا الحداثة، منشورات عكاظ، الرباط، المغرب، ص ص: 132- 134 وص.ص: 137- 138 .
9 - بورديو(بيير) 1986، الرمز والسلطة، ترجمة عبدالسلام بنعبدالعالي، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ص: 20.
10 - أشقرا(عثمان):"الدرس الكسوسي البليغ" ،الملحق الثقافي لجريدة "الاتحاد الاشتراكي"، الجمعة 26 أبريل 2013، العدد: 10.382، ص: 3.
11 – Daoud(Zakya ): 2007, Les années de plomb,1958 -1988 , Chronique d’une résistance, Paris, Manucius, collection «Mémoire de la Méditérranée ».
Voir aussi, Laroui (Abdallah): 2005, Le Maroc et Hassan II, Un témoignage, les presses Inter Universitaires Québec, Canada, Centre Culturel Arabe, Casablanca, Maroc. p: 229.
12 – جسوس(محمد)،المثقف المناضل، أجرى الحوار عبد الكريم الأمراني، الحلقة: 20 جريدة "الأحداث المغربية "، 25 نونبر 2002 .
13- أشقرا( عثمان ): الدرس الكسوسي، مرجع مذكور، ص: 3.
14- Laroui(Abdallah ): 2005, op.cit. p :48, pp: 63 - 65, p:126 , pp: 128-130.
15 - الزاهي(فريد):2011، المدخل إلى علم الاجتماع المغربي، الطبعة الأولى، دفاتر"وجهة نظر"رقم 20،ص: 152.
16- المرجع نفسه، ص: 152 .
17- اشتغل الدكتورعبد الصمد الديالمي كذلك على نقد السوسيولوجيا الكولونيالية والسوسيولوجيا المغربية ،انظرفي هذا المضمار:
الديالمي(عبد الصمد): 1989، القضية السوسيولوجية، نموذج الوطن العربي، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب،117 صفحة.
18- الزاهي(فريد): 2011، مرجع مذكور ، ص: 153
19 - الديالمي(عبد الصمد): 2015، الانتقال الجنسي في المغرب، نحو الحق في الجنس، في النسب وفي الإجهاض، الطبعة الأولى، دارالأمان، الرباط ، المغرب، ص ص:21-22.
20-Dialmy(Abdessamad):1999, « Féminisme colonial », Bouhout ,Revue de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines, Mohammédia, Numéro 1, pp :5-20 ,(Texte tiré de la thèse du Doctorat d’Etat soutenue en 1987 à l’Université de Picardie, France.)
21 – الديالمي(عبد الصمد):1985، المرأة والجنس ، مرجع مذكور، ص: 6.
22- نفسه، ص: 5.
23- نفسه، ص: 8.
24- الديالمي(عبد الصمد): 2015، الانتقال الجنسي ، مرجع مذكور، ص: 247 .
25- Freud (Sigmund ):1971 ,Malaise dans la civilisation, P.U.F, Paris, France, pp: 19 et sq
26- Lapassade(Georges)et Lourau (René) :1976 , La sociologie, Collection « Clefs» Seghers-Paris, pp: 61 -62.
27- Reich(Wilhelm): 1970, Mass Psychology of fascism, New York, p: 55.
28- الديالمي(عبد الصمد): 2015: الانتقال الجنسي مرجع مذكور، ص: 19 .
Cf aussi: Reich(Wilhelm):1970 , La fonction de l’orgasme, L’Arche, p: 14.
29- الديالمي(عبد الصمد): 1987، المعرفة والجنس ، من الحداثة إلى التراث، دار قرطبة للطباعة والنشر، عيون المقالات، الدارالبيضاء، المغرب، ص ص: 9- 10.
30- الديالمي: 1985، مرجع مذكور، ص.ص:159- 160.
و أيضا الديالمي:2015، الانتقال الجنسي، مرجع مذكور، ص: 19.
31– Dialmy(Abdessamad): 1988 , Sexualité et discours au Maroc, Afrique Orient, Casablanca, Maroc, p: 174.
32- حجازي( مصطفى): 1998، حصارالثقافة بين القنوات الفضائية والدعوة الأصولية، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء ،المغرب، ص: 14.
33- سبيلا(محمد):2010، في تحولات المجتمع المغربي دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، المغرب، ص ص: 104 – 105.
34- كيسنجر(هنري):2016، النظام العالمي، تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ، ترجمة فاضل جتكر، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ص: 12.
35- حجازي(مصطفى): 1998، مرجع مذكور، ص: 15.
36- نفسه، ص: 41.
37- زيغلر(جان): 2004، سادة العالم الجدد، العولمة- النهابون- المرتزقة-الفجر-ترجمة: محمد زكريا إسماعيل، الطبعة الثانية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ص: 37 وص ص: 100- 102 .
38- بورقية(رحمة): 2000، مواقف، قضايا المجتمع المغربي في محك التحول، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، ص: 101.
39- Laroui( Abdallah): 2005, op.cit. p:137 et pp : 196 -197 et sq.
40- خمليش(عبد العزيز):2001، الانتفاضات الحضرية بالمغرب المعاصر: دراسة ميدانية لحركتي مارس 1965 يونيو 1981 بالدار البيضاء، جزءان، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع تحت إشراف الدكتور محمد جسوس، بحث غير منشور، كلية الآداب بالرباط، الجزء الأول، ص ص: 260 - 261 .
41- الديالمي: 2015، الانتقال..م.مذكور، ص ص : 224 - 225 .
و أيضا: شايغان(داريوش): 1993: أوهام الهوية، ترجمة: محمد علي مقلد، الطبعة الأولى، دار الساقي، بيروت، لبنان، ص.ص: 75- 76 .
42-الديالمي: 2015 ، الانتقال...مرجع مذكور، ص : 11.
43- الديالمي(عبد الصمد): 2009، سوسيولوجيا الجنسانية العربية، الطبعة الأولى، دار الطليعة، بيروت ، لبنان ورابطة العقلانيين العرب، ص: 25 .
44- نفسه: ص ص: 37- 38 وص: 75 .
45- الديالمي(عبد الصمد): 1985، المرأة والجنس ...مرجع مذكور، ص: 140 .
46-الديالمي: 2009 ، سوسيولوجيا الجنسانية...م. مذكور، ص.ص: 174-175 .
47- نفسه. ص: 52 .
48- نفسه. ص.ص: 73- 74 .
49- نفسه. ص: 53.
50- الحضراوي(ثريا): 1987، ظاهرة البغاء في الدارالبيضاء، ملامح نسائية، سلسلة مقاربات، نشر الفنك، الدار البيضاء، المغرب، ص: 53.
51 الديالمي: 2009 ، سوسيولوجيا...مرجع مذكور ص: 30 وص ص: 73-74 .
52- نفسه. ص ص : 173- 174 .
53-الديالمي: 2015 ، الانتقال...ص: 43 .
54- نفسه. ص: 135 .
55- الديالمي(عبد الصمد): 2000، نحو ديموقراطية جنسية إسلامية، الطبعة الأولى ، مطبعة أنفو-برانت، المغرب، ص ص: 111- 112 .
56-الديالمي: 2009، سوسيولوجيا...ص:133
57-Habermas(Jürgen) : ,1985Le discours philosophique de la modernité, Gallimard, p:20 et p: 163 .
58-الديالمي: 2009 ، سوسيولوجيا...ص ص: 53- 54 .
59- نفسه. ص ص: 176-177 .
60- نفسه. ص ص: 35.
61-Dialmy(Abdessamad): 1995, Logement , Sexualité et Islam, Editions Eddif , Casablanca, Maroc, pp: 71-73 ,p: 166 et p:173.
Voir aussi: Dialmy(Abdessamad): 2016, La fabrique de l’islamisme marocain, Editions Toubkal, Casablanca, Maroc, pp: 92-94.
62- Dialmy: 2016, La fabrique..op.cit.pp : 236- 237 .
63- الديالمي: سوسيولوجيا...مرجع مذكور، ص: 177.
64- حوار مع عبد الصمد الديالمي أجرته الإعلامية فطومة النعيمي، جريدة "الأحداث المغربية " 11 ماي 2016 ، ص: 16، العدد: 5899.
65-الديالمي: 2000، نحو ديموقراطية...ص: 7 .
66- نفسه. ص: 92. وأيضا: الديالمي(عبد الصمد) : نحو إسلام علماني، انظر:
Febrayer.com
( شبكة الأنترنيت)
67- Dialmy(Abdessamad): 1988, Sexualité…op.cit.p: 16.
68-الديالمي: 2000، نحو ديموقراطية جنسية...مرجع مذكور. ص: 74.
- 69- Dialmy: 2016, La fabrique…op.cit,pp: 55-56.
الديالمي: 2015 ، الانتقال...مرجع مذكور، ص: 10 وص ص: 246- 247.
” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ) “ (سنن أبي داود باب العصبية رقم الحديث: 5121).
” ولكي نقيس التسامح، يبدو واضحاً أننا لا نكون بحاجة إلى قياس سلوكنا واتجاهاتنا نحو جماعات نحبها، لأن جوهر التسامح يكمن في الاستعداد للعيش جنباً إلى جنب مع أفراد نعارضهم، وأفكار لا نتفق معها. يبدو واضحاً تعريف مقولة فولتير الشهيرة: أنا أمقت وجهات نظرك، لكن على استعداد لأن أموت دفاعاً عن حقك في التعبير عنها “([1]).
إن عدم التسامح السياسي يرتبط بنزعات شخصية معينة تتسم بالثبات منها التصلب بالرأي والتسلطية والتفاؤل، ومنها أيضاً عدم الأمن النفسي والدوغمائية وعدم الثقة بالآخرين، أو الحقد على بعض، والاعتقادات المتصلة بالقيم الديموقراطية فيما يصلون إليه من قرارات.
يعتبر علم النفس السياسي* مجال أكاديمي متعدد الاختصاصات، يقوم على فهم السياسة والسياسيين والسلوك السياسي من منظور نفسي. وتعتبر العلاقة بين السياسة وعلم النفس ثنائية الاتجاه، فيستخدم العلماء علم النفس كمرآة لفهم السياسة، وكذلك السياسة مرآة لعلم النفس. ويعد هذا العلم مجال متعدد الاختصاصات، لأنه يأخذ مادته من مجموعة واسعة من التخصصات الأخرى، بما في ذلك: علم الإنسان، وعلم الاجتماع، والعلاقات الدولية، والاقتصاد، والفلسفة، والقانون ، ووسائل الإعلام والصحافة بالإضافة إلى التاريخ. ويعرف مورتون دويتش علم النفس السياسي بأنه: دراسة تفاعل علم السياسة مع علم النفس، خاصة أثر علم النفس في السياسة. ومن الجدير بالذكر أن هذا العلم الوليد قام على أسس موجودة في العلوم النفسية وهي دراسات الشخصية، وسيكولوجية وديناميات الجماعة والقيادة، والأسس النفسية لتكوين الاتجاهات، ومهارات حل الصراع ... وغيرها، مع تعديل جوهري وهو تطبيق كل ذلك على مجموعات كبيرة وقوى ضغط ومصالح متباينة.
يهدف علم النفس السياسي إلى فحص مسائل التعصب والعنصرية والتمييز العرقي والتسامح ومحاولة فهمها. عن طريق النظريات النفسية الكثيرة مثل: نظرية الإحباط والعدوان، والنرجسية ويستطيع علم النفس السياسي مساعدة صناع القرار في اتخاذ القرارات([2]) الصائبة في مجال العلاقات الدولية، وفي التنبؤ بردود الفعل المحتملة للدول الأخرى لتلك المبادرات والاتفاقيات السياسية.
بالمقابل ركز علم نفس العنصرية عبر التاريخ على سيكولوجية الفرد، كيف تدفع المعتقدات والسلوكيات الفردية العنصرية (المقاربة النفسية الاجتماعية). لكن قيدت رؤية العنصرية من هذا المنظور وحده حدود شديدة. واليوم، يستخدم بعض الباحثين في علم النفس المقاربة الثقافية الاجتماعية ويدافعون عنها، والتي تنظر إلى العنصرية على أنها أفكار وممارسات راسخة في الثقافة وتكون جزءاً لا يتجزأ منها. إذ يشكل الأفراد الثقافة وتشكل الثقافة الأفراد.
غرضنا في هذا الصدد، فحص مدى قدرة الذاكرة الفردية على أن تكون شهادة على الواقع، من خلال النظر في هذين الاستفهاميين: ماهي رهانات بناء معرفة سوسيولوجية استنادا على ذاكرات الأفراد؟ ثم ما هي حدود ذلك؟
الذاكرة: مفهمة واستشكال:
بدءا نتصفح القاموس العربي لتحديد لفظة ذاكرة فنجد: ذَكَر، ذِكرا، جاد ذِكْرُه، وحفظه، فهو ذِكْرٌ، وهي ذِكْرَة، ومنه الذاكرة التي تفيد قدرة النفس على الاحتفاظ بالتجارب السابقة؛ وقدرتها على استعادتها1. والذاكرة ترد أيضا في القاموس العربي رديفا للفظة <<الحافظة>> الحمالة لمعنى القوة الذهنية القادرة على الاحتفاظ بالتجارب؛ والمعلومات من أجل إعادة إحيائها عن الاقتضاء، واللزوم. أو لمعنى الوعاء الذي تحفظ فيه الأوراق.2
ويعرض القاموس الفرنسي لفظة Mémoire (=ذاكرة)، ذات الأصل اللاتيني memoria: بوصفها الوظيفة التي بواسطتها يتمكن الذهن من المحافظة، والعودة إلى معرفة تم اكتسابها في وقت سابق3.
أما القاموس الفلسفي فيعتبر mémoire: ذاكرة - ذكرى، فعلا لإعادة إنتاج الماضي، وملكة لتمثله كماض. بما في ذلك4 الآثار والتواريخ؛ أو تلك الوظيفة النفسانية الرامية إلى إعادة إنتاج حالة وعي سابقة5. وبهذا المعنى تضحى الذاكرة خاصية أساسية للوعي الإنساني؛ على رأي "هنري بيرغسون"، بما هو مراكمة للماضي وصيانة له، عبر الزمن، صورا images ، أو ذكرياتSouvenirs 6.
نرتب على هذه التحديدات المعجمية الإفادات التالية:
الذاكرة هي تلك الاستطاعة الهائلة على استرجاع الماضي بتمثله ذهنيا؛ ونفسانيا، ثم اجتماعيا، فثقافيا. ومعلوم أن هذه الخاصية مقصورة على الإنسان ومستثنى منها غيره لأن الكائن الإنساني عقل، والعقل قوة إدراكية فاعلة تحمله على ممارسة مجموعة من العمليات الذهنية المعقدة مثل الشك، والفهم، والتصور، مثلما الإثبات، والنفي، فضلا عن الإرادة، والتخيل، والتساؤل، وهي كلها لوينات للتفكير، ومواصفات أساسية لحيوية الوعي7.
العودة إلى الماضي هي يقينا عودة إلى المخزون الذاتي من أفكار، وذكريات، ومحفوظات، و تعلمات، وخبرات سالفة لاستحضارها بكامل الشفافية والوضوح (=الوعي الذاتي)؛ أو بطرق معوجة و مرتجة (=اللاوعي). وهذا يشير إلى واحدة من الحدود الأساسية الفاصلة بين الإنسان والحيوان.
عملية التذكر تجعل الفرد متصلا بمحيطه الاجتماعي، والثقافي، ومتواصلا وأغياره كما بماضيه؛ و مستدمجا هذا الأخير في شخصيته الشيء الذي يحصل القول بتاريخية الإنسان [=التشديد مني]. بهذا إذن تكون الذاكرة إحساسا بالذات في فرادتها؛ ووعيا عميقا بالكينونة في ديمومتها، وصيرورتها معا.
"إنّ الجامعات قاطرات التاريخ الحضاريّ للإنسانيّة، ومن الطبيعيّ أيضاً أن تشكّل التغيّرات والمتغيّرات الحادثة في المجتمع النوابض التاريخيّة لتقدّم الجامعات وتطوّرها، وذلك من منطلق أنّ العلاقة القائمة بين الجامعات والمجتمع هي علاقة صميميّة وجوديّة، تقوم على الفعل والانفعال والتجاوب والاستجابة الدائريّة المستمرّة عبر الزمان والمكان ".
1 - مقدّمة:
تشكل الحريات الأكاديمية في الجامعات الحقل الخصيب لنماء المعرفة الإنسانية وازدهار المعرفة الإبداع العلمي. وقد أدرك علماء الاجتماع التربوي هذه الحقيقة، فأعلنوها قانونا اجتماعيا صاغته التجارب الإنسانية وصقلته حركة الإبداع العلمي في كلّ المجتمعات. فالحريات الأكاديمية هي الإطار العام والشرط الموضوعي لوجود الجامعة وتطورها، كما أنّها التّربة الحاضنة لأدائها العلمي بسماته الإبداعية والابتكاريّة. وتأسيسا على هذه الحقيقة يرتسم تاريخ الجامعات نضالا من أجل الحرية والديمقراطية والإبداع العلمي، ويحفل هذا التاريخ بنماء الفكر الديمقراطي وتطوره في أحضان المؤسسات الأكاديمية العليا، وذلك انطلاقا من الأهمية المطلقة والضرورة التاريخية التي يمثّلهما توفر الديمقراطية بالنّسبة إلى العلم والمعرفة العلمية.
ومن يتأمّل بعمق ودراية في تاريخ العلم وتاريخ الجامعات يجد بأنّ النضال من أجل المعرفة والحقيقة لم ينفصل لحظة عن النضال من أجل الديمقراطية. ويَظهر له جليّا أنّ الحقيقة الديمقراطية تتحدّد دائما مع حقيقة الإبداع العلمي والمعرفي. ومن يرصد وقائع التاريخ سيجد بأنّ تراجع الحضارة والمعرفة كان نتاجا طبيعيا لتراجع القيم الديمقراطية وغياب الحرية. وبالمقابل، فإنّ قوة الحضارة ومدى ازدهارها يرتهنان بمدى الازدهار الديمقراطي الذي تشهده هذه الحضارة أو تلك. ويقرئنا التاريخ أن الحضارات المزدهرة كانت قبل ذلك قد شهدت ازدهارا ديمقراطيا سجل حضوره في أصل النماء الحضاري لهذه الشعوب التي صنعت الحضارة وتكاملت معها.
وفي عمق التحولات الحضارية كانت مؤسسات التعليم العالي، وما زالت، تشكل قاطرات التاريخ نحو العلم والديمقراطية. والقانون الذي يسود هذه المؤسسات لا يخرج عن القانون العام الذي يسود الحضارة: فمدى أصالة هذه المؤسسات ومدى قدرتها على تحقيق النهوض الحضاري والعلمي رهينان، وعلى نحو جدلي، بمدى الأداء الديمقراطي لهذه المؤسسات الجامعية في مختلف صيغها وتجلياتها. وبالتالي فإنّ المؤسسات الجامعية التي تعاني من غياب الأجواء الديمقراطية ستعاني بالضرورة من الجمود والتصلب اللّذين يتجسّدان في حالة عدمية قوامها حالة اغتراب شاملة تتمثل في انهيار أكيد لمختلف طاقات الإبداع والقدرة على الابتكار. وهنا نجد أنفسنا أمام حقيقة لا تقبل الجدل، وهي أنّ مستوى الأداء العلمي والديمقراطي لمؤسسات التعليم العالي والجامعي في مجتمع ما يمثّل المؤشر الحضاري على الدرجة التي بلغها هذا المجتمع في سلّم التطور الحضاري والإنساني.
إنَّ عِلْمَ النَّفْسِ قائمٌ على تَحليلِ العَالَمِ الداخلي للإنسان ، وإرجاعِ حياته الباطنية إلى عناصرها البِدائية الأوَّلِيَّة ، وربطِ السلوكِ اليَومي بتأثيراتِ العقلِ وإفرازاتِ الشخصيةِ وأساليبِ التفكيرِ ، مِن أجْلِ فَهْمِ وُجودِ الإنسان كَكَائن حَي وحُر ، والتَّحَكُّمِ بِمَسَارِه ، والتَّنَبُّؤ بِمَصِيرِه . وكُلُّ إنسان لَدَيه حَيَوَات كثيرة وشخصيات مُتعددة ، وَوَحْدَها اللغةُ هي القادرةُ على وَضْعِ الخُطوطِ الفاصلةِ بَين حَيَوَاتِ الإنسانِ ، وتَحديدِ نِقَاطِ الاتصالِ والانفصالِ بَيْنَ شخصياته . وهذا لَيس غريبًا ، فاللغةُ هي الطاقةُ الرمزيةُ التي تَجْمَع بَين السُّلوكِ والشُّعورِ في إطار التَّسَلْسُلِ الفِكري المَنطِقي .
واللغةُ لا تَتَجَسَّد حُلْمًا وواقعًا إلا في الأدب ، باعتباره الشكل الإبداعي المُعَبِّر عَن عواطف الإنسان ، والتَّعبير الفَنِّي المُظْهِر لأفكارِه وهَوَاجِسِه ، كما أنَّ اللغة لا تَتَشَكَّل كِيَانًا وكَينونةً إلا في التاريخ ، باعتباره الوِعاء الوُجودي للتُّرَاثِ الثقافي ، والتأويل العقلاني للفِعْلِ الاجتماعي المُتَدَفِّق في الزمانِ والمكانِ . وهكذا تُصبح اللغةُ مِحْوَرَ التَّوَازُنِ بَيْنَ الغريزةِ الفِطْرِيَّةِ والإرادةِ الحُرَّة ، ونُقْطَةَ الالتقاءِ بَيْنَ الرُّوحِ والمَادَّةِ .
وعِلْمُ النَّفْسِ على ارتباط وثيق بالأدبِ والتاريخِ _ تأثُّرًا وتأثيرًا _ ، باعتبارهما مِن أهَمِّ العُلومِ الإنسانية التي تَهدِف إلى تَجذيرِ مَعرفةِ الإنسانِ بِوُجوده ، وتحليلِ عَلاقته بالكائناتِ الحَيَّةِ والأنظمةِ الاجتماعيةِ وعَناصرِ الطبيعة .
ومِن أبرزِ الأمثلةِ على تأثير الأدبِ في عِلْمِ النَّفْسِ ، رِوايةُ " لوليتا " ( 1955 ) ، للروائي الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف (1899 _ 1977 )، وقد تَمَّ تَحويلُها إلى فِيلم سينمائي صدر في سنة 1962 ، مِن إخراج الأمريكي ستانلي كوبريك ( 1928 _ 1999 ) الذي يَعتبره الكثيرون واحدًا مِن أعظم صُنَّاع الأفلام في التاريخ .
كتاب من تأليف المفكر النهضوي المصري سلامة موسى (1887 – 1958)، صدر هذا المؤلف خلال القرن الماضي، لتعيد مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة بالقاهرة نشره في طبعة عصرية. وفيما يهم موضوع الكتاب، يتناول الأخير أحد أهم اكتشافات علم النفس الحديث، ونريد بذلك العقل الباطن لما له من مفعول كبير في سلوك الإنسان ونشاطه الذهني:
ما المقصود بالعقل الباطن؟
يعرف المؤلف العقل الباطن بكونه "العقل الذي يعمل على غير وعي منا. فهذا العقل يعمل كأنه مستقل عنا، وهو يقرر ميولنا وأمزجتنا". ويعتقد سيغموند فرويد (1856 – 1939) الذي دشن البحث في هذا المجال أن الغريزة الجنسية هي أهم محددات العقل الباطن، أما ألفرد أدلر (1870 – 1937) فيقلل من تأثير الغريزة الجنسية، ويركز على دوافع أخرى مثل الرغبة في امتلاك القوة والسلطة. وصولا إلى كارل يونغ (1875 – 1961) الذي ألف بين الرأيين (فرويد وأدلر) وأكد على أن "اللبيد (يُقصد به الرغبات والعواطف المكبوتة في العقل الباطن) هو تلك الغريزة الجنسية قد امتزجت بالنزوع إلى الرقي". فالإنسان بطبعه ميال إلى الرقي والتطور، إذ كثيرا ما ننساق لخواطر لذيذة كأن نحلم بأننا أصبحنا أغنياء أو قادة.
وعليه، فإن العقل الباطن هو "عقل الثقافة القديمة" وما تحيل إليه من غرائز بدائية (حب الشهوة واللذة والانتقام والعنف)، أما العقل الواعي فهو "عقل الثقافة الحديثة"، عقل الحضارة والعلم والمعرفة. بيد أن نوازع العقل الباطن ليست كلها شريرة، لأن الإنسان القديم لم يكن شريرا على نحو مطلق، كما أن العقل الباطن والعقل الواعي كثيرا ما يتعاونان لتحقيق مصلحة الإنسان، كالعالم الذي يتوصل إلى اختراع أو كشف علمي بواسطة الحلم.
الكبت
إن الرغبة أيا تكن طبيعتها (طعام، جنس... إلخ) إذا ما كُبتت من لدن العقل الواعي فذلك لا يعني زوالها، بل هي تندس في العقل الباطن وتتحين الفرصة لتخرج من مخبئها، فالعقل الباطن في هذه الحالة ينفس عن رغباتنا المكبوتة بواسطة الخواطر (أحلام اليقظة) والأحلام. وإذا ما بلغت الرغبة المكبوتة حدا بعيدا من الجموح قد تؤدي إلى الإصابة بالأمراض العصابية كما يعتقد فرويد فيما يخص الغريزة الجنسية، لكن الرغبة المكبوتة قد تفضي إلى سبيل إيجابي وهو التسامي بحيث "نتسامى بالعاطفة إلى فن من الفنون العليا، فأرغب الناس في وصف الجمال ولذات العشق هو المحروم من الحب (كالشاعر)". وتأسيسا على ذلك "إذا كانت العواطف المكبوتة تُحدث الجنون أحيانا فإنها أحيانا أخرى تُحدث النبوغ".
ضمن سياق تحليلنفسي امتد من عام 1919 إلى حوالي عام 1930، ظل فرويد يرى في وليام رايخ (1897-1957) طالبا متميزا، واعدا، ويحميه من هجمات المحللين الآخرين. عندما أعطاه رايش كتابه الأول "وظيفة هزة الجماع " (1970)، صرخ فرويد: "هذا عمل عظيم"! الذي يفيد به هذا التعجب هو أن فرويد درس الجنسانية (النشاط الجنسي)، ولكن لم يسبق له أن درس هزة الجماع، حيث بدت له ظاهرة ثانوية تختتم النشاط الجنسي، أي ظاهرة إفرازات، لن يكون لها في حد ذاتها سوى تأثير فسيولوجي ونفسي ضئيل أو منعدم.
تسمح لنا دهشة فرويد هذه بفهم أين وكيف يتموقع رايخ إزاء عمله: استكشاف ما لم يصل إليه المؤسس. لأنه إذا كان فرويد هو بالفعل المخترع الثوري للجنسانية الطفولية، مستكشف آلياتها وتأثيراتها النفسية المرضية، لم يقترب حقا من التتمة، ما نسميه الجنس التناسلي، الذي يتم إحلاله منذ سن البلوغ، والذي اهتم به رايخ.
من جانب آخر، إذا تحرر فرويد تدريجيا من الأسس العصبية الحيوية للأداء النفسي وكذلك من القواعد الجسدية، فسوف يعود رايخ إليها لتعميقها، لا سيما من خلال رد الاعتبار للجسد وعلم وظائف الأعضاء وإحلاله (الجسد) مكانا مهما في العلاج التحليلنفسي: الجسد له لغته الخاصة، ولكنه أيضا ذاكرة، وبالتالي فهو محاور مهم.
علاوة على ذلك، إذا كان فرويد قد أشار إلى آثار الحضارة على النشاط الجنسي البشري من خلال التنازلات التي تفرضها (فرويد، 1969)، ومساهمته بالتالي في تكوين "الباثولوجيات" (علم الأمراض)، فإن رايخ سيذهب بتفكيره أبعد من ذلك، خاصة مع فكرة الطاعون العاطفي* (emotional plague).
مقدمة
كان إريك فروم (1900-1980) محللًا نفسيًا ألمانيًا أمريكيًا ، مرتبطًا بمدرسة فرانكفورت ، والذي أكد على الدور الذي تلعبه الثقافة في تنمية الشخصية. دعا إلى التحليل النفسي كأداة لعلاج المشاكل الثقافية وبالتالي الحد من الأمراض العقلية. يعتقد فروم أن الشخصية في البشر تطورت كطريقة للناس لتلبية احتياجاتهم. على عكس فرويد، لم يؤمن أن الشخصية ثابتة، فقد حدد فروم خمس احتياجات إنسانية أساسية: الترابط، التجذر، التعالي، الإحساس بالهوية، وإطار التوجه. إن غياب هذه ، وفقًا لفروم ، من شأنه أن يسبب مشاكل عقلية واجتماعية مثل الاغتراب. تصور فروم نسخًا مثالية للمجتمع والدين تؤكد على الحرية وتلبية احتياجات الإنسان. وبذلك، أصبح أحد مؤسسي الاشتراكية الإنسانية. لقد أكد على المحددات الثقافية للشخصية. بحث في أعماله في المشاكل العاطفية في المجتمعات الحرة ودعا إلى التحليل النفسي كعلاج للأمراض الثقافية وكأداة للمساعدة في تطوير مجتمع غير عصابي. من المعلوم أن فروم وُلِد في فرانكفورت، وتلقى تعليمه في هايدلبرغ وميونيخ قبل أن يؤسس عيادة خاصة للعلاج النفسي في عام 1925. بدأ فروم كتلميذ لسيغموند فرويد ، جامعاً نظرياته النفسية مع المبدأ الاجتماعي لكارل ماركس. استخدم طريقة فريدة للتحليل النفسي تتضمن مواجهة المريض بصفته معالجًا له وكشخص آخر متعاطف، مشددًا على عدم وجود سمة أو عامل في المريض غير موجود لدى أي شخص آخر في ألمانيا، انتقل فروم إلى شيكاغو في عام 1933 لإلقاء محاضرة في معهد التحليل النفسي. قام بالتدريس في العديد من الجامعات الأمريكية ووسع وجهات نظره لتشمل مبادئ زن البوذية. في عام 1957 ، شارك في تأسيس اللجنة الوطنية للسياسة النووية السليمة. كتب فروم أيضًا عددًا من الكتب والمقالات للأكاديميين وعامة الناس على حدٍ سواء. اكتسب فروم شعبية لأول مرة مع عامة الناس من خلال كتابه "الهروب من الحرية" ، والذي شرح خوف الإنسان اللاواعي من الحرية وجاذبية الأنظمة السياسية الاستبدادية. شكل هذا الكتاب إلى حد كبير الفكر الفكري في أمريكا في ذلك الوقت ، وتسبب في تصنيف فروم على أنه فرويد جديد ، جنبًا إلى جنب مع كارين هورني وهاري ستاك سوليفان. على الرغم من اختلاف هذه الأرقام الثلاثة ، وفقًا لفروم ، فإن كل واحد منهم يشترك في التركيز على العوامل الاجتماعية والثقافية والموقف النقدي لنظرية فرويد حول أولوية الغريزة الجنسية. في عام 1951، أصبح فروم أستاذًا في جامعة المكسيك الوطنية، حيث أسس المعهد المكسيكي للمحلل النفسي وسافر بانتظام إلى الولايات المتحدة قبل أن يستقر في سويسرا عام 1971 وطور فروم العديد من الموضوعات الرئيسية، وطور أفكاره وصقلها بشكل تدريجي. هذه الفئات هي شخصية اجتماعية، والتي تربط نظرية التحليل النفسي للدافع الديناميكي بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية. الموضوع الثاني هو مراجعة فروم للتحليل النفسي لفرويد ، لا سيما تأكيده على العدوانية والتدمير.المحور الثالث: نقده للمجتمع الصناعي ، ورابعه: تحليله للدين وعلاقته بالتنمية البشرية. من بني نظرياته عن الشخصية الاجتماعية على مفهوم فرويد أن سمات الشخصية ديناميكية. كان يعتقد أن هيكل الشخصية يشرح الإجراءات والأفكار: ما الذي يحفز الناس وما يجده مرضيًا أو محبطًا. فكيف انتقل بالإنسان من استلاب التملك الخاص إلى تحرر الكينونة المشتركة؟
يتحدد مرمى هاته الدراسة في النظر في مفهومين مركزيين طفقا في السنوات الأخيرة، يشكلان مدار اهتمام عالم الاجتماع العربي الدكتور عبد الصمد الديالمي. نقصد بذلك "الانفجار الجنسي"، و"الانتقال الجنسي" وهما المفهومان اللذان أبدعهما أثناء انهماكه بتحليل معضلة تخلف مجتمعنا؛ وتفكيك السلوكات الجنسية في علاقتها بالمعايير الدينية والمنظومة الأبوية بكل لواحقها القانونية.
في البدء كان " رايش ":
ينتمي د.عبد الصمد الديالمي إلى الجيل الثاني من علماء الاجتماع المغاربة. فمنذ التحاقه أستاذا للسوسيولوجيا بجامعة فاس سنة 1977 عمد إلى رسم الخطوط العامة لمشروعه السوسيولوجي المتمحور حول الجنسانية، والجندرية والنسوية. وبوصف هاته المسأليات مرتهنة بالنص الديني والاجتهاد الفقهي فإنها تدعو الباحث للاشتباك علميا، ولامراء في ذلك، مع ثقافة الفقيه المتمذهب، ومع الإسلامانية، وخلفياتها الإيديولوجية الصريحة والمضمرة حيال الحداثة، والديموقراطية، والعلمنة والحريات الفردية والعامة..
بتفان منقطع النظير سينكب الدكتور عبد الصمد الديالمي على مشروعه هذا منتظما في إنجازه عاملا على تطويره منذ لحظة اكتشافه كتاب " الثورة الجنسية " للمحلل النفساني النمساوي فلهلم رايش؛ الكتاب الذي سيشكل بالفعل نقطة تحول حاسمة، ليس فقط في حياة عبد الصمد الديالمي الشخصية التي وسمها، منذ البداية، تمرد لافت على الأساليب التقليدية في التنشئة الاجتماعية، وانتفاض واع على الأبوية 1 ؛ وإنما انقلاب جذري في حياته العلمية برمتها ستحمله على بناء الأسئلة الحارقة، والمحاور الكبرى فالمفاهيم المركزية التي سينتظم حولها منجزه السوسيولوجي لما ينيف عن أربعين سنة. يكتب عبد الصمد الديالمي في هذا الصدد: " في 1973، قرأت " الثورة الجنسية " ل"رايش" وأنا أستاذ بالثانوي. في الواقع لا أدري لماذا قرأته (...) إنه الكتاب الذي جعلني أعمق تمردي على المجتمع وعلى القيم السائدة (...) إنه الكتاب الذي جعلني أكتشف أن الزواج والأسرة يعوقان الرضى الجنسي، وأنهما يشكلان سجنا للمرأة... إنه الكتاب الذي جعلني أقتنع أن لاثورة دون ثورة جنسية..."2
يَتَحَرَّكُ عمل الأستاذ " سعد ابن الجنوي " المَوْسُوم ب " التحليل النفسي للحياة العادية " داخل مجال النظرية الفرويدية في لَبُوسِهَا الأورثوذوكسي المرتكز؛ فيما يرتهن بتقنياته، من ناحية على الملاحظات النَّبيهَة خلال إجراء المقابلات الإكلينيكية مع المرضى، ثم على القراءة الفاحصة والدقيقة لكل المعطيات المتَحَصِّلَة منها من ناحية ثانية، غاية في فهم تَشَكُّل العُصَابَات؛ كَمَا العديد من الاضطرابات النفسية الكابِحَة لحرية الفرد، والمعيقة لانطلاقه في تجربة الحياة بشكل طبيعي وسليم.
تأسيسا على هذا عَمَد " سعد ابن الجنوي " إلى بناء تَسَاؤُلِه المركزي: " مَا خَبَايا إِصْرَار الناس على الإجابة بهاته العبارة : " الأَمْرُ عَادٍ " مَتَى ٱسْتُجْوِبُوا حول مَعِيشِهِم اليَوْمِي؟ "
فَلَئِنْ كانت فَحْوَى أجوبة المفحوصين تبدو لأول وهلة جَلِيَّةً وشَفَّافة، فإنها لا تُصَرِّح، مع ذلك، بخبايا الذَّوَات؛ وهو ما يقتضي سَبْرَ أَغْوَارِ هذا ال " عَادِي " بوضعه أمام مِبْضَعِ المُحَلِّلِ النفسي الرَّامِي إلى تَشْرِيحِ بَوَاطِن النفس، وتَقْلِيب طبقاتها العميقة.
في الحاجة إلى التحليل النفسي:
لا مِراء في أن عالم اليوم هو عالم التقلبات العنيفة والمتسارعة بلا منازع. فالملاحَظ أن هاته التحولات التي تعد استجابة لِطُوفَان العولمة الكاسح، المُتَمَخِّض عن سقوط جدار برلين؛ وانهيار المنظومة الشرقية ، ومستتبعات كل ذلك على جغرافيات بعينها من العالم أضْحَت تطرح اليوم، وأكثر من أي وقت ولَّى ، أسئلة لاَهِبَة حول المؤسسات، والعلاقات الاجتماعية، والهويات الثقافية، والتاريخ، والتراث، والشغل، بالإضافة إلی قضايا التربية والتكوين، والأزمات الاقتصادية، ومآل النزاعات المسلحة المندلعة هنا وهناك، وانعكاساتها الوخيمة على كينونة الإنسان ومصيره..
لقد غدا الصراع، والقوة، والتطاحن، والتنافس على كافة المستويات والصعد من أجل الحصول على حصة الأسد من خيرات، وموارد، ومقدرات الأرض في عالم بات يدبر اقتصاد الندرة بكل الوسائل والطرق.. فلِتَطَالَ تدَاعيات كل هذا الصحة العقلية، والسَّلاَمَة النفسية للأفراد والجماعات وهو ما تُجليه الاهتزازات والرجَّات السيكولوجية التي رَصَدتها الأبحاث الميدانية لدی شرائح عُمرية عريضة نحو الاكتئاب، والرُّهاب، والكبت، والقلق، والوساوس، والتطرف، ووصولا إلى الإحساس بالذَّنب والشعور بالاضطهاد... أَفلَمْ يُسْهِمِ الانتقال التاريخي من حالة الطبيعة إلى حالة الاجتماع البشري / الحضارة برأي " سيغموند فرويد "، في إعطاب دوافع الإنسان من خلال كبح غرائزه وقمعها؟ ( فرويد:1971. ص: 74-75)
" إننا نحب ونكره، ونخاف ونشجع، ونشمئز ونقبل، ونفعل ونترك، عواطف كَمُنَت فينا منذ الطفولة، ولا ندري بها، إلا بعد التحليل الشاق " سيغموند فرويد
مقدمة:
تسجل صدمة الولادة المشهد الاغترابي الأول للإنسان، وفي هذه اللحظة التي يتدفق فيها نور الحياة يجد الطفل نفسه في عالمٍ مدهش يضج بالغربة والاغتراب، وهنا تبدأ اللحظة الصدامية الأولى بين الإنسان والوجود بانتقال الطفل من وطن الأنس المطلق إلى عالم يفيض بالمجهول ويغص بالآلام ([i]). فالولادة هي الرحلة من وطن الحنان المطلق إلى عالم يضج بالألم ويرتجف بالأحزان، ومن كون يغدق بالعطاء إلى كون المواجهة والتحدي؛ وفي هذه النقلة الأولى يتجسد معنى الاغتراب الوجودي للإنسان في لحظة ميلاده الأولى. وتلك هي الحقيقة التي يؤكدها رانك Rank في مختلف دراساته وأبحاثه حيث يعلن بأن صدمة الولادة هي الحدث الأكثر أهمية في تاريخ الفرد في المستويين البيولوجي والسيكولوجي، لأن الولادة هي الانفصال الأول للكائن الإنساني (الجنين) عن الأم.
في مرحلة الطفولة المبكرة تكمن أسرار الوجود الإنساني، أسرار القوة وأسرار الضعف، فالشخصية الإنسانية تشكيل طفولي تحددت سماتها وملامحها في المحطات الأولى من مرحلة الطفولة المبكرة. والطفولة الإنسانية ليست فراغا بل وجودا حيويا متدفقا، وهي ليست نسيانا، بل فيضا أصيلا يتدفق في الذاكرة الوجودية. فالعلبة الأسود للوجود الإنساني مشحونة بتاريخ الطفولة، وفي كل منعطف من هذا التاريخ ترتسم ملامح الشخصية الإنسانية وتتحدد معالم وجودها. وليس غريبا أبدا أن تكون الطفولة مستودعا لطاقات النمو، وذخيرة لأسرار الحياة الإنسانية، وبذورا لسمات الشخصية للإنسان. وهذا يعني أن أسرار التصدع وعوامل التكامل مسجلة في العلب السوداء للطفولة الإنسانية ([ii]).
فالمعاناة الوجودية لصدمة الولادة، التي تضع الكائن الإنساني وللوهلة الأولى في لحظة اتصاله الأول بالعالم الخارجي، تأخذ مداها وتتعاظم أهميتها في غضون السنوات الثلاثة الأولى من عمر الكائن الإنساني، وتشكل المرحلة الحاسمة التي تلعب دورا كبيرا في رسم الملامح الأولى لشخصية الكائن الإنساني لاحقا، وتلك حقيقة تكاد تحظى بإجماع العاملين في مجال علم النفس والتربية ([iii]).
في ثقافتنا السَّائدة، يُنظر تقريباً إلى جميع أنواع "الاضطرابات النفسيّة" الفرديّة نظرةً شاذّة تستدعي العلاج الفوري، وتأتي جميع طُرق العلاج الكلاسيكيّة في الطّب أو الدّعم النفسيّ إمّا بوساطة عقاقير مُهدِّئة ومثبّطات أو في البحث عن آليات إعادة التّكييف والتّنميط والدّمج مع الواقع الاجتماعيّ..
فعلى سبيل المثال لو أُصيبَ أحدهم بمرض "الاكتئاب" اتُّهِمَ بتشويهه للواقع وعدم قدرته على الاندماج فيه، دون مُساءلة هذا "الواقع" نفسه فيما إذا كان مشوّهاً أساساً، وأنّ "المكتئبين" يستطيعون أن يروا الواقع أكثر وضوحاً من الآخرين وهذا هو سبب اكتئابِهم، وهنا يستطيع مفهوم (واقعيّة الاكتئاب) أن يقلب فهمنا للحالة المرضية رأساً على عقب، ويساعدنا في عملية استثمارها. كتب "ديستويفسكي" يوماً: "اللهم لا تحرمني معاناتي"!.
في كتابها المعنون (ممسوس بالنَّارwith fire Touched) عالجت "كي جاميسون" علاقة الإبداع الأدبي والموسيقى والفنّ التّشكيليّ باضطراب المزاج ثنائي القطب، من خلال دراسة السّير الموثّقة للمبدعين أدبياً "همنغواي" أو تشكيلياً كما في حالة "فان غوخ". كما أنّ عالمة اللسانيات الأمريكيّة الطّبيبة النفسيّة "نانسي أندرياسين" قاربت الموضوع من زاوية دراسة تركيب وخرطنة الدّماغ تشريحيّاً ووظيفيّاً (Brain Mapping) لمجموعات تُعاني من اضطرابات المزاج مع مجموعات لا تعاني منها، وخلصت إلى أنّ نسبة المبدعين وتمثيل العباقرة في مجال الإبداع العلمي والأدبي والموسيقى والتّشكيلي من مضطّربي المزاج تفوق نسبتهم أولئك الذين يوصفون عادةً بالطّبيعيين. وكان قد عرّف "سُقراط" الجّنون بأنَّه (فنُّ الهَوس Mania) ولا يبتعد "أفلاطون" عن هذا الفهم. وكذلك يعتبر "أرسطو" أوّل من تفطّن للعلاقة بين العبقرية والجنون منذ خمسة وعشرين قرنًا. وفي ذروة عهد الرومانسية في القرن التاسع عشر دافع الطبيب النفساني الإيطالي "تشيزاري لومبروزو" عن وجهة النظر هذه بقوة، حتى إنه انتهى إلى صياغتها في شكل معادلة بسيطة: العبقرية = الجنون.
الملخص:
لقد توجهت اهتمامات عالم النفس ستاليسناس دوهين [i]Stanislas Dehaene، على وجه التحديد إلى تحليل ميكانيزمات فكرنا، استناداً إلى العلوم العصبية. أما هدفه من ذلك فهو فهم، دروب تفكيرنا الأكثر ذاتية وحميمية، بأكثر ما يمكن من الدقة العلمية. على هذا الأساس توجهت أسئلة محاوره بالتحديد إلى كشف بعض المفارقات الإبيستيمولوجية التي من شأنها أن تنجم عن التقاء حقل علم النفس بالحقول المعرفية والعلمية الأخرى التي يتوجه نحوها ستاليسناس دوهين، كالعوم العَرفَنِية Sciences cognitive والعلوم العصبية Neurosciences.
الكلمات المفتاحية: علم النفس؛ فلسفة؛ العلوم العَرفَنِيَّة؛ العلوم العصبية.
متن الحوار:
ترغب في إنشاء علم جديد للحياة الذهنية، لماذا؟
بداية ً، وحتى أسجل مقاربتي في تاريخ علم النفس الطويل أصلا: فهذا تعريفٌ سبق أن اقترحه أحد مؤسسيه إبان القرن التاسع عشر، ألا وهو وليام جيمس William James. إضافة إلى ذلك، أعتقد أن علم النفس يشكل أحد الحلقات الأساسية لعلم الحياة الذهنيةLa vie mentale. فهذا العلم العابر للتخصصات Pluridisciplinaire يأخذ على عاتقه تفسير كيفية تفكيرنا، استنادا إلى سلسلة من القوانين المتتالية، مع مراعات جوانب مختلفة من بيولوجيا الدماغ إلى البعد الثقافي. فالرهان ها هنا هو جعل قوانين علم النفس كونية Universelles كتلك الخاصة بالفيزياء. بالنسبة لي، فالفكر على الرغم من كونه ذاتي Subjective وحميمي Intime، إلا أنه قابل للدراسة العلمية، خاصة وأن خصائصه مُتشاركة على نحو رحب في جميع أنحاء العالم. إذ أعتقد أن كل تمثل من تمثلاتنا الذهنية هو أيضا موضوع عصبي Un objet neuronal، حتى وإن ضلت القوانين الرابطة بين المستويين قيد التأسيس. لذا فأبحاثنا في المختبر متمفصلة أصلا بين السلوك ونمو الطفل، وكذا علم النفس العصبي والتصوير الدماغي..
أليست هذه المقاربة اختزالية Réductionniste بطبيعتها؟
لا، أنا لست من أولئك الذين يثيرون علم الأعصاب الإقصائي Neuroscience éliminativiste، الذي يجعل علم النفس متواريا خلف علم الأعصاب الخالص، باختزاله لكل شيء في البيولوجيا، كما هو حال الفيلسوفة باتريسيا تشيرشلاند Patricia Churchland. بل على العكس من ذلك، أعتقد أن علم النفس له قوانينه على نحو يجعلها في تمام الصلاحية في مجالها، كما هو حال قوانين اللسانيات وعلم الاقتصاد. فهناك مستويات عديدة لوصف التعقيد المبهر للوجود الإنساني. لذلك، كلما استطعنا فهم المستوى النفسي بشكل أفضل، تيسر علينا فحص أسسه العصبية بشكل أدق.
بالمقابل، فالاكتشافات المتعلقة بالدماغ، تقود إلى بروز إشكالات ونظريات جديدة في علم النفس، لذلك أعتقد أن هناك الكثير من الأخذ والرد بين المجالين.
لقد سبق أن افترض علم النفس الوظيفي La psychologie fonctionnaliste، أن أي تطبيق Programme يمكن تفعيله على الدماغ، بنفس كيفية تشغيل أي برنامج Logiciel على وسيط مادي للحاسوب. أنت ترفض هذا التصور، لماذا؟
إن استعارة دماغ-حاسوب هاته، المستلهمة والمعززة بهذا الانشطار Dichotomie الاصطناعي الصارم بين الدماغ والفكر، هي استعارة محدودة للغاية. فالدماغ لا يعمل بهذه الطريقة على الإطلاق: إذ تعتمد معظم العمليات الذهنية على شبكات عصبية محددة (لتلقي الأشكال والألوان، على سبيل المثال). إذ أوضحت أبحاثي وأبحاث زوجتي غزلان دوهين لامبيرتز Ghislaine Dehaene-Lambertz، أن هناك بنيات دماغية منظمة، لمعالجة اللغة المنطوقة، موجودة بالفعل لدى الرضيع في شهره الثاني. فعلى سبيل المثال، عندما يتلقى الطفل عبارات من لغته الأم، تَنشُط في دماغه باحة بروكا L’aire de Broca في ارتباطها بمناطق زمنية أخرى.
ومع ذلك، لا تبدو متحمسا لمفهوم الوَحَدة الفطريةModule inné؟
لا أحب لفظ "فطري"، الذي لا يُنصف تعقيد العلاقة الرابطة بين البيولوجيا وعلم النفس. حقا هنالك بنيات مُسبقة في الدماغ. ومع ذلك، فهذه الأخيرة ليست "وَحَدات Modules" جاهزة للاستخدام، لاستكشاف الوجوه أو الكتابة. بل على العكس من ذلك، فهذه البنيات الدماغية تنضج بتفاعلها مع المحيط. فعلى سبيل المثال، فعندما تقوم بدراسة التشابكات العصبية Circuits cérébraux لفعل القراءة في كل أرجاء العالم، والتي تقوم على استخدام الكتابة الأبجدية أو المُخَططات Idéogrammes، فذلك يُنشط نفس المناطق الدماغية على الدوام. ذلك أن مُرونة الدماغ تفسح المجال أمام المتغيرات الثقافية.
عادة ما يتردد في مؤلفاتك لفظ: الشِفرة العصبية Code neural، ما دلالة ذلك؟
إن الشِفرة العصبية هي ما يسمح بالربط بين التمثلات الذهنية والعصبية. في الواقع، لا توجد شِفرة وحيدة، بل إنها متعددة بتعدد المناطق الدماغية التي تنتمي إليها. دعنا نأخذ مثالا، وليكن مثال القراءة. إذ ينطلق التشفير من شبكة العين مع بضعة ملايين من المستقبلات الضوئية Photorécepteurs، والتي تعمل على رصد انبعاث الضوء من نقطة محددة. فمن خلال هذا الانبعاث يتمكن الدماغ من إعادة تشكيل الكلمة، لكن كيف ذلك؟ إننا نفكر عبر تراتب التمثلات المرئية، المتعاقبة والمتداخلة مع بعضها البعض. فنحن نعرف أنه عند الإنسان والحيوان، توجد مستويات متراتبة في التعرف على الأوجه على سبيل المثال. فأحيانا تتجاوب بعض الخلايا العصبية neurones مع شخص ما عبر مستوى عالٍ من التجريد. فعلى سبيل المثال، استطاع بعض الباحثون في سان دييغو San Diego، من تحديد هوية خلية عصبية مسؤولة عن تشفير تمثلنا لنجمة هوليود "جينيفر أنستون Jennifer Aniston"، حين يتم النظر إلى وجهها أو النظر إليها من الجانب أو من الخلف، أو كذا عند سماع صوتها أو اسمها. لكن هذا العمل لا تقوم به خلية عصبية وحيدة، بل الملايين منها، بالرغم من كون التقنية المستخدمة في تسجيل الخلايا، لا يمكنها أن ترصد إلا خلية واحدة في كل مرة. هكذا فإدراك "جينيفر أنستون" هو إذن عبارة عن تجميع عصبي، تم تشكيله عن طريق التعلم، وتوزيعه عبر مناطق دماغية متعددة، كل منها تشكل حجرة جوهرية من مراحل تشكل التعرف البصري.
علينا أن نتقبل أننا عبارة عن آلات صغير مبهرة.
كيف يمكننا فهم هذا التشفير؟
من الآليات المفيدة جدا في هذا الأمر، تلك المتعلقة بتقنية التصوير بالرنين المغناطيسي (IRM)، والتي يمكن استخدامها لتعلم القراءة على سبيل المثال. والمثير للدهشة حقا، هو أن النتائج المُحصل عليها الآن، تتفق مع الملاحظات التي دونها طبيب الأعصاب "جول ديجيرين Jules Déjerine" خلال القرن التاسع عشر، حول أشخاص مصابين بآفات على مستوى الدماغ. فتلك الباحات المفقودة عند مرضى العمى القرائي Alexiques، هي نفسها التي تنشُط عند عملية القراءة. فبفهمنا لعملية تشفير الموضوعات الذهنية، نكون قادرين على عكس الإجراء: إذ بناءً على النشاط العصبي نعمل على استنتاج المحتوى الذهني. وهو ما عملت على ايضاحه رفقة برتراند تيريون Bertrand Thirion، حين بينا أنه عندما نتخيل حرف ما (وليكن س، على سبيل المثال)، فإن طوبوغرافيا التنشيط على مستوى الباحات البصرية، تعيد إنتاج شكل نفس الحرف المَرئي. وعليه، فإذا شئنا أن نتخذ مسارا معاكسا، فبناء على هذا التنشيط نفسه، يمكننا استنتاج الحافز الذي صور هذا الموضوع. طبعا هناك العديد من القيود: على سبيل ضعف دقة التحليلات المتوفرة حاليا، فهذه الطريقة لا تسير إلا وفق الترتيبات الماكروسكوبية للنشاط. إذ بإمكاننا على سبيل المثال تمييز تمثُل الوجه عن تمثُل المنزل، ذلك أن مناطق القشرة الدماغية المطابقة لكل منها، متباعدة بسنتمتر واحد على أقل تقدير. لكننا الآن، من حيث أننا لم نلج بعد إلى باطن هذه المناطق الدماغية، فليس بمقدورنا رصد الفرق بين لفظ "منزل" ولفظ "وجه".
يبدو أن العلم بدأ يقترب من الخيال. أيمكن أن تصبح قراءة الأفكار ممكنة؟
من الناحية النظرية لا أعرف أي حجج ضد ذلك. لكن، من الناحية العمَلية، فنحن في حاجة إلى جهاز تصوير أكثر قوة مما تعرفه الصناعة الآن، بالإضافة طبعا، إلى ذات متعاونة وأكثر رزانة. فلا يجب إذن أن نتوهم كثيرا، إذ لا وجود لأخ أكبر Big Brother في الأفق. بالمناسبة، ليس قراءة الأفكار ما يهمنا هنا. بل ما يشغل بالنا بالتحديد هو فهم ميكانيزمات عملية التفكير، أي الطريقة التي تتمفصل بها الباحات الدماغية، والتي من خلالها تتدفق المعلومات. فإيجاد قانون للترابط النفسي العصبي إذن، من شأنه على سبيل المثال أن يُتيح لنا الفهم الجيد لحالة المرضى الفاقدين لوعييهم مع تجويد إمكانية رعايتهم. هذا بالإضافة إلى إمكانية رصدنا لنوايا الذات، وترجمة هذه النوايا إلى أوامر واقعية، بناءً على التدفقات الكهربائية للدماغ Eléctrodes cérébrales، وهو ما يُتيح لنا إمكانية توجيه الأعضاء الصناعة على سبيل المثال. إنه أمل كبير بالنسبة لمرضى الشلل الرباعي، ومرضى الاحتباس الحركي (أو بتعبير حرفي "المنغلقين على أنفسهم")، أي الذين لا يستطيعون التحدث أو القيام بأدنى حركة. فالمرونة الدماغية تُتيح للمرضى تكييف شِفرتهم العصبية مع الآلة. فمع نهاية سنة 2006، تمت زراعة أول ذراع صناعية مُتحكم فيها من طرف الدماغ، لامرأة كانت تنتمي إلى البحرية الأمريكية سابقا.
في نظركم، حضور تقنية التصوير الدماغي، أمر بالغ الأهمية. أليس في ذلك خطرا من حيث سيطرته على علم النفس؟
إطلاقا لا: فعلم النفس يضل مركزيا. ففي مختبري، يعمل علماء النفس على تحديد جميع التجارب، للضفر بشروط التحفيز الخالصة الممكنة، وبالتالي الوصول إلى عمليات التفكير الأولية. إن التصوير الدماغي وغيره من الطرق الأخرى، والتي تدخل ضمن الفيزياء، أو العلوم العصبية، بالنسبة لنا، ليست سوى أدوات، لكنها أدوات جوهرية. بل أكثر من ذلك، أعتقد أن مختبرات علم النفس التي لا تملك هذه الآليات ستكون في ورطة حقيقية. لذلك فنحن في مركز نوروسبين Neurospin، بصدد العمل على تطوير شَراكات واستضافة الخبرات الخارجة بقدر الإمكان.
ما الذي يُحفزك على صنع نماذجك السيكولوجية؟
في نظري، يجب أن تلعب النمذجة دوراً أساسياً في النفس، سواء لصياغة تلك القوانين الشهيرة، التي تُعبر عن الترابط النفسي العصبي، أو كذلك للتعبير عن هذه القوانين بشكل دقيق معلوماتيا أو رياضياً. لكن بالرغم من ذلك، إلا أن تطوير النظريات التفسيرية الكبرى في علم النفس، لازال أمراً عسيراً. فالنماذج المتواضعة التي اقترحتها، تستطيع تفسير بعض الوظائف النفسية الكلاسيكية. إنها تنبني على ثلاث لبِنات أساسية: تنطلق من تنظيم الخلايا العصبية الواقعية، مرورا بالهندسة الدماغية الواقعية، لتنتهي إلى محاكات وظيفة حقيقية، تربط النموذج بالبيانات التجريبية الواقعية.
أجد أنه من الهام جدا في لحظتنا هذه، أن تتخثر معارفنا المختلفة على شكل نظرية موحدة. فعلى سبيل المثال، يتشكل حاليا ما يسمى "بعلم القراءة"، والذي ينطلق من تفسير كيف نتعلم القراءة، وماهي الشبكات المسؤولة عن ذلك، وكذا ما الذي يجعل من "المنهج الشمولي" غير فعال.
هل تعتقد كما هو حال "جون بيير شونجو Jean-Pierre Changeux" أن هناك "توافق تام بين الحتمية المطلقة، وعدم القدرة على التنبؤ الواضح بسلوكاتنا"؟
مهما تمكننا من تشريح أدمغتنا، إلا أن ميكانيزماتها معقدة بدرجة كافية لتجعل نتائجها غير قابلة للحساب والتنبؤ المسبق بها. إنها فكرة اسبينوزا إلى حد ما، عندما قال إن الناس يُؤمنون بحريتهم، فقط لأنهم يعون أفعالهم في الوقت الذي يجهلون فيه الأسباب التي تحدد أفعالهم هذه. إذ علينا أن نتقبل أننا عبارة عن آلات صغيرة ومبهرة. إذ حتى لو استطعنا تحديد سلوكاتنا، إلا أنه لا يمكننا التنبؤ بها. يبدو لي أنه في مجال المقارنة بين الإنسان والآلة، ليس الإنسان هو ما يصبح دونيا، بل الآلة هي التي تُصبح سامية. إذ شرعنا حصرا في فهم قدرة الآلة العصبية على محاكاتها للتعلم، وقريحتها فيه. فمن شأن هذه المعرفة أن يكون لها إسقاطات عديدة على مجال المعلوميات وكذا مفاهيم الأنظمة الصناعية، وهو ما من شأنه، أن يُساعدنا على تجاوز حدود الدماغ البشري.
أنت تقارن علم النفس بفيزياء الثلاثينيات... لماذا ذلك؟
إن مجالنا هو انفجار تام، كما هو حال فيزياء ذلك العصر. إنه عالم جديد تم اكتشافه حديثا. إذ يعيش علم النفس على المستوى العالمي فترة إبداع واكتشاف مبهر، مع مد جسوره -بكل ما تحمله الكلمة من معنى- نحو العلوم العصبية، إضافة إلى علم الاقتصاد والفيزياء والرياضيات... فهذا الطابع العابر للتخصصات والمتلامس مع بعضه البعض، يصير محيرا أحيانا: إذ من الواجب أن نحافظ على هذا التناسق. إنه بمعنى ما "عصر بطولي".
[i] ولد ستانيسلاس دوهين، سنة 1965، هو عالم نفس عَرفَنِي Cognitiviste وعالم أعصاب. بعد تكوينه الرياضي بالمدرسة العليا، صار طالباً لدى عالم النفس جاك ميهلر Jacques Mehler، ثم بعد ذلك التحق بعالم الأعصاب جون بيير شونجو Jean-Pierre Changeux، حيث تعلم على يده العلوم العصبية. خلال سنة 2007 عند التقائنا به، ترأس وحدة إينسيرم Inserm/CEA المتخصصة في التصوير العصبي العَرفَنِي، ثم تعيينه في نفس الفترة كأستاذ بكوليج دوفرونس. من هنا بدأ علم النفس بالانفتاح على العلوم العصبية. ومنذ سنة 2018، ترأس دوهين المجلس العلمي للتربية الوطنية. تنصب اهتماماته البحثية على وجه الخصوص على الأسس العصبية لشعورنا بالأعداد، والقراءة، وكذا اتخاذ القرار والوعي. من بين أهم منشوراته، كتاب "نحو علم للحياة الذهنية" (Collège de France/Fayard, 2006)؛ وكتاب "عصبونات القراءة"(Odile Jacob, 2007)؛ التعلم: مواهب الدماغ، وتحديات الآلة (Odile Jacob, 2018).
** Une nouvelle science de la vie mentale, Rencontre avec Stanislas Dehaene, Sciences Humaines, Hors-Série, n°25, Juillet- Août 2020,P.41-43.
* حاوره رينود بيرسيو Renaud Persiaux، وقد نُشر هذا الحوار في عدد خاص في مجلة العلوم الإنسانية الفرنسية، عدد 25.
------
محمد الحاجي EL-HAJJI Mohamed (باحث في الفلسفة والفكر المعاصر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، ظهر المهراز، فاس).
(مصدر النص المُتَرجم: Sciences Humaines, Hors-Série, n°25, Juillet- Août 2020)