مفاهيم بياجية ـ البوعيادي محمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Elevationتعايش في نسيج المُنجمعات التقليدية أشكال متفاوتة و مختلفة من التصورات التربوية التي تجعل  الطفل\التلميذ  محور العملية التعليمية، و هي تصورات تنهل من علوم إنسانية محددة، على رأسها  السوسيولوجيا و السيكولوجيا خصوصا  ...و في هذا الخط  تندرج نظرية النمو المعرفي التي أولت اهتماما كبيرا للبنيات الذهنية التي تحكم عمليات التكيف و الاستيعاب و التي تؤثث عمليات التعلم ، حيث تتجاوز هذه النظرية منجزات التجريبيين و السلوكيين الذين حصروا مفهوم التعلم في فعل ميكانيكي يرتبط  إما  باستجابات لمؤثرات خارجية أو بخضوع  لعوامل التجربة و التطبيق، و يتمثل هذا التجاوز في زاوية النظر إلى مجموعة من المفاهيم التي تركن إليها البيداغوجيا قديمها و حديثها، و هي مفاهيم : التربية،الذكاء، اللعب، التنشئة، التعلم ...
و يشكل تمثل علم نفس النمو(النماء)المعرفي لهذه المفاهيم الأساسية مرجعا و منهلا لعلم التربية الحديثة و للمدرسة الجديدة  التي وضع أسسها مجموعة من علماء النفس الألمان و الفرنسيين على رأسهم  بياجيه، فكيف يتجاوز علم نفس النمو المعرفي التمثلات القديمة لمفاهيم المدرسة التقليدية؟ ، و كيف تفيد البيداغوجيا من تمثلاثه؟
سنعرض هنا لأهم تمثلاث جان بياجيه للمفاهيم النفسية الأساسية التي تستفيد  منها علوم التربية الحديثة ، و ذلك من خلال الاعتماد على  الفصل الأخير من كتابه " سيكولوجيا و بيداغوجيا".


1)    مفهوم التربية
كانت المدرسة القديمة تفرض العمل على الطفل سواء رغب في أدائه أم لم يرغب ، أما المدرسة الحديثة فتفعل العكس تماما ، إنها تركز على العمل التلقائي المُنبني على الحاجة و المصلحة  le besoin et l’intérêt ..بمعنى أنها توجه التربية نحو استيعاب رغبات الأطفال و حاجياتهم النفسية و الجسدية و العقلية و لكن ذلك لا يعني أبدا الانسياق وراء رغباتهم بقدر ما يعني تحفيزهم على الفعل و الإنجاز و ليس إرغامهم عليه, لأن العمل الإجباري  هو شذوذ anomalie في حد ذاته (claripède) ، فكل عمل مُثمر يفرض وجود اهتمام و ميول من قبل الطفل أولا .
لكن السؤال المطروح على هذا المستوى هو:
هل يمكن للطفل أن يتحمل  عملا مُستمرا و ذاتيا و الحال أنها مسألة تصعب على الراشدين أحيانا كثيرة؟ هذه هي الإشكالية المركزية في التربية الحديثة .
لقد كانت البيداغوجيا التقليدية تعتبر البنية العقلية للطفل structure mentale مُساوية لبنية الراشد مع وجود اختلاف وظيفي fonctionnement différent  إذ إن الطفل – حسب هذا التمثل- يُمكن أن يكتسب المعارف رغم اختلافها و أن يقوم بأي عمل  تطلبه منه المؤسسة، و الفرق بينه و بين الراشد هو أن هذا الأخير يتصرف عن وعي ذاتي دونما تكليف، عدا ذلك فكلاهما ( الراشد و الطفل) يملكان قُدرات متشابهة ...و هذه مسألة مغلوطة تماما ، بل إنها معكوسة  في تصور بياجيه للمسألة ، إذ يعتبر أن هناك اختلافا بين البُنى العقلية و الفكرية عند الطفل و بينها عند الراشد، لذلك فالمناهج الحديثة تحاول تكييف المعرفة المدرسية مع البنية الذهنية و العقلية لسن الطفل...ولا يُوجد التشابه بين الراشد و الطفل إلا في مسألة الرغبات و الميول ، فكلاهما يتصرف وفق الميول الذاتية ، لكن بعقلية تختلف و تتغير حسب مراحل النمو ، و هذا الاختلاف يدفعنا الآن إلى طرح السؤال حول الطفولة...ما هي الطفولة ؟ و كيف يُمكن أن نكيف المناهج التربوية مع أطفال يُشبهوننا لكنهم يختلفون عنا؟..
لا يعتبر منظرو المدرسة الحديثة الطفولة شرا لابد منه، بل هي مرحلة بيولوجية مهمة في مسار تكييف الإنسان مع محيطه الاجتماعي و الفيزيقي ، وهذا التكيف يستمر طوال مدة الطفولة و يعتمد ميكانيزمين أساسيين هما : الاستيعاب assimilation و التكيف accomodation  .
تتطلب عملية التكيف تفاعلا بين الموضوع و الذات و المحيط ، حيث نطرح السؤالات: كيف يأخذ الطفل المعرفة ؟ كيف يستوعبها؟ ثم كيف يربطها بمعطيات المحيط الخارجي (الإجتماعي) و كيف يكيفها مع بنيته العقلية هو ؟ و هذا السؤال الأخير هو الأهم...و على هذا المستوى يظل الطفل موزعا بين اتجاهين غير متناغمين :
-    أولا : عليه أن يكيف أعضاءه الحسية و الفكرية مع الواقع الخارجي و خصوصية الأشياء التي عليه أن يكتسبها .
-    ثانيا:  لكي يكيف فعله ووعيه مع خصائص الأشياء الخارجية عليه  أن يماثل هذه الأشياء مع ذاتها ، أن يعيها باستقلال عن حاجته ، لأن الطفل في مراحله الأولى لا يعي الأشياء إلا بما هي تغذية لنشاطه الذاتي فهو لا يضع حدودا بين الأشياء و بين ذاته ، لا فرق لديه بين الذات و الموضوع.
و لكي يستطيع الطفل الوصول إلى تذويب هذه الفوارق  علينا أن نلجأ إلى اللعب كآلية تربوية تساعد الطفل في تكيفه مع الواقع ، فكيف تصور بياجيه مفهوم اللعب مع العلم أن المدرسة التقليدية كانت تعتبره  فعلا ترفيهيا لا أكثر و لا أقل؟
2) مفهوم اللعب:
يبدو اللعب بالنسبة للبعض مجرد فعل استرخاء أو إضاعة للطاقة ، و قد اعتبرته المدرسة التقليدية فعلا غير ذي دور وظيفي في تربية الطفل، لكن هذه النظرة التبسيطية  تنفي الأهمية الكبرى التي يُوليها الصغار لألعابهم و لا تشرح لنا البُعد الرمزي و السمات الثابتة في اللعب التي يمكن استغلالها كعنصر تربوي مهم.
لقد استخرج كارل كراوس karl Kraus بعدا  آخر للعب ، إذ من خلاله يطور الأطفال الجانب العضوي كما تطور الحيوانات قدرات الصيد من خلال اللعب . إن الطفل و من خلال لعبه يطور ذكاءه و نزوعاته  نحو التجريب و قدراته على التعلم و غرائزه الاجتماعية les instincts sociaux ، فمن خلال اللعب يمكن أن نُعوّد الطفل على القراءة أو الحساب  و كل العمليات التي كانت تُفرض عليه قسرا في الماضي ، لكن ما قاله كروس لا تمكن الاستفادة منه إلا بالتركيز على الاستيعاب assimilation حيث يتعامل الطفل مع الأشياء باعتبارها مستقلة عن حاجياته بدء من السنة الواحدة فما فوق ، فيحكها frotter  و يأرجحها balancer ...إلخ، ومهما كانت الألعاب موضوع النشاط فهي لا تلعب إلا دورا وظيفيا في تطوير القدرات العقلية للطفل :
«  le jeu n’est qu’une pure assimilation du réel au moi » " ليس اللعب  سوى استيعابا ذاتيا محضا للواقع" ...أما اللعب الأكثر تعقيدا و الذي يعتمد على الرمز كالدمية مثلا فهو صعب جدا في تفسيره  بالنظر إلى تأثيره على الطفل لأنه يتجاوز تمثل الواقع الخارجي إلى تحقيق البعد الذاتي و الغرائزي ، إن اللعبة بالنسبة للطفل كاللغة بالنسبة للمجتمع ..
اللعب إذا في شكليه الأساسيين ( الذي يطور الجانب الحس-حركي و الذي يطور الجانب الرمزي في شخصية الطفل)  يسهل عملية استيعاب الواقع ، لذلك فالمناهج التربوية الحالية مطالبة بتوفير آليات مُناسبة للطفل حين يلعب كي يتمكن من استيعاب الحقائق الفكرية التي بدون توفر الشروط الملائمة لتقبلها تظل خارجية عن البنية العقلية للمتعلم.
3)    مفهوم الذكاء: 
كان علم النفس القديم يعتبر الذكاء ملكة معطاة بشكل نهائي ، فهو يعتبره نظاما تجميعيا ميكانيكيا للأشياء، وهذا يفسر لماذا كانت البيداغوجيا القديمة تعتمد على مخاطبة الذاكرة و على قابلية التلميذ لاستقبال المعلومات، أما الآن فالعكس هو الحاصل، فحتى السيكولوجيا الأكثر تجريبية تعترف بوجود ذكاء يتجاوز الوراثة و الملكة لمفهوم " الاكتساب" ..وترى أن الذكاء مكتسب عن طريق المحاولة و الخطأ l’essai et l’érreur  حيث تتم تنميته على شكل بناء عقلي يرتكز على الفرضيات القابلة للتجاوز.
بالنسبة لآخرين تتعلق المسألة بتنظيم مستمر للتصورات داخل مجال الذاكرة .حيث يبرز الذكاء في عملية بناء إبداعي للعناصر المنظمة (Kohler) ..و كلا الرأيين يتفقان على أن الذكاء يبدأ من واقعة الممارسة الحس-حركية وبأنه عملية بناء مستمر ودائم  ممتد في الزمن ...
و تعزيزا لهذا الرأي أثبتت بحوث حول نشأة الذكاء أن الوظائف العقلية لا تتطور بفعل الموهبة أو حتى بتشكيل و بناء ذاتي structuration endogène و لكن من خلال صوغ أشكال معينة للاستيعاب و هذه الأشكال تتعرض لتعديل دائم من خلال التجربة ...
بلغة أخرى الذكاء هو القدرة على التكيف ، هو التوازن الحاصل بين قدرة الاستيعاب المستمر و الخطاطات و البنيات المُستوعبة للأشياء, و الطفل في سنواته الأولى لا يفهم الأشياء و الظواهر المجردة ( مثلا السببية) و لكنه و بالمقابل يقوم بتكييف  سلوكياته و معها تتكيف القدرات الاستيعابية بالتدريج  حتى تصل إلى مرحلة يستطيع فيه استيعاب العلاقات المجردة..
إن كل ذكاء هو عملية تكيف،  و كل عملية تكيف تشمل استيعابا للأشياء من قبل العقل, إذ إن كل عملية للذكاء ترتبط بالمصلحة  l’interet التي تربط العقل بالأشياء الخارجية.
و المصلحة هنا في واقعها ليست سوى المظهر الحركي للاستيعاب (كما وضح ذلك ديوي) إذ إنها تظهر حين يتحدد الأنا مع فكرة أو شيء ، عندما يجد فيه طريقة للتعبير أو عُنصرَ تغذية لنشاطه..
من خلال هذا التعريف فإن المدرسة الحديثة تحترم قانون الذكاء حين تطلب من الطفل أن يقوم بمجهود ذاتي للتعلم، فهذا  يساعده على تطوير قدراته و بنياته الإدراكية و الاستيعابية لأن منطقه يختلف عن منطق الراشد اختلافا جذريا، فعندما يتعلق الأمر بالتربية العقلية فإن السؤال الحرج الذي يطرح نفسه هو بالضرورة سؤال عن منطق الطفل .
إذا كان الطفل يُمنطق الأشياء مثل الراشدين، فإن المدرسة التقليدية على صواب حين تقدم له مواد معرفية كالتي تقدمها للراشدين، لكننا ما إن نلقي نظرة على  دروس الحساب و الهندسة في المدرسة الابتدائية حتى نكتشف فورا الثغرة الكبيرة في هذه المواد..
في مستوى متطور من النمو العقلي تظهر الممارسة كتطبيق للنظرية، فالكبار يستطيعون تجريد التجارب و صوغ قوانين عامة منها ، لكن الطفل الصغير في مرحلة متقدمة يعتمد في ذكائه على التجربة الحس-حركيةsensori-motrice  فقط ، و يظل هذا النوع من الذكاء مستمرا حتى مراحل مدرسية مبكرة..
يظل هذا النوع من الذكاء ، أي الذكاء التطبيقي سائدا عند الأطفال ، لأنه يسبق الذكاء المفهومي l’intelligeance conceptuelle  أو الذكاء المجرد l’intelligeance réflichie ، لأن الذكاء  المجرد يأتي في مرحلة لاحقة عن الذكاء الأول، إذ من تنائج الأول يتوصل الطفل تدريجيا إلى مستوى وعي الظواهر la prise de conscience  من خلال استنباط ( déduction réflexive) العلائق بين التجربة و النتيجة ...
و لذلك فالمناهج التعليمية الحديثة تعتبر أكثر نجاحا فيما يخص تدريس المواد الأكثر تجريدا كالرياضيات و الهندسة ، لأنها تعطي للجانب الحس-حركي أهمية كُبرى، و حين يصل الطفل إلى مرحلة تجريد المعارف يكون ساعتها فقط  مُستعدا لتلقي معرف ذات طبيعة مجردة لأنه يكون  قد طور آليات الاستيعاب و علائق الربط بين المعطيات من خلال فترة الذكاء التطبيقي التي مر بها .
من هنا يكون لمفهوم  الذكاء التطبيقي بُعده العملي في العملية التعليمية، إذ يعلمنا كيفية الفصل بين قدرات تمثل الطفل للمعرفة، هذا التمثل الحس-حركي و بين تمثل الكبار الذي هو تمثل مفهومي مجرد.
و ليس الفرق بين الذكاء التطبيقي و الذكاء المفهومي هو الفرق الوحيد بين أنماط تمثل الطفل و الراشد بل هناك أيضا فرق كبير على مستوى الأسس الهيكلية les principes formels  ، بنية المفاهيم structure des concepts  ، و بنية العلاقات  structure des relations .
فالطفل في سن قبل الحادية عشرة غير قادر على الاستنباط و الربط المنطقي بين هذه الظواهر و النتائج ، إنه غير قادر على التعامل مع الوضعيات الافتراضية إذ يقتصر مستوى فهمه على الحقائق المُلاحَظة les verités observées   و هذا هو ما لم تعه المدرسة التقليدية إذ كانت تفرض على المتعلمين مواد في الهندسة مُغرقة في التجريد ، والذي يعرقل – بالنسبة لهم – عملية التعلم.
إن الطفل في سن تقل عن العاشرة قد لا يملك المبادئ الصورية للعقل: كعدم التناقض و مبدأ الهوية ...إذ إن قدرته على ربط العلاقات لم تصل بعد إلى مرحلة ناضجة.
مثال توضيحي:
إذا أعطينا ثلاثة علب متساوية الحجم و مختلفة الوزن لطفل صغير (10-) و سألناه : ماهي العلب الأثقل من الأخرى؟ ، فسيكون جوابه :
-    الثانية أثقل من الأولى و الثالثة أثقل من الثانية ..
و لن يستطيع استنتاج أن الثالثة أثقل من الأولى دونما الرجوع إلى التجربة المُباشرة.
هنا إذا يتضح الفرق بين منطق الطفل الذي يعتمد على التجربة الحسية و منطق الراشد الذي يستطيع وعي العلاقات المجردة و الرمزية.
4) مراحل النمو المعرفي :
بالنسبة لعلم التربية يُطرح  على هذا المستوى إشكال أساسي:
-    هل نتعامل مع التلميذ على اعتبار  مراحل النمو العضوي ، فنقدم لكل مرحلة عمرية معارف معينة تُناسبها ، على أساس  أن النمو المعرفي مرتبط بالنمو العضوي ، أم  نتعامل مع الطفل على أساس أن قدراته المعرفية و العقلية تتطور وفق علاقاته مع المحيط الاجتماعي ووفق ظروف نفسية و خارجية ؟؟؟
من جهة أولى تعامل علماء نفس تقليديون كبوهلر buhler مع النمو المعرفي للطفل كمرآة معكوسة للنمو الجسدي  الفيزيقي،  لدرجة  القول بأن كل مرحلة عمرية تقابلها حالة عقلية ثابتة   و هو قول مبالغ فيه جدا  إذا ما عُمّم...
من جهة ثانية اعتبر علماء آخرون كإسحاق Mrs.isaac أن النمو المعرفي يرتبط آليا و مباشرة بالتجربة فقط و  لا غير و هي رؤية مرتبطة بالتجريبية الإنجليزية ، طبقت في بعض المدارس  ، حيث يتوفر تلامذة مابين الثالثة و الثامنة  من العمر  على عدد كبير من الآليات و الوسائط التربوية ، و هو أمر يبدو جيدا في حدود معينة لأنه يساعد هؤلاء التلاميذ على تطوير قدرات المُلاحظة و التحليل، لكن لا ننسى أن النشاط العقلاني في التربية يعطي معنى للتجربة و للضرورة أيضا  .. فالتجارب مهمة في تثبيت القدرات الحسية و الحركية  بل و حتى في تطوير القدرات الذهنية ، لكن  الأنشطة  العقلية هي الأخرى ضرورة ملحة  .. و هذين النموذجين الذين تحدثنا عنهما  ركز  كل منهما على جانب واحد  و أهمل الجانب الثاني، و هنا  يأتي دور التربية الحديثة ...
إن طرق التعليم الحديثة تقع موقعا وسطا بين هذين التوجهين حيث تولي أهمية للنضج البنيوي للأنظمة العقلية عند الطفل la maturation structurale ، كما  أنها تولي اهتماما  للوسط الاجتماعي و الفيزيقي عكس المدرسة التقليدية التي كانت تُلغي البعد التطبيقي في التعليم إلغاء تاما ..إن الطرائق الحديثة لا تنكر العلاقة بين النمو العضوي و النمو المعرفي إلغاء تاما لكنها لا تؤمن بتعميم النموذج ، كما أنها لا تؤمن بأنها مراحل متشابهة عند جميع الأطفال و وراثية  من الآباء إلى الأبناء و بالتالي قطعية ..بل يمكن التدخل فيها حتى  و بالتالي التدخل في عملية النمو هي الأخرى و توجيهها ... و قد  وضع جون بياجيه خطاطة رباعية لمراحل النمو المعرفي عند الطفل تراعي شروط النمو المعرفي بالمقياس الذي ذكرناه :

الخصائص التي ترافق المرحلة


السن ( من – إلى )


-    يمارس الرضيع دينامية تتلخص في فعل الاستيعاب و التكيف مع المحيط الخارجي ، حيث تكون العمليات الحس-حركية هي حلقة الربط بين الذات و المحيط و في هذه المرحلة تتكون عادات تطبيقية عند الطفل تمهد لنمو البنيات الذهنية ( الذي يأتي فيما بعد).


من 0 إلى 2 سنوات


-    يتمركز نشاط الطفل على محاولات اكتساب الرموز التي تسمح له بعمليات الاستنتاج و التمثل للخبرات التي يمر بها لكنه بالرغم من اكتسابه للرموز فهو يكون غير قادر على أجرأة التفكير في أحداث معينة  فيصدر أحكاما حدسية ترتكز على جانب واحد من الموضوع غالبا.


من 2 إلى 7 سنوات


يستطيع الطفل أن يحدد العلائق ما بين الأشياء ، لكن هذه العلائق تبقى محدودة في الواقع الماثل أمامه ، إذ لا يستطيع أن يستذكر عناصر خارجة عن نطاقه الحس-حركي، و في هذه المرحلة يبدأ بإتقان عمليات الترتيب و التصنيف لكن في ارتباط بالمُشخص أمامه.


من 7 إلى 12 سنة


هنا يدخل الطفل في مرحلة القدرة على الاستنتاج و ربط العلائق دونما حاجة إلى العياني أو المشخص، إنه يستطيع إخضاع الواقع لفكره ، فيصبح متمكنا من الاستدلال و فهم الفرضيات الذهنية و تمثل الأشياء من خلال اللغة و من هذه المرحلة يبدأ تشكل التفكير الفرضي الاستنباطي و التمكن من معالجة وضعيات غير مسبوقة و اتخاذ القرار و معالجة المشاكل المطروحة بشكل نسقي منظم


من 12 سنة فما فوق



5) قيمة  مراحل النمو:
- كيف يمكن أن نتمثل مراحل النمو العقلي عند الطفل من وجهة نظر المدرسة؟
لنأخذ كمثال على هذا التمثل مبدأ  السببية و كيف يتطور عند الطفل...من خلال تجارب و ملاحظات عدة تبدّى أن كثيرا من الأطفال الصغار يعتبرون أن للأشياء روحا، فهي تتحرك و تتكلم وتشعر،  عكس الكبار الذين يرون الأشياء بمنظار مجرد , حيث أنهم يربطون العلائق بين الأشياء على أساس تمييز طبيعتها ...وذلك راجع لكون الطفل يفكر في الأشياء بمركزية ذاتية إذ يربط كل شيء بذاته و يضفي عليه تصوره الشخصي ، كأن يجعل دمية صديقة له مثلا ...فالنمو العقلي إذا  يختلف بين الطفل و الراشد  لذلك يجب أن نعي أن هذا النمو يسير بشكل تدريجي ، و منه فليست كل المعارف مناسبة لكل الأعمار، فعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار المصلحة و الحاجة التي تتطلبها كل مرحلة على أساس أن مراحل النمو تتحدد وفقا للوسط الاجتماعي أيضا ..فالوسط الاجتماعي يمكن أن يلعب دورا حاسما في النمو العقلي عند الطفل ،  و مراحل النمو هي الأخرى ليست محددة بشكل حتمي و نهائي ،  فيجب ألا  ننسى أن المراحل التي حددها  بياجيه ليست إلا أدوات معرفية ، و نجاحها لا ينفي وجود تداخلات  بين مرحلة و أخرى ، و كما يؤكد هو ذاته فهناك في حالات كثيرة حالات تخلف في الفهم décalage en copréhension بالنسبة لمرحلة عمرية معينة بالنظر إلى ما يُنسب لها  بمعيار مراحل النمو ، و هناك  بالمقابل حالات  أخرى حيث يحصل العكس  فنجد أطفالا تتجاوز أفهامهم  مستواهم العمري ،  و بالإضافة  لذلك  يجب  ألا ننسى بأن لكل مشكلة صعوباتها  الخاصة ، و بأن هناك  عنصرا  آخر يتجاوز  أحيانا  التقسيم المقدم  لمراحل النمو  و هو  عنصر الاكتساب قبل التجربة ،  فهناك  مفاهيم  يكتسبها  بعض الأطفال قبل  أي تجربة  أو ممارسة تطبيقية أو حس-حركية ... وهذا المعطى يخل بالمراحل المحددة.
إن كل مرحلة من مراحل النمو لا يمكن أن تكون مُحددة لمضمون ثابت و جامد ، و قد أكد بياجيه على أن هذه المراحل لا تفعل سوى أنها تُحدد مجموعة من النشاطات المُحتملة des activités potentielles فقط  و في سن معين ، يمكن أن تؤدي إلى ردود  أفعال و نتائج معينة في وسط معين...
فتفكير الطفل لا يمكن أن ينمو بمعزل عن الوسط الذي يضمه..إن الطفل يعطي أجوبة مختلفة لسؤال واحد  تبعا للوسط العائلي و المدرسي الذي يعيش فيه و نظرا  للشخص الذي يسائله أيضا.
و منه سيكون من المسيء أن نعتبر كل ردة فعل قانونا عاما يحدد لنا مرحلة معينة من مراحل النمو المعرفي عند الطفل ، و لكن بالرغم من ذلك فنحن نستطيع أن نحدد خطوطا عامة لنشاطات محتملة في مراحل عمرية معينة، فإن جمعنا أجوبة مجموعة من الأطفال من فئة عمرية واحدة ينتمون لأوساط مختلفة ، فسنلاحظ وجود خطوط عامة و عناصر مشتركة بين أجوبتهم ، و بهذه الخطوط نحدد المراحل العمرية و ما يقابلها من النمو المعرفي، فالخطوط لا تفعل سوى  أنها تحدد لنا دائرة للنشاطات المحتملة في فئة عمرية محددة..
و من هذا المنطلق يؤكد بياجيه  على ضرورة التزام المدرسة بمبدأ "أن ليست كل المعارف مناسبة لجميع الأعمار" ، فيجب أن نأخذ بعين الاعتبار حاجات و مصالح الطفل في كل مرحلة من مراحل النمو و أن نعي الدور الحاسم للوسط في صيرورة النمو العقلي ...و هذا الدور  هو ما سيرصده العالم من خلال تسليط الضوء على الحياة الاجتماعية للطفل.
6) الحياة الاجتماعية للطفل:
لم تكن المدرسة القديمة تعرف سوى نوعا واحدا من أنواع العلاقات الاجتماعية  و هو نشاط الأستاذ الممارس على التلميذ ، و حتى تلك الأنشطة التي تُمارس داخل الفصل و المسماة خطأ بالأنشطة الجماعية لم تكن سوى تجميعا لأعمال منفردة داخل فضاء واحد هو الفصل ، إذا تبقى العلاقة الوحيدة هنا هي علاقة الأستاذ بالتلميذ و هي علاقة تنبني على ما يسميه السوسيولوجيون بالعقبة أو القيد la contrainte الذي لا يُرفض إلا في حالة التمرد و يكون مقبولا عادة لأنه يُمرّر بطرق لينة و مخادعة .
و في المناهج الحديثة للتربية  تم التأكيد على ضرورة العلاقات الاجتماعية بين التلاميذ و ضرورة العمل المنسق و الجماعي داخل الفصل و أكثر منه خارجه، فالإنسان يولد اجتماعيا بطبعه ، و الطفل منذ الأشهر الأولى يبحث عن اللمس و التواصل مع الآخرين، و في مراحل متقدمة قليلا يقلدهم ، و يحاول التصرف إزاء المواقف و الأشياء مثلهم لكنه لا يتجاوز علاقة التمثل الذاتي إلا في مراحل متقدمة حيث سيعي استقلال ذاته عن الظواهر و عن الآخرين.. و هنا فقط ينتقل من الذاتية و الأنانية إلى التبادل و من الاستيعاب الذاتي إلى الفهم المتبادل la compréhension mutuelle ، من المفاضلة الفوضوية  l’indifférenciation chaotique بين الأشياء إلى التنظيم و الانضباط، لذلك فالوسط الاجتماعي يشكل عنصرا هاما في العملية التربوية ، فالمدرسة الحديثة مُطالبة بأخذه بعين الاعتبار لأنه يشكل معطى حاضر بقوة في تكوين الطفل ، حتى في مرحلة المركزية الذاتية.
7) الآثار الأولية للمركزية الذاتية(l’égocentrisme initial)  :
تتمظهر الآثار الأولية للمركزية الذاتية في تصرفات الصغار دائما ، في اللعب أو في المدرسة حيث يكونون أحرارا في العمل الفردي أو الجماعي ، حيث يُظهر الأطفال سلوكا فرديا ، و يحبون التجمع في ثنائيات أو مجموعات صغيرة  ليتصرف كل واحد منهم بشكل ذاتي و هو ما يُصعّب العمل الجماعي بينهم ، و حتى اللغة تكون هنا أنانية و تتمركز حول الذات و ذلك ما لاحظه بياجيه ، حيث أن خطابات الأطفال المتراوحة أعمارهم بين الثالثة و السادسة متركزة على الذات فلا يستمعون إلى غيرهم حين يتحدث، و لاحظ أيضا كثرة مناجاة النفس soliloque و الحوار الذاتي monologue عندهم، و هي مسألة لم تُلاحظ عند الأطفال المُتراوحة أعمارهم بين سبع و ثماني سنوات ، مما يجعل  أن المركزية حول الذات  ترتبط  بالسن المبكر إلى حدود السادسة من العمر ، و هي مسالة ترتبط أيضا بالوسط العائلي فيمكن أن ترتفع أو تقل حسب  ممارسات الراشدين التربوية على الطفل،  هذه المُمارسات التي تعتبر التجسيد الفعلي  للتنشئة الاجتماعية .
8)  عمليات التنشئة الاجتماعية:
يظل الطفل دائما –من وجهة نظر أخلاقية غير معرفية – غير متكيف مع الحقائق الاجتماعية الخارجية و هي مسألة تُقابل بانزعاج كبير ، و ذلك راجع بالأساس إلى ذاتيته و أنانيته ، وهذه الذاتية تشكل واحدا من تمظهرات بنياته العقلية، فكيف إذا يتكيف مع المعايير الاجتماعية؟.
كانت المدرسة التقليدية تلخص عملية التنشئة الاجتماعية في آلية وحيدة للتنفيذ يُشرف عليها المربي ، لكن المدرسة الحديثة تفصل بحذر بين سيرورتين لهما نتائج مختلفة ، و اللتين لا تتكاملان إلا بعناية و براعة كبيرتين : السيرورة الأولى مرتبطة بعقبة الراشد ( المربي) و الثانية مرتبطة بمسألة التنسيق و العلاقة بين التلاميذ ذاتهم.
بالنسبة لعقبة الراشد، تنشأ لدى الطفل علاقة خوف و احترام إزاء الكبار و هذا الاحترام ليس ناتجا من القانون كما هو ( كانط) و لا من الإكراهات الاجتماعية القاهرة ( دوركايم) و لكن من العلاقات العاطفية التي يربطها الطفل مع الراشدين المُحيطين به، و هذه العلاقات هي التي تفسر خضوعه soumission  لمؤسسة القوانين الإلزامية ، و في الواقع كل طفل يعتبر سلوكات الشخص الذي يكن له احتراما و خوفا سلوكات إلزامية له هو الآخر ، فمن الاحترام يتكون الإحساس بالواجب ، وهذا ما يبين أهمية سلوكيات الكبار و تأثيرها على الصغار, و هنا يبرز  خطر التربية ، فأحيانا  ينحى سلوك الكبار نحو تعميق ذاتية و مركزية الطفل حول ذاته عوض أن يخرجه من تقوقعه ليعي العالم الخارجي، فكل سلوك يقوم به الراشد إن لم يكن مدروسا قد يؤدي إلى تشوهات سلوكية لدى الطفل بفعل التقليد ، و قد تكون تشوهات déformations معيقة لعملية استيعاب قيم المجتمع العصري.
من هنا إذا يبرز دور البيداغوجيا الحديثة التي تهدف إلى جعل سلوك الطفل نابعا منه هو و مرتبطا بحياته الاجتماعية هو  عوض أن يكون سلوكا مفروضا من قبل الراشد، حيث تركز هذه البيداغوجيا  على ضرورة العلاقات بين التلاميذ أكثر مما تهتم بعلاقة المربي بالتلميذ ، فالعلاقة بين التلاميذ تعزز التبادل الفكري و الحوار فعليا لأنها - و على عكس علاقة أستاذ\تلميذ – هي علاقة لا تُفرض خارجيا، تكون اختيارية يغيب فيها هاجس الإلزام و السلطوية و الخضوع ، لكن الحديث عن هذا النوع من العلاقة لا يعني إنكار دور المربي في العملية التعليمية و لكنه فقط  يعيد  صياغة العلاقة بين التلميذ و الأستاذ على أساس صحي يعاد فيه توزيع الأدوار بشكل يلائم أهداف التربية الحديثة التي تبغي التأسيس لعملية تربوية مثمرة و فعالة .
المرجع:                                                          
Jean Piaget, Psychologie et pédagogie, chapitre  : Principes d’éducation et données psychologiques, Folio- essais, 1969

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟