علم الاجتماع الديني وبنية المؤسسة الدينية ـ ميشال مسلان ـ ترجمة: عز الدين عناية

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Abstract RELIGIOUSإنه لا ينبغي أن يحصر علم اجتماع الأديان في التأملات المحددة سابقا، إذ العديد من المسائل التي ينبغي طرحها والتي يلزم إثارتها، ليست سوى علاقات بين المنظومات الدينية الكبرى والجماعات العلمانية، كذلك الدور المنوط بهذه الأديان في إرساء علاقات اجتماعية بين البشر[i][1].

يهدف علم الاجتماع لمعرفة حياة المجتمعات، فهو يتعلق بدراسة بناها الداخلية وعلاقاتها الجدلية. ويسعى لتحليل الأسس الاجتماعية للمبادئ التي تحكم الجماعات البشرية، محاولا من خلال مقارنة مختلف أنماط المجتمعات البشرية، تحديد الأسباب والقوانين العامة لتطورها. ولزمن طويل، لم يكن علم اجتماع الدين يمثل بموضوعه الخاص، سوى فرع خاص من علم الاجتماع العام. كانت المدرسة الفرنسية خلال الربع الأول من هذا القرن، قد تبنت الفكرة القائلة، بأن أسس أي دين تكمن أولا في الحياة الجماعية ومن جانبه أيضا ربط علم الاجتماع الجدلي بشدة الوقائع الدينية بالبنى الاقتصادية والاجتماعية، حاصرا علم الاجتماع الديني في حدود الاختبار النقدي لعلاقات الخضوع بين الدين والتناقضات الاجتماعية. وبتطبيق رسم جد مختصر، أكد التحليل الماركسي أن الحقيقة العميقة لأي موقف ديني، ليست سوى نتاج ظرفية اجتماعية، يتحدد فيها طبقا لانتمائه لطبقة اجتماعية معينة. فالظاهرة الدينية تتجلى بمثابة التجسد لواقع محدد، حيث تكون تعبيره الإيديولوجي والانعكاس الجلي لمصالحه المادية. فبنوع من الحتمية وبصفة غير مباشرة، كان التطور لتحليلات جد معمقة. وبدون إلغاء للترابط البنيوي بين الدين والمجتمع، كان سعيها جادا لفهم وتفسير مختلف الأنماط. وبحسب هذا السياق، تطور علم الاجتماع الديني إلى علوم اجتماع دينية مختلفة، بحسب الموضوع الخاص لأي من تحليلاتها. إذ يبدو أنه قد هجر الوحدة الأساسية لحقله، موشكا أن يتيه في أتربة وتعرجات الحالات الخاصة، التي يتابعها بتحفزات علمية متطورة، ولكنه أحيانا أيضا متابعا أهدافا محددة بكل عناية. فالمسألة التي تطرح أمام علماء الاجتماع المعاصرين وهي، العودة عن تلك العلوم الاجتماعية الفرعية إلى علم اجتماع ديني حقيقي.

أ – الاقتصاد والدين، الاجتماعيات "الفهمية"

يدرك كل من يهتم بالظاهرة الدينية في تجلياتها الاجتماعية والاقتصادية أهمية عمل ماكس فيبر. ويمكن القول، وبكل أسف، إن الإنسان المثقف في عصرنا الحالي لم يحتفظ في الغالب من عمل هذا الفيلسوف إلا ببعض الرسوم الكاريكاتورية؟ إذ تكمن النقطة الأساسية لتأملاته حول الدين في فلسفة عميقة، بشأن التناقضات النفسية والثقافية والدينية متعلقة بمختلف أنواع التوترات التي تنسج حياة المجتمعات كما الأفراد أيضا. فالحياة تظهر لديه كصراع مستمر، ليس فقط بسبب العراقيل المختلفة التي يمكن أن يلاقيها الإنسان، ولكن أيضا بسبب النشاطات التي يقوم بها بصورة إرادية، لتغيير وضعيته أو لإكثار فرص سعادته. فالتضاد إذن مزدوج، ذاتي وموضوعي، هو حاجز أمام الإنسان عليه أن يتجاوزه، وهو وسبب لوجوده أيضا فنفهم، إضافة إلى قوله "غير واع بموسيقى الأديان"، أن ماكس فيبر كان اهتمامه مركزا على المنظومات الدينية الكبرى، التي ظهرت لديه بمثابة "نشاطات مشبوهة" تسمح للإنسان بالعيش والتحقق. إذن فالمراد ليس تشكيل نوع من الإقصاء الفلسفي لتلك "الطرق الحياتية"، وإنما من اللازم معاينة الموجود، ومحاولة فهم لماذا هؤلاء الذين يمارسون ذلك الأمر، يعتقدون أنهم وجدوا إجابة لمختلف التناقضات لعالم عبثي وأحيانا غير معقول.

إذن فمن هذه التناقضات المتولدة في أغلبها عن النشاط الاقتصادي، والمرتبطة بالفعل الديني، كما هو شأن التوترات الواقعة عبر التاريخ والمتولدة عن علاقات بين الاقتصاد والدين، وبحسب الموقف الذي توليه بالنسبة للعالم الذي تنشأ فيه، فكما ينطلق فيبر في تحليله نعرف أن الدراسة الكلاسيكية التي قام بها ماكس فيبر –الأخلاق البروتستانية وروح الرأسمالية- يعرض من خلالها لفكرة أن الطهرية الكالفينية هي التي ولدت عقلية الربح والفائدة، التي هي خاصية الرأسمالية الحديثة، والناجمة عن سياق خاص في مسار الرجل الطهري.

فالزهد الخلقي الذي يكابده هذا الأخير بكل دقة، يمنعه من التمتع بالخيرات الأرضية، في حين أن القولة التوراتية المأثورة حول "نعمة يهوه"، تعطيه صفة خالق الثروات والمكتنز لها. فاختبار الإيمان عبر الحياة المهنية هو جد لصيق بنوع من الأخلاق، تتأسس على نوع من القدرية المؤدية إلى زهدية دنيوية نشيطة وجذابة. حول هذه الأطروحة المغرية نسجت العديد من التخمينات المتسرعة، والتي لم تأخذ بعين الاعتبار التطورات اللاحقة لفكر فيبر، ولم تنتبه للفروقات الدقيقة التي رسمها المؤرخ حول تلك الصورة. فماكس فيبر يعرف جيدا أن الرأسمالية سابقة عن الكالفينية، ولم يدع أبدا أن الدين المصلح كان الشرط الأكيد لانبلاج الرأسمالية، إذ لم يزد على كونه عاملا إيجابيا في تطورها. إلى حد أنه في البلدان الغربية، حيث لم يكن ذائع الصيت وجلي التأثير، فإن صورة الرأسمالية كانت مختلفة. يبقى أن نفسر، لماذا مثل الإصلاح الديني أثناء تشكل أوروبا الحديثة حلقة مميزة، ولكن رغم ذلك فهو لا يستطيع تفسير كل شيء، لأنه لا يمثل التفسير الأوحد أو الأكثر ثورية. فإذا كانت هناك علاقة ثنائية بين الرأسمالية والكالفينية فإن ذلك يمكن أن يتضح بصورة تاريخية حقيقية، ودون أن نستطيع نفي تواجد نوع من التجانس الاختياري بين الاثنين. فالعملية التي تنسب لكالفان في قبوله الاقتراض بالفائدة، لا تكفي لأن تجعل منه أب الرأسمالية الحديثة. فلتسيير مدينة تجارية مهددة بإفلاس عام وبطالة مزمنة، كان هذا المصلح جل اهتمامه فيها متجها نحو إرساء مجد الله، قد وافق بنوع من الحكمة السياسية على صياغة موقف مسيحي جديد أمام المال. ولتشجيع الصناعات الأساسية في مدينته، فإنه لم يفكر أن "العيش في سعة هو في حد ذاته أمر مكروه، إذ الجشع هو الأمر المعيب دائما.."، ففيبر يتساءل حول الأسس العقدية للارأسمالية المدرسية، دون تحوير للموقف التقليدي للمسيحية أمام الربا وبعض النقاط الخلافية الأخرى، فقط فإنه غير محاور النقاش بنوع من النفعية الحكيمة كقبول الاقتراض بالفائدة، والتأكيد على المقولة الأساسية بشأن "المسيحي الناشط" الخادم لله ولإخوانه بفضل نشاطه. فكالفان يرفض بصرامة كل ذلك التصور الأسطوري التقليدي بشأن دائن واسع الثروة ومدين بائس. كذلك فهو لا يستهجن البحث عن الربح، ولكنه يعلم أن من واجب المسيحي الموجود في تلك الحالة بفضل العناية الإلاهية، أن يخضع ربحه للآخرين.

إذن فحساب الربح يبدو منعرجا حاسما لعقلية جديدة، تتميز بنوع من العقلنة للحياة الاقتصادية. فالزمن والتوقيت اتخذا دلالة جديدة، معادلة للقيمة والمال. وكذلك وفي نفس الوقت، فإن مقياس الفائدة قد أدخل تحويرا على سلوك الإنسان، الذي أصبح من وقتئذ فصاعدا، مجبرا على الحساب الواسع والدقيق، بحسب معطيات وجوده الخاص. فرجل الأعمال قد بدا متحررا من اللعنة القديمة، التي تثقل منذ عصور المسيحية الأولى، الإنسان صاحب المال. وقد كان لهؤلاء المصلحين المساهمة الهامة في تغيير الرؤية القائلة بأن التاجر الناجح هو حتما مسيحي ماكر.

ندرك أن ذلك المذهب الكلفيني المبشر بتلك الدعوة، قد وقعت إعادة بعثه خلال القرن XVIII لإرساء المشروعية على الربح، تم ذلك بفضل تشويه فاضح من جانب اللاهوتيين الوحدانيين، الذين يسعون لتسهيل ممارسة الواجب لأناس من "عصر جديد"، فمن اللازم إبراز أن الموقف المتخذ مع الكاثوليكيين، تجاه البنكيين والتجار الأثرياء، جد قريب مما عليه الكلفينيين. فقد عبر بدلالة واضحة عن ظهور أخلاق جديدة، آخذة في الانتشار، مثلت السمة الجلية للروح البرجوازية المرتبطة جوهريا بالبحث عن الربح. وباستعادة مفاهيم ماكس فيبر، فإننا نستطيع القول، إن الحافز الذي يمكن جوهريا من تفسير تطور العقل الرأسمالي قد تلاشى، منذ أن بنت البرجوازية الصاعدة أخلاقياتها الاقتصادية الخاصة، ورفضت أن تكون مرتبطة بقواعد أخلاق دينية ترى أنها قد أصبحت واهية.

فالتطور المنطقي لفكر ماكس فيبر قد جره عبر أبحاث أخرى، لتحليل تكون "العقلية الاقتصادية"، إضافة إلى الأخلاق الاقتصادية للأديان الكبرى" لأجل الإجابة عن بعض أنماط المسائل المطروحة أمام علم الاجتماع الديني، وكذلك أيضا أمام علم الاجتماع الاقتصادي"[ii][2]. فعبر اختبار ست منظومات دينية: الكنفشيوسية، الهندوسية، البوذية، المسيحية، الإسلام واليهودية سعى ماكس فيبر من خلالها للإحاطة بالأخلاق الاقتصادية لهذه الأديان. إذ المراد ليس تعاليمها العقدية، ولكن حوافزها العملية التي تشحن بها أفعال الناس اليومية، وما يترتب عن ذلك من آثار نفسية ونفعية على مساعيهم. وبخبرة تحليلية عميقة يبين فيبر أنه ليس هناك أية أخلاق اقتصادية تتحدد حصرا بالدين، فأمام المواقف التي يستطيع الإنسان اتخاذها تجاه العالم، فإن الأخلاق الاقتصادية تتمتع وبدرجة متفاوتة باستقلالية حقيقية، تعود إلى تأثير العوامل الجغرافية والتاريخية والاقتصادية، التي تحدد نوعا من الحياة ذات صبغة مميزة. فالأكثر أهمية بالنسبة للتحليل السوسيولوجي، هو قياس ذلك التفاعل الثنائي بين مختلف تلك العوامل. فمهما كان عمق التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية على الأخلاق. فإن ذلك يعود في النهاية ويعلل بعمق، بحسب محتوى الوحي الديني ووعوده.

ولكن هذا الأخير كيف يقع الإحساس به؟ إن تفسيرا ذا طابع نفسي يمكن إدراجه للإجابة عن ذلك، كان قد لخصه من قبل نيتشه في نظريته حول "الغل"، فالتغير الخلقي للرحمة الإلهية والأخوة الإنسانية، ليس له من هدف آخر سوى قمع "ثورة العبيد"، ثورة هؤلاء الذين يحسون أنهم محبطون أمام الفرص التي توفرها لهم الحياة. فأخلاق الواجب هي نتاج مشاعر الثأر المكبوتة، لأنها معبرة عن إحساس بالضعف لدى هؤلاء الذين يعملون على كسب خبزهم بعرق جبينهم. وبأشكال أخرى فإن تقديم العذاب بصفته شكلا للمقت الإلهي، وعلامة على الشعور بالذنب الإنساني، يجعل من الدين الإجابة عن حاجة نفسية كونية. ذلك أن الإنسان السعيد لا يكتفي بأن يكون كذلك، ولكن يرمي لتأكيد تلك الحالة بخلق حق في تلك السعادة، قياسا على أنه في حاجة للاقتناع بأنه يستحقها. وبصورة عكسية مع الذين يتمتعون بسعادة، غير مستحقيها. إننا نتواجد هنا عند منبع السلوكات "الفريسية" المتعددة والمتنوعة.

فالجالب الأكثر للانتباه، هو الآلية المقلوبة التي قادت إلى نوع مغاير من التشكل الديني بشأن مفهوم العذاب. فبعض الأعمال الزهدية يبدو أنها تضفي على بعض الأفراد مقدرات سحرية عالية. وريادة فريدة وخارقة. فحلول منظومات الخلاص الدينية، قد سمح بشكل آخر، بتطور علاقات شخصية بين الإنسان وربه. ولأن هذه الأديان تضمن خلاصا أبديا، فهي تتوجه بدءا إلى هؤلاء الذين هم في حاجة إلى خلاص، إلى هؤلاء الذين بهم جوع وعطش للعدالة. فهي توفر لهم، إن لم يكن ثأرا فعلى الأقل وعدا بالتحرر من المرض، والفقر، والبؤس وشروره. نفهم أن هذه المعتقدات في منقذ، ذات الطابع المسيحاني، لها دوافع، يصفها م.فيبر بأنها "عامية"، فآمال الخلاص قد ولدت نوعا من الحكمة الإلهية من وراء العذاب، نوعا من العقلنة الساعية إلى إبعاد التصورات السحرية البدائية. فالصعوبات الحقيقية تبدأ عندما يكون الشعور الجماعي أكثر حيوية تجاه العذاب الفردي أنه غير مستحق، وأن المذنبين يفلحون أكثر من المحسنين. فحيف النظام الإنساني يبلغ إلى مستوى الاعتقاد بتعويض ثوري في العالم الآخر، إذ الإنسان المذنب يستطيع أن يعيش على الأرض الحياة الناعمة ولكن جهنم هي المأوى! وإذا ما كانت السعادة الأبدية موعودة للخير، فإن ما على هذا الأخير إلا أن يكفر في دنياه عن الخطايا التي ارتكبها. فالرضاء والغل يظهران كعنصرين أساسين مصاحبين لأي موقف ديني، ذلك أن الاضطهاد الذي يعاني منه "العبيد" هو بسبب بنى اقتصادية واجتماعية. فتحفظ الكنائس أمام الأغنياء، يفسر باختبارها أن الطبقات المحظوظة والمتخمة، لا تكابد عامة أو بصورة محددة، الحاجة لأن تكون في زمرة الناجين إذ التقوى لديها في حدود السعادة الأرضية.

وبنوع آخر من التحليل، فإنه من اللازم الانتباه إلى الإلقاء بكافة الوعود المرجوة من طرف الإنسان على العالم الآخر. فباستثناء المسيحية وبعض الأديان الزهدية الأخرى، فإن مآثر الأديان البدائية أو غيرها، النبوية أو اللانبوية، هي أمور أرضية: كالعافية وطول الحياة، والكسب.

ذلك هو الحال بالنسبة للديانة الفيدية، أو الصينية القديمة، أو لديانة مصر، أو إسرائيل القديمة، أيضا كما هو الشأن لإيران أو مع الإسلام. فداخل هذه المنظومات فإنه فقط، وبحسب ما يسميه فيبر بـ"المهارة الدينية"، فإن الناسك والراهب والصوفي أو الدرويش، هم فقط الذين يرنون إلى مكافآت مقدسة وما فوق أرضية. ولم تعتبر هذه المكافآت دائما بمثابة المزايا الفريدة للعالم الآخر، إذ أن ما يبحث عنه الإنسان المنشغل بخلاصه قبل كل شيء هو قاعدة السلوك اليومي. فذلك الموقف، ليس من الممكن أن تغيب عنه مؤثراته العميقة في تشكيل أخلاق اقتصادية، فنوعية السعادة والتجدد المفتش عنهما في هذه الحياة، من خلال هذه الأديان يختلف باختلاف أخلاقيات الطبقة الاجتماعية، التي تشكل الوسط الحاضن لذلك التدين. فالمحاربون أو المزارعون أو الحرفيون أو رجال الفكر، كان لكل منهم دور في التأثير على رؤية العالم الموصولة بدينهم. فإذا ما كانت فكرة الخلاص قديمة كالعالم، وكما هو الشأن للخلاص من العذاب والجوع والموت، فإنها لم تكتسب معنى خاصا إلا مع تحولها في النهاية لرؤية خاصة: ذلك ما أكده ماكس فيبر بكل إصرار في كل أعماله، وهو أن المصالح المادية والخلقية هي التي تسير مباشرة العمل الإنساني وليس الأفكار النظرية.

فبتفرد غريب لدى هذا المفكر الذي يجعل من التاريخ مرجعيته الثابتة، حيث يبدو تحليله ذو طابع بياني، يفسر مثلا، أن كل هيروكراسية –حكومة الكهنة محترفي التسيير الطقوسي- تسعى لاحتكار منة الخلاص الديني. إذ أنه من مصالحها كقوة اجتماعية، أن تغذي العديد من التشككات ضد أية ممارسة للاختبار أو البحث الحر، وأن تخضع المؤمنين وبصورة دائمة لتعاليم طقوسية صارمة. فأكثر مما هي نتيجة لوعي الطبقة، فإن هذه الظاهرة تبدو لي من تكوين الكنيسة، التي لا يمكنها التشكل بدون الرجوع إلى فكرة المعتقد.

أيضا وكما يدعي فيبر أن يجد داخل المدن القروسطية، التي تمثل دعائم البابوية، جذور النعمة المؤسساتية والقداسية للكنيسة الرومانية، فإنه يبرز لدينا جليا، أنه في هذه الأوساط الحضرية القروسطية، كان تشكل وبروز حركات الاحتجاج من أجل الحد من طغيان الكنيسة، وإصلاحها، بلغ مدى ذلك إلى مستويات هرطوقية.

وأيا كان الأمر فإن فيبر قد انتهى إلى تحليل "طبقة برجوازية: بأخلاقها الدينية الخاصة، والتي تتعارض مع طبقات أخرى، قساوسة، مزارعين، وعسكريين. فقد أظهرت تلك الطبقة البرجوازية جدارتها في تحمل "الرسالة النبوية" والتكلم باسم إيمان معبر عن متطلبات إلهية، ومرسيا لواجبات أخلاقية عبر العمل اليومي. فهذه الطبقات البرجوازية ذات الوزن الاجتماعي الهام كان انتشارها بسرعة لأجل خدمة تابوات متنوعة، أو لأجل تقسيمات عشائرية وظائفية. وهكذا تطور تزهد ناشط منجر عن فكرة عمل إنساني مرغوب من طرف الله، مما غذى لدى كل فرد، الإيمان بأن أمر الله قد تجلى عبره. أصبح ذلك الشعور هو الموقف الديني المحبذ لدى هؤلاء البرجوازيين وليس ذلك التأمل الشارد في الإلهي، تلك السمة التي ميزت المثقفين النبلاء الذين يعتبرون أنه هنالك يكمن النعيم الأعلى. ومن هنا كان التعارض بين مفهومين دينيين، بصفتهما انعكاسا لبنى اجتماعية متناقضة، فالإيمان بكونه وسيلة الله لفعل أمر نافع في هذا العالم يستدعي لزاما مفهوم إله متعال، قيوم وعادل، والذي يتعارض مع مفهوم كونه محلا للإلهي ويلتقي مع مقولة الإله اللامشخص، الذي يتيسر ضبطه بالتأمل باعتباره وجودا محضا. فالمفهوم الأول قد هيمن في إيران والشرق الأوسط والغرب المسيحي، والثاني كان طابع التدين الهندي وبصورة أقل الصيني.

وهكذا تشكلت الأطروحة الكبرى لماكس فيبر بشأن التوافق المتلازم بين التطور الديني والتطور الاجتماعي، مطبقا على البروتستانية تلك الصورة التي،يظهر فيبر مجددا، وهي تنامي زهدية حياتية مرتبطة برد الاعتبار للنشاط الإنساني في هذا العالم، فكل موقف اجتماعي أو مهني يتناسب مع دعوة، مع نداء معين. فلا وجود إذن لـ"حالة كمال". وبذلك فليس هناك فرق بين المبادئ والتوجيهات. ومن هنالك الكامل الديني ليس له مكان في المدينة، ذلك أن مثاله يكمن في الانسحاب من العالم وهجران الالتزامات الزمنية، فذلك المسار الزهدي الواقع ضمن الاجتماعي يمكن تحديده بكونه يشبه ظاهرة "التقلص الترهبي". ولكن في الواقع، فإن المؤرخ يعرف أن هذه الظاهرة سريعة الأفول، إذ في الكنيسة الكالفنية نفسها قد شكلت أرستقراطية روحية جديدة متكونة من "قديسي الحرب" قدر لها أن تعيش في عالم المسيحيين العمليين الذين تحت تأثير الحركات التقوية انفصلوا عن المسيحية "اللافعليين". وإن توقفنا عند الطابع البياني لتحليل فيبر فإن ذلك ليس هو الهام، إذ الأهم هو فهم مولدات التغير الثوري لنمط التدين الغربي.

ففي خلافه مع الرهبانية، رفع لوثر من شأن النشاط المهني. فمفهوم بروف لا يعني فقط لديه "الحالة" ولكن أيضا الدعوة. فالواجب يعني إتمام الأعمال، والذي ليس أبدا وبأي شكل وسيلة للتأييد، إذن فمن اللازم إتمامه في هذا العالم، فالعمل يشكل إذن أرقى أشكال نشاط المسيحي، الذي يلزمه عدم القناعة بحالة ثابتة. فلدى كالفان يبدو القدر الإلهي العلة العميقة لذلك الموقف الجديد من العمل في العالم. فالمسيحي بإتمامه لرسالته المرادة من طرف الله ليس أمامه إلا أن يعمل من أجل زيادة مجد الله في هذا العالم. نجد نصا لكالفان يبدو جد معبر عن هذا السياق يقول "فالذي يقود حياته بحسب رسالته فهو على سواء السبيل، وأما الذي يوجه رسالته بحسب حياته فقد ظل ظلالا بعيدا"[iii][3]. ذلك أن جيلي قد تفكر في فترة الشباب بالفكرة الواسعة الانتشار في عديد الأوساط، أنه من الأجدى تقشير الباطاطا على تشييد الكاتدرائيات، فإذا ما كانت هنالك إرادة لله فكم هي معبرة قولة كالفان؟ فهذا النوع من البشر النابع والمتشكل بفضل الدينامية الكالفينية، عليه أن يتكشف عن فعالية اجتماعية هامة. ندرك جليا النتائج الهامة لذلك التحول في الموقف الديني تجاه العالم، فبالممارسة الكاثوليكية لأعمال إيجابية، والتي بواسطتها يمكن للمسيحي أن يحصل على فائدة العمل، فإن النشاط الطهري قد تعرض لتغيير في السلوك ذو مسحة عقلانية، فالتوفيق المهني قد سمح بمعاينة حالة النعمة التي بلغ المسيحي إياها. إذ الإتمام الكامل والإيجابي لعمله قد منحه ارتياحا في الضمير، وهدأ لديه مشاعر القلق الميتافيزيقية، بتوفيره الإجابة له عن السؤال المقلق بشأن معرفة، ما إذا كنا مختارين أم ملعونين. ولقد كان من المتعذر استبعاد أن ينطلق من ذلك الموقف، انبعاث نوع من النشاط الملح، وخاصة من التقوية الألمانية. فالإنسان يبحث عن ضمان لاكتساب النعمة الإلهية، فهو ليس بإمكانه حث خطى السير نحو أية مشاركة في أي نشاط ذي طابع طقوسي يمكنه أن يوفر "سحريا" تلك النعمة، فقط تبقى الرقابة الذاتية على سير أعماله الخاصة. فالأخلاق تمنعه التمتع الجامح بالخيرات المكتسبة يفضل العمل، ولذلك فهو يعيد دون كلل استثمار الرساميل المتراكمة، لأن الفراغ مرذول. فهو إن يترك على هواه، فإنه سيخسر العلامة التي يستطيع بواسطتها معرفة اكتساب خلاصه المرغوب. إذن فالكل يدفعه لممارسة زهدية ناشطة ودينية في دوافعها الأساسية، ولكنها اقتصادية وذات سمة مدنسة في تطبيقاتها الفعلية.

فالمؤرخ عليه أن يأتي على الفروقات داخل نظرية ماكس فيبر. بقي أن نشير إلى أن هذا الأخير قد صاغ نهجا يولي اهتماما كبيرا للأشكال المتعددة للسببية الاجتماعية، وقام بتحديد روابط وتفاعلات الأخلاق الدينية وسلوك الإنسان في هذا العالم فبالاعتماد بدقة على ذلك الشكل من التحليل الذي بحث فيه هنري دسروش عن الأصول الدينية لما قبل الاشتراكية الأودوبية، متسائلا حول ما إذا كان المحتوى الاجتماعي لذلك الما قبل اشتراكية هو في توافق مع مضمون ديني معين[iv][4]. لقد أظهرت أعمال سانت سيمون وفوريي وكابي نوعا من التماثل مع المسيحية المجددة الرافعة للواء الحياة الجماعية المعلمنة، نوعا من البعث للرهبانية. وتتميز هذه المسيحية الجديدة بعودة لنموذج المسيحية المعروفة بطابعها الاشتراكي، ذلك ما يجب على المؤرخ أن يتحفظ تجاهه "فالزهدية الواقعة ضمن الاجتماعي، المبينة من طرف فيبر، والتي هي في علاقة مع الروح الرأسمالية، تعقبها هنا أيضا رؤية باحثة عن السعادة مندرجة ضمن الاجتماعي وفي علاقة مع الكونية، سواء في الإنتاجية القصوى أو في الإشباع المفرط لمجمل الحاجات"[v][5]. موضحا دسروش في عبارات شبه مجردة، في ضوء دراسة مبينة، التواجد بين فترة الإصلاح وظهور الاشتراكية الأوروبية، لحلقة "اجتماعية-دينية"، تتميز بالإيمان الألفي في مشاعية دينية موحية بأزمنة بطولية، حيث تشكلت القوة الصناعية للعالم المعاصر.

إذن فعلى علماء الاجتماع المعاصرين مهمة متابعة ذلك الصنف من التحاليل حول المنظومات الدينية التي لم يولها ماكس فيبر اهتماما، أو التي تم إدماجها بصورة مبتسرة في نظريته، والبحث أيضا في مدى صحة تلك التفسيرات عن الأخلاق الاقتصادية، والنظر أيضا حول ما إذا كان في أديان أخرى غير المسيحية عامل تطور مماثل لما نجد في الأخلاق البروتستانية[vi][6].

جد قريب في أهدافه ومع تعدد فروقاته، يظهر لنا مؤلف أرنست ترولتش (1865-1923) Ernst Troeltsch، الذي كان زميلا وصديقا لماكس فيبر، وفيا للتحليل التاريخي. فهذا اللاهوتي الليبرالي الذي أصبح أستاذا للفلسفة في برلين، والأفكار المسيحية. أي بتحليل ماضي المسيحية، من أجل فهم أعمق للحاضر وللمكانة التي يستطيع الدين أن يتولاها حاليا. ففي عمله:

-Die Soziallehren der christlichen kirchen und Gruppen [vii][7]

سعى ترولتش لكشف تأثير المسيحية على التكتلات الاجتماعية الأخرى، وفي نفس الوقت عمل على دراسة التأثيرات الخارجية التي مورست على مختلف الجماعات المسيحية، على طول تاريخ طويل يمتد لأكثر من ألف ونصف الألف سنة. فلتلخيص فكره بكل إيجاز يمكن القول إن تحليله السوسيولوجي لتطور المسيحية يتميز بثلاث مراحل أساسية بحسب منظوره: المسيحية الأولى، والفترة القروسطية، وعصر المصلحين. فترولتش يؤمن ويؤكد أن الإله العلي قد تجلى ولمرة فريدة في هذا العالم في شخص المسيح، تلك "الفكرة الدينية" تواصلت عبر أشخاص خاضعين لحتميات التاريخ والمجتمعات، بخلق "محتويات ثقافية" متغيرة، بحسب الزمان والمكان والجماعة البشرية التي تتشكل في حضنها. ذلك أن جوهر المسيحية يتجلى تاريخيا في إجابات متنوعة، بحسب الظروف الاجتماعية-الاقتصادية. إذ أن هذه الأخيرة بإمكانها أن تحدث تحويرا في بعض نقاط "الفكرة المسيحية" التي لا تمثل الأساس. ومن اللازم عدم خلط مختلف الأنماط المسيحية مع البنى التي ازدهرت فيها. فهذا التحليل ليس مهتما فقط بالواقع التاريخي ولكن بخصوصية الحدث المسيحي أيضا، والذي اقتاد ترولتش إلى حدود نهاية القرن XVIII فهو يحدد أنماط البنى الثلاث التي عرفتها المسيحية في التاريخ: الكنيسة، المذهب، والتصوف. والتي تساوي تباعا المؤسسة الجماعية التي توزع الخلاص والنعمة، والجماعة الحية للمسيحيين النساك الذين انعزلوا عن العالم، والاستبطان للعقائد بغية امتلاك ذاتي وشخصي لها. تتمثل المسألة إذن في دراسة تأثيرات أنماط البنى المسيحية معا على كل الجماعة المسيحية، كما هو أيضا على باقي العالم. بأشكال أخرى فإن التحليل يجب أن تكون له من النباهة السوسيولوجية، إذ أن ذلك من الهام جدا، لأن حمل التحليل من ما هو مطبوع بالصبغة اللاهوتية والعقدية إلى المجال السوسيلوجي قد سمح لترولتش بدراسة أكثر موضوعية لتلك النواحي من المسيحية، والتي سرعان ما صنفت بأنها "هرطوقية" ولأجل ذلك فإنها أهملت.

فكما استطعنا أن نبينه في الحالة الدقيقة للطوائف الأريوسية[viii][8]، فالهرطقة تبدو لدينا خلاقة لرؤية مغايرة للعالم، ليس فقط لأنها تثير صورة ثنائية للوقائع التي تواجهها، ولكن لأنها تعلم عبر أخلاق خاصة مفهوما مغايرا للزمن، أي للعمل الإنساني. فعالم المعزول الطائفي هو مفرق بين قطبين زمنيين: فمع رفض التاريخ الحالي الذي يحرمه فإن ذلك "الهرطوقي" يبحث عن التأييد بإثارة تجربة الماضي، ولكن في المستقبل فقط حيث يستطيع وضع ثقته، لأنه فقط ذلك الزمن الذي لم يعش بعد يمكن أن يجلب له تأكيدا لصحة قضيته ومكافأة حقة عن آلام المعاناة، كذلك الخلاص من عقدة الخيبة الشنيعة. وبتحولنا إلى الفضاء الديني الجماعي فإننا نجد هنالك حافزا مؤسسا في جزء منه على الغل.

فمهما كانت تلك الأشكال من التحليل جلية، فإنها تترك المسألة معلقة، فيما يخص معرفة ما إذا كان علم الاجتماع الديني يشكل مبحثا مستقلا، أو فيما إذا كان بالعكس لزاما عليه الاندراج ضمن تشكيل مجمع وأكثر اتساع، مخصص للظاهرة الدينية في مجملها. الإجابة التي يقدمها جواشيم واش (Joachim Wach) هي جد واضحة، حيث كل عمله كان يرمي إلى إرساء علم للأديان، وحيث الفروع الأساسية تنبني على تأويل التجربة الدينية في مختلف تعبيراتها، وفي النهاية يأتي علم اجتماع الدين[ix][9]. ولهذا الأخير يعزو واش مهمة البحث عن تأثير المنظومات الدينية على المجتمعات التي تشكلت عبرها، والعكس أيضا. لكن يجب أن تجرى أيضا دراسة تصنيفية ومقارنة للجماعات الدينية، وذلك بتحليل مظاهرها التعاونية وأيضا مختلف أصناف تآزرها. إذن فإنه يعود لعلم الاجتماع العام للدين "حمل أبحاثه حول المعنى السوسيولوجي لمختلف أشكال التعبير الفكري والعلمي للتجربة الدينية من أساطير ومذاهب وصلوات وقرابين وطقوس إلخ"[x][10]. ولكن أية تصنيفية بيانية لا تعني أبدا لدى ج.واش أن نضع جانبا المسائل الميتافيزيقية، وأن نقتصر على المسائل المثارة من جراء دراسة التفاعلات الثنائية بين الديني والاجتماعي. فرغم اقتناعه بأهمية المقاربة السوسيولوجية فإن واش لا يعتبرها أبدا المفتاح الوحيد الذي يسمح بفهم الظاهرة الدينية. فأية دراسة حول الأصل الاجتماعي كما الأمر أيضا حول تأثير بعض الجماعات الدينية على المجتمع لا يمكنها أن تهمل "الفكرة" الدينية التي تشغل تلك الجماعات بأشكال أخرى إذا ما كان التحليل السوسيولوجي للجماعات الدينية يسمح بفهم أوضح لتشكل التجربة الدينية في نموذج معين من التجمعات، فإنه لن يعفي بالعكس من التحليل المحتوى الأصلي للتجربة الدينية التي تشغل هذه الجماعة. "فبواسطة المقاربة السوسيولوجية للدين، فإننا لا نطمح فقط لإجلاء المعنى المادي للدين، ولكن أيضا للحصول على فهم جديد للعلاقات بين الأشكال المختلفة للتعبير عن التجربة الدينية، وعند الاقتضاء الإدراك المتطور لمختلف أشكال التجربة الدينية نفسها"[xi][11].

فكما هو الأمر مع فيبر وترولتش، يرفض ج.واش قبول التأويل القائل بأن الخاصية المميزة للموقف الديني تكون بكل بساطة مرتبطة بخصوصية الظرف الاجتماعي للوسط المعبر عنه. فالوضع الديني لا يمكن أن ينزل به إلى حدود الظاهرة العارضة لبنية اجتماعية. والفكرة الماركسية التي تقول بأن الموقف ليس سوى تعبيرة إيديولوجية لطبقة اجتماعية والانعكاس المباشر لمصالحها المادية بدا لديه أمرا غير مقبول ومما يلزم رفضه، باعتباره مسخا لواقعة جد مركبة.

ومع ذلك فالتصنيفية قد أصبحت نموذجية، فما أثاره واش في كل عمله قد ظهر ملتبسا للبعض[xii][12] فأحيانا تعرض الظاهرة الدينية كانعكاس لحالة تاريخية واجتماعية معينة، وأخرى توصف وتقدم تلك التجربة بصفتها تحقق عيني مترسخ في الزمن والتاريخ لنموذج ديني عام، أو بصورة أدق لـ"موقف ديني أساسي" والذي يستطيع وحده تفسير التمظهرات الخارجية للتجربة الدينية. فالظاهرة الدينية هي معا المثال الحي لتحقيق نموذج ما، والانعكاس أيضا لحالة معينة. في الواقع، وبعيدا عن النظر في تلك الثنائية التصنيفية، أي نوع من الالتباس، فإننا نلمح نوعا من التكامل بين مثلنة الواقعة الاجتماعية التاريخية ونوع من التحقيق للمثال الديني. إذ البحث في الملكية المقدسة في مختلف المجتمعات القديمة، كما الشأن في العالم القروسطي والحديث يظهر ذلك جليا. فالدرس الهام للمنهج المقدم من طرف ج.واش، ذلك المتعلق بتحليل كل ظاهرة دينية باعتبارها في نفس الوقت بمثابة الانعكاس وكذلك بمثابة المثال بحسب مستوى التساؤل الذي تتموقع عبره في العالم. "فالحكم المزمع اتخاذه حول التأثير الذي تمارسه الاختلافات الاجتماعية على الأفكار والمؤسسات الدينية، من اللازم إتمامه بتقدير للأثر المنتج بفضل الحوافز والنشاطات الدينية بشأن تطور الطبقية الاجتماعية"[xiii][13]. فعلاوة على م.فيبر وأ.ترولتش اللذين يعترف بهما أساتذة له فإن ج.واش الذي رفض دائما تفريق علم اجتماع الدين عن الرؤية الكلية للظاهرة الدينية، قد بدا لي، حقيقة، انه أحد الرواد لعلم أديان موحد ومؤسس على الفهم والإدراك للفعل الإنساني.

من اللازم التنبيه، مع الأسف، إلى أن التطور الإيجابي للعلوم الاجتماعية خلال النصف الأخير من هذا القرن قد كان مشجعا وبصورة سلبية لنوع من الرغبة في الاستقلال لدى علماء الاجتماع، معتقدين أن بيانات بحثهم تكفي لإجلاء وتوضيح البنى والظواهر الدينية. وبكل تدقيق إنها مناهج التحليل المرفولوجي والبنيوي التي من واجبنا الآن اختبارها، بتمييز ثلاثة أنواع من التفكير تتعلق بتحليل الأنماط والبنى الدينية، وبنية الكنيسة، وأخيرا النحل كبنى متنازعة.

ب – التحليل السوسيولوجي للأنماط  والبنى الدينية:

كل منهج سليم في التحليل السوسيولوجي من اللازم انطلاقه من معاينة الكتلة الاجتماعية الدينية في بناها وحياتها الخاصة وفي علاقاتها التي تنسجها مع العالم الخارجي، إذن بالانطلاق من السوسيوغرافيا يكون البدء. ولكن عملية المعاينة لهذه الجماعة ليست متيسرة إلا إذا ما اندمجت في ما هو أوسع ألا وهو الجماعة الوطنية إن لم تكن الإنسانية. لقد كان جابريال لوبرا صائبا عندما أكد دائما على الضرورة المطلقة للموضعة بدءا للكنيسة أو المعبد، ضمن القرية أو المدينة[xiv][14]. لأن التوزع الجغرافي وإمكانيات التواصل، وكذلك التجمع السكني أو تشتته، يمكن أن تشكل عوامل هامة لتطور الشعائر أو بالعكس عراقيل كؤودة أمامها، إذن يلزم إدراك الجماعة الدينية في نطاق الكون الأصغر من أجل فهم أحسن لها، فينبغي إيلاء الاهتمام للبنى الاجتماعية، ومعرفة ما إذا كان يتواجد أم لا، تطابق للسلطات الدينية مع التراتبية الاجتماعية والسياسية، إلخ. فلم يحدث إلا لاحقا أن اهتم التحليل بالتنظيم الديني في حد ذاته، فكيف يتسنى له الدخول في اتصال مع الجماعة البشرية التي نشأ في حضنها والتي يرمي لهدايتها؟ وأية مكانة يحوزها في ذلك المجتمع؟ باختصار إذا ما عرفت الحدود والدواليب الداخلية، فمن اللازم البحث لفهم وقياس سير نشاط تلك الجماعة الدينية ومدى حيويتها. إذن فمن اللازم القيام بمرفولوجيا للاتباع، القيام بعملية إحصائية بحسب السن والجنس، وبحسب الشغل والمسكن، وأيضا بحسب المكانة التي يشغلها المنضوي في المجتمع. نعرف التصنيفية المقترحة من طرف ج.لوبرا، والمعممة بفضل كل المعاينات ذات التطبيق الديني: منعزلون، امتثاليون، فصليون، ملاحظون دائمون، نساك، فهذه الأصناف من اللازم النظر فيها بحسب المعايير الخاصة بكل اعتقاد. كذلك فيما يتعلق بالكاثوليك: فصحيون، قداسيون، إلخ، إذ غاية كل تحليل ذكي ونبيه الانتهاء لفرز التنوعات في داخل كل نمط، فانطلاق رؤيتها مبني على خارطة أرضية، فالسوسيوغرافيا التي ترمي لجلاء اختلاف معدلات الممارسة الدينية بين الجهات، فإنها بالواقع ليس لها من قيمة، إذ أنها لا تزيد عن كونها اختزالا رياضيا بسيطا خال من أي معنى، وبالعكس فإن أهمية التحليل السوسيوغرافي تتجلى في تفهم الحالات المحلية الخاصة والتي تكشف في داخلها عن اختلافات بحسب الوسط الاجتماعي، والسن والجنس، إلخ. مثال على ذلك: الناحية الباريسية، كانت نسبة الكاثوليك القائمين بواجباتهم الدينية خلال سنة 1971م، على الأقل عشرين مرة أكثر في الأعمال الحرة منه بين أوساط عمال المصانع، بحسب نسبة عامة للقيام بالواجبات داخل المناطق تتراوح بين 3 و12% من العدد الجملي للسكان[xv][15].

تلك العملية الأولى ضرورية لكن مع ذلك فهي غير كافية، لأنه من الهام البحث عن أسباب حالة الواقعة المعاينة. فبنى الجماعة الدينية المدروسة من اللازم تفسيرها بدءا بحسب المبادئ الخاصة لديانة الجماعة. فديانة سلطوية مثل الكاثوليكية الرومانية والتي انبنت عبر القرون على تراتبية صلبة وطورت شبكة مؤسساتية حازمة. فإنه من المدهش في الوقت الحالي ملاحظة، ما إذا كانت تلك التراتبية ومؤسساتها مشكوك في أمرها من طرف بعض رجال الدين واللائكيين. ولأجل أن توضع مكانها بنى جديدة متحدة فيما بينها، والتي تبدو في الظاهر أقل تراتبية لجماعة من المؤمنين اللافعليين، وبالعكس فإن ديانة "الروح" أقل انتظاما، وتسير بحسب أشكال أخرى. إذ من المؤكد أن علم اجتماع المسيحية في شكلها الكاثوليكي والبروتستاني يوفر خصوصية مميزة أمام علم اجتماع الإسلام أو الهندوسية. السبب في ذلك جلي، إذ المجتمعات الدينية المسيحية متكونة بفضل رسالة روحية مميزة، تختلف في ذلك عن المجتمع العلماني، ولكن دون أن تقطع معه كل الصلات، أما المجتمعات الهندوسية والإسلامية فلها حدود تتمازج فيها بدرجة متفاوتة مع الجماعة العرقية، ولها بنى متقاربة أو مماثلة للبنى السياسية للمجتمعات التي تشكلها. وبحسب الفروقات التالية: فانتشار الإسلام في إفريقيا السوداء قد نزع عنه طابعه العرقي، انتشار قد انتهز معا، الفراغ الروحي الناتج عن إفلاس الديانات الأرواحية، وأيضا ما جلبه الإسلام معه من دفع اجتماعي للعنصر النسائي من السكان خاصة.

ذلك أنه داخل المسيحية بحد ذاتها عراقيل جمة لتشكيل تحليل دقيق! طبعا فأن تكون كاثوليكيا رومانيا، يلزم إتمام عدد معين من الواجبات المحددة كانونيا وبصورة إلزامية، فذلك يشكل رسما مسطورا واضح المعالم، فعالم الاجتماع يلعب هنا على رمل متحرك! ولكن هذه الإلزامات الكانونية المتحولة إلى معايير تحليل سوسيوغرافية يتعذر تطبيقها على الكنائس البروتستانية، التي ترفض دائما تشكيل وإرساء ممارسات دينية، أو التمييز الشرعي بين ما يكون إلزاميا ضروريا أو اختياريا نافلا. فحدود التحليل لها أوجه مختلفة: فالكاثوليكي يستطيع أن يكون على سداد من وجهة نظر شرعية مع الكنيسة، وبإمكانه بلوغ قداسة صادقة دون أن يرتاد ولو للحظة خورنيته –الوحدة السوسيولوجية- وكذلك بشكل مغاير، الرفض ولأسباب أخرى، الاندماج مع الجماعة الخورنية، إذ أنه يمكنه الممارسة والحصول على نفس القداس الصحيح. فكما عبر عن ذلك المؤرخ أوروس في فجر القرن V "أنا مسيحي من ضمن آخرين.. فأنا في أي مكان في أهلي" في حين أن مؤمنا من كنيسة إصلاحية فإنه يتعرف بالعكس، بمدى اندماجه في جماعته، فحيوية الجماعة الدينية تقاس بدرجة الاندماج في الملة المؤمنة. فذلك من العسير تفهمه سوسيولوجيا إلا باعتباره ممارسات طقوسية. فالمقولة الكالفينية بشأن المسؤولية، والتي تجعل من كل مؤمن ممارس لرسالة خاصة في الكنيسة، كيف يمكن قياسها سوسيولوجيا بكل دقة؟

زيادة على هذه الرابطة الهامة بين بنى التجمع الديني والمبادئ التي تشغله، فإنه من اللازم السعي لفهم التفاعلات المختلفة بين البنى المدنية والتشريعية والبنى الدينية. فعناصر القوة الدينية والكنسية تخضع –حتى في حالة قاعدة وفاقية عامة- للصلات بين الكنائس والدولة. وبعيدا عن تلك البديهية فإن حيوية الجماعة الدينية تخضع بشدة للمجتمع المدني الذي يحيط بها والذي يقترح عليها النماذج، ويبقى من شأن المجتمع الديني القبول أو الرفض، الصياغة أو التحوير، كل ذلك بحسب فعل خفي أو "انتصاري" دفاعي أو معبر عن إقدام.

فعلم اجتماع النظم الدينية يحضر في ثلاث مستويات: جماعة المؤمنين، والمجتمع المدني الذي ينتمون إليه والذي يعيشون فيه نمط إيمانهم، وأخيرا مستوى العلاقات مع المقدس. وليس فقط في مجال العقائد والإيمان وإنما أيضا في مستوى الالتزامات، أي في احترام القواعد من أجل معانقة العالم الآخر، عبر كتب التوبة وسجلات الأخطاء والجزاء. إنها نظرة للعالم تبدو بمثابة الانعكاس الثنائي للمجتمع المدني والمجتمع الديني، حيث أن العلاقات الشرعية مع العالم الآخر تتكيف بحسب الألوهية التي تأتي على صورة الإنسان، وتأتي منظمة للعلاقات بين البشر والله عبر أطر مجتمع محدد، كذلك فهي ليست الانعكاس الأوحد، ذلك أن ظهور مفهوم الفرد الإنساني عبر القانون الكنسي القروسطي قد نتج بالتحديد خلال مرحلة من التاريخ، حيث ذلك المفهوم في المجال السياسي نادر الوجود. وبغوصنا في التشريع المدني نلاحظ أن القانون الكنسي قد اعترف خلال القرون الوسطى بفردانية الإنسان وحريته، وكذلك تساوي الأعراق وتساوي الجنسي،. إلخ. كذلك من الجلي أن العلاقات بين البشر والله لا تنحصر فقط في المجال التشريعي، فكل أشكال الخشية لله والتوقير لقديسيه يجب أن تدرج ضمن تحليل فهمي، فهل هي تقوى حقيقية ورغبة في الاتحاد، أم هي وبشكل جماعي، نوع من الرجاء من قوى ذات طابع سحري؟ فمثال القداسة هو انعكاس لآمال، لتطلعات مجتمع معين خلال فترة محددة[xvi][16].

أما المرحلة الأخيرة من المعاينة فترمي إلى تأسيس وحدة المبحث، لإرساء على إثر كل هذه العلوم الاجتماعية الخاصة، علم اجتماع للأديان، مؤسس على تحليل ينزع نحو المقارنة. فلا إمكانية للتطلع نحو معرفة شاملة بكل المنظومات الدينية ما لم تكن مراعاة لمقارنة الأنماط الخاصة، فالأشكال الزهدية، وأنماط السلطة الدينية، وعلاقات المعلم الروحي بالأتباع، وأنماط أخرى قد وقع تحليلها ومقارنتها[xvii][17]، أملا في البلوغ من خلال مواجهتها ببعضها للقوانين، أو على الأقل، لبعض السياقات الجماعية أو الثوابت أو الارتباطات المماثلة.

ج – بنية الكنيسة:

إحدى التشكلات الأساسية التي ولدت التحليل السوسيولوجي هي الكنسية، والتي من اللازم التوقف عند أمرها لحظة. سنفرق بعناية منذ البداية بين الجماعات الدينية الاختيارية المتكونة بالانخراط الحر لأعضائها، والأشكال الأكثر تنظيما التي تعود للدعوة الكنسية. فالأولى ذات تشكل عفوي، تكون متأصلة في الأديان ذات الصبغة الدعوية الكونية. فالطابع الذاتي للروابط التي تجمع أعضاءها أمر أساسي، إذ نستطيع أن نقوم بالدراسة انطلاقا من العلاقات بين المعلم الروحي والأتباع. فنجد هنالك التقليد القديم لمعلم بات لحكمته بين حواريه المختارين ولنمط حياة وتفكير خاصين به، إذ نسجل ثباتا حتى مشارف الفترة المعاصرة لذلك المظهر الديني لحضارة الخطاب، والذي يتمثل في نقل نصوص مقدسة هندوسية أو قرآنية، لتجمع إرادي للنسك ملتف حول معلم روحي. فالجماعة الأولى المكونة من طرف يسوع تنتمي لهذا الصنف العفوي والاختياري، إنها تعكس فكر وتعاليم المعلم التي من واجبه بثها. وهنالك أشكال أخرى من الجماعات الصفوية التي عرفت التواجد والتي تجمع المطلعين على الأسرار القديمة أو المؤمنين بديانات الأسرار: فالغاليون دي سيبال الذين سموا بمثرا، واللذين بفضل انضواء حر ضمن جماعة أخوية، دخلوا فيها على إثر سعي إرادي، وبعد عملية تلقين دينية، كان لهم تجاوز جماعتهم الدينية التقليدية، جماعة الدين المدني.

المسألة المطروحة وهي معرفة كيف يتحقق المرور من جماعة إيمانية إلى تشكل عضوي معين وهو الكنيسة؟ فنموذج المسيحية يبين بوضوح المرور من مرحلة الجماعة الشعائرية المتجاوزة للاجتماعي إلى مستوى الإعلان والتبشير بالرسالة بفضل رغبة تواصل كونية. إذن فتلك الدعوة تتطلب زمنا لتصدير الميراث الروحي. إذ من الأكيد تثبيت الرسالة البدئية وجعلها موضوعية لأجل عرضها لأناس، عبر كل الأزمنة وكل الأمكنة. فإذا كانت التجربة الدينية في الأصل ذات طابع شخصي، ويمكن أن تعود أيضا إلى طابع علائقي معلم-حواري، فمن الجلي أنها منذ أن تمتد وتدوم وتأخذ في التزايد، فإنها تمر من المجال الذاتي والشخصي إلى مجال الموضعة باتجاهها نحو الغير. فلا أحد ينكر كون هذه المرحلة حساسة، وتستلزم عملا مضاعفا من طقوس الأسرار المقدسة، إضافة إلى إرساء مذهب ذي صبغة عقلانية، أي شريعة. فهل من اللازم التوضيح أن العشاء الرباني للفصح لم يعش يقينيا إلا مرة واحدة مع يسوع وحواريه. ولعيش ما أصبح ذكرى يجب المرور من الحادثة إلى الطقس. إذا كان الإيمان يرى في هذا الطقس تعبيرا عن اتحاد الحواريين مع بعضهم ومع الرب، فمن اللازم القيام بطقوس الأسرار وإحداث العلامة، والتي ستكون في نفس الوقت إيجابية وموضع سر، لأجل إدخال الإنسان في اتحاد مع الله، مكررين الفعلة، التي جعلت منها حدثا مترسخا في زمن التاريخ الأول لجماعة الحواريين، بهذه العملية الطقوسية، تتجلى المنة الإلهية لإرساء اتحاد الإنسان مع الله. ولكن من اللازم أيضا تحديد شخص معين ومفضل نوعا ما والذي سيكون الواسطة والمنظم للشعيرة. فيظهر الكاهن كنتيجة سوسيولوجية لكل موضعة للدعوة، فهو نموذج سوسيولوجي أساسي، إذ أنه الواسطة بين الله والإنسان.

فكل وساطة تتطلب إتماما دقيقا، إلى جانب الممارسة الشعائرية والمعرفة بالطقوس، والتي ليس لها شبها بما يفعله الساحر، فالكاهن المسيحي كنظيره اليهودي لا يلزم الألوهة بفضل طقوس لأجل إتمام الرغبات الإنسانية، بل بالعكس يخضع مشيئته لله، فهو يقدم شكره له وشكر الناس الناطق باسمهم، وهو ينذر حياته للقيام بالصلوات والكارزم المذهبي، وكذلك فهو الساهر على الطقوس القربانية. ولكن بفضل ماذا هو الوسيط؟ فهل هو بسبب قداسة شخصية؟ فإذا كان بالإيجاب فبحسب أية معايير يتحدد ذلك؟ أو ليس بالضبط بسبب انتمائه لهيكل مخصص ومحدد من طرف الكنيسة، التي حولت الطابع الإلهي والمقدس للموضوع الفردي إلى المؤسسة الموضوعية للخلاص المالكة للنعم والحقيقة؟ فإذا ما تمت الوساطة بفضل الوجود العضوي للكنيسة وليس بفضل مزايا شخصية، فإن كل مسألة السلطة والكاريزم قد طرحت.

نعرف أن مصطلح كاريزم –Charisme- قد وقع إدخاله، في علم الاجتماع بفضل ماكس فيبر، للإشارة للمقدرة المميزة في ممارسة سلطة ذات أساس مقدس على الغير. يتضح أنه من اللازم، كما في التحليل السابق، التمييز بين كاريزم شخصي ذاتي، ذلك الذي يعود لمعلمين روحيين مؤسسين لأديان، كيسوع، بوذا، ومحمد، وكاريزم موضوعي متعلق بدور وظيفي.

فالأول جبلي والثاني خلاف ذلك. يحوي الأول شيئا يستعصي على التحليل، نوعا من القوة الهادرة التي تغمر الفرد غصبا عنه، ليست شبيهة بقوة العشق المتنافر الجانبين ولكن بقوة نداء لا نجد منه مفرا، شبيه بأمر صيادي بحيرة طبرية التاركين لشباكهم وقواربهم واللاحقين بيسوع، أو حواريي بوذا الأوائل "الذين دخلا في نوره منادين: لا ملجأ إلا إليك.. في كل الأرجاء سننشر دعوتك..". الثاني ليس ذلك المتعلق بالنبي المسكون بالروح والمؤمن بدعوته وبقيمته كزعيم ديني. ولكن ذلك الموظف للمقدس، الذي يملك سلطات من جراء سدانة طقوسية أنعمت عليه بها الكنيسة، كي يسير إجراءات طقوس أسرار مؤمنة للوساطة بين الله والبشر.

وبالإضافة إلى ضرورة تطورها لأجل الاستجابة لمتطلبات دعوتها الكونية، فإن الجماعة الصفوية المتشكلة في كنيسة والهادفة إلى أن تصبح "مؤسسة جمهور"، باستعادة تعبير أ.ترولتش، يستعصي عليها أن لا تكون لها مع العالم علاقات إيجابية، سواء في الجانب السياسي أو الاقتصادي، إذ في المرحلة الأولى فحسب بإمكانها تجاهل العالم والعيش منزوية على نفسها.

ففي كل حقبة محددة، والتي تتجدد في الواقع مع كل جيل من الأتباع. فإن على الكنيسة أن تحدد موقفها أمام الثقافة التي تحيا فيها، إذن إنه وفاق ثابت. أو ليس تاريخ الأخلاق المسيحية في النهاية لا يزيد عن كونه بحث دون توقف عن وفاق مع العالم، وفي نفس الوقت لصراع متجدد ضد تلك الروح من الوفاق؟ ببلوغنا تلك النقطة من التحليل فإننا سنستعيد بنفع فكرة الفيلسوف الرواقي حول نسبية القانون الطبيعي، الفكرة التي ضمنتها المسيحية في قصة العالم "بعد السقوط"، خلال الحياة الأرضية، أي حياة المسيحي في العالم. أي الخضوع للقوانين والسلطات وللقوة، للحدوث الفجئي للحرب وللملكية الخاصة، إلخ. كل هذه الأمور معتبرة بمثابة النتائج وأحيانا بمثابة العلاج للخطيئة. أين يحدد البحث عن الوفاق خلقا على مستويين: ذلك المتعلق بالطبيعة وذلك المتعلق بالنعمة، أو للحديث بمصطلحات سوسيلوجية، ذلك العائد لأخلاق العالم وذلك العائد لأخلاق القديس.

ففي كنيسة الجمهور تبدو مسألة السلطة أساسية. إذ يظهر المؤسسون بمثابة المتحررين من مستلزمات القانون الديني السابق، فهم ممثلو الحرية، وبفضل كاريزميتهم الذاتية يجعلون من سلطانهم الروحي أمرا ذا سيادة. والمسألة المطروحة أمام خلفائهم تتمثل في مأسسة تلك السلطة بتبليغ كل الرسالة الروحية. أيضا إن الجماعة الأولى متيسر اختزالها في علاقات المعلم-الأتباع، بحسب السياق الكلاسيكي لورثاء السلطة، حيث الانتساب المذهبي يضفي مشروعية على سلطة الخلفاء. فبتحويلها للمؤسسة الموضوعية التي تشكلها بنفسها، القدرة على الخلاص، والوساطة مع الإلهي، وتأويل الرسالة، فإن الكنيسة تمارس سلطة روحية مستقلة عن أي قوة بشرية. فهي تملك حقيقة يقينية، إذ تمارس سلطة عقدية نافذة، إذن فهذه الحقيقة المتكاملة والمعروضة كونيا لأناس من كل الأزمنة هي التجلي للدعوة العالمية للكنيسة. إذ يتحتم أن تعرض تحت شكل إلزامي وثابت كإيمان للجميع، وهذا يستدعي بوضوح أن كل إنسان عليه أن يستدرج نحو معرفة رسالة الخلاص، وأن كل فرد عليه أن يوضع على اتصال مع خطاب الله. فكل جوهر الرسالة يوجد محتويا منطقيا في تلك الدعوة الكنسية. ولكن أيضا بحسب العلاقات التي ترسيها مع العالم السياسي، عبر شتى الانحرافات عن ذلك المثال الرسالي، من فكرة الحروب الصليبية حتى النداء للسلطة المدنية. فالسلطة الكنسية في بث وتأويل الرسالة تبدو في الغالب، تاريخيا وسوسيولوجيا، شديدة الارتباط بإجراءات إكراه.

نستطيع إذن تحديد الخطوط الأساسية للكنسة كواقعة اجتماعية-دينية: شكل من التنظيم للدين ذو نزعة دعوية عالمية، فهي تمثل انتهاء منطقيا لسياق المأسسة. فهذا الانتهاء قد وقع الارتقاء به بواسطة رؤية ترى في الكنيسة أنها هي التحقيق على المستوى الأخروي للمجتمع الخالد، للمملكة المستقبلية، فهي تتقدم تحت نموذجين اثنين، ذلك المتعلق ببنية جماعية مبشرة بالتقوى والإيمان بواسطة مؤسسات معينة ومحددة تشريعيا. فهذه البنية محفوظة ومضمونة بواسطة سلطة موضوعية إلزامية كما هي أيضا وساطية. فهي تجعل حدودا لتمظهرات كل فردانية دينية، وأيضا وساطية، وفي نفس الوقت فهي تعجل بخطر التحول إلى نظام مؤسس يوشك أن يخفي الطابع الروحي للرسالة الأصلية ويوشك أن لا يستجيب لآمال الأتباع. فالأزمة التي تجتاح الكنيسة الكاثوليكية حاليا في جزء من العالم الغربي تشهد على ذلك بوضوح. أما الطابع الثاني والأكثر أهمية، وهو السمة القدسية لتلك البنية الكنسية، حيث تتجلى سوسيولوجيا كمجتمع بشري، ينظر إليها وكأنها مؤسسة مرادة ومسيرة من طرف الله، فهي قد حصلت منه على السلطة، والمقدرة على توزيع الخلاص والنعمة في العالم. إذن فهذا الطابع القدسي يضفي الخصوصية على الكنيسة: فـ"خارجها لا خلاص" بحسب المقولة الشهيرة، مما يلزم عدم إصدار أية معارضة بشأنها، إذ أنها تشارك في الطابع القدسي لمؤسسها فهي وحدها التي تستطيع أن تسمح بولوج الخلاص بفضل النعمة التي تسديها، وكذلك بفضل المعرفة بعقيدة سماوية مؤتمنة عليها. كذلك نلاحظ منذ الجماعة الأولى، تشكل منظومة عقلية تعمل على موضعة وإدراج الحدث الروحي في سياق سوسيولوجي. فمقولة الأرثوذكسية أصبحت ملازمة للكنيسة، إذ تبليغ الرسالة والتبشير العقدي هما من مشمولات السلطة الكنسية. وبذلك فإن بنية الكنيسة تجذب كل الاحتجاجات والانتقادات الممكنة باسم الحرية والفردانية الدينية.

فكل المسألة تتمثل في النهاية، في معرفة ما إذا كان جوهر الكنيسة يمكن أن يختزل في مستوى مقولة اجتماعية-تشريعية، تتحدد معا، بقانون ولاهوت مقدس، متجل في مجتمع ما، عبر مؤسسة دينية عامة من اللازم الانتساب إليها حتى تتم النجاة؟ وبأشكال أخرى فهل من المتيسر تحديد تلك البنية بصفتها سلطة وإكراها باعتبارها شرطا ضروريا وكاف؟ أو بالعكس هل من الممكن التساؤل ما إذا كانت الكنيسة ليست سوى شكل من مجتمع ديني مؤسس بفضل معلم روحي، ومنظمة بحسب قانون داخلي-كنسي، قرآني، أو غيره-، وفي نفس الوقت وبدرجة أكثر، هل هي جماعة مؤمنين مجمعين لتشكيل وتكوين وحدة دينية، دون كلل، كل ذلك تحت أمر الله الحاضر دوما فيها؟ فالكنيسة تتحدد بدءا بلاهوت كنسي، وتدرك على أساس أنها بنية وساطة حية.

مهما كان –فليس التحليل السوسيولوجي المعني بمفرده للإتيان بإجابة لتلك الأسئلة- فتطور جماعة روحية ذات صبغة صفوية إلى كنيسة جمهور يبدو أنه غير متيسر التحقيق في الزمان والمكان إلا عبر سياقات اجتماعية. فكل اقتصاد نجاة هو جماعي في امتداده وشعبي في غاياته. إذن فهذا لا يمنع طرح العديد من المسائل التي تنتمي إلى اللاهوت لأجل حلها، مثل، هل الإيمان الديني هو فعل فردي أم فعل ذو صبغة جماعية؟ طبعا فالمسعى الأساسي هو بالضرورة التحام شخصي مع خطاب، ولكن هذا الأمر، أو ليس معلنا ومعلما في سياق جماعي؟ فهل من اللازم الإقرار بأن كل إيمان ديني يتطلب بنية كنسية للتطور، إن الكنيسة تقدم للناس موضوع الإيمان وأيضا فهي تحضر بنفسها لأتباعها في موضوع ذلك الإيمان؟ إذن فعلم الاجتماع بإمكانه أن يطرح سؤال، ما إذا كانت الظاهرة، الكنيسة، تعبر بكل موضوعية عن قيم عالم روحي كمي، أي قابل للقياس؟ فهل هناك عالمان أو وجهان لواقعة حية بعينها، أين يظهر تطابق أنطولوجي بين مجتمع ظاهر وجماعة صوفية؟ فالوجه الداخلي الخفي للكنيسة، لجماعة مسيرة بالروح، أو لا يمكن أن يفصل عن وجوهها الخارجية الاجتماعية والقابلة للحصر؟

د – بنى التنازع: النحل

تولدت بنية الكنيسة بأعداد مختلفة عبر العصور عن أشكال أساسية أخرى لنماذج أكثر تحررا، نابعة في ذلك عن رفض للكنيسة وعن ردود فعل خصامية، تجاه نظام ديني، معتبر بمثابة السالب لكل حرية دينية شخصية، ويقدر في نفسه أنه المكان المقدم والنموذجي للصلات بين البشر والله.

فمن خلال رفض العالم، والوفاق الدائم بين هذا الأخير والدين يقع تشكل النحلة، التي من المهم حصر الدواعي التي تدفع بها للانفصال عن البنية الكنسية. فهذه القطيعة يمكن أن تكون راجعة لنقد للطابع الموضوعي للإيمان الديني المعروض من طرف الكنيسة، أو عائدة لنقد للشعائر، أو أيضا لكل النشاطات الوسائطية بين الإلهي والإنساني، باسم عودة ممثلنة نحو نقاوة بدئية، أصلية، جنينية، لجماعة روحية تؤمن بكاريزميتها.

نرى أن مثل هذا الموقف يقود بسرعة، لرفض كل طقسية للأسرار، ولإلغاء كلي للاهوت المصاغ سلفا. وباعتقادنا أن ذلك الأمر ليس محصورا بالكنائس المتولدة عن الإصلاح الديني، ولكن نجد ذلك أيضا في البوذية الرافضة لشعائر التطهير والأضحية البرهمية. فتلك الرغبة للعودة للنقاوة الأولية تستدعي وجود مثال، كرد فعل ضد مختلف التشوهات المشيدة عبر الزمن، وضد كل التشويهات اللاحقة بنموذج القداسة، المحتوى في الرسالة الأصلية. فكل نحلة ترى نفسها بمثابة الجماعة المقدسة، الواعية والموحدة، حيث القداسة تكمن في الجهد الديني العملي والفردي، وليس كما هو في الكنيسة، عبر التقديس للمؤسسة العارضة للنعم الإلاهية للبشر. إنه بالإمكان سوسيولوجيا، الكلام عن النحلة، منذ اللحظة التي تتشكل فيها مجموعة من المؤمنين، مؤمنة بقدراتها، خارج البنى المؤسساتية، ومنذ أن ترمي لأن تكون مجموعة الأطهار والقديسين الوحيدة، أو بكل بساطة منذ أن تتموضع "في السياق التاريخي". ذلك أن عملية التفكيك لها لأمر صعب، إذ يجب الملاحظة على الأقل، أن ذلك الطابع الانتقائي للنحلة يبقى حادثا في مرحلة قبل كنسية، حيث تشكل بدرجة أقل لاهوت عقلي، لا أن تبني أخلاقا صارمة أو متسامحة، وعائشة على وهم أسطوري كما على أمل كبير في الزمن القادم.

بهذا الأمل في إنجازات مؤيدة للقطيعة، من اللازم عدم الاستخلاص وبكل سرعة، أن الأمر لا يتعلق إلا بترجمة، في مستوى التعبير الديني، لصراع طبقي تختلف درجة الوعي به، ولا أيضا لعدو إشباع للحاجات المادية الأساسية. فمثال الكاميزار السيفنول(*) Camisards Cévenols يبين بجلاء، تعذر الإدراج، كسبب أساسي لثورتهم ضد الكنيسة القائمة، لعامل الأزمة المادية الحادة، ولكن التعليلات الواقعية من اللازم بحثها في حالة النقص الثقافي المحسوسة بحدة، والتي يبدو ردعها بالتدقيق بالعون المباشر للروح المتجلية عبر ظواهر نبوية، وبفضل المعاجز. فملحمة السيفنوليين تتنزل عبر إحساس نفسي جماعي بالامحاء الثقافي، فقد كانت مدفوعة في جزء منها بشعور غامض من الإحساس بالذنب، ناتج دون شك عن إيمان متمحور بشدة حول الخطيئة الأزلية ونتائجها. فلا شيء في الجذور والدوافع العميقة يسمح بإرجاع ذلك التنازع الديني والسياسي إلى مجرد تفسير اقتصادي صرف، كأمر مثال الدوناتية الإفريقية(*)، التي حللت مجددا بفضل مؤرخين ماركسيين أرثوذكسيين، والتي لا يمكن أن تدمج في صنف البروليتاريا الريفية الأهلية، حيث غذى البؤس وولد حركة احتجاج تجاه كنيسة رأسمالية رومانية[xviii][18]. إذ تظهر التحليلات التاريخية والسوسيولوجية بوضوح، أن النحل تتطور بصورة إرادية في واقع اللااتزان. ولكن هذا الأمر ذو طابع اجتماعي ثقافي أكثر منه اقتصادي، فالانتشار المعاصر لشهود يهوه في الشمال الشرقي لفرنسا يجري في أوساط مهترئة للمهاجرين، حيث الطابع الشعبي للمسيحية الإيطالية والبولونية قد هيأ المرور للنحلة. بصورة أكثر عمومية، ندرك أن النحل قد أخذت البدل عن الكاثوليكية، في أوساط، أين الشرائح الاجتماعية لم يلحقها أي أثر من هذه الأخيرة، فالأمر يجري وكأن "هجوم النحل" تعبير عن انحسار للمسيحية. ظاهرة مماثلة تنتج في الدول ذات الثقافة الدينية العتيقة، والمتحولة مع التوسع الاستعماري إلى دول تبشير، وأين كان الاهتراء للثقافة التقليدية سريعا. إذ النحل الدينية التي تطورت فيها هي تقريبا دائما ذات طابع ثوري أو إعجازي. وهذا النموذج الأخير يدمج في تجربة التنازع للشعائر السحرية القديمة. فتعدد النحل الإشفائية بين آخرين يفسر بكونها تحقق نوعا من التركيب، بين تراث سحري محلي وبين تقليد مسيحي يؤمن بالمعجزة.

فالوسط السوسيولوجي له أهمية أساسية في تفسير تطور النحلة، فكل الجهد التحليلي المبذول من طرف هـ.ريتشارد نيبور اهتم بإبراز التأثير الفعال للعوامل السوسيولوجية بشأن الانفصال والاختلاف، لنحل من الكنائس المسيحية[xix][19].

فنيبور كان أول عالم اجتماع يؤكد على الدور الذي تلعبه العوامل اللاهوتية في ظاهرة التنازع للنحل مع الكنائس، ويجدر القول أنه إضافة لأسباب الانشقاق ذات الطابع اللاهوتي والخطي الصرف، فمن اللازم التنبه لأجل تحليل أكثر إلمام بالظاهرة، لتأثير وسائل الاتصال الجماهيري، إضافة إلى تحسن ظروف حياة التجمعات الشعبية المحرومة، وكذلك اندماج النمط الخاص لحياة المهاجرين ضمن ثقافة جماعية شاملة.

كذلك، فإذا ما كانت كل نحلة تشكل مجالا مميزا ناشطا وخلاقا لقيم خاصة ويصعب تحديدها بصورة عامة، فكيف يتسنى إذن فهم تلك الظاهرة معا، بصورة داخلية كما هي معيشة، وبصورة خارجية، مع خطر المجازفة بتعميق طابعها الخاص، ذلك الذي يتعلق ببنية التنازع؟ أنقوم بإرساء مقاربة اجتماعية-ظواهرية والتي نبني فيها من خارج، واقعة جماعية معيشة من داخل، أم أننا نكتفي بتأويل ذاتي شامل يكشف عن انزلاقات باتجاه الذاتية والقناعة الخاصة. فإذا كانت العلاقة الأولى للنحل مع الكنائس تؤكد قيمة التحليل السوسيولوجي فإنه يلزم على الأقل تجاوز نقيض الأطروحة نحلة-كنيسة، لأجل فهم أكثر شمولية لذلك العالم الخاص ذاك المتعلق بالمنشق.

يمكن أن يؤسس موقف النحل في مواجهة العالم معيارا هاما لإرساء التصنيفية، فقد قام بريان ولسون بتمييز سبعة أصناف أساسية من النحل: الإرشادية، الثورية، التقوية، الإشفائية، الإعجازية، الإصلاحية والطوباوية[xx][20]. ولكن أية تصنيفية من اللازم مراجعتها بصورة مستمرة، لأن موقف النحل أمام العالم يتطور بحسب تاريخها الخاص. فنحلة الكايكر الثورية في بداياتها، تحولت إلى تقوية وانطوائية خلال القرنين (XVII وXVIII) منتهية إلى تبني موقف إصلاحي، فبإمكاننا أيضا تصور معايير أخرى للتحليل أكثر عقدية أو أكثر نفسانية[xxi][21]، سعيا لتمييز أصناف من البشر، أو للبحث لإرساء رابطة بين عالم النحل وبين اللاامتثالية الدينية. فإذا ما انفصلت نحلة منضوية تحت كنيسة، على إثر ثورة، أولا تتواجد روابط بين تلك النحلة واللاامتثاليين المصنفين من طرف ج.لوبراك "منشقين" و"خوارج" و"انفصاليين" أي هامشيين أمام الكنيسة-الأم؟ يبين التحليل المسوق من طرف هـ.دسروش H.DESROCHE بشأن الحالة الدينية الفرنسية أنه إذا ما كانت اللاامتثالية نابعة من فعل انشقاق، وبالإمكان أن تشكل ميدانا خصبا لتوالد النحل، فإن الظاهرة ليست مع ذلك مماثلة بكل حدة. فاللاامتثالية ليست غالبا مدفوعة برغبة في إعادة خلق جماعة دينية ناشطة، إنه لا يسع إلا دراسة كافة الأشكال الفاعلة أو دون ذلك للانشقاق الديني، إذ هي ضرورية لكل من يريد ضبط الحدود التقريبية بين الدين المبشر به والدين المعيش واقعيا[xxii][22]. كما ذكر ذلك عديد المرات ج.لوبرا أن علم اجتماع اللاتدين يشكل حقلا أساسية لكل علم اجتماع ديني.

يعرف أ.ترولتش النحلة بكونها جناح مستقل من "الفكرة" الدينية، تتطور بالمقابل، ولكن أيضا بالتوازي مع "فكرة" الكنيسة، فهي تشكل نموذجا ليس كمثله شيء، إذ تبقى مهمة الاختبار التاريخي والسوسيولوجي هي التي تبين الفروقات الدقيقة بينها إلى ما لا نهاية. كما لاحظ ذلك بدقة بريان ولسون، حيث المعطيات التجريبية في هذا الفضاء أكثر غنى من النماذج، إذ "يتمثل دور علم الاجتماع في تيسيره لنا الأخذ بتلك التشكلات كخلاصات للواقع، لأجل صياغات تسمح بوعي العالم برمته"[xxiii][23]. ففي تحليل عالم النحل، المجال المميز والمقسم إلى وحدات أصلية، حيث كل واحدة تملك آثارها الخاصة وتوحي برؤية خاصة للعالم، وعبر البحث عن الثوابت والحالات الموازية وعن القوانين المشتركة للتطور، فإنه لا ينبغي أبدا أن يخفي الواقع المعيش للتعددية الدينية، ولعله الأكثر إلحاحا من ذي قبل إذ روح النباهة لا ينبغي أن تمحي لصالح نظرية نسقية.

إنه لا ينبغي أن يحصر علم اجتماع الأديان في التأملات المحددة سابقا، إذ العديد من المسائل التي ينبغي طرحها والتي يلزم إثارتها، ليست سوى علاقات بين المنظومات الدينية الكبرى والجماعات العلمانية، كذلك الدور المنوط بهذه الأديان في إرساء علاقات اجتماعية بين البشر[xxiv][24].

من ناحية أخرى فإن علم الاجتماع الديني بما حبى به المسيحية من تحليل، لا ينبغي أن ينشر أي وهم، فقد كان لابد ولأسباب تقاليد ثقافية ولأجل دواعي تطبيق رعوية أن يفتح قطاعات شاسعا للبحث، ذلك المتعلق بالتحولات الدينية الجارية في المجتمعات الموسومة البارحة بالبدائية، والتي تعرضت لتأثير الرسالات الروحية الحديثة، فانبنت حولها أشكال من التوفيقية، حيث جانب الشروط الاجتماعية الثقافية بليغة الأهمية أكثر من العوامل الدينية الصرفة[xxv][25].

فوفرة دراسات علم الاجتماع الديني، ونشاط دوائر البحث والمجلات المختصة[xxvi][26] تشهد بأهمية مناهج التحليل السوسيولوجي لفهم الظاهرة الدينية. وهكذا فإن علم اجتماع للأديان هو جزء مكمل وآلة ضرورية للفهم، من أجل علم أديان حقيقي.

(*) النص مقتطف من مؤلف Pour une science des religions للباحث والأستاذ الفرنسي Michel MESLIN .


[i][1] - هذا التصور صاغ حوله ج.مانشينغ G.Menching كتابه:
Sociology religieuse, tr. Fr. P Jundt, Paris, Payot, 1951.
[ii][2]  - La Morale économique des grandes religions, essai de sociologie religieuse comparée, parue dans : Archiv Für sozialwissenschaft, 41-46, 1915-11919, tr. Fr. Rubel, Archives de sociologie des religions, 9, 1960, p7 à 30.
[iii][3]  - L’institution chrétienne in Fine, 1539.
[iv][4]  - Messiamismes et Utopies, notes sur les origines du socialisme occidental, Archives de sociologie des Religions, 8, 1959, p31 à 46.
[v][5]  - op. Cit., p37.
[vi][6] - نظرا لضيق المجال أشير إلى الجرد الذي قدمه:
S.N.Eisenstadt : « Some Reflections on the signifiance of Max Weber"s Sociology of Religions ofr the Analysis of non European Modernituy » Archives de sociologie des Religions, 32, 1971, p29-52.
[vii][7]  - Parue à Tübingen en 1912, tr. Angl. The social teaching of the christian Church, London, 1931.
أما في الفرنسية فقد وقعت ترجمة الخلاصات فقط مسبوقة بدراسة لـ:
J.Séguy, Ernst Troeltsch et ses socialleheru, Archives de sociologie des Religions, 11, 1961, p1 à 34.
[viii][8]  - Michel Meslin, Les Ariens d’occidetns, Paris, le seuil, 1967, p351-2.
[ix][9] - نجد ببلوغرافية ج.واش مصاغة من طرف:
J.Kitagawa, Fr. Heiler et le Dr. Neumann, dans Arch. Soc, 1, 1956, p64-69.
[x][10]  - Sociology of Religion in 20th Century sociology, ed G. Gasdorf, New York, 1945, p434, Tr. Fr. Paris, PUF, 1947.
[xi][11]  - Sociology of Religion, p.s, tr. Fr., p10.
[xii][12] - كما الأمر في كتابه:
Sociology of Religion, que dans, types of Religions Experience, Christian and non christian, chicago university Press, 1951, voir par exemple :
H. Deoroche, Arch. Soco. Rel, 1, p41 à 63, repris partiellement dans sociologies religieuses, Paris, PUF, 1968, p51 et s.
[xiii][13]  - Sociologie de la religion, p351.
[xiv][14] - إنه لانتشاء لدي تحية ذكرى هذا المعلم الذي شرفني باهتمامه الأخوي، انظر كتابه:
Etudes de sociologie religieuse, Paris, PUF, 1955-1956 et les Actes du colloque européen de sociologie du protestantisme, 1959, publi és dans Arch. Soc. Rel, 8, 1959, p5-14.
انظر بالإضافة الأثر الذي نشر بعده: L’Eglise et le village
[xv][15] - بالمثل فهل يمكن وعي المنعرج الذي اتخذته اليهودية الفرنسية بعد استقلال الجزائر، ليس فقط تطور عدد تلك الجالية إلى ثلاث مرات، ولكن التغيرات الاجتماعية الثقافية الجلية الوضوح، مع تفوق للعناصر السفاردية والظهور لبنى دينية ومؤسسات خاصة بها (بيع، مدارس، إلخ).
[xvi][16] - أنظر حول هذا الموضوع التحليلات الحديثة لـ:
H.Desroche, A.vanchez et J.Maître, sociologie de la sainteté canonisée, Arch. Soc. Rel, 30, 1970, p91.
كذلك من نفس الصنف دراسة المواقف الجماعية أمام ظاهرة الموت:
cf. Ph. Ariès « la mort inverse, le changement des attitudes devant la mort dans les sociétés occidentales » Archives européennes de sociologie, VII, 1967, p189-195.
[xvii][17]  - J.Wach, Meister und Jünger, zwei religions soziologishe Betrachtungen, Tübingen, 1925-G. Le bras, ‘’La place de l’ascétisme dans la sociologie des religions’’ Arch. Soc. Rel., 18, 1964, p21 à 26.
(*) اسم أطلق على الكالفينيين (المترجم).
(*) نسبة إلى أسقف قرطاج دونا –القرن الرابع ميلادي- (المترجم).
[xviii][18] - أدرجنا توضيحا حول تلك النقطة في:
‘’A propos du domatisme’’ Arch. Soc. Rel., 4, 1957, p143 et s ‘en collaboration avec P.Hadot), et surtout dans : ‘’Nationalisme, Etat et Religions’’ Arch. Soc. Rel., 18, 1964, p3 à 20.
[xix][19]  - The social sources et denominationalism, New York, 1929.
[xx][20]  - ‘’Typologie des sectes dans une perspective dynamique et comparative’’, Arch. Soc. Rel., 16, 1963, p49-64 et les sectes religieuses, Paris, Hachette, L’univers des connaissances, 1970, p36-47.
[xxi][21]  - L’analyse d’E.G. Léonard sur : le protestant français est un modèle, Paris, PUF, 1953.
[xxii][22]  - H.Desroche, ‘’Approches du non-conformisme français’’ Arch. Soc. Rel., 2, 1956, p45-54.
[xxiii][23]  - Op. Cit., p35.
[xxiv][24] - هذا التصور صاغ حوله ج.مانشينغ G.Menching كتابه:
Sociology religieuse, tr. Fr. P Jundt, Paris, Payot, 1951.
[xxv][25] - كمثال على ذلك:
V.Lanternari, les mouvements religieux des peuples opprimés, Paris, Maspéro, 1962, et R.Bastide, les amériques noires, Paris, Payot, 1967, ch. 5, 6 et 7.
[xxvi][26] - في فرنسا نشير إلى:
L’institut des sciences sociales des religions, ex-groupe de sociologie des religions, et sa revue, souvent citée, archives de sociologie des religions.