الجيل الثاني للنظرية النقدية :يورغن هابرماس ـ عثمان السطابي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse17021من أهم ممثلي الجيل الأول للمدرسة النقدية  نجد هوركهايمر و تيودور أدرنو و ماركوز .... فهذا الجيل كان له الفضل في تطور هذه النظرية لأنه ساهم في وضع أفكار النقد و التحديث و التجديد، و بهذا يحصل التراكم، أو بلغة طوماس كون الثورات العلمية، التي من خلالها تحصل العلمية و يتقدم العلم. و هذا ما حصل و يحصل في النظرية النقدية، نقد بعد نقد، رغم أن هذا الجيل "الأول" كان له فضل كبير في تطور النظرية إلا أنه ظهر جيل ثاني ينتقده و يأتي بالجديد، فهذا الجيل "الثاني" من بين ممثليه نجد: ( هابرماس، كارل أوتو أبل، ألبريش فيلمر، كلاوس أوفة)، لكن من أهم الممثلين نجد هابرماس، فهذا الأخير الذي فكره انتشر عبر العالم نظرا لتشعبه و تعدد أبحاثه النقدية و مشاربه الفكرية المتنوعة.

من هو هابرماس؟
"يورغن هابرماس  بالألمانية Jürgen Habermas فيلسوف وعالم اجتماع ألماني معاصر (18-06-1929 يعتبر من أهم علماء الاجتماع والسياسة في عالمنا المعاصر. ولد في دوسلدورف، ألمانيا وما زال يعيش بألمانيا .يعد من أهم منظري مدرسة فرانكفورت النقدية له ازيد من خمسين مؤلفا يتحدث عن مواضيع عديدة في الفلسفة وعلم الاجتماع وهو صاحب نظرية الفعل التواصلي.

وصل يورغن هابرماس إلى درجة من الشهرة والتأثير العالمي لم ينجح الرعيل الأول من ممثلي النظرية النقدية الاجتماعية والمعروفة في حقل الفلسفة المعاصرة بمدرسة فرانكفورت في الوصول إليها. فعلى الرغم من الثقل العلمي لأفكار الجيل الأول (هوركهيمر، أدورنو، ماركوزه، إريك فروم…)، إلا أن هابرماس هو الفيلسوف الوحيد الذي فرض نفسه على المشهد السياسي والثقافي في ألمانيا كـ"فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة" .


     هابرماس تلميذ أدرنو و هو الوريث لمدرسة فرانكفورت، يركز تفكيره على تحليل الفعل و البنى الاجتماعية. ينتمي إلى اليسار و ينتقد ماركس، و يعود إلى العديد من أفكار بارسونز. يدافع على فكرة أن الحداثة لم تنته متعارضا مع أسلافه و يدعو إلى الحداثة.[1]

نظرة هابرماس للنظرية النقدية

هناك ثلاثة أشكال للنظرية، و هذه الأشكال تقوم على ثلاثة مصالح معرفية، و يعني بالمصالح المعرفية : أننا نطور المعارف من أجل المصلحة( الكهرباء: تقدمت الاكتشافات من أجل الاستفادة اللامتناهية من الكهرباء، و كذلك الطالب: يطور معارفه من أجل الحصول على وظيفة راقية و قس على هذا...) و كل مصلحة تقوم من خلال الوسيطmedia. على أي هذه المصالح[2] هي :

1-  المصلحة التقنية: ناتجة عن العمل (الكهرباء لنا مصلحة في تطوره)
2-  المصلحة العملية : نتاج للغة، تؤدي إلى الهيرومنتيقا، طريقة تأويل أفعالنا طريقة فهمنا لبعض. و تنمو هذه المصلحة وسط التفاعل، و تفضي إلى المصلحة الثالثة.
3-  مصلحة الإنعتاق و التحرر : مرتبطة أيضا باللغة، تؤدي إلى ظهور العلوم النقدية .

"تنطلق العلوم النقدية من التسليم بقدرتنا على التفكير و على الوعي وعيا ذاتيا بما نعمل، و على أننا عند اتخاذ أي قرار نقوم بوزن الأمور و اتخاذ ما هو أصوب منها على أساس الوقائع المعروفة  لدينا عن الحالة و انطلاقا من إدراكنا لقواعد التفاعل المنقولة اجتماعيا" (...) غاية العلوم النقدية القائمة على مصلحة التحرر هي الكشف عن التشويه القائم في التفاعل و التواصل و إصلاحه" [3]

اتجهت أعمال هابرماس الأخيرة بغية تسوية أساس النظرية النقدية إلى نظرية فعل التواصل، و قدم في هذا الاتجاه أطروحة صعبة الفهم:

-   يدعو إلى التحرر (فلسفة الوعي) علاقة بين اللغة و الفعل كعلاقة بين الذات و الموضوع.
-   الفعل الاستراتيجي و فعل التواصل: الأول غائي عقلاني و الثاني فعل لا أداتي يرمي إلى الوصول إلى الفهم(أي الفهم عن طريق التواصل له أساس عقلاني).

-   أولوية فعل التواصل.

و يرى هابرماس أن النظام الأخلاقي يستدعي القيام على أساس عقلاني و ليس على أساس التقاليد. و " إن النظرية  عند هابرماس إذن هي نتاج للفعل البشري و تخدم غايات ذلك الفعل، و هي بشكل أساسي أداة لتحقيق حرية أكبر للبشر و هي تتطور  بعدة مستويات متباينة و بذلك تأخذنا بعيد عن الأعمال المتأخرة لهوركهايمر و أدرنو و أصحاب اتجاه ما بعد البنيوية الذي ترتبط المعرفة عندهم بالهيمنة و الاستبعاد و تتضمن نظرية هابرماس أيضا تطوير الأعمال ماركس الأولى بتحويل التركيز على اللغة و التواصل "[4]. هنا يقصد أن الفارق بين البشر و الحيوان ليس هو فقط العمل كما يؤكد ماركس ( ماركس قسم المجتمع إلى قسمين بنى فوقية و أخرى تحتية بنى مسيطرة و بنى مسيطر عليها، برجاوزية و بروليطاليا، طبقة خاضعة و أخرى مهيمنة، و الفرق بين الطبقتين هو تملك وسائل الإنتاج من طرف الطبقة المسيطرة المتسلطة، و الفرق يكمن في العمل و رأس المال و ليس العلم أو اللغة أو التواصل أو الفن أو الأدب إلى غير ذلك)بل التواصل و طبيعة اللغة و هنا يكمن انتقاده لماركس.

هابرماس يلتقي مع شيخ الوظيفيين أو الوظيفية المعاصرة، تالكوت بارسونز الذي سمية نظريته بنظرية الأنساق( نظرا لكونه أكد أن المجتمع كنسق عام يتفرع لأنساق فرعية و هذه الانساق الفرعية تتفرع الى أنساق فرعية فرعية إلى آخر نسق. و جاء بمحددات المجتمع التي تتجسد في القيم و المعايير و الأدوار و التجمعات) حيث يرى أن ليس فقط العامل الاقتصادي وحده المشكل للتشكيل البنائي بل للمؤسسات دور مهم كالقرابة في المجتمعات القبلية. المؤسسات باعتباره تجسيد للقيم و المعايير الثقافية التي يراها تتطور بشكل تصاعدي نحو درجات أعلى أو أعلى من العمومية.

نقد هابرماس للرأسمالية الحديثة.

تتميز الرأسمالية الحديثة بهيمنة الدولة على الاقتصاد و على المجالات الأخرى للحياة الاجتماعية. و هنا نجد و كأن ماركس الأب يتحدث في نقده للرأسمالية و إيديولوجيتها و قهرها للطبقة الدنيا، و تمجيدها للأرسطقراطيين أصحاب وسائل الإنتاج.
و أن شؤون الحياة العامة لم يعد يُنظر إليها باعتبارها مجالا للنقاش و الاختيار بل باعتبارها مشكلات تقنية تحل بواسطة خبراء سيستخدمون في عملهم عقلانية أداتية، و هذا المفهوم الأخير له مكانة كبيرة عن ريموند بودن.
لكن رغم هذا يؤكد هابرماس أن الماركسية لم تعد قادرة على تحليل أوضاعنا الجديدة.
هابرماس ضد فكرة ما بعد الحداثة " يقف تقويم الجيل الأول للنظرية النقدية للعالم المعاصر موقفا معارضا إلى هذا الحد أو ذلك لموقف ما بعد الحداثيين، فإن نقد هابرماس يتجه مباشرة إلى ما يعتبره نوعا من النزعة المحافظة الجديدة لذا هؤلاء "[5]
و يلاحظ هابرماس أن فكرة الحديث ليس بفكرة حديثة العهد فقد استخدمت في وضعيات تاريخية متعدد لتفصل بين إدعاءات حقبة ما عن نفسها و بين ادعاءات الحقب التي سبقتها و مفاد ذلك أن على المرء أن يشتبه بالذين يدعون مثل هذه الصفة بصورة غير نقدية..." يكمن جوهر الوعي الجمالي الحديث في القيمة التي يسبغها على العابر و الخطي و الانتقالي كما لو أنه تواق إلى حاضر نقي دائم"[6].

هابرماس و التأويل

يمكن رد هابرماس إلى الهيرومنتيقا. حيث كان همه هو فصل نظرة النظرة النقدية (بالخصوص أدرنو) عن الإطار النظري للوضعية و نموذجها الذي كان سائد أن ذلك 1960 حيث الوضعيون اعتبروا أن المعرفة الفعلية هي التي يقدمها العلم و على الفروع الأخرى أن تطمح إلى أن تستخدم المناهج ذاتها إذا ما أرادت أن تحقق القدرة ذاتها من الفلاح.
يكمن ضعف النظرية الوضعية حسب هابرماس في نزعتها الأحادية للعلم أو المعرفة و الأشكال الأخرى ليست معرفية في حقيقة الأمر( عجز عن التأمل).
أما الفروع التحررية التي يريد هابرماس أن يضع النظرية النقدية في صنفها، فتستمد كل افتراضات الصنفين الآخرين من الفروع مقرة  أهمية كل من " البنية و الفهم التأويلي . فهابرماس لا يرغب في التقليل من شأن الطريقة الإمبريقية التحليلية أو الطريقة التأويلية ذلك أن كل ابستسمولوجيا تنتج بطريقتها الخاصة ضروبا من المعرفة مختلفة لكنها ذات سريان و مشروعية بالمثل و غاية هابرماس هي أن يضع النظرية النقدية و العلم الاجتماعي عموما في خارطة المعرفة الأوسع.[7]
لكن هابرماس انتقد نظرة التأويلية القارة إلى التحيز و التقليد، و رأى أن لكل من العلم و التأمل قدرة على خرق التحيز و التقليد، لا تتيحها اعمال غاداميرا" للغة دورا تكوينيا في تشكيل الواقع" أما نظرة هابر ماس إلى تناول اللغة عند التأويليين فهي نظرة أشد اتساما بالتسوية و التوفيق.[8]
"يمكن للغة أن تخدم مصالح القوة الاقتصادية عن طريق حجبها أصول طرائق معين في النظر إلى الأشياء، فاللغة إيديولوجية لا بمعنى أن ثمة قدرا متعمدا من الخداع و الغش يجري فيها بل بمعنى أن ثمة قدرا من الخداع و الغش غير الشخصي يجري مع اللغة بوصفها كذلك"[9]
حضور التحليل التفسير كبراديغم عام يمكن أن تعمل به النظرية النقدية على مستوى سوسيولوجي ( تفسير العناصر التي هي وظيفة للعوامل الخارجية و أثرها).
و في عام 1980 حدد ضعف التأويلية في تبيين الطريقة التي تفرض بها خارجيات المجتمع البنيوي كالمال و السلطة نفسها على عالم حياة الفاعلين و الدواء هو بارسونز و الالماني نيكلاس لوهمان.

و استمد ايضا هابرماس من الظهارتية مفهوم مركزي و هو عالم الحياة و يشير إلى أفق معنى الفاعلين الاجتماعيين فعالم الحياة يوفر السياق الذي يتوصل فيه الفاعلون إلى معرفة أنفسهم حيث يطرحون أسئلة تتعلق بإطلاق بعضهم إزاء بعض مزاعم تتعلق بالصحة أو الشرعية بشأن ما هو حقيقي و ما هو زائف ما هو زائف ما هو صحيح و ما هو خاطئ ما ينبغي أن يحدث و ما لا يبغي.
هابرماس جمع كل من التأويلية و الوظيفية في إعادة بناء النظرية النقدية. و ما يراه هابرماس فهو أن ثمة انحراف تكنلوجيا مضللا. المادية التاريخية لها فضائل كثيرة لكنها تفرط في إلحاحها على الإنتاج المادي بوصفه مفتاح التغيير التقدمي، في حين تنجز آلة معينة مهمة محددة بسرعة أكبر من سواها و بفاعلية أشد تعتبر استخدامها تقدما و نظر إلى العلماء الذين أتوا بهذا الشكل  من التقدم بل أنهم سابقون لسواهم و متفوقون عليهم.
اعتاد هابرماس على تأويلية غادميرا في سد فجوة التفاعل التي خلقها الجيل الأول من النظرية النقدية.

    الانعطافة اللغوية شكلت أساس نظرية التواصل لهابرماس.

انتقادات لهابرماس
لايدر و هونيث يضعان تحث طائفة الشك ذلك النقاء الذي يتصف به تمييز هابرماس بين النظام و عالم الحياة، فهابرماس ينزع لأن يرى في الحياة كل ما هو حسن و صالح و لأن ينسب إلى النظام كل ما هو سيء و طالح، فعالم الحياة يوفر لنا و إن يكن نظريا و حسب فرصة التواصل التام و تحقيق توافق عبر الوضع الكلامي المثالي، في حين لا يوفر لنا النظام سوى فرصة أن تستعمرنا ضروراته و مقتضياته و أن يخضع لسلطانه و يا لهذه الفرصة الأخيرة من فرصة .
و ما يراه هونيث و لايدر في جهوده التي يبذلها يضع للنظرية النقدية علامة معيارية تهتدي بها، و معيارا كونيا ينبغي للإنسان أن يطمح إليه، إنما ينزع إلى رؤية عالم الحياة على أنه منطقة خالية من السلطة حيث يمكن التوصل إلى توافق حقيقي فالسلطة كما يرى تفرض على الفاعلين من الخارج و على نحو حاقد، كما لو أنها ذلك الشيء الذي يشوه التواصل و يحرفه بصورة منظمة و منهجية و بخلاف ذلك فإن السلطة ربما تكون مرتبطة حياة الفاعلين، كل ضروب الطرق الحاذقة الدقيقة، مقدورنا أن نشير مثلا و حسب فرويد أن اللاوعي سلطة على الوعي من حيث قدرته على تشكيل الأفكار و الأفعال و ردود الأفعال دون علمنا، و من غير الممكن أن نتعامل مع هذه السلطة اللاواعية على أنها مشتقة من النظام الرأسمالي، كما أنها ليست سلطة سلبية بالضرورة . [10]
-   عدم استطاعة إثبات أولوية الفعل التواصلي على الفعل العقلاني.
-   تناقض الأهداف ( مثلا فكرة أولوية التواصل تجهضها تلك التفرقة التي يقيمها بين النسق و الحياة اليومية ) حيث يؤكد أن هناك تفرقة بينهما . " ذلك أن تلك التفرقة تقيد مجالات أساسية من التجربة الاجتماعية للبشر من التشكيل عبر عمليات تنطلق من التواصل... أما إذا أخذنا مشروعه من حيث النسق الاجتماعي، فإن ظواهر يعيشها فحسب يمكن أن تصنف تحت مقولة الإجماع"[11]

[1] إيان كريب، النظرية النقدية من بارسونز إلى هابرماس،ترجمة محمد حسين غلوم، عالم العرفة، الكويت 199، ص 305 306
[2]  مرجع سابق ص 307-308
[3] مرجع ابق ص 309
[4]  مرجع سابق 311
[5]  ألن ماو ، النظرية النقدية ، ترجمة ثائر دب ،دار العين للنشر،القاهرة ،2010 ص225
[6]  مرجع سابق ص 226
[7]  مرجع سابق ص 173
[8] مرجع سابق ص 182
[9] مرجع سابق 184
[10]  مرجع سابق ص 196
[11]  إيان كريب، مرجع سابق ص  319