أيّ معنى للتّرجمة في زمن العولمة ؟ ـ عبدالله عطيّة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

7601611 alize-80x80 002التّرجمة ممارسة لغويّة ومعرفيّة قديمة استدعتها حاجة الإنسان إلى الانفتاح على ما تجود به قرائح بني جنسه في مختلف الحضارات والأزمنة، هي رغبة في الاستفادة والإفادة، الاستفادة ممّا جدّ ويجدّ في حقول المعرفة وممّا أنتجه العقل البشريّ بشتّى روافده الثقافية وموارده المعرفيّة، فهي بهذا المعنى نزوع ذاتيّ وشَغَفٌ إلى الارتواء، فالاستفادة هَهُنا تمثّل تَخطّيًا للمسافات التي اعتادت الذات المفكِّرة والعالِمة أن تجُول في حدودها، ألَمْ يُعرِّف الكسندر بوشكين المترجمين بكونهم "خيول بريد التنوير" ؟ فالتّرجمة ليست مجرّد تخصُّص وظيفيّ- وإن كانت كذلك حديثا- فالرّأي السائد يذهب إلى اعتبار الترجمة نشاطا مارسته الإنسانيّة منذ أن تعدّدت لغاتها وتنوّعت. فاختلاف الألسن كان من نتائجه أن تثاقفت الشعوب قديما وحديثا ،وكان لزاما عليها ،كي تتواصل وتتعارف، أن تتناقل فيما بينها لغات بعضها البعض، ولعلّها تلك كانت أولى مراحل النّقل والتّرجمة.

فاللّغة -أداة َالتّرجمة- هي التي أوْجدت التقارب بين الثقافات، وهي التي يَسّرت التّواصل بينها، وعلى هذا الأساس لا معنى للاشتغال على مبحث التّرجمة في علاقته بالعولمة دون أن يكون للّغة حضورها ومركزيّتها فيه. فباللّغة تعارفت الشعوب وبها أيضا انفتحت على رَساميل بعضها الرّمزيّة بتنوّعاتها وفروعها المتعدّدة (الآداب والفلسفات والعلوم والأديان والفنون الخ..).بل لعلّ إجرائيّات مصطلح العولمة الشائع اليوم لم تولد حديثا، ولعلّ الإضافة المحمولة عليه تظلّ محصورة في البعد الاقتصادي والتقني لا غير ! فحين نستعرض مُنجزات السّلف في كلّ الحضارات ،ومنها قَطْعا الحضارة العربيّة الإسلاميّة في اهتمامها بحركة الترجمة بإنشاء بيت الحكمة زمن الخليفة المأمون عام 217ه /832م، نَقِفُ على حقيقة بادية للعيان وهي أنّ فِعْل التّرجمة ليس مستقلاّ عن القرار المشرّع له.. فالتّرجمة موصولة "بتأمّل ابستيمولوجيّ" حينها، أي بنظريّة إلى المعرفة وإلى العلوم وإلى الحاجة القصوى إلى تملّكها وتدبّرها. فقديما – وحديثا أيضا- ثمّة ترجمات لأنّ هناك لغات وثقافات، فلولا الاختلاف والتنوّع لما كانت الحاجة إلى التّرجمة، ولما كان ممكنا أيضا الاهتمام بهذا النّشاط. فهل أنّ التّرجمة بهذا المعنى تَنِمّ عن رغبة في قهر الاختلاف، وبالتّالي في "عولمة "اللّسان والثقافة والفكر؟ وهل تَولَّد لدى الإنسان القديم هذا الإحساس بأن يكون جمْعا في صيغة المفرد ؟ ألا تُمثّل الترجمة "عمليّات تحويل لامتناهية للثقافات واللّغات" و "استراتيجيةً لتوليد الفوارق وإقحام الآخر في الذّات"؟ (1).
تظلّ التّرجمة علامةً على وعْي بالاستزادة، وهي لحظة دالّة على مدى صلابة ما يَنعتُه عالم الاجتماع الفرنسي جورج غيرفيتش "بالأطر الاجتماعيّة للمعرفة"، أي بالحوض المعرفيّ المنتِج لها، ذلك أنّ انتشار التّراجم في أيّ مجتمع لا يكون أمرا اعتباطيّا أو عفويّا ،وإنّما هو مُرتهَن بحسّ ابستيميّ وذائقة عامّة واستعداد نفسيّ خالٍ من جميع أشكال الحِيطة والخجل والخوف.. فالتّرجمة شجاعة وجرأة، بل هي وَجْهٌ من وجوه التحدّي ورغبة في أن يحيا الإنسان باللّغة وينتشر ويتجدّد.

التّرجمة وجدل الهويّة:
مثلما سبقت الإشارة آنفا تكون التّرجمة جواز السّفر إلى الذّات القديمة والجديدة من ناحية، وإلى الذّوات المغايرة لها من ناحية ثانية. هي جواز السّفر إلى الذات حين تكون اشتغالا على إنتاجاتها نقلاً وتعريبًا، بحيث تكتشف الذّات الثقافيّة ذاتها في لغة وبلغة غير التي ألفتها، فيُنقَل ما دوّنته بلغتها إلى لغات أخرى من داخل نسيجها الثقافيّ، ويُعرَّب كذلك ما أنتجته بغير لغتها بلغتها إلى لغتها.. فالتّرجمة تستحيل من هذه الزّاوية ولادة متجدّدة للثقافة وإحياء دائما للّغة. أمّا أن تكون التّرجمة جواز السّفر إلى الذّوات الحضاريّة المغايرة فمعنى ذلك أنّ الفكر يحيا بالتّرجمة، فهي التي" تنفخ الحياة في النّص وتنقله من ثقافة إلى أخرى ومن لغة إلى أخرى" (2) فأرسطو على سبيل المثال ظلّ حيّا بابن رشد وهذا الأخير ظلّ حيّا بلغات فرنسية وألمانيّة..
التّرجمة إذن مَعبَرٌ إلى الآخر الحضاريّ والثقافيّ، وهي رافد من روافد الشخصيّة القاعديّة لكلّ شعب، إذْ ما كان ممكنا أن تحيا الشعوب مُكتفِية ببضاعتها المحليّة، وليس بمقدورها اليوم بالتّحديد الانكفاءُ على ذاتها وغلقُ منافذها دون أن تكون متأثّرة ومُؤثّرة في ما يدور حولها.. بل لعلّ الحاجة إلى التّرجمة كنشاط لغويّ وكفَعَاليّة إبداعيّة هي في نفس درجة الحاجة إليها كآليّة تثاقف وتواصل إنسانيّ...غير أنّ البعض يخشى على الهويّة من التّرجمة والتّراجم ،ويزعم أنّ التّرجمة استزراع لأنماط من التفكير قد تُشكّل بفعل الزّمن و"التّطبيع" تهديدا حقيقيّا لكيان الشّعب الثقافيّ، هي من هذه الزاوية انبتات وتحريف للكيان.. فهل هذا مُمكِن حقّا؟
يبدو أنّ الخلفيّة التي تحكم هذا التصوّر إيديولوجيّةٌ بدرجة أولى، والتّرجمة بهذا المعنى ليست نشاطا محايدا.. فهي إذن تعكس اختيارا ممنهَجا ومدروسا، وإلاّ كيف نفسّر عزوف المترجمين العرب القدامى مثلا عن تعريب النّصوص المسرحيّة اليونانيّة إن لم يكن ذلك بدافع الغيرة على ديوانهم أي الشعر ،في حين كان الاهتمام مركّزا على ترجمة المنطق الأرسطي وإخضاع نظامه إلى مُقتضيات وجودهم بغرض استنباط القوانين "التي من شأنها أن تُقوِّم العقل وتُسدِّد الإنسان نحو طريق الصّواب ونحو الحقّ في كلّ ما يمكن أن يَغلُط فيه من المقولات"(3).ألم تشهد فترة الستّينات والسّبعينات من القرن الماضي اهتماما متزايدا بالتّراجم ذات النّزعة الثوريّة التي تنشد التحرّر والعدالة الاجتماعيّة..؟ ثمّ ألم تختَصَّ عديد دُور النّشر والطّبع بألوان مخصوصة من المؤلّفات المترجَمة...؟
إنّ هذه التّساؤلات ليست انتصارا للموقف الذي يرى في التّرجمة تهديدا للأنا الحضاريّة، وإنّما هي تعديلٌ لخيار انفعاليّ مشحونٍ بالإيديولوجيا بشتّى مدارسها، يزعم هو أيضا أنّ المثاقفة كُلٌّ أو لا تكون، بمعنى أنّ وضْع التخلّف يستوجب ترجمة جميعِ ما ينتجه الآخر المتقدّم "بحُلوه ومُرّه".. والحقيقة أنّ مِثل هذه المشاكسات النظريّة ليست جديدة فهي تظلّ وجْها من وجوه صراع الثنائيّات الذي وَسَمَ الفكر العربيّ الإسلاميّ على مَدار العقود (التراث والتجديد / الأصالة والمعاصرة / التأصيل والتّحديث...)

باختصار شديد نقول إنّ الترجمة ضرورة معرفيّة، وهي الهواء الذي تتنفّس به الثقافة، والغذاء الذي يحيا به العقل...غير أنّ التّرجمة باعتبارها أحد مداخل الثقافات إلى العالم ليست في كلّ الأحوال متكافئة مع أحوال المجتمع ومستويات تفكيره وانشغالاته. فالبعض يتحدّث عن الأولويّات وفي طليعة هذه الأولويّات احترام اللّغة، فاللّغة العربيّة مثلا "هي لغة مطرودة من الجامعات والفروع العلميّة، وهي لغة مُستبَاحَة بين القُطريّات حتّى أصبح لكلّ قُطر مُصطلحه العلميّ والفلسفيّ والنّقديّ، بحيث يكاد القارئ العربيّ لا يفهم النصّ المترجَم إلاّ بالرّجوع إلى النصّ الأصليّ بسبب وجود عدّة ألفاظ للمصطلح الأجنبيّ الواحد"(4).
التّرجمة  إذن تقنيّة لغويّة ذات مَحاميل معرفيّة، فهي تَستوي إبداعا حين يكون المترجِم مُتملِّكا اللّغة وواعيًا بضوابطها وقواعدها، فَطِنا بدلالات النصّ ومقاصده، ذلك أنّ النصّ بناءٌ تحْكمه اللّغة وتسْكنه المعاني والفِكر ..فللنّصّ  سياقه وزاوية النّظر التي هَندَسَتْه، فلا يستقيم فِعْلُ التّرجمة حين تُغيَّب هذه المعايير أو يتمّ تجاهلها أو يكون المترجِم جاهلا بضرورتها..

إنّ الجدل الكبير القائم طويلا حول تأثيرات التّرجمة على الهويّة يظلّ محكوما في تقديرنا بسياق غير سياق التّرجمة، إنّه سياق إيديولوجيّ خالص، وتحديدا حين يَحضُر الهَمّ الإيديولوجيّ ويُغيَّب المقصد المعرفيّ المُفضي إلى التثاقف والتّفاعل الحضاريّ.. وفي هذا السّياق لم تعد للتّرجمة تلك الغائيّة النبيلة المتمثّلة في التأسيس في كلّ مرّة لما يسمّيه البعض بالثقافة التشاركيّة ،والمقصود بذلك "جميع أشكال الثقافة والإنتاج المشترك الذي تساهم في صنعه أجيال المستخدمين لشبكة الإنترنيت عبر المواقع التي يؤسّسونها والمنتديات التي يُوجِدونها ويُشرفون عليها ويقومون بإنتاج مَوادّها "(5). فالإنترنيت في عالم اليوم أضحى هو المؤثّث لفضاءات الترجمة ،وهو المنجز لها...ولذلك لابأس من اشتراط أخلاقيّات جديدة لهذا النّشاط الإبداعي تحترم ثقافات الشّعوب وتحرص على إعادة إنتاجها في غير لغتها بقدر كبير من الأمانة والموضوعيّة والنّزاهة..

التّرجمة وجدل العولمة:
العولمة واقعة موضوعيّة تتجلّى في عديد المجالات ،فهي اقتصاد وتكنولوجيا وسلاح وعلوم...ولكنّها أيضا ثقافة وأنماط عيش ،هي درجة متطوّرة من التقدّم الإنسانيّ تَحُفّ بها عديد الشّكوك ، هي من منظور البعض صورة من صُوَر منجزات العقل البشريّ الرّهيبة خاصّة في بُعدها التقنيّ ،وهي لدى الكثيرين وَجْهٌ من وجوه الهيمنة والاحتواء والرّقابة النّاعمة حينا والخشنة حينا آخر، وتفاعلا مع هذا كلّه ومع مَبْحثنا يبدو أنّ التّرجمة لن تكون في مَأمَن من هذا الجدل في علاقتها بالتّرجمة..
فالتّرجمة مثلما سبقت الإشارة إلى ذلك مَعْنيّة بهذا التجاذب لأنّها بكلّ بساطة تشتغل باللّغة ،بل إنّ اللّغة والصّورة والوسائط التكنولوجيّة الحديثة هي ترسانة هذه الحالة الكونيّة الضّاغطة أي العولمة ! ودون إفاضة القول في ماهيّة العولمة ومرتكزات المفهوم النّظريّة تحسن الإشارة إلى أنّ العولمة ،ولئن كانت غربيّة في جوهرها وفي ضغوطاتها بل وفي إكراهاتها، فإنّها لم تَعُدْ موضع انتقاد ونقد شديدين مقارنة بأشهر وسنوات ولادتها الأولى.. فهي اليوم أمر واقع وحقيقة لا مجال لتجاهلها أو إنكارها.. البعض يتحدّث عن ضرورة تأصيل هذا المفهوم تنظيرا وواقعا ، والبعض الآخر ليس له تحفّظ على الوفرة التقنية والعلميّة التي جَنتها الإنسانيّة من العولمة، ولكنّه يَنحَت مصطلحا جديدا له فروعه ومرتكزاته وبدائله بما يمثّل تجاوزا للأخطار التي يمكن أن تهدّد الكيانات الثقافيّة للشّعوب المستهلِكة.. إنّه مصطلح "العالميّة"، فإذا كانت العولمة اكتساحا للخصوصيّ وفرضا لنموذج جاهز عليه فإنّ العالميّة موقف إيجابيّ من الآخر، ومشاركة متوازنة ويقظة تعترف بالخصوصيّ الثقافيّ وتُهيء له فُرصَ الانتشار والعالميّة (الجابريّ).

ليس غريبا إذن والحالة هذه، أن تكون عمليّة التّرجمة والنّقل ليست من قبيل استبدال لغة الأثر المترجَم بلغة ثانية وكفى، وإنّما المسألة أعمق من ذلك بكثير، فالنصّ هو مُلتقَى مناهجَ ورُؤى وثقافات وتراث، وهو ذو مستويات متعدّدة: المستوى القاموسي والمستوى الدلالي.. ذلك أنّ سوسيولوجيا النصّ مثلا تعتبر أنّه "لا توجد القيم الاجتماعيّة مستقلّة عن اللّغة ،وأنّ الوحدات القاموسيّة الدلاليّة والنّحويّة-التركيبيّة  تُمفصِل مصالحَ جماعيّةً ،وتستطيع أن تصبح رهانات للصّراعات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة"(6) ،وعليه فإنّه ليس مُمْكنا في كلّ ما يُترجَم أن تكون عمليّة التّرجمة "علميّة وأمينة ونزيهة" في كلّ مرّة، مثلما أنّه لا مَعنى لأن تُحمَّل التّرجمةُ ما لا تحتمل ،فاستنادا إلى المقاربة السّوسيولوجيّة تظلّ الكلمات ذات طابع اجتماعيّ وأنّ صراع الكلمات إنّما هو وجْه من وجوه الصّراع الاجتماعي بأبعاده المختلفة (الثقافية والسياسية والاقتصادية..) ،وبالتّالي تستحيل اللّغة ذاتها إيديولوجيا، أيْ نسَقا من الأفكار والقناعات والتصوّرات التي قد لا تنسجم مع الدّاخل الثقافيّ للمجتمع.
فإذا كانت العولمة الثقافيّة انتقالا لتركيز اهتمام الإنسان ووعيه من الفضاء المحلّي إلى الفضاء العالمي، ومن الداخل الثقافي إلى الخارج الثقافيّ باعتبارها تنشد ثقافة كونيّة مشتركَة ووعيًا إنسانيّا موحَّدا، فإنّ ما يخشاه الكثير هو أن تذوب الهويّات المحليّة في أتُّون هويّات تستمدّ انتشارها من استنادها إلى مؤسّسات وقوى ماديّة وتقنيّة رهيبة تستثمر فنون التّرجمة في تعميق المسافات بين الشعوب من ناحية وبين الثقافات من ناحية أخرى.. وحينها تجد العديد من الثقافات نفسها أمام منافسة غير متكافئة وتدفع بذلك بوعي منها أو بدون وعي ضريبة منطق أنّ "المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب..".

التّرجمة وسؤال النّهضة العربيّة:
لا شكّ أنّ حاضر الثقافة العربيّة لا يحتاج إلى التّوصيف المستعصِي لنعته بكونه دون الانتظارات، ودون المكانة التي ينبغي أن تكون عليها ثقافة ماضيها يشهد على عالميّتها قرونَ خَلَتْ ..فالفكر العربيّ الرّاهن كسولٌ إنتاجًا واستهلاكا وانتشارا.. ويبدو أنّ حالة الوهَن التي يحياها أضحت قدرا لا مَناص من التحرّر منه. هو فِكر لم يرتق إلى مستوى العالميّة رغم شذرات إبداعيّة أدبيّة هنا وهناك، ولكنّها تظلّ لا تحجب غابة الوضاعة والجدْب التي يسكنها منذ قرون. ثمّ إنّ "المثقّف الكلاسيكيّ كان أكثر جرأة على الإنتاج والإبداع الفكريّ من حفيده المعاصر"(7)..
إنّ سؤال النّهضة قديم لا شكّ ولكنّه ينتظر الجواب بل الأجوبة الشافية، فكثيرة هي الأجوبة التي حاولت رسْم مَسارات النّهضة المنتظرة، فبعضُها يرتدّ إلى الماضي وبعضها الآخر يعدم الماضي ويقفز عن الحاضر إلى المستقبل ،أمّا البعض الآخر فلا يجد حلاّ إلاّ بإيجاد المعادلة بين منجزات الماضي وضرورات الحاضر والمستقبل، أي من خلال المواءمة بين الأصالة والمعاصرة.. وحول هذا المبحث العَصِيّ قد تكون التّرجمة أحد مفاتيح الحلّ ومداخله المتأكّدة، التّرجمة باعتبارها لِقاحًا معنويّا جرّبته كلّ الشعوب التي تنعم اليوم بالرقيّ وتمتلك أسباب القوّة والمناعة. إنّ الفكر العربيّ المعاصر يحتاج إلى إعادة التّشكيل والصّياغة، ولئن بدت التّرجمة هي إحدى أدوات التّشكيل وهي علامة من علامات النّهضة فإنّه يحسن التذكير بثلاث حقائق يتعيّن أخذها بعين الاعتبار:
"*الحقيقة الأولى، صحّة الواقعة التّاريخيّة التي أثبتت أنّ الدّخول الفاعل أو المتفاعل في تجربة نهضة عربيّة لا يتوقّف على التّرجمة وحدها، بل يعتمد بالدّرجة الأولى على كون أهل اللّغة العربيّة أنفسهم من المشاركين عمليّا في صناعة الحضارة.
*الحقيقة الثانية، نجاعة المقولة السّوسيولوجيّة القائلة بأنّه يكاد يكون من المتعذّر استيعاب المعارف ،علميّةً أو أدبيّةً، استيعابا حقيقيّا تكوينيّا مالم تكن اللّغة القوميّة المعبِّرة عن روح الأمّة هي الأداة الموصلة لمضمون هذه المعارف إلى العقل والوجدان.
*الحقيقة الثالثة، وَجَاهة التصوّر الأنثروبولوجيّ الذي يرى أنّ التّرجمة لا بدّ أن تُعنىَ بالانطلاق من احتياجات مجتمعنا العربيّ، ووعيه بأنّ مشروع ثقافته رَهْنٌ بإعادة التّقويم المستمرّ والاستيعاب الواعي والحرّ لإبداع الثقافات الأخرى"(8).
هكذا ،وبمثل هذا التصوّر، لا نرى إمكانيّة لنهضة عربيّة عاجلة أو آجلة دون وعي حادّ ودقيق بمُمْكِنات الذّات الحضاريّة وفي طليعتها اللّغة ، فَمَالمْ تكُن اللّغة العربيّة مُكتسِحة مجالات الحياة المختلفة (التّعليم، الإدارة، الطبّ ،العلوم..) ومُستساغة نُطقا وإنتاجًا وتعاملاً فليس بمقدور شعوبنا الانتفاع بما يستجدّ لدى الآخر من المعارف والعلوم المُعينة على التقدّم بحكم افتقادها إلى قدَر من المناعة النّفسيّة والمعنويّة... إنّه السّبيل إلى تجاوز مخلّفات "التخلّف النّفسيّ" الذي يعود أساسا إلى شعور بالنّقص تجاه الآخر في لغته بدرجة أولى وفي ما تنتجه هذه اللّغة من العلوم والمعارف بدرجة ثانية.

أ. عبدالله عطيّة ( باحث في علم الاجتماع /تونس )

الهوامش:
1-    عبدالسّلام بنعبدالعالي، التّرجمة والمثاقفة، مجلّة الوحدة، المجلس القومي للثّقافة العربيّة ،العدد 61/62 ،أكتوبر –نوفمبر 1989 ،ص (8).
2-    ن .م ،ص (7).
3-    الفارابيّ  أبو نصر محمّد، إحصاء العلوم، تحقيق الدكتور عثمان أمين، دار الفكر العربيّ، القاهرة،  ص(53).
4-    مجلّة الوحدة، مصدر سابق، ص ص(5) (6).
5-    طارق حسّان، الثقافة التشاركيّة: آفاق أخرى للتّواصل الإنسانيّ، المجلّة العربيّة، العدد (447) الرّياض، فيفري 2014، ص(53).
6-    بييرف. زيما، نحو سوسيولوجيّة للنصّ الأدبيّ، ترجمة عمّار بلحسن، مجلّة العرب والفكر العالميّ، العدد الخامس، مركز الإنماء القوميّ بيروت، 1989، ص(81).
7-    محمّد أركون، بعض مهام المثقف العربيّ اليوم، ترجمة هاشم صالح، مجلّة الوحدة، العدد 66 ،مارس1990، ص(11).
8-    د. محمد حافظ دياب، التّرجمة وأسئلة النهضة العربيّة، مجلّة الوحدة، أكتوبر- نوفمبر 1989 ص(42).

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟