مدخل موجز إلى علم الاجتماع: (1) - في تاريخ علم الاجتماع ـ إبراهيم بايزو

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

serie-presa-di-coscienzتقديم:
استطاع علم الاجتماع أن يقطع شوطا كبيرا وأن يصل إلى مرحلة متقدمة من الدراسة العلمية للمجتمع بفضل مساهمة عدة علماء أفنوا وقتا طويلا ومجهودات جبارة في سبيل بنائه كعلم مستقل له أسسه وقواعده ونظريته الخاصة به. ويعد هذا العمل الذي، نقدمه في حلقات، محاولة متواضعة لإلقاء الضوء على هذا العلم واستقلاله وموضوعه وأسسه، وكذا قضاياه واتجاهاته ومدارسه المختلفة.
ونستهل هذه الحلقات الموجزة بالحديث عن نشأة علم الاجتماع وإسهامات أهم رواده الأوائل في تقدمه بدء من الفلاسفة اليونانيين وصولا إلى ماكس فيبر. ولا يعني توقفنا عند هذا العالم أن هذا الحقل المعرفي قد اكتم عقده ووصل درجة الكمال الذي لا حاجة بعده إلى إسهامات نوعية أخرى مع هذا الرجل. فالسوسيولوجيا لا تزال - في نظرنا- في تطور ونمو مطردين يشهد لهما توالي أجيال جديدة من العلماء في مختلف بقاع العلم والعالم.


1.    (1)نشأة وتطور علم الاجتماع:
قبل أن نتطرق إلى إسهامات رواد السوسيولوجيا الحديثة في إرساء وبناء قواعد علم الاجتماع، نود أن نشير إلى أن هؤلاء العظماء لم ينطلقوا من فراغ؛ وإنما سبقهم إلى التفكير في موضوع هذا العلم مجموعة من الفلاسفة الكبار اليونانيين والإسلاميين. ومن أجل تكوين صورة متكاملة عن تاريخ هذا العلم فقد كان لزاما علينا أن نتناول جذور ميلاد السوسيولوجيا انطلاقا من الأفكار الاجتماعية لهؤلاء الفلاسفة.
1-    التفكير الاجتماعي لفلاسفة اليونان وارتباط علم الاجتماع بالفلسفة:
لقد نشأ علم الاجتماع كغيره من العلوم أول ما نشأ في خضم النقاش والتأمل الفلسفي في العصر اليوناني. فقبل أن يستقل هذا الميدان المعرفي ويصبح علما قائم الذات له أسسه ومبادئه التي تميزه عن غيره من العلوم بما فيها تلك التي تسمى علوما إنسانية؛ قبل هذا كانت القضايا الاجتماعية موضوعا للتأمل الفلسفي لكبار فلاسفة اليونان أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو طاليس.
إن هذه الحقيقة الصارخة، تفرض على أي دارس لتاريخ تطور هذا العلم أن يتوقف عند هؤلاء الفلاسفة حيث يتعين عليه أن يستعرض فلسفتهم   ويتتبع حقائق الحياة الاجتماعية لديهم ويستنبط كيف كانوا ينظرون إلى هذه الطائفة من القضايا الفلسفية ذات الطابع الاجتماعي والتي أصبحت فيما بعد الموضوع الخاص لعلم الاجتماع بمختلف تخصصاته؛ فكثير من المفكرين يرون أن بدأ التأريخ للدراسات الاجتماعية يقترن بدراسة الفلسفة اليونانية باعتبارها أول صورة للتفكير الإنساني المنظم وإن كان هذا يهضم عظمة الفلسفة الشرقية التي هي من الناحية التاريخية أسبق من الفلسفة اليونانية حيث إن بلاد الشرق كانت التربة الخصبة والأصيلة التي نبتت فيها بذور الفلسفة فبل أن تنتقل إلى بلاد اليونان لتنمو وتزدهر.[1]
ولبيان إسهام الفلسفة اليونانية في نشأة وتطور علم الاجتماع يكفي أن نلقي نظرة سريعة على فيلسوفين عظيمين تأثرت بهما مجتمعات غربية وشرقية هما أفلاطون التلميذ النجيب لسقراط والمقدم الحقيقي لفكره، وأرسطو طاليس الذي وإن تأثر بهذين الاثنين إلا أنه استطاع أن يقدم للعالم فلسفة خاصة به:
أ‌-      أفلاطون:
عاش أفلاطون، تلميذ سقراط وأهم فلاسفة اليونان ومؤسس الجامعة الأفلاطونية التي هي أول جامعة في العالم، بين عامي 428 و347 قبل الميلاد. وقد ضمن أهم أفكاره الاجتماعية في كتابه: "الجمهورية" الذي حاول من خلاله أن يقدم تصوره لمدينة فاضلة خالية من كل الشرور والآثام ومتحلية في المقابل بكل الفضائل الإنسانية كما تصورها هو وأستاذه سقراط حيث يرى أنه كي تكون المدينة فاضلة يتعين أن تظلها العدالة والمساواة وتسود فيها الفضيلة وهو ما لا سبيل إلى تحقيقه إلا إذا التزمت كل طبقة من الطبقات الاجتماعية الثلاث بأدوارها وفضائلها.
إن المدينة الفاضلة يجب، بحسب أفلاطون، أن يتولى الحكم فيها الفلاسفة باعتبارهم الأعلم بمواطن الحكمة والفضيلة والأقدر على سياسة الشعب وفق قيم العدالة والمساواة بينما يتعين على طبقة الصناع والفلاحين، وهي الوحيدة المسموح لأفرادها بالتملك وتكوين الأسرة، أن تقوم بوظيفة تأمين المجتمع وضمان حياة طبقتي الحكام والجند اللتين ليس مسموحا لأفرادهما القيام بذلك من أجل ألا تنشغل عن الحكم والدفاع عن المجتمع.
وعموما يمكن تلخيص الآراء الأفلاطونية غير تلك التي أشرنا إليها في النقاط التالية:
ü    "كان أفلاطون أول من قال بأن المجتمع مكون من أنظمة متصلة الواحدة بالأخرى. وهذه الأنظمة هي النظام السياسي والأسري والديني والعسكري والاقتصادي. كما أنه يعتقد بأن أي تغيير يطرأ على أحد هذه الأنظمة لا بد أن ينعكس على بقية أنظمة المجتمع. والمجتمع يمكن تشبيهه بالكائن الحيواني الحي من حيث البناء والوظيفة والتحول من نمط إلى نمط آخر.
ü    "وضح أفلاطون العلاقة بين الفرد والدولة بقوله إن رئيس الدولة ينبغي أن يكون خبيرا بالفلسفة ويجب أن يضحي بنفسه من أجل خدمة المجموع. كما قال بأنه لا يمكن تحقيق أهداف المجتمع دون قيام الفرد بالتفاني في خدمة المجموع.
ü    "العدالة لا يمكن أن تتحقق في المجتمع دون اعتماده على مبدأ تقسيم العمل والتخصص فيه؛ إذ أن كل فرد من أفراد الطبقات الثلاث يجب أن يؤدي العمل المؤهل عليه من الناحية الوراثية وعدم التدخل في شؤون الآخرين. كما ينبغي على كل طبقة القيام بعملها الخاص دون تدخلها بمهام ومسؤوليات الطبقات الأخرى.
ü    "الجماعة أهم من الفرد حسب أفلاطون لأن الجماعة تأتي قبل الأفراد لذا ينبغي على الفرد التضحية من أجل تحقيق طموحاتها وأهدافها".[2]
ب‌-  أرسطو:
ولد أرسطو طاليس سنة 384 ق. م . وتوفي عام 323 ق. م . وقد تلقى الفلسفة والحكمة على يد أستاذه أفلاطون غير أن كتاباته اتسمت بالواقعية والوضعية أكثر من أستاذه؛ بل إن هناك من المفكرين من يرى أن آراءه الفلسفية كانت أدق ما احتوته الفلسفة القديمة عموما. أما أهم أفكاره الاجتماعية والتي أورد أبرزها في كتاب "السياسة" فتتجلى في تأكيده على أن الإنسان مدني بالطبع، وأنه يستحيل أن يعيش بمعزل عن المجتمع، وأن الدولة إنما وجدت لتنظم حياة الناس في المجتمع وتشرف عليهم وتطبق القوانين بغرض تحقيق العدالة والمساواة؛ كما أن أرسطو أقر الأسرة التي نفاها أفلاطون عن طبقتي الحكام والجند بل إنه قد اعتبر الأسرة أول خلية اجتماعية وأول اجتماع تدعو إليه الطبيعة لأن هناك ضرورة أولية تؤدي إلى اجتماع كائنين لا غنى لأحدها عن الآخر، وأن الحياة الإنسانية لا يمكن أن تتحقق على وجه صحيح إلا في الأسرة التي وظيفتها القيام بإشباع الحاجات اليومية عند أفرادها.
وإذا كان أفلاطون قد وضع أسسه للمجتمع الفاضل فإن أرسطو هو الآخر لم يغفل ذلك حيث إنه "ذهب إلى أن المجتمع هو أرقى صور الحياة السياسية. أما المركبات السياسية المترامية الأطراف كالإمبراطورية مثلا، فهي مركبات غير متجانسة يستحيل عليها تحقيق الغاية من الاجتماع الإنساني وهي توفير سعادة المواطنين. والمجتمع الفاضل بنظره هو المجتمع الذي يستطيع أن يوفر ويجلب السعادة لأبنائه."[3]
إن أهم ما يمكن أن يخلص إليه الباحث وهو يدرس الفكر الاجتماعي لفلاسفة اليونان هو حقيقة أن أرسطو قد استطاع أكثر من غيره أن يدرس أهم المسائل التي درسها علم الاجتماع فيما بعد غير أن ذلك لم يتم بشكل مستقل بل باعتبار هذه الموضوعات مدخلا لنظرية الدولة.
2-    الفارابي والتفكير ذي النزعة الفلسفية في القضايا الاجتماعية لدى الفلاسفة المسلمين:
في ظل الانفتاح الإسلامي على مختلف الحضارات خاصة الفلسفة اليونانية، برزت في الساحة الفكرية الإسلامية أسماء لامعة استطاعت أن تقدم تصورات للقضية الاجتماعية وإن لم تستطع أن تتخلص من تأثرها البين بالفلسفة. ولعل أهم الأسماء التي لا ينبغي لأي دارس لتاريخ لعلم الاجتماع أن يتجاهله الفيلسوف الفارابي. فمن هو الفارابي هذا؟ وأين يمكن أن نستقي آراءه الاجتماعية؟ وما علاقة هذه الآراء بالفلسفة اليونانية؟ وإلى أي حد استطاع أن ينجح في التوفيق بين الوحي والآراء الفلسفية؟
ولد أبو نصر محمد الفارابي[4] سنة 259 هـ / 862 م في ولاية فاراب في تركستان التي تعلم فيها اللغة التركية والعربية والفارسية، وانتقل إلى بغداد حيث اشتغل بالمنطق والفلسفة والعلوم والاجتماع؛ وأقام في بلاط سيف الدولة في حلب قبل أن ينتقل إلى دمشق حيث وافته المنية هناك سنة 339 هـ/ 950م. وقد لقب الفارابي بالمعلم الثاني من شدة تأثره بأرسطو كما أن آخرين لقبوه بمعلم العرب والمسلمين.
ضمن الفارابي معظم أفكاره الاجتماعية في عدة كتب أبرزها كتابيه "السياسة المدنية" و"آراء أهل المدينة الفاضلة". ويتكون كتاب السياسة المدنية من قسمين أساسيين: الأول فلسفي يتناول مراتب الموجودات الروحية والمادية، والثاني يتناول قضايا الاجتماع السياسية والاجتماعية. أما كتاب "أهل المدينة الفاضلة" فينقسم هو الآخر إلى قسمين أساسيين: الأول يدرس الأساس الفلسفي والمثالي والديني للمدينة الفاضلة أو المجتمع المثالي الذي حدد الفارابي صفاته الأساسية وطبيعته وطريقة الوصول إليه؛ أما القسم الثاني من الكتاب فيتناول موضوع الحاجة إلى الاجتماع البشري.
إن تحليل هذه المؤلفات يقود الباحث إلى نتيجة أساسية هي أن الفارابي لم ينتج تصورات اجتماعية خاصة به، بل إن كل ما قام يمكن أن يوصف بأنه محاولة لإنشاء مدينة فاضلة على غرار مدينة أفلاطون الذي تأثر به هو وأرسطو كما أنه حاول التوفيق بين هذين الرجلين فيما بينهما، وفي ما بين الفلسفة الاجتماعية اليونانية عموما وبين الآراء الإسلامية، فجانبه الصواب في كثير من محاولاته هاته.[5]
3- ابن خلدون ونشأة علم العمران البشري:
بعد قرون من الانتكاسة أصابت التفكير الاجتماعي في الحظيرة الإسلامية، برز إلى الوجود عالم اجتماع مبدع وفيلسوف ومؤرخ وأديب كُتبت له فيما بعد شهرة لم يسبقه إليها في ميدانه أحد اسمه عبد الرحمن محمد بن خلدون المشهور بابن خلدون. وقد ولد عبد الرحمن هذا بتونس سنة عام 732 هـ / 1332م من أسرة يمنية من حضرموت وتولى مناصب سياسية هامة أعلاها الوزارة؛ كما جنت عليه ذات السياسة حتى سجن بسببها وهو ما جعله يسأم العمل السياسي ويعتزله لسبع سنين أمضى أربعا منها في قلعة سلامة حيث كتب مقدمته المشهورة ب "مقدمة ابن خلدون" التي هي في الأصل بمثابة تمهيد لكتابه في التاريخ الموسوم: "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر ..." المشهور بـ "تاريخ ابن خلدون". وبعد ذلك رحل إلى القاهرة حيث توفي فيها سنة 808 هـ / 1406م.
"اشتهر ابن خلدون بدراساته الاجتماعية العلمية التي عرض من خلالها حقيقة المجتمع الإنساني وطبيعة الإنسان وعلاقاتها بتكوين الجماعة والنظام الاجتماعي. ودرس العلاقة المتفاعلة بين الفرد والمجتمع بعد أن قارن مقارنة علمية بين الكائن الاجتماعي والكائن الحيواني من ناحية البناء والوظائف والتكامل بين الأجزاء والنمو والتطور. ولم يكتف بدراسة نمو وحركة وتطور المجتمع ورسم قوانين التحول والديناميكية الاجتماعية التي تحكم المسيرة التاريخية للمجتمع بل درس أيضا ثبات واستقرار المجتمع خلال فترة زمنية معينة والعوامل التي تؤثر فيها. كما حلل علاقة المناخ والبيئة الجغرافية بالنظم الاجتماعية السائدة في المجتمع."[6]
تعد "المقدمة" المرجع الرئيس الذي تناول فيه هذا العالم تصوره ورؤيته لما أسماه "علم العمران البشري"، حيث تحدث عن الدوافع التي دعته للتفكير في تأسيس هذا العلم الذي لم يكن معروفا من قبل، وحدد مقصوده به كما فصل موضوعه وأغراضه، وتوقف عند الأسس التي يرى أنه ينبغي أن تقوم عليها الدراسة العلمية للوقائع التي يدرسها هذا العلم كما توقف عند خصائصها التي تميزها عن غيرها من الوقائع والظاهرات.
يعد ابن خلدون أول من نادى بضرورة إنشاء علم العمران البشري "وهذا العمران يعني لديه الاجتماع الإنساني وظاهراته"[7]. ولقد كان دقيقا عند تعريفه لموضوع هذا العلم المستحدث الصنعة، الغريب النزعة والغزير الفائدة حيث قال: "وهذا علم مستقل بنفسه. فإنه ذو موضوع، وهو العمران البشري والاجتماع البشري؛ وذو مسائل، وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى".[8] وكان قد أشار إلى أن حقيقة التاريخ الذي هو المدخل لدراسة العمران هي أنه "خبر عن الاجتماع الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وأثر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال." [9]. أما أغراض علم العمران فهي تنقسم إلى "أغراض مباشرة نظرية وتتلخص في ضرورة الكشف عن طبيعة الظواهر الاجتماعية ووظائفها والوقوف على القوانين التي تخضع لها؛ وأغراض عملية غير مباشرة تتحدد في الانتفاع بحقائق الاجتماع وقوانينه في تعليل الأحداث."[10]
أما الدافع الرئيس الذي حذا بابن خلدون لتأسيس هذا العلم فهو ما لاحظه من كون المؤرخين يقعون في أخطاء جسيمة لعدة أسباب أهمها التعصب وعدم تحكيم العقل والمنطق وعدم قياس الغائب على الشاهد والجهل بالقوانين والنواميس التي يسير عليها الكون والقوانين الاجتماعية التي يسير عليها العمران البشري.[11]
ويمكن القول في جميع الأحوال إن ابن خلدون كان أول من حدد بوضوح وطبق بعض المبادئ الرئيسية التي ينبغي أن يرتكز عليها علم الاجتماع، ومنها:[12]
ü    إن الظواهر الاجتماعية تخضع لقوانين قد لا تكون من الثبات كما هي القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية غير أنه من شأن استيعاب عالم الاجتماع لهذه القوانين أن يمكنه من فهم اتجاه الأحداث من حوله.
ü    إن تلك القوانين تفعل فعلها في الجماعات ولا تتأثر كثيرا بالأفراد والأحداث المنعزلة.
ü    إن اكتشاف تلك القوانين لا يمكن أن يتم إلا بعد جمع عدد ضخم من الوقائع والحقائق وملاحظة ما يقترن بها أو يليها من وقائع.
ü    إن منظومة القوانين الاجتماعية قابلة للتعميم لكن بشكل نسبي.
ü    إن المجتمعات ليست ساكنة بطبيعتها بل هي خاضعة للتغير والتطور. والعامل الأساس الذي ينوه به ابن خلدون في حدوث هذا التغير هو التّماس والاتصال بين الشعوب والطبقات المختلفة بالإضافة إلى العصبية والتناقض والسلطة السياسية (الناس على دين ملوكهم).
ü    إن هذه القوانين الاجتماعية سوسيولوجية في طابعها وليست نابعة من دوافع بيولوجية أو من عوامل بدنية.
أما المنهج الخلدوني في دراسة الظاهرات والوقائع الاجتماعية فيمكن إجماله في:
1.    1.الملاحظة الحسية القائمة على الدراسة التاريخية للظاهرات (جمع المعلومات الأولية من بطون التاريخ).
2.    2.الاستنباط العقلي للقوانين التي تحكم هذه الظاهرات.
4-    أوجست كونت وعودة النهج العلمي لعلم الاجتماع:
بعد وفاة ابن خلدون، تعثر التعاطي مع موضوعات علم الاجتماع بشكل مستقل. فقد عاد تناول القضايا الاجتماعية إلى أحضان الفلسفة وظل هذا الوضع إلى حين مجيء العالم الفرنسي أوجست كونت حيث عاد على يديه من جديد المنهج العلمي لعلم الاجتماع.
ويرجع كثير من الباحثين تأسيس علم الاجتماع إلى أوجست كونت نظرا لكونه أول من نحت مصطلح sociologie ولغياب ما يؤكد تأثر هذا الرجل بابن خلدون من الناحية المعرفية؛ غير أن الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها تتجلى في أن ابن خلدون كان السباق تاريخيا إلى تحديد موضوع العلم والمنهج الأنسب لذلك، وهذا ما جعل بعض المفكرين يرجع تجاهل الغرب لابن خلدون عند التأريخ لعلم الاجتماع إلى النرجسية الغربية التي لا تعير أي اهتمام لما ليس غربي المنشأ وحجتهم في ذلك التجاوز المتعمد لإسهام الفلسفات الشرقية القديمة السابقة للحضارة اليونانية عن التأريخ لكل العلوم.
ولد أوكست كونت (1798- 1857) بمدينة موبيلييه الفرنسية لوالدين كاثوليكيين، والتحق بمدرسة البوليتكنيك التي كانت من أشهر المدارس وأكثرها تميزا وهو في سن السادسة عشرة من عمره. ورغم أن هذه المدرسة لم تكن مهتمة بالعلوم الإنسانية آنذاك إلا أن كونت منذ بداية شبابه كان معنيا ومهتما بمثل هذه الدراسات التي تفوق في مجالاتها وحقولها لا سيما في علم الاجتماع الذي يجزم الغربيون وكثير من الشرقيين أنه الأب المؤسس له[13].
يعد كونت ابن عصر التنوير الذي جرى على تقليد وتراث فلاسفة التقدم في أواخر القرن الثامن عشر كما أنه قد عاش في ظل أجواء الثورة الفرنسية وما رافقها من تداعيات مما جعله يعيش الأزمات التي واجهت الإمبراطورية الفرنسية في ذلك الوقت. و"بإيجاز عاش كونت فترات مد وجزر، ثورة وثورة مضادة، ديمقراطية وديكتاتورية، وكلها ولا شكت أثرت في فكره وتصوراته للعلم الوليد، موضوعا، وغاية، لكن السؤال سيظل: أين وقف من كل هذا؟ و عن أي جانب أراد أن يعبر ويوظف علمه؟"[14]
لقد كانت رغبة كونت في إصلاح المجتمع الفرنسي المتسم بالاضطراب في ذلك الوقت دافعا دعاه إلى إنشاء علم الاجتماع. "فقد لاحظ الفوضى التي تضرب أطناب مجتمعه، ولما حاول أن يتعرف عن أسباب تلك الفوضى وجدها في الفوضى الفكرية، فالفكر عنده أساس كل صلا ح أو فساد في المجتمع، ورأى أن من أسباب تلك الفوضى أن الباحثين يسلكون منهجين مختلفين في تفسيرهم لكل من الظواهر الاجتماعية والظواهر الطبيعية، فهم يسلكون منهجا علميا وضعيا للتعرف على حقائق الطبيعة، والكشف عن قوانينها وعلاقاتها، بينما لا يسلكون المنهج نفسه في الظواهر الاجتماعية. وقد وجد كونت أنه لا فائدة في علاج الفكر الفاسد، والقضاء على الفوضى الفكرية إلا إذا خضعت الظواهر الاجتماعية للمنهج العلمي المتبع في الظواهر الطبيعية. وقال إنه سيُنشأ علم الاجتماع الذي سيؤدي هذا الغرض."[15] وهذا الاعتقاد الكونتي يجد تفسيره فيما يسميه قانون الحالات الثلاث فقد توصل إلى أن التفكير الإنساني قد مر من مراحل ثلاث هي اللاهوتية؛ والميتافيزيقية؛ والوضعية: ففي مرحلة التفكير الديني اللاهوتي كان يتم عوز الظاهرات إلى قوى خارجة وساد الاعتقاد أن المجتمع ما هو إلا تعبير عن إرادة الله؛ أما في مرحلة التفكير الفلسفي الميتافيزيقي فإن الناس بدأوا ينظرون إلى المجتمع في إطاره الطبيعي ويفسرون الظواهر في إطار التحليل والتفكير الفلسفي المجرد. أما المرحلة الوضعية التي هي نهاية المطاف ودليل نضج التفكير الإنساني حسب كونت فسمتها الاعتماد على التحليل العلمي الوضعي حيث تنسب الظاهرات بما فيها الاجتماعية إلى القوانين التي تحكمها والأسباب التي تؤثر فيها[16].
ويعتقد كونت أنه لفهم ظواهر المجتمع لا بد من توفر شرطين أساسيين هما:
ü    أن تدرس هذه الظاهرات بعيدا عن الأهواء والمصادفات أي وفق قوانين تسير عليها.
ü    أن يستطيع الأفراد التعرف على هذه القوانين لكي يفهموا الظواهر وفق ما ترسمه قوانينها من حدود وأوضاع. وهو ما لن يتم ما لم يقم علماء الاجتماع بكشف هذه القوانين.
وينقسم دراسة علم الاجتماع عند كونت إلى قسمين أساسيين هما:
ü    القسم الأول اسمه الديناميك الاجتماعي؛ حيث يشكل "التقدم" الفكرة المركزية. ويختص بدراسة قوانين الحركة الاجتماعية، والسير الآلي للمجتمعات والكشف عن مدى التقدم التي تحققه الإنسانية في تطورها.
ü    القسم الثاني اسمه الاستاتيك الاجتماعي وهو يعنى بدراسة المجتمعات في حالة استقرارها وباعتبارها ثابتة في فترة معينة من تاريخها.[17]
وعموما فإن كونت الوضعي التوجه يرى أن الفرد والعائلة والدولة تشكل العناصر الأساسية للمجتمع مع إعطاءه أهمية خاصة للأسرة؛ كما يؤكد على أن لا قيمة للفرد إلا بوجوده وتعاونه مع آخرين وأن المجتمع وحدة حية ومركب معقد أهم مظاهره التعاون والتضامن.
أما المنهج العلمي لكونت [18] فإنه يرتكز على ثلاثة أعمدة هي: الملاحظة كركيزة أساس وضمان لعلمية العلم وقد بالغ في استخدامها؛ والتجربة المبنية على منطق المقارنة بين الظاهرات والمجتمعات ثم التحليل التاريخي كمنهج مكمل.
وعن الغايات الكبرى لعلم الاجتماع الكونتي، يمكن القول أنه وفي إطار التماهي مع الفلسفة الوضعية فإن كونت يؤكد أن العلم يجب أن يستعمل كأداة للمحافظة على النظام الاجتماعي القائم وحمايته في وجه التيارات النقدية التي يراها هدامة وهذا ما تؤكده قولته الشهيرة: "إنك تدرس لكي تضبط".
وبعد وفاة كونت انحرفت الدراسة في علم اجتماع عن منهجه الذي وضعه وتم إلحاق دراسة القضايا الاجتماعية بعلم الجغرافيا على يد راتزل وبعلم الحياة على يد هربرت سبنسر كما درسه آخرون في نطاق علم النفس وهو ما جنا كثيرا على استقلالية هذا العلم.
5-    كارل ماركس: علم المجتمع والدراسة الموضوعية للعلاقات الاجتماعية:
يعد الألماني كارل ماركس من أشهر علماء الاجتماع الذين استطاعوا أن يسهموا بقوة في تحول هذا العلم من دراسة أدبية وفلسفية غير دقيقة إلى دراسة علمية موضوعية واضحة المعالم والأسلوب والمنهجية والأهداف؛ فبالرغم من مرور ما يقرب من قرن من الزمان على وفاته لازال فكره يشغل حيزا كبيرا من اهتمام المفكرين والباحثين في أكثر من مجال ولا يخلو مؤلف واحد عن نظرية علم الاجتماع إلا وقف على ما كتب.
ولد ماركس في 5 مايو من العام 1818م في بروسيا ونشأ في أسرة يهودية من سبعة أبناء حيث نشأ على الحرية وحب المعرفة وتأثر بثلاث مؤثرات أساسية لوّنت أفكاره وطروحاته بألوان متميزة جعلته يختلف عن بقية علماء الاجتماع هي[19]:
ü    الفلسفة الألمانية المثالية ولاسيما فلسفة هيجل ونيتشه وفخته.
ü    الثورة الفرنسية وما صاحبها من أعمال صخب وعنف وقتل واضطراب في بنية المجتمع الفرنسي.
ü    الاقتصاد السياسي الانجليزي وخاصة اقتصاد ديفيد ريكاردو وجون ستيوارت وآدم سميث وألفريد مارشال.
أما عن علم الاجتماع، فإننا ننوه بداية إلى ماركس رفض استخدام مصطلح sociologie لما يراه من ارتباط لهذه التسمية بالفلسفة الوضعية والمحافظة لأوجست كونت[20]، ويفضل بالمقابل استعمل مصطلح "علم المجتمع" للدلالة على هذا الفرع المعرفي الذي حدد موضوعه الأساس في دراسة المجتمع الإنساني ككل تاريخي متغير من خلال دراسة القوانين الاجتماعية لتطور التكوينات الاجتماعية الاقتصادية حيث إنه ركز على دراسة العلاقات الاجتماعية الأساسية خاصة الإنتاجية منها كما درس علاقات الملكية والوجود الاجتماعي فأثار العلاقة بين الوعي والوجود الاجتماعيين حيث أكد على أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد وعي الناس وليس العكس بمعنى أن أسلوب الإنتاج هو الذي يحدد الطابع العام للعمليات الاجتماعية وعليه فإن"الأصول الرئيسية للتغير الاجتماعي في نظره لا تكمن في ما يحمله الناس من أفكار وقيم، بل إن حوافز التغير الاجتماعي تتمثل في المقام الأول في المؤثرات الاقتصادية. والصراعات بين الطبقات هي التي تدفع إلى التطور التاريخي لأنها محرك التاريخ"[21].
إن التصور السوسيولوجي الماركسي يقوم، إذن، على مقولة أساسية مفادها أن المجتمع موجود واقعي يتوقف كيانه على أسلوب الإنتاج وطبيعته التي تسم المجتمع بطابعها وأن لا وجود للإنسان إلا ضمن مجتمع ولا معنى له إلا بالعمل؛ وهذا ما يجعل مفهوم الطبقة الاجتماعية مفهوما أساسيا ومقولة تحليلية مركزية لديه. وتتحدد هذه الطبقة الاجتماعية عن طريق الملكية وعن طريق قوى الإنتاج والتقسيم الاجتماعي كما تتحدد بالأجر والربح والريع ومعرفة الطبقات بتناقض مصالحها. وعموما يمكن تلخيص أهم الإسهامات الماركسية في تطور علم الاجتماع في النقاط التالية[22]:
ü    التفسير المادي البحت لقضايا المجتمع حيث يعتقد بأن المجتمع يستند على قاعدة اقتصادية بحتة.
ü    التأكيد على أن البناء الفوقي للمجتمع من قيم وإيديولوجيا ودين وغيرها يرتكز على القاعدة التحتية للمجتمع وهي قاعدة مادية تتجسد بالمعطيات الاقتصادية والاجتماعية.
ü    دراسة الطبقات الاجتماعية والتأكيد على أن الانتماء للطبقة يتوقف على العوامل الاقتصادية ومدى الوعي بالتناقض بين مصالح الطبقات المختلفة.
ü    الصراع بين الطبقات هو العامل الحاسم في التغير الاجتماعي ولهذا يؤكد على أن التاريخ الإنساني ما هو إلا تعبير عن تاريخ الصراعات الطبقية.
أما منهجه العلمي في دراسة المجتمع فيتجلى في:
ü    المنهج التاريخي المادي (المادية التاريخية) لكشف القوانين العامة والنوعية للتطور الاجتماعي وهذا ما يعتقد ماركس أنه سيمنح علم المجتمع الطابع العلمي.
ü    المنهج الجدلي (المادية الجدلية) للتمييز بين الضروري وغيره في الحياة الاجتماعية من جهة، وبين ما هو اجتماعي وما ليس كذلك وهذا ما من شأنه أن يكسب العلم طابعه النوعي.
وفي الختام لا يسعنا إلا أن نؤكد على أن غاية علم المجتمع عند كارل ماركس كانت تتمثل في الكشف القوانين التي تحكم التطور الاجتماعي بهدف توفير أرضية علمية للتنبؤ بالمسار الاجتماعي وما يقتضيه الأمر من تخطيط لتجاوز تناقضاته وسوءاته التي تظهر غالبا في شكل استغلال واغتراب أو أية صورة أخرى لاستلاب الإنسان.
6-    إميل دوركايم: الدراسة الأكاديمية لعلم الاجتماع الفرنسي على النهج الوضعي الكونتي:
إذا كان كونت قد اشتهر بأنه المؤسس لعلم الاجتماع على الأقل في الأوساط العلمية الغربية، فإن كتابات الكاتب الفرنسي إميل دوركايم تركت أثرا أهم وأبقي على علم الاجتماع الحديث من مؤلفات أستاذه كونت.[23]
ولد إميل دوركايم[24] (1858- 1917) في مدينة أبينال بمقاطعة اللورين في الجنوب الشرقي من فرنسا من أسرة متوسطة الحال. درس في المدارس الفرنسية وبعد تخرجه منها قُبِل في مدرسة المعلمين العليا حيث تخصص في التربية والتعليم؛ وبعد إكماله الدراسة منها سافر إلى ألمانيا حيث درس هناك الاقتصاد والفلكلور والأنتروبولوجيا الحضارية. وعلى الرغم من أن دوركايم استعان بجوانب من أعمال كونت، إلا أنه كان يعتقد أن كثيرا من أراء أسلافه تتسم بالنزعة التأملية والغموض، وأن كونت لم يفلح في تحقيق البرنامج الذي وضعه لإقامة علم الاجتماع على أسس علمية.
لقد كان تأثر دوركايم بأستاذه أوجست كونت تأثرا كبيرا من حيث الفلسفة الوضعية التي انطلقا منها جميعا كما من حيث المنهج ويتبدى هذا بوضوح في تأكيده على أنه علينا دراسة الحياة الاجتماعية بروح موضوعية مثلما يفعل العلماء عند دراستهم للعالم الطبيعي كما يتضح في مماثلته بين الحياة الاجتماعية والحياة العضوية في إطار وظيفي. وكان المبدأ الذي وضعه لعلم الاجتماع: "فلندرس الحقائق والوقائع الاجتماعية باعتبارها أشياء."
إن الهم الفكري الرئيسي لعلم الاجتماع لدى دوركايم هو دراسة الحقائق الاجتماعية. ولعل من أهم ما تميز به البحث السوسيولوجي الدوركايمي اهتمامه بتحديد الظاهرة الاجتماعية وخصائصها بوصفها الموضوع الرئيس لعلم الاجتماع، "وفي هذا حدد لها عددا من الخصائص التي يفيد التركيز فيها في معرفة موقفه من المسألة السوسيولوجية والمسالة المجتمعية؛ فالظاهرة الاجتماعية أولا تلقائية بمعنى أنها موجودة قبل الأفراد وليس هم من يصنعها، وهي ثانيا جبرية وملزمة فليس الفرد حرا في إتباع النظام الاجتماعي أو الخروج عليه... وهي ثالثا عامة بمعنى أنها لا توجد في مكان دون آخر، ورابعا فالظاهرة الاجتماعية خارجية بمعنى أن لها خواص سابقة على الأفراد ومستقلة عنهم بحيث يمكن ملاحظتها منفصلة عن الحياة الفردية بما يمكن من دراستها دراسة موضوعية على أنها أشياء."[25]
ولما كان دوركايم كغيره من رواد علم الاجتماع مهتما بالتغير الاجتماعي فقد أكد على مفهومي التضامن الآلي والتضامن العضوي لتفسير الأواصر التي تشد المجتمع بعضه ببعض وتمنعه من الانزلاق إلى الفوضى حيث إن التضامن الآلي يقوم على التشابه ذلك أن تقسيم العمل ينخفض في المجتمعات التقليدية وتتقوى أواصر الترابط بين أفراد المجتمع استنادا إلى كون أغلبهم يكونون منخرطين في مهن متشابهة وتربط بينهم تجربة مشتركة واعتقادات مشتركة أيضا؛ بينما يقوم التضامن العضوي على التباين والتكامل والاعتماد المتبادل بين الناس والإقرار بأهمية ما يقدمه الآخرون من إسهامات وهذا النوع من التضامن هو السائد في المجتمعات المعاصرة التي تتميز بتوسع تقسيم العمل.
لقد آمن دوركايم من بين ما آمن به بأهمية الوعي الجمعي. وقد أكد، في مخالفة تامة لما أورده ماركس، أن الواقع المادي المجتمعي تابع للوعي الجمعي وليس العكس أي أن وجود قيم مشتركة بين أفراد المجتمع هو العامل الأساسي الذي يحدد الواقع الاجتماعي لهذا المجتمع. ولذلك تراه منزعجا من التطورات المتسارعة التي ميزت المجتمعات الحديث كونها "يمكن أن تسبب في اضطراب أساليب الحياة التقليدية وفي القيم والمعتقدات الدينية وأنماط الحياة اليومية دون أن تطرح بدلا منها قيما جديدة واضحة. وربط دوركايم بين هذه الأوضاع التفكيكية وبين ظهور حالة الضياع، وهي الإحساس بانعدام الحياة والقنوط الناجم عن الحياة الاجتماعية الحديثة." [26]
ويقوم المنهج السوسيولوجي لدوركايم الذي يؤكد على أهمية تشجيع ما أطلق عليه الفروع الخاصة لعلم الاجتماع على الدعوة لمحاكاة علوم الطبيعة في دراسة الظاهرات الاجتماعية كأشياء وذلك عن طريق الملاحظة والمقارنة والتفسير الوظيفي للظاهرات الاجتماعية. أما وظيفة علم الاجتماع عنده فتتحدد بالأساس في الكشف عن القوانين التي تحكم الظاهرات الاجتماعية بهدف علاج المشكلات الاجتماعية وصولا لتحقيق التضامن الاجتماعي المطلوب وتقسم العمل الوظيفي الفعال وهذا مما يؤكد النزعة النفعية المتجهة صوب تدعيم الأوضاع القائمة في نظرة دوركايم لعلم الاجتماع ووظائفه.
7-    ماركس فيبر: علم الاجتماع ونظرية المعنى في تفسير الفعل الاجتماعي:
إذا كان علم الاجتماعي الفرنسي مرتبطا بأوجست كونت وإميل دوركايم باعتبار الأول هو المؤسس ولأن الثاني يعد أول من درس العلم أكاديميا وتوسع فيه، فإن ماكس فيبر، وإن لم يحترف علم الاجتماع إلا سنتين قبل وفاته، قد استطاع أن يطبع علم الاجتماع خاصة في ألمانيا رغم ذلك التباين والتناقض في آراءه الذي لا يسع أي باحث إلا أن يستحضره بمجرد أن يذكر اسم الرجل عنده.
ولد ماكس فيبر[27] (1864- 1920) في ايرفيرت في ألمانيا من أسرة بروتستانتية، وهو من أشهر علماء الاجتماع الألمان بل في العالم كله حتى إن دونالد ماك ري الذي أعد عنه كتابا لم يجد وصفا ملائما يطلقه عليه إلا اعتباره حاوي علم الاجتماع ومشعوذه[28]. تعلم في الجامعات الألمانية وحصل على شهادتي الدكتوراه من جامعة برلين هما دكتوراه الفلسفة في موضوع تاريخ الجمعيات التجارية في القرون الوسطى، ودكتوراه هابيل للعلوم في موضوع التاريخ الزراعي الروماني. عمل أستاذا في جامعات عدة وألف عدة مؤلفات في تخصصات عدة من بينها علم الاجتماع حيث صدر له في هذا الحقل المعرفي عدة كتب منها: "نظرية التنظيم الاجتماعي والاقتصادي"، "التاريخ الاجتماعي في أوربا" ، "منهجية العلوم الاجتماعية"، "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، علم اجتماع الدين"، "الاتجاهات الرئيسية في الفكر الاجتماعي" فضلا عن كتاب "الاقتصاد والمجتمع والدين" الذي يحوي معظم التصورات الفيبرية حول علم الاجتماع وقضاياه.
ويعرف فيبر علم الاجتماع على أنه علم يكرس جهوده للوصول إلى فهم تفسيري للفعل الاجتماعي وأسبابه ومصاحباته. "فهو يعتقد أن على علم الاجتماع أن يركز على الفعل الاجتماعي لا على البنية الاجتماعية"[29]. ويعرف الفعل الاجتماعي بأنه ذلك "المعنى الذاتي الذي يخلعه الأفراد على سلوكم سواء كان هذا المعنى واضحا أو كامنا مواربا. ويعد الفعل اجتماعيا بالقدر الذي يضعه فيه الفاعل سلوك الآخرين في حسبانه توجها وتصرفا"[30].
إن هذا التصور لموضوع العلم ومضمونه جعل ماكس فيبر يعتقد، على عكس ما ذهب إليه ماركس، أن الدوافع والأفكار البشرية هي التي تقف وراء التغير الاجتماعي، وأن بمقدور القيم والمعتقدات أن تساهم في التحولات الاجتماعية وبوسع الفرد أن يتصرف بحرية ويرسم مصيره في المستقبل. كما أنه خالف كل ماركس ودوركايم في قولهما أن للبنى الاجتماعية وجودا مستقلا عن الأفراد وإنما تشكل هذه البنى بفعل تفاعل تبادلي معقد بين الأفعال[31]. وهذا ما يحتم في نظره على عالم الاجتماع أن يبحث عن المعاني الكامنة وراء هذه الأفعال من خلال استحضار مفهوم النموذج المثال الذي يحيل على اعتقاده بوجود أنماط مثالية في صيغة صور صافية قلما توجد في العالم الواقعي لكن يمكن استخدامها في تحليل وفهم الأفعال الاجتماعية.
لقد كان فيبر ممن تأثروا بالأفكار الماركسية؛ لكن هذا التأثر لم يمنعه من توجيه انتقادات لهذا الفكر خاصة فيما يتعلق بتلك الطروحات المادية التي تبناها ماركس عند تحليله للتفاعل بين قوى المجتمع. فقد رفض المفهوم المادي للتاريخ واعتبر أن للصراع الطبقي أهمية أقل مما رآه ماركس مؤكدا في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" على أن "العوامل الدينية والروحية هي التي تؤثر في الأنشطة الاقتصادية من حيث تحديد مساراتها الإنتاجية ورسم أهدافها وخططها"[32] وليس العكس.

 


 
[1] - د. أحمد رأفت عبد الجواد، مبادئ علم الاجتماع، ص 6.
[2] - إحسان محمد الحسن، موسوعة علم الاجتماع، ص: 67-68 بتصرف.
[3] - إحسان محمد الحسن، م.س. ص: 50- 51.
[4] - عن ترجمة الفارابي راجع: المنجد في اللغة والأعلام ص: وإحسان محمد الحسن، م.س. ص 481 و482.
[5] - أحمد رأفت عبد الجواد، م.س.ص: 9.
[6] - إحسان محمد الحسن، م. س. ص: 11.
[7] - عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع ، ص:71.
[8] - عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، ص: 42.
[9] - ابن خلدون، م.س. ص: 40.      
[10] - أحمد رأفت عبد الجواد، م.س. ص: 12.
[11] - أحمد رأفت عبد الجواد، م.س. ص: 10-11 بتصرف.
[12] - المدخلات العربية لكتاب: علم الاجتماع لأنتوني غيدينز راجع: الصفحة 55 من الكتاب.
[13] - إحسان محمد الحسن، م.س. ص: 107.
[14] - عبد الباسط عبد المعطي، م.س. ص: 78.
[15] - أحمد رأفت عبد الجواد، م.س. ص: 13.
[16] - راجع: أنتوني غيدينز، م.س. ص: 62. وعبد الله إبراهيم، علم الاجتماع، ص:31.
[17] - عبد الباسط عبد المعطي،م.س.ص: 79.
[18] راجع في ذلك عبد الباسط عبد المعطي، م.س. ص:80.
[19]- إحسان محمد الحسن، م.س. ص: 519-520. وعبد الباسط عبد المعطي،م.س. ص:68.
[20] - عبد الباسط عبد المعطي، م.س. ص: 69.
[21] - أنتوني غيدينز، م.س. ص: 69.
[22] - إحسان محمد الحسن،م.س. ص: 520-521.
[23]- أنتوني غيدينز، م.س.ص: 63.
[24] - عن ترجمته راجع: إحسان محمد الحسن، م.س. ص: 86- 88.
[25] - عبد الباسط عبد المعطي، م.س. ص: 100.
[26] - أنتوني غيدينز، م.س. ص: 65.
[27] - عن ترجمته الكاملة راجع: إحسان محمد الحسن، م.س. ص: 543-546 وعبد الباسط عبد المعطي، م.س. ص:89-90.
[28] - عبد الباسط عبد المعطي، م.س. ص: 90.
[29] - أنتوني غيدينز، م.س. ص: 71.
[30] - عبد الباسط عبد المعطى، م.س.ص: 92.
[31] - أنتوني غيدينز، م,س. ص: 71
[32] - إحسان محمد الحسن، م.س. ص: 545.