تأثير ابن خلدون في العلماء الغربيين ـ أ . د . عبد الجليل غزالة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse14112    عتبات الموضوع
    يُجَسِّدُ كتاب ( مقدمة ابن خلدون ) إنجازا علميا متميزا بالنسبة للعلماء الغربيين ، لأنه خلق بين ظُهْرَانَيْهِمْ ثورة منهجية وجعلهم يركزون على الجانب العقلاني المنطقي الذي كان مهملا عند أسلافهم ، كما أنه يمثل البداية الفعلية لعلم الاجتماع والعمران ، إذ إن صاحبه قد وظف فيه مفاهيم متفردة ما زالت لحد الآن محطَّ الاهتمام والبحث في شتى بقاع المعمورة .
    لَقَدْ كان العلاَّمة عبد الرحمان ابن خلدون مُوَلِّدًا في إبداعاته ، حيث عالج قضايا مهمة طبعت عصره ، مع العلم أنه عاش في فترة تاريخية شهدت تدهور وانقسام العالم الإسلامي ، الأمر الذي دفعه إلى الاهتمام بالجانب الإصلاحي ، وتغيير منظومة الفكر التربوي ، والسياسي ، والاقتصادي ، وروح المواطنة...
  اِسْتَفَادَ عدد كبير من المفكرين ، والمستشرقين ، والمؤرخين الغربيين من أعماله ، وتأثروا بفكره وانبهروا به ، لكنهم انقسموا الى طائفتين متنازعتين حول هذه الأعمال المتفردة :
   أ _   طائفة معارضة : جرَّدت الرجل من هويته العربية وعقيدته الإسلامية ، زاعمة أن العالم العربي والإسلامي لا يستطيع إنجاب عالم من طينة ابن خلدون رغم كثرة النماذج المشرقة كابن النفيس ، وابن الهيثم ، والبيروني ، والرازي ، والكندي ، وابن سينا ، والفارابي ...
   ب _  طائفة مؤيدة : اعترفتْ بعلمه ، ومجدت أعماله واستشهدت بها في أكبر المحافل ، والمجالات ، والدوريات ، والمصنفات العلمية والثقافية .


العلامة المسلم الذي ملأ دنيا الغرب المسيحي وشغل علماءه
   يُعَدُّ ( جاكوب خوليو ) أول عالم غربي تأثر بابن خلدون ، حيث تتبَّع عام  1636 م في كتابه ( رحلات ابن خلدون ) فكر هذه الشخصية المسلمة الفذَّة ، وقد ترجم ( بيير فاتيف ) عام 1658 م هذا الكتاب إلى اللغة الفرنسية ، وفي عام 1767 م ترجمه ( صامويل مانجر ) إلى اللغة اللاتينية . أما ( سيلفستر دو ساسي ) فقد تطرق في بعض أعماله إلى عدة أبواب وفصول من ( مقدمة ابن خلدون ) ، وقام المؤرخ النمساوي ( هامر بورشتيفال ) عام 1812 م بترجمة بعض كتب ابن خلدون إلى اللغة اليونانية ، ونعته ب(( مونتيسكو العرب )) ، كما أنجز الفيلسوف الفرنسي (ماك كاكين دو سلان) عام  1868 م عملا متميزا عن هذا العلامة .
    نَشَرَ المؤرخ اليوناني ( ديميتري يورغولي ) عام  1977م  بالعاصمة أثينا كتابا عنوانه ( فلسفة التاريخ ) ناقش فيه مشكلة المجتمعات البدائية بالاعتماد على أفكار ابن خلدون في هذا المجال  ، كما قدَّم ( جورج فلاخوس ) عميد جامعة ( بانديوس ) وأستاذ مادة العلوم السياسية عام   1976م  كتابا عنوانه ( مدخل الي العلوم السياسية ) ركز فيه على دور العامل الاقتصادي عند ابن خلدون ، ومسيرة حياته الاجتماعية ، علاوة على معالجته لموضوع ( حبُّ البقاء ) لكنه أغفل شرح دور العصبية في ذلك . أبدى هذا الأستاذ الجامعي إعجابه الكبير بابن خلدون ، لكنه لم يستوعب عمق فكره وخصائصه ومقاصده ، وهذا هو المشكل الذي نجده عند أقلية من العلماء الغربيين الذين لم يدركوا مفهوم (( العصبية )) التي ترتبط بالفضاء الزمكاني في اللسان العربي ...
    رَاجَ اسم ابن خلدون في أكبر الجامعات الغربية التي تهتمُّ بمجالي علم الاجتماع والفلسفة ، كما شاع منهجه في جامعات أوروبية أخرى في إسبانيا ، وفرنسا ، وانجلترا ، وألمانيا ، واليونان ، وما زالت النقاشات والأطاريح حوله متواصلة لحد اليوم ...لقد ملأ هذا العلامة المسلم الدنيا ، وشغل العلماء في الغرب المسيحي .

تأثيره في العلماء الإسبان
   يَنْعَتُ الفيلسوف الإسباني الكبير ( خوسيه أورتيغا أي جاست) ابن خلدون ب( فيلسوف التاريخ الإفريقي ) ، كما يرى أن (( المقدمة )) تعدُّ من حيث الزمن أول كتاب يؤلَّفُ في مجال ( فلسفة التاريخ ) . يذكر المستشرق ( بونس بويخس ) أن عبد الرحمان ابن خلدون يمثل شخصية متميزة في كتابة ( التاريخ الفلسفي ) القديم . أما المستشرق ( ريبيرا ) فيرى أنَّ هذا الرجل العربي قد أنجز أعظم إنتاج تاريخي في العلوم الإسلامية ، ويؤكد المؤرخ ( رافائيل ألتاميرا ) أن كتاب (( المقدمة )) قد وضع أسس نظرية الحضارة الفعلية الشاملة ، كما يسهب في تقدير ابتكارات ابن خلدون وقيمته العلمية ، وقوته العقلية ، وابتكاره الهائل .
     يُصَنِّفُ ( استيقان كلزيو ) ابن خلدون ضمن رواد فلاسفة التاريخ والاقتصاد والاجتماع ، لأن نظريته عن حياة المجتمع قد جعلته من أوائل فلاسفة التاريخ ، كما أن تركيزه على الدور الذي يلعبه العمل ، والملكية ، والأجور قد خوَّله أن يصبح أحد مؤسسي علم الاقتصاد ، علاوة على ريادته في اكتشاف مبادئ العدالة الاجتماعية ، والاقتصاد السياسي في القرون الوسطى متجاوزا بذلك العالم ( كونسيدران 1808- 1893) ، و ( كارل ماركس  1818- 1883) ، و ( باكونين  1814-1867 ) .

تأثيره في العلماء الألمان
    يَرَى الباحث الأكاديمي ( ويفرد ناتانيل شميث ) أن ابن خلدون يمثل أكبر مؤرخ اجتماعي وفيلسوف ، وقد وازنَ بينه وبين عدة مؤرخين عالميين أمثال ( تيودور ) الصقلي و ( نقولا ) الدمشقي ، و ( تروجويومبيو ) أحد كبار مؤرخي القرن الأول الميلادي، و ( جاتيرر) و ( شلستر ) اللذين يعدَّان من مشاهير المؤرخين في القرن  18م ، كما يؤكد هذا الباحث أن ابن خلدون يعدُّ مكتشف ميدان التاريخ الحقيقي ، لأنه أول من عالجه كعلم يختصُّ بدراسة الحقائق . إن هذا الرجل يمثل فيلسوفا مسلما متميزا يضارع ( أوجست كونت ) ، و ( توماس بكل ) ، و ( هربرت سبنسر ) ...
   يَذْكُرُ المؤرخ ( فون فيسيندونك ) في بحثه المنشور بمجلة ( دويتشه رونتشاور ) أنَّ ابن خلدون يعدُّ بالفعل مؤرخ الحضارة العربية الإسلامية في القرن الرابع عشر، كما يشيد هذا المؤرخ بمبادئ هذا العلاَّمة العربي الذي يدعو إلى التأمل الصادق الدقيق ، حيث يرى أنه ينتصب وحيدًا كمؤرخ للحضارة الإسلامية العظيمة في المشرق ، ولم يعقبه أي خلف أو ينحو نحوه أي باحث ، إذ إن ميوله كمفكر سياسي إفريقي تتجلَّى من خلال تحليله للأحداث والوقائع المتنوعة المشكلة لموضوعاته التي مازال صيتها ساريا في جل الديار والأمصار الغربية .

تأثيره  في العلماء الإنجليز
   يَتَعَرَّضُ المؤرخ البريطاني الكبير ( أرنولد توينبي ) لفكر ابن خلدون بشيء من المدح والإعجاب ، كما يرسم بعض سماته الشخصية ونبوغه العلمي ، فيذكر أنه يجسد آخر نجوم المؤرخين ، وقد عدَّ (( المقدمة )) إنجازا علميا عظيما يتعلق ب( عمل الحياة ) الذي استفاد منه العلماء الغربيون كثيرا ، وهو ما جعل ( أرنولد توينبي ) يتأثر بحتمية التاريخ وقانون السببية عند ابن خلدون بشكل غير معلن .
   يُؤَكِّدُ المستشرق البريطاني ( هاملتون جيب ) في هذا الصدد أن العلاَّمة ابن خلدون يمثل أحد كبار علماء المسلمين والشخصيات البارزة في المذهب المالكي ، إذ كان واسع المعرفة ولم يصدر رأيًا واحدًا يعارض تعاليم الإسلام ، بل إنًّ مفاهيمه المتطورة كانت تسعى دائما لمسايرة روح المبادئ الإسلامية ، وتطويع المجتمع وتقدمه .

 تأثيره في العلماء الأمريكيين
  دَرَسَ علماء الاجتماع الأمريكي أمثال ( جورج ميد ) , و ( بارسونز ) , و ( رو برت بارك ) , و ( وليام أجبرن ) الجماعات العرقية التي تطرح مشكلات اجتماعية في أمريكا كالانحرافات السلوكية ، والمخدرات , وجنوح الأحداث , والسلوكيات الشاذة متأثرين بآراء ابن خلدون وموضوعاته التي ساعدتهم على استخدام المنهج الإحصائي والوصفي الكمي لدراسة الحركات النسوية وحقوق المرأة ، كما أنهم اعتمدوا على النظريات قريبة المدى التي تعالج سلوك الفرد والجماعات الصغيرة ، والأسرة ، والعصابات ، والأنشطة الترفيهية مستخلصين من منهجه الاجتماعي عدة موازنات علمية ساهمت في التمييز بين العولمة الجديدة والقديمة ، علاوة على استفادتهم من التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال السريعة والإعلام ، وتأثيرها في علاقات الناس ....
   عَالَجَ ( ناثانيل سميث ) الأستاذ الباحث بجامعة ( كورنيل ) في أحد أعماله الصادرة عام 1930 م شخصية ابن خلدون ، حيث يرى أن هذ الرجل يمثل مؤرخا فيلسوفا وعالم اجتماع بارز ، كما تطرق هذا الباحث إلى رحلات ابن خلدون في الديار الإسبانية .
    قَدَّمَ ( رونالد ريجان ) في إحدى ليالي شتاء 1983 م للأمريكيين سياسته الاقتصادية الجديدة التي عرفت باسم (( اقتصاديات العرض ))  Supply Side Economics ، واستشهد بمقولة ابن خلدون المعروفة (( إنَّ الظلم مؤذنٌ بخراب العمران ))  ، وأردف أن (( الظلم هو جباية الضرائب الفادحة من المواطنين ، لأن ذلك يصرفهم عن مضاعفة جهودهم في الإنتاج والتجارة والكسب ...)) .

تأثيره في العلماء الروس
   لَقَدْ انبهرت الباحثة الروسية ( سيفيتلانا باتسييفا ) بإنجاز ابن خلدون ومنهجه التاريخي والهدف منه ، فهي ترى أنه قد جعل من التاريخ وعاءً ضخمًا يستوعب حوادث العمران ، وهو ما يتردد بوضوح في بعض الاتجاهات الغربية الحديثة المتعلقة بكتابة التاريخ .
     تُؤَكِّدُ هذه الباحثة أن حدس ابن خلدون قد ألهمه لتقديم تصور جامع للتاريخ وهداه إلى رسمه والتعبير عن ذلك بدقة مدهشة تعد سابقة لعصره وإمكاناته .
   دَرَسَ عالم الاجتماع الشهير ( لفيج جمبلوفتش ) أثر الإسلام في فكر ابن خلدون وعلاقته بسماته الشخصية ، الأمر الذي جعله يمنحه الريادة في علم الاجتماع متجاوزا بذلك عدة علماء أمثال ( كونت ) و ( فيكو) . يذكر هذا العالم أنه قبل ( أوجست كونت ) ، بل وقبل ( فيكو ) الذي يعدُّه الإيطاليون أول عالم اجتماع أوربي ، كان قد ظهر عالم مسلم رصين درس الظواهر الاجتماعية بعقل متزن ، وأتى في هذا الموضوع بآراء عميقة ، وكتب ما ننعته اليوم بعلم الاجتماع.

الأفكار والمفاهيم المؤثرة في العلماء الغربيين
   تَتَنَوَّعُ هذه الأفكار والمفاهيم ، إذ إن جمهرةً منها ترد منسقة في كتاب (( المقدمة )) ...من أهمها مفهوم (( الدولة )) الذي يختلف عنده شكلًا ومضمونًا عن مفهوم (( الدولة القومية)) المعاصرة عند العلماء الغربيين الذين يركزون في وجودها على سلطان القانون الدولي بالدرجة الأولى . يتعامل ابن خلدون مع مفهوم الدولة كإنسان تضبطه نظرة عضوية ، لكن قانون الغاب والقوة هو الذي يتحكم في علاقات هذه الدولة مع غيرها.
     لَقَدْ ركز هذا العلاَّمة على العلاقة الواضحة بين القوة الذاتية للدولة وأمنها ، فهي ترتبط لديه بقوة العصبية المتعددة ، والمال ، والسلاح ، والبداوة . وقد أشار إلى أن مفهوم العصبية يتجلَّى في تماسكها وعدم التنازع بين قادتها ، كما أكد على دور الإيمان في بناء الدولة الإسلامية.
    بَنَى عبد الرحمان بن خلدون من خلال كتاب (( المقدمة )) مفاهيم أساسية مثل : العصبية ، الدولة ، العمران ، التوحش ، الحضارة ، الترف ، المركز الأطراف ... تبرز العصبية من خلال صلة الأنساب التي تولِّد التعاطف والتكاتف ، ومن هنا ينبع الانتصار بين الأفراد ، وتصبح لهم شوكة قوية . تمثل العصبية عنده مفهوما أساسيا وعائليا له جذور وله أحفاد ...
    تُشَكِّلُ طريقة بنائه للمفاهيم منهجا تجريبيا يعانق الواقع والخبرة في الحياة ، مع العلم أنه قد اعتمد في هذا المجال على سورة يوسف في القرآن الكريم لاستخلاص مفهوم العصبية ، واستعمله كمصطلح محوري يتحدد بقوته عمر الدولة ، واتساعها، ونصيبها من الممالك والأوطان وحتى نهاياتها.
   تَطَرَّقَ أيضا في هذا الصدد إلى أنواع الدول : فهناك الدولة المستقرة والمستجدة ، وهذه الأخيرة لها نوعان : الدولة المستجدة على الأطراف والأخرى المستجدة في قلب الدولة . استخدم المنهج الوصفي في وصف الدولة ، ثم أدرجه ضمن نظام فعال شبيه بالإنسان .
   يَظْهَرُ تأثير ابن خلدون واضحا في المدرسة الواقعية ، حيث يتم ربط مفهوم القوة بموقف محدد ، رغم أن هذه القوة لا يمكن نقلها ببساطة كالمال ، وهي ليست جامدة ، وكل مكون من مكوناتها يمكن نقله إلى مواقف معينة ، ولا يمكن تصنيف الدول كقوى عظمى وصغرى إلا من خلال مواقف محددة . يذكر ( ميشيل سوليفين ) أن أنماط السلوك الدولي لا تفسر بمقياس القوة ، وأنَّ الدول الكبرى تكون عادة هي الأكثر تأثيرًا ، إلا أن هناك بعض الاستثناءاتٍ في هذا المجال . هناك مقاييس أخرى على مستوى النظام مثل : عضوية التحالفات والمنظمات، وتوزيع مقدرات الدول داخل تلك المنظمات والتحالفات.

   يَتِمُّ تنظيم ركائز القوة بطريقة مدروسة بغية تنسيق إمكانيات نجاحها وتحقيق أهداف معينة علي المدى الطويل والقصير. نجد في هذا الصدد :
  1 _    قوة صلبة : تظهر في القوة الاقتصادية والعسكرية وغيرها.
 2  _    قوة رخوة  : تتمثل في قدرة الدولة على استمالة المواطنين بالاعتماد على سياسات مشروعة وقيم أساسية .
   تَبْرُزُ هذه القوة من خلال مؤشرات متنوعة : استطلاع رأي الشعب بالنسبة لدور الدولة في عدة قضايا كالأمن ، والسلام ، والتنمية ، والفقر، والاستماع للإذاعات المحلية .

مقارنة بين ابن خلدون وميكيافلي
    نَجِدُ عدة نقاط متشابهة بين الرجلين ، فابن خلدون قد لعب دورا كبيرا في الحضارة الإسلامية ، وهو الدور نفسه الذي لعبه ميكيافلي في الحضارة الغربية ، حيث وجد المفكران في بيئة متشابهة للغاية ، وعاش كل منهما في فترة تدهور الحضارة التي ينتمي إليها . فميكيافلي عاش في أوروبا التي كانت تسبح ساعتئذ في ظلام القرون الوسطى ، وكانت ولاية ( فلورنسا ) الإيطالية التي ينتمي إليها وغيرها من الولايات الأخرى ممزقة ومتناحرة يتحكم فيها رجال الدين ، علاوة على طغيان زعماء النظام الإقطاعي . وكان ميكيافلي يحلم بتوحيد إيطاليا ، وهو ما كان يدافع عنه ابن خلدون أيضا .
    لَكِنْ هناك فرق بين مفهوم ابن خلدون للدين والعقلانية والعلمانية ومفهوم ميكيافلي . فابن خلدون يرى أن الابتعاد عن الدين والأخلاق هو سبب ما تشهده المجتمعات الإسلامية من تمزق ووهن ، كما أنه أكد على الالتزام الديني والأخلاقي وأهميتهما في مصير أية دولة . أما ميكيافلي فقد فصل الأخلاق عن السياسة لتبرير سلوك الحاكم من حيث الخيانة والعنف والقتل ، كما يتضح ذلك في كتابه الشهير ( الأمير) .
   كَانَ عبد الرحمان ابن خلدون رجلا سياسا يعيش في كنف الملوك ، وكان ميكيافلي رجلاً دبلوماسيًّا . فالأول قدم تجربة إسلامية في الحياة دعَّمها بالدراسة والتحليل الرصين ، والثاني عرض تجربة مسيحية جعلت منه مصلحًا ورجلا سياسيًّا . اهتم ابن  خلدون بدراسة التاريخ من أجل هدف علمي يتوخى ضبط فلسفة التاريخ عن طريق بعض التعميمات . أما ميكيافلي فقد اهتم بدراسة التاريخ لإصلاح حاضر ومستقبل الوحدة الإيطالية .
   أَمَّا فيما يخص رؤية الرجلين لموضوع العلاقات الدولية فنجد التشابه بينهما واضحا ، فقد اتفقا على أن (( قانون القوة والغابة )) الواقعي هو الذي يقنن العلاقات بين الدول ، وهو المنطلق الطبيعي الذي استندت إليه فيما بعد المدرسة الواقعية . تعدُّ العلاقات الدولية ذات طابع تنافسي وصراعي بين الأطراف الأكثر قوة ومهارة . يرى ابن خلدون أن الدين والأخلاق يشكلان مصدر القوة ، ويرى ميكيافلي أن (( الأمير )) يجب أن يكون جاهزا لإقصاء الأخلاق في أي وقت . يؤكد ابن خلدون أن الشيخوخة التي تلحق الدولة تجعل الآخرين يطمعون فيها ، وهو ما يسايره فيه ميكيافلي . فإذا لم تبذل الدولة جهدها للاستعمار ستخضع للهيمنة والتوسع من طرف الآخرين .
    لَمْ يتطرقْ ميكيافلي لمفهوم (( العصبية )) ، لكنه حذَّر من الجنود المرتزقة؛ لأنهم لن يستطيعوا الدفاع عن البلاد ببسالة ؛ فالديار ليست ديارهم . وهو ما يجعله يتفق مع فكر ابن خلدون الذي يؤكد على أهمية دور العصبية التي تعتمد على النسب ، وتنتج النعرات والانتصارات ...
    وَاْلمُلاَحَظُ أنه رغم تشابه التجربة بين الرجلين إلاَّ أن ظروف الحياة الخاصة والمجتمع والأهداف لكل منهما مختلفة جدا .
   لَقَدْ أثر ابن خلدون في تفكير ميكيافلي والمدرسة الواقعية باستعمالهما لمفهوم ( القوة ) ودورها في العلاقات الدولية ، حيث تشكل إنها (( علاقة سببية يقوم فيها فاعل معين بالتأثير في سلوك ، واتجاهات ، ومعتقدات فاعل آخر حتى في قدرته )) . يتجلى هذه القوة من خلال :
 أ   _   المكانة : الاحترام الذي تتمتع به القوة.
 ب  _   النفـوذ : القدرة على التأثير في قرارات الآخرين.
 ج  _   الإجبار : استخدام الوسائل المادية للتأثير في القرارات.
  د  _   السيطرة : تأثير فاعل على أغلب قرارات فاعل آخر ، لكنه لا يتلقى منه أي تأثير تقريبًا .

  لَقَدْ أثر الرجلان معًا في نظريات (( الأمن القومي )) المتعلقة بالدول النامية التي تعتمد على الانسجام الداخلي ، والتوافق في نظام الحكم ، والقضاء على الاحتقان السياسي الداخلي الذي يخلق التفتت الحقيقي للدولة .
   أَكَّدَ ابن خلدون أنَّ للدولة (( وظائف )) تقوم بها تبعا لقوة عصبيتها ، وإذا لم تقم بذلك فإن أطرافها وحكَّامها سيحاولون الخروج عليها، أو تعريضها للعدوان الخارجي . يشبه رأي ابن خلدون بخصوص قوة الدولة في مركزها وضعفها في أطرافها الآراء المعاصرة المتعلقة بموضوع المركزية واللامركزية...
   لَقَدْ خلَّفت أفكار ابن خلدون تأثيرا كبيرا في أعمال بعض العلماء الغربيين ، حيث ظهرت بين ثنايا كتاباتهم بعض آرائه وبصماته جلية المعالم :
1    _    اعتماد قوة الدولة على قوة العصبية المتمثلة في الكثرة والوفرة والوحشية.
  2  _    رسم العصبية القوية للحدود الطبيعية للدولة ، ووحشية أهلها  .
   3 _    وجود تشابه بين أطوار الدولة وعمر الإنسان .
   4 _    استخدام الحجة المرتبطة بالقوانين الطبيعية كقوة العصبية .
5    _    استغلال الأسلوبً الاستقرائي الذي يعتمد على أمثلة من الواقع والتاريخ.
  6‌_      اقتباس مفاهيم جديدة نابعة من القرآن مثل : العمران ، العصبية، الوازع ، التكاليف الإنشائية ، الخطط الخلافية ...
7  _      استعمال منهج ابن خلدون لإقامة حجج النص المدروس ، كالحجج المنطقية المتسلسلة بعد تحليل الفكرة ، إذ يتم استنباط هذه الحجج من بعضها ، وبعضها الآخر يتم استنتاجه بالقياس على قوانين الطبيعة ، ثم تعقبه حجج تاريخية تؤكد القول المستنبط .
   تَتَرَدَّدُ أيضا بين طيات عدة إنتاجات علمية غربية حديثة أفكار ابن خلدون التي وردت مفصَّلةً في (( المقدمة ) مثل  :
 أ _    (( إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع )) .
 ب _   (( كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها )) .
 ج _   (( في أن عظمة الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها يكون على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة  )) .
د  _    ((  في اتساع نطاق الدولة أولاً ثم تضايقه طورًا بعد طور )) .
ه  _   (( في أن الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة )) ...
   لَقَدْ أدَّت هذه التأثيرات الكبيرة في بعض علماء الغرب المتخصصين إلى تحقيق عدة نتائج مهمة :
     1_     تطور العلاقات الدولية بناء على مرجعية ابن خلدون .
     2_     ظهور نظرية متكاملة غربية مستخلصة من أبواب وفصول (( المقدمة )). 
    3_      اقتباس منهجية ابن خلدون في (( قراءة النص )) التي تسعى للتحليل بشكل موضوعي متفادية أخطاء القراءات القديمة . نجد في هذا الصدد :
      أ   _  قراءة غربية استعمارية : تقوم بجمع المعلومات المتنوعة لدراسة العلاقات الاجتماعية والخصائص السلالية للسكان المحليين ، ونمط عيشهم ونشاطهم الاقتصادي، وهي قراءة تتجلى بين ثنايا كتاب (( اْلعِبَر )) لابن خلدون .
      ب _   قراءة عنصرية : تشبه ظاهريا أفكار ابن خلدون ، وماركس ، وأوجست كونت ، ودانتي، ومونتسكيو وغيرهم.
      ج  _  قراءة عربية مغتربة : نجدها عند طه حسين الذي اعتبر المثل الغربية هي الأعلى ، ونزل بها على أفكار ابن خلدون الذي عاش قبل النهضة الأوروبية .
      د  _   قراءة إسلامية صرفة : تعتبر ابن خلدون مفكرا إسلاميا أسهم بصورة فعالة في كتابة تاريخ الحضارة الإسلامية.
      ه _   قراءة قومية: تؤكد أن أفكار ابن خلدون هي النواة الحقيقية للقومية العربية التي ازدهرت في ستينيات القرن المنصرم .
   وَاْلحَقِيقَةُ أن هذه القراءات تبرز لنا مدى الاختلاف بين العلماء الغربيين بالنسبة لفهم وتوظيف أفكار ابن خلدون بشكل سليم وحصيف . فهناك من لم يستوعبها جيدا ، ومن غيَّر مفاهيمه الحضارية بأخرى غريبة . وفئة منهم قدمت فرضيات ضعيفة وغير موضوعية في طرحها للقضية . وهناك من تشيَّع له بطريقة مفرطة .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟