سوسيولوجيا الدولة في مجتمعات العالم الثالث: نحو نموذج تحليلي لمقاربة شروط اشتغال الآلية السياسية ودورها في تحديد وتفسير النسق المجتمعي العام ـ مصطفى محسن

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

1 – تمهيد أولي: في طرح الإشكال
تقدم الأدبيات السوسيولوجية حول مجتمعات العالم الثالث، ومن ضمنه العالم العربي، مادة خصبة من الطروحات والنماذج التحليلية الطامحة إلى تأسيس رؤية نظرية ومنهجية ملائمة لدراسة واقع هذه المجتمعات، والتعرف على الآليات والمركبات المختلفة التي تتحكم في هيكلتها وتطورها. غير أن الكثير من هذه المحاولات لم يسلم من الوقوع في شرك تصورات اختزالية لواقع هذه المجتمعات موضوع الدراسة. وذلك حينما ترجع ما تعانيه هذه الأخيرة من تخلف اقتصادي، وسياسي، وثقافي… وما يطرأ عليها من تحولات وتغيرات إلى جانب واحد من جملة الجوانب المتحكمة في سير هذه المجتمعات، الأمر الذي يقتضي من الباحث التزام الحذر النظري والمنهجي الضروري أمام مثل هذه الطروحات. وذلك باعتبار أن النظرة الشمولية للواقع المجتمعي المتعدد المبحوث هي الكفيلة بتشريح بنياته، ومجالاته، وأبعاده، دون الاعتماد الكلي على جانب واحد: (اقتصادي، سياسي، ثقافي…)، كما لو كان هو الوحيد الذي يحدد أهم معالم هذا الواقع المجتمعي، دون غيره من الجوانب أو الأبعاد الاجتماعية الأخرى. وعلى أي فإن هناك نموذجا تحليليا ثلاثي المكونات (Modèle d'analyse) يسير الاتفاق حول نجاعته في اتجاه متصاعد. ويتكون هذا النموذج التحليلي من المجالات الاجتماعية الآتية: المجال السياسي، المجال الاقتصادي-الاجتماعي، أي: مجال التراتبات الاجتماعية، المجال الرمزي-القيمي: (الثقافة والإيديولوجيا)(1).
ولا يعني هذا النموذج، بأي حال، اختزالا لا علميا للنسق المجتمعي في أحد الأبعاد أو المجالات الاجتماعية المذكورة. بل كل ما في الأمر أن كلا من السلطة السياسية، والطبقية، والثقافة ليس إلا منظارا، أو زاوية معينة من عدة زوايا أخرى ممكنة يفترض أن نطل منها على جل مكونات التعدد المجتمع. كما أن النموذج الآنف لا يفترض أسبقية، أو أهمية أحد مكوناته على الآخر إلا عند تناول الباحث لنسق مجتمعي معين.

فقد يمكن أن يكون موضوع الدراسة نسقا اجتماعيا متسما بطابع التراتبات الاجتماعية، أو بهيمنة الأجهزة السياسية، أو بتصدر العامل الثقافي، بحيث يبدو أحد هذه الأبعاد متحكما، بشكل بارز، في مختلف الأبعاد والمكونات الاجتماعية الأخرى. غير أن هذا التحكم لا يعني، بأي حال، إهمال أو تجاهل هذه المكونات. بل المقصود فقط هو الاعتراف بالأهمية النسبية التي يحتلها كل جانب في أوضاع اجتماعية وزمكانية محددة في إطار تفاعله مع غيره من الجوانب والمجالات. إن هذا المنظور التكاملي لجدلية التعدد والاختلاف في المجتمع هو الكفيل بالإحاطة شموليا بالواقع موضوع الدراسة(2).

2 ـ نموذج تحليلي مقترح لمقاربة أوضاع المجتمعات الثالثية:
وفيما يتعلق بأوضاع العالم العربي، بشكل خاص، يذهب عدد لا بأس به من الباحثين في السوسيولوجيا والاقتصاد، بل وفي غيرهما من التخصصات العلمية والمجالات الفكرية الأخرى، إلى إعطاء الأسبقية للآلية السياسية (بالمفهوم السوسيولوجي الواسع للسياسة) على الآلية الاقتصادية والآلية الثقافية في تفسير أوضاع المجتمعات العربية كجزء من منظومة مجتمعات العالم الثالث. ويبرر هذا التصور بكون ما تعانيه هذه المجتمعات من تخلف مضاعف لا يرجع إلى التمايزات الاجتماعية-الطبقية، ولا إلى العامل الثقافي-الإيديولوجي، بل يعود بالدرجة الأولى، إلى كيفيات وأشكال توزيع السلطة والنفوذ الاجتماعي، التي تشرط بدورها أشكال توزيع المراتب الاجتماعية وقنوات الاستفادة المادية: (الجانب الاقتصادي)، وكذلك المعرفة والقيم والرموز: (الجانب الثقافي-الإيديولوجي). وذلك على اعتبار الجانبين الأخيرين تابعين، في التحليل النهائي، للكيفيات التي تشتغل وفقها الآلية السياسية في المجتمع المعني.

3 – حول الجذور النظرية للنموذج التحليلي المقترح:
ويبدو أن هذا الطرح يعود، في جذوره النظرية، إلى طروحات ماكس فيبر (Max Weber) الذي كان "أول من اعتبر الظواهر السياسية كوقائع خاصة لها منطقها الخاص، وتمر بتاريخ خاص بها أيضا. لا يفسر السياسي بعلاقات الإنتاج أو بتقسيم العمل، كما هي الحال في النماذج العامة عند ماركس أو دوركايم: إنه يجد، من الآن فصاعدا، محدداته الخاصة في ذاته. وانطلاقا من فيبر صار مطلوبا من علم الاجتماع التاريخي عرض حقيقة الظواهر السياسية بالاستناد إلى "مادية" سياسية أو عسكرية تبين أنها قوية قوة المادية الاقتصادية. ليست وسائل الإنتاج هي التي تؤثر لوحدها في تغير الأنظمة الاجتماعية، بل إن وسائل الإدارة تؤثر بالقوة ذاتها أيضا. [ و هكذا] اهتم فيبر، قبل كل شيء، بطبيعة وقائع السيطرة والخضوع والسيادة والقدرة أو السلطة. وصاغ تاريخ المجتمعات من خلال إبراز تغير نمط الحكم؛ تفسر الإقطاعية مثلا بنوع معين من ضبط الوسائل المادية للسيطرة، بالملكية الخاصة لأدوات العنف وتفشي تملك وسائل الإدارة"(3).
وواضح أن هذا التصور الفيبري يختلف –كما تمت الإشارة إلى ذلك في النص الآنف- عن التصور الماركسي، وخاصة في شكله الأورثوذوكسي، ويطرح إمكانية أخرى لتحليل وتفسير الميكانيزمات المتحكمة في الدينامية الاجتماعية.

4 – الدولة الثالثية وأزمة غياب المشروع المجتمعي:
إن الاستنادات التي يرتكز عليها أنصار هذا الطرح في تفسير واقع مجتمعات العالم الثالث عامة، والعالم العربي بشكل خاص، تعود إلى أن هذه المجتمعات لم تتمكن بعد من إفراز هيمنة طبقية واضحة المشروع والمعالم، وقادرة، بالتالي، على هيكلة مكونات واختلافات المجتمع، وتطويره، كما حدث بالنسبة للبورجوازية الغربية. وهكذا فليست هناك إمكانية علمية للحديث بالدقة الكافية، مثلا، عن بروليتاريا بدون بروليتاريين… وذلك على اعتبار أن هؤلاء هم نتاج سياق اجتماعي تاريخي خاص ومحدد يحيل، للتَّوِّ، إلى واقع المجتمعات الغربية، أساسا، ثقافة وحضارة وبنيات اجتماعية.
وفي غياب هذا المشروع الطبقي المهيمن –بالمعنى الماركسي لمفهوم الطبقة الاجتماعية- ستصبح الدولة في المجتمعات الثالثية هي البديل الوظيفي لمختلف الفعاليات الطبقية-الاجتماعية، بل عائقا دون تبلورها تكوينا، ووعيا، وممارسة. وإذا كانت الحركات الوطنية في هذه المجتمعات قد شكلت ما يشبه "حلفا وطنيا" حارب الاستعمار الأجنبي، ودافع عن الذاتية الوطنية والقومية في فترات الحماية أو الاحتلال، التي كان المستعمر فيها يشكل التناقض المرحلي الأساسي، فإن التناقضات الاجتماعية الثانوية بين مختلف الفئات والشرائح لم تلبث أن انفجرت بعد استلام الاستقلال الشكلي. ولما كانت بعض فصائل النخبة الوطنية هي التي تملك تأهيلات اقتصادية وثقافية وسياسية لخوض مرحلة ما بعد الاستقلال، فإنها، ونظرا لظروف نشأتها وتكونها في أحضان المستعمر، ولارتباط بعض مصالحها مع بعض مصالحه، لم تكن قادرة على دفع مد الصراع الاجتماعي إلى مداه البعيد، ولذلك كان تركيزها على السلطة، بل التسلط لكبح أي صراع، وإبعاد أي عنصر مناوئ، مختلف، أو مخالف لتوجهاتها.

ولما كان المستعمر/الاستعمار يشكل لدى هذه النخبة النموذج المثالي، في شكله السيطري التنظيمي، إداريا وعسكريا، فقد أخذت منه شكله القمعي العنفي المتمثل في مؤسسة الدولة، التي ستحتل في هذه المجتمعات الثالثية محور الارتكاز الأساسي المستقطب لكل الفعاليات والاختلافات الاجتماعية… وستبرز الدولة في هذا الوضع كجهاز مركزي محتكر وحده للتاريخ، ومهيمن على كل الفئات والشرائح والطبقات الاجتماعية المتباينة، ومحدد لمآلها ومصيرها. هكذا، إذن، تصبح الدولة بمثابة القطب الجاذب في المجتمع رمته، وتغدو السلطة السياسية، ممثلة في أجهزة الدولة، بمثابة النقد La Monnaie  كوسيط كوني Universel بين الفرد ومختلف القيم الاقتصادية والثقافية. إن الاقتراب أو الابتعاد من السلطة هذه سيكون، في هذا الحال، هو المحدد الرئيسي للوضعية المراتبية للشرائح والفئات المختلفة، ولمواقفها ومواقعها وأدوارها الاجتماعية.
"وبقدر ما تصبح المكانة التي تحتلها طبقة أو فئة اجتماعية معينة في الدولة هي التي تحدد وضعيتها الاجتماعية، وغالبا أيضا وضعيتها الاقتصادية، فإن الصراع على السلطة يصبح العامل الذي يشرط ويتحكم بكل فعالية اجتماعية فكرية كانت أم مادية. وتبدو الدولة عندئذ كمجرد رافعة للطبقات وللنخب المتجددة. وهذا ما يفسر الهشاشة الكبيرة للحياة السياسية في البلاد النامية من جهة، وسيطرة هذه الحياة المفرطة على كل نواحي النشاط الفردي والاجتماعي. وليست الأحزاب السياسية هنا إلا طفرات سياسية تعيش على هامش الحزب الرئيسي والأساسي الذي هو الدولة ذاتها. وليس لهذه الأحزاب، خارج إطار تعايشها أو تنافسها مع الدولة، أي حياة ثقافية أو اجتماعية مستقلة وخاصة. إن الجدل الاجتماعي يظل هنا، بالدرجة الأولى، جدلا سياسيا. مما يفقر المجتمع من الإبداعات النظرية والعلمية والتقنية، ويعطي لصراع الطبقات والبرامج شكل الصراع بين الدولة والشعب. وهذا يمنع الوصول إلى أي تركيب أو تسوية"(4)، أو توازن بين مجمل الاختلافات والتوجهات والمصالح…
وفي إطار هذا الخواء الاجتماعي، الذي تتحرك فيه الدولة في المجتمعات الثالثية، لم يبق لها من دور اجتماعي غير انتهاج استراتيجية الاستبعاد والقهر والاستعباد للأغلبية الاجتماعية، وغير إدارة العنف وتقنينه(5). فتعجز بذلك عن تشكيل أي إجماع وطني، أو وفاق اجتماعي توحده قيم وغايات وأهداف ومطامح مشتركة. إن هذه الدولة الثالثية "وعندما تتحول… إلى أداة تخدم مصالح فئة اجتماعية محددة، أو تصبح هي ذاتها إطارا لتنظيم هذه المصالح وتوسيعها حسب منطق دورة رأس المال الدولي، فإنها تبدو، بحق، من أعظم ما أنتجه التاريخ من الدول التعسفية، فتجمع القهر الفكري إلى القهر السياسي، وتدمر السلطات الخاصة والمستقلة، وتجعل من سلطتها الذاتية ومصالحها سلطة/وطنية/ومصالح/عامة/. فيصبح على الشعب أن يخدم هذه المصالح، ويدافع عنها، ويخضع لها، ويكرس نفسه وإمكاناته لتطويرها"(6).
ويترافق هذا التصدر الدولوي مع بروز "بورجوازية متوسطة أو صغرى" إلى جوار الكومبرادور المرتبط عضويا بالمتروبول الأجنبي. هذه البورجوازية المتكونة أساسا من أرباب المشاريع والأعمال الصغرى والمتوسطة، ومن بعض الموظفين والمثقفين…الخ، ونظرا لما تفتقده من سند اجتماعي-اقتصادي قوي، فإنها لا تجد ما يعزز مواقعها وأوضاعها غير الارتباط المصلحي بالدولة والتعلق بها. ومن هنا نفسر العديد من حالات سقوط الكثير من الرموز السياسية والفكرية، وارتمائهم في أحضان الدولة، وتحولهم من معارضتها إلى سدنة وخدام مخلصين لها إلى حد العبادة والتقديس، ضمانا لمصالحهم الاقتصادية والسياسية، على حساب المصالح الوطنية العامة. وهكذا يفقد النضال السياسي والثقافي أي إجماع شعبي وطني في العديد من الحالات والأوضاع، ويصبح ضربا من الهراء، والابتذال، وجعجعة بلا طحين. ويتضح للكثير أنه لا يوجد أي بديل قادر على تجاوز وتخطي مشروع الدولة المتصدر، فلا يبقى، إذن، غير التسبيح بحمدها، ومهادنتها، وإعلان الولاء لها وللسائرين في ركابها.

5 – التخلف الاجتماعي والإخفاق السياسي: أي تمفصل علائقي؟
من هذا المنطلق يرى أغلب المهتمين بقضايا التنمية والتخلف أن ما تعانيه المجتمعات الثالثية من تخلف مركب ومستفحل يرجع، بالأساس، إلى الإخفاق السياسي للدولة القائمة في هذه المجتمعات، وارتباطاتها بفعاليات وممارسات اجتماعية تخدم، بالأساس، توجهات ومطامح لا تمت إلى مصالح وحاجات ومطامح الأغلبية الساحقة من الشعب بأي صلة، بل ترتبط أساسا بالدولة وزبانتها ومجمل السائرين وفق خطها الرئيسي في قمع ونهب المجتمع، وإحكام الخناق عليه، وإدارته عبر تسخيرها لأعوانها وعملائها من مختلف الشرائح والفئات بأقل كلفة ممكنة.
وفي الأوضاع الاجتماعية المتردية التي تخلقها دولة المصالح الخاصة هذه، يفتح الباب واسعا وعلى مصراعيه لكافة أساليب الانتهازية والوصولية، وللعديد من العلاقات القرابية والزبونية وعلاقات الولاءات السياسية والشخصية لتحقيق الأغراض والمصالح الفردية والفئوية الخاصة والمحدودة.
ويقع تكريس هذه الأنماط من السلوكات بقيم ومعايير هي، في عمقها، ضرب لقيم العمل، والإنتاج، والإيثار، والتسامح، واحترام الاختلاف، والنضال من أجل المصالح العامة المشتركة. وهكذا تنتشر قيم الأنانية، والتحفظ، والحذر من الآخر، وتربص المبادأة، والتكتم على المشاريع والمصالح والحاجات الشخصية…
وغير خاف "أن الضغوط الاقتصادية الشديدة التي يتعرض لها الناس [ في مجتمعات العالم الثالث ] بفعل استغلال الطبقة البورجوازية الطفيلية للشعب، تجعل من العسير جدا على الناس الاستمرار في التمسك بالقيم الإيجابية، وتخلق بيئة مناسبة لانتشار الفساد الخلقي مما يؤثر تأثيرا بالغا على إنتاجية الفرد في المجتمع"(7).
ومن مظاهر هذا الفساد الاجتماعي والخلقي انتشار الرشوة والاختلاس والسمسرة بأشكالها المتعددة، وفي مختلف المجالات، بدءا من مجال التعاملات الحياتية اليومية العادية حتى المستويات العليا إدارية وسياسية، بل وحتى ثقافية أحيانا. ويقع، بفعل هذا كله، تدعيم كافة أنماط الممارسات الشاذة واللامسؤولة خلقيا واجتماعيا، ونبذ واحتقار كل سلوك عقلاني خلقي أو نضالي مسؤول، سواء في المجال العلمي والمعرفي، أو في المجال الاقتصادي، أو السياسي أو الاجتماعي.
"إن التواجد وسط مناخ عام فاسد يتطلب من أي مواطن شريف قدرة خارقة على مقاومة الفساد، بل إن المقاومة قد تعرضه لأخطار التآمر عليه، علاوة على المعاناة الشديدة من الضغوط الاقتصادية التي يرى غيره يتغلبون عليها، أو يخففون من حدتها بالفساد"(8).
ولعل فيما قدمناه أعلاه ما يدعم الأطروحة التي سقناها آنفا والتي مفادها أن تخلف المجتمعات الثالثية (ومن ضمنها المجتمعات العربية بالطبع)، في جميع مظاهره ومناحيه، يرجع، بالدرجة الأولى، إلى الإخفاق السياسي للدولة الثالثية، وعجزها التام عن تطوير المجتمع وتحويل هياكله وبنياته باتجاه إنماء حقيقي شمولي. وأنها لم تعمل سوى على نشر وتعزيز كل ما من شأنه أن يضرب عملية التنمية في الصميم: من قيم ومعايير ونماذج سلوكية تشكل في مضمونها إلغاء لكل عقلانية ولكل التزام إنساني أو خلقي لا يستغني عنه أي مشروع تنموي.

غير أن هذه الدولة،في الوقت الذي استطاعت فيه تحقيق سيطرتها (Sa domination) بفعل قوتها المادية وأساليبها القمعية، وبما تكرسه من قيم وممارسات وسلوكات اجتماعية مثل التي أشرنا إليها فيما سبق، في الوقت الذي تعجز فيه عن تحقيق هيمنة: (Hégémonie)(9) قادرة على منحها شرعية (Légitimité) اجتماعية وسياسية على مستوى الاقتناع بمشروعها وإيديولوجيتها. إن ما حدث في المجتمعات الثالثية من تدويل للحياة الاجتماعية (Etatisation) وتسييس (Politisation) للعلاقات، في إطار الدولة القائمة، لا يعني الاقتناع بشرعية هذه الدولة ومشروعها(10)، بل يعكس فقط، تعاملا حذرا ومصلحيا معها تحقيقا للهدنة وللأغراض الخاصة، واتقاء لشر المروق عنها، وما ينجم عن ذلك، بالنسبة لبعض الأفراد والهيئات من عزلة وتهميش على مستوى توزيع المواقع والوظائف والأدوار والاستفادة المادية والمعنوية.
هكذا، إذن، تظل الدولة الثالثية بدون تجذر اجتماعي فعال، الأمر الذي يجعل منها، في الواقع، دولة خواء اجتماعي على حد تعبير أحد  المفكرين العرب(11). وسبب هذا الخواء الاجتماعي "هو أن هذه الدولة لم تنشأ عن صراع داخلي قسم المجتمع وكتله، وأتاح بالتالي لأحد أطرافه المتصارعة أن يرسي سيطرته عبر "مسيرة طويلة" هي، فعلا، سياق تكثيف التناقضات داخل المجتمع، وسياق صوغ تاريخية جديدة بعناصرها المتعددة: أسس انقسام المجتمع، والمؤسسات التي تنظم الانقسام والتكامل، والثقافة التي تقرأ تاريخا لم تسبق كتابته. أي أن دولة مجتمعاتنا لم تشكل جهاز سيطرة انبثق من المجتمع ولو باتجاه الانفصال عنه وامتصاص "مادته". لذا ولدت هذه الدولة، بنمط سلطتها الخارجية وطاقمها وأجهزتها ومثقفيها، هامشية بالمعنى الحرفي. ولم تنجح في كسر هامشيتها حتى في أوج سطوتها، عندما بدا أنها أمسكت في قبضتها مقاليد الحكم والتنظيم السياسي ووسائل الإنتاج الرئيسية والإيديولوجية الرسمية"(12).

6 – الدولة الثالثية بين خلفية التكون ومآزق المآل:
وبالعودة إلى الشروط السوسيوتاريخية التي تشكلت في إطارها الدولة في المجتمعات النامية، تتكشف بعض أهم معالم انفصال هذه الدولة عن المجتمع، وابتعادها عن أن تكون دولة قومية أو وطنية: (Etat-Nation – Etat Nationale) متجذرة في المجتمع، معبرة عن تناقضاته، وصراعاته، وحاجاته، واختلافاته، ومكوناته المتمايزة…
لقد كانت مجتمعات العالم الثالث، في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أمام مشروعين كبيرين متناقضين(13):
*مشروع الدولة التقليدية المحلية بزعاماتها وقياداتها ومثقفيها وتحالفاتها المحلية والخارجية. أي، بتعبير آخر، بكل ما يشكل امتداداتها ومرتكزاتها. ولم يكن هذا المشروع متماثلا في كل المجتمعات النامية المتميزة –كما هو معروف عبر أدبيات سوسيولوجية واقتصادية وتاريخية متعددة- باللاتجانس والاختلاف الجغرافي والتاريخي والحضاري والاقتصادي، وعلى مستوى البنيات والهياكل الاجتماعية والسياسية والثقافية(14).
*المشروع الكولونيالي بشتى أشكال تواجده في المجتمعات المعنية، والذي يحمل، في عمق توجهاته واستراتيجياته، مشروعا رأسماليا احتكاريا، بالأساس.
وقد أدت هشاشة البنيات التقليدية في المجتمعات المستعمرة، وعدم قدرتها على المواجهة لتكون بديلا للاستعمار الأجنبي إلى تمكن المشروع الاستعماري من احتواء المشروع التقليدي بجميع فعالياته ليجعله منضويا تحت توجهاته الفكرية والسياسية والاقتصادية، وليعيقه عن التطور الذاتي المستقل وفق شروطه المحلية الخاصة.
وما أن حلت مرحلة الاستقلال –الشكلي في عمقه بناء على الكيفية التي تم بها في أغلب مجتمعات العالم الثالث- حتى كانت النخب والقيادات السياسية والاجتماعية المحلية –وهي التي كان عليها مهمة بناء دولة وطنية حديثة- قد ربطت عضويا مصالحها مع المستعمر الذي خرج من الباب ليعود من النافذة عبر تلك المصالح والارتباطات.
وقد نتج عن هذا المآل التاريخي لتشكل الدول في البلدان النامية لا قيام رأسمالية حقيقية بفلسفتها وقيمها وممارساتها… ولا قيام رأسمالية دولة: (Capitalisme d'Etat)، بالمعنى الدقيق للمصطلح، بالرغم من كثرة الحديث، في بعض مراحل تطور مجتمعاتنا، عن هذه الدولة(15). إن كل ما حدث لا يتعدى، في واقع الأمر، نشوء دولة تابعة لمصادر القرار في المركز/الغرب، متخارجة في ارتباطاتها وعلائقها بمصادر القرار تلك. دولة هي، في العمق، إفراز لتسوية مزدوجة أكثر مما هي إفراز لصراع اجتماعي: تسوية بين المستعمر وبين النخب والقيادات المحلية بهدف إقرار الاستقلال السياسي الموهوم، وتسوية داخلية بين الفئات والشرائح الاجتماعية المناوئة والمختلفة قائمة على لجم الصراعات وإيقافها، وطمس التناقضات، تحقيقا "للوحدة" ودرءا للفوضى والتشتت والانقسام في "الأمة الواحدة".
ونظرا لكل هذه المواصفات والخصائص التي تتميز بها الدولة في البلدان النامية فقد ظلت صدارتها، على مستوى التحكم في هيكلة المجتمع وتحديد مآله وتطوراته، صدارة قائمة –كما سبق أن أوضحنا- على منطق عنفي قامع بلا شرعية مقنعة، وبالتالي بلا مشروع مجتمعي واضح المعالم والرؤى والأهداف والغايات، مؤطرا لمصالح المجموع، ومنبن على الوفاق والإجماع الأغلبي، ومشكل لمرجعية ناظمة لتعدده واختلافاته الطبقية والإثنية والسياسية…
وعلى النقيض من ذلك تماما، فإن الدولة في المجتمعات الغربية قد حققت نوعا من التكامل والانسجام في إطار مشروع مجتمعي وحضاري(16) يوحد ويوائم ما بين المجتمع بكل فئاته وطبقاته وفعالياته المختلفة، وبين الأمة كوعي مشترك بالهوية الحضارية والتاريخية، وبين الدولة كإطار تنظيم عقلاني قانوني لمشروعها المجتمعي، بكل مكوناته واختلافاته. وبذلك أصبحت هذه الدولة دولة شرعية إجماعية ودولة قانون(17). في حين بقيت الدولة الثالثية دولة نُخَبٍ سائدة متسلطة، دولة عنف واستبعاد للمجتمع/الشعب، وبالتالي دولة خواء اجتماعي.
وبذلك ظلت المكونات الثلاثة الآنفة: المجتمع: La société، والأمة: La nation، والدولة: L’Etat، في العالم الثالث، لا تجد وحدتها وتكاملها إلا على مستوى إيديولوجيا شعارية خادعة ومخدوعة في نفس الآن(18)، إيديولوجيا تتوسل، أحيانا، إلى القيم الماضوية والتراثية لدعم مقومات وجودها، وتتمظهر، أحيانا أخرى، ببعض مظاهر العصرنة والحداثة، فتعتقد بذلك، واهمة، أنها قد حققت توفيقية مثالية ما بين الأصالة والمعاصرة، في الوقت الذي تبدو فيه متخلفة عن الماضي والحاضر في آن(19). ولعل المجتمعات العربية تقدم، في أوضاعها الراهنة المتخلفة، مثالا حيا لمراوحة يائسة مهتزة ما بين التقليد والتعاصر. لا في بنياتها وهياكلها السياسية وحسب، بل في جل البنيات والمجالات والمؤسسات التربوية، والأسرية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية بشكل عام(20).

 

7 – حوار حول الصلاحية المنهجية للنموذج التحليلي المقترح:
هكذا، إذن، نصل –من خلال ما سبق عرضه- إلى دعم النموذج التحليلي المقترح، والذي يفترض أسبقية الآلية السياسية على الآلية الاقتصادية والثقافية في تحديد الأنساق المجتمعية في العالم الثالث، وبالتالي في تفسير وتحليل أوضاعها الراهنة. الأمر الذي يولي، بالاستتباع، أهمية شارطة للطرح السياسي لإشكالية التخلف والتنمية والتحديث في البلدان النامية، مع مراعاة اختلافاتها وتمايزاتها المتعددة.
غير أننا، وإن كنا نقر بنجاعة النموذج التحليلي الآنف، نظرا للحيثيات التي سبق أن قدمناها، فإن التشابك العلائقي المعقد لمجالات وأبعاد واختلافات المجتمع، أي مجتمع، يجعلنا نؤكد على ضرورة عدم الإغفال التام لتلك المجالات والأبعاد: البعد السياسي، البعد الاقتصادي-الاجتماعي، البعد الثقافي والإيديولوجي.
وإذا كنا مع الموقف الذي يرى أن مجتمعات العالم الثالث تتسم، بشكل أساسي، بهيمنة العلاقات السياسية، في المناخ الذي تقيمه الدولة الوطنية راهنا، على العلاقات الطبقية-الاجتماعية، والثقافية-الإيديولوجية؛ فإن هذا لا يعني، أبدا، أننا نرتكن إلى تفسير أحادي البعد، بل إن كل ما نرمي إليه هو، بالذات، التأكيد على أولوية نموذج تحليلي معين، وعلى نجاعته النظرية والمنهجية في إبراز محددات النسق ومكونات النسق الاجتماعي المبحوث. ونعتقد أن العديد من الأبحاث، والطروحات، والمقترحات النظرية لا تتنافى مع هذا الموقف، بل هناك تقارب متصاعد حول دعمه وتكريسه.
إن مشكل التخلف، بناء على النموذج الآنف، هو، في التحليل النهائي، مشكل سياسي يرجع إلى طبيعة الدولة الحالية في المجتمعات الثالثية، وهشاشة بنياتها المادية والرمزية، وما تكرسه من قيم وممارسات مهترئة وعاجزة عن القيام بأي إقلاع تنموي فعلي. إلا أن مشكل التخلف هذا لا ينحل، فقط، إلى علاقات سياسية موسومة باللاعقلانية في تدبير اختلافات الشأن المجتمعي العام، وبالاستغلال الطبقي، وضيق الأفق الإيديولوجي، وفقدان المشروعية وإعاقة أي مشروع طبقي-اجتماعي ومنعه من التبلور والانطلاق… أي إلى علاقات بنيوية داخلية وخاصة؛ بل يعود، أيضا، إلى عوامل خارجية مرتبطة، أساسا، بالاستعمار، بكل أشكاله ومستوياته ومستتبعاته.
وإذا كانت بعض المجتمعات النامية، مثل المجتمعات العربية، قد عرفت، منذ زمن طويل، مفهوما معينا وخاصا جدا لما يدعى بـ الدولة/الأمة التي شكلت حلفا وطنيا دافع ضد الأجنبي حفاظا على الهوية الذاتية المتميزة (كحالة المغرب ومصر فيما قبل عهود الاستعمار)؛ فإننا نرى، حاليا، أن اندماج التشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية الثالثية في إطار علاقات التبعية، أو ما يسميه البعض: نمط الإنتاج الكولونيالي(21)، أو: التشكيلات الاجتماعية المحيطية(22) هذا الاندماج لم يتح لهذه المجتمعات فرصة التطور بالاتجاه الطبيعي نحو مآلات تاريخية يبدو من الصعب إمكان التنبؤ العلمي بمحدداتها مادمنا لا نتوفر على الشروط الكافية والموضوعية لمثل هذا التنبؤ.
بعيدا، إذن، عن اختزال مشكل التخلف والتنمية والتحديث في نمط الدولة الثالثية المعاقة، فإننا نتفق مع ما يدعى بـ: الاتجاه البنائي-التاريخي: L’orientation structuro-historique، والذي يرى "أن ظاهرة تخلف دول العالم الثالث تعود إلى نوعين من العوامل (أو الأسباب)، لا يزالان بحاجة إلى فهم عميق. العامل الأول خارجي مرتبط بالنظام العالمي الإمبريالي الذي يضمن للدول الراسمالية الصناعية المتقدمة مضاعفة احتكاراتها عن طريق استغلال الدول النامية والإبقاء على أوضاعها الراهنة… أما العامل الثاني فهو داخلي ومرتبط بطبيعة دول العالم الثالث وبناءاتها واستراتيجياتها، أي مرتبط بقدراتها على تحقيق الاستقلال الاقتصادي وإلغاء التبعية"(23).
وتأسيسا على ما سبق تتضح الأهمية المنهجية للمنظور الشمولي البنائي-التاريخي في تفسير واقع التخلف، كما تتضح أهمية الطرح السياسي لهذا الواقع في نفس الوقت. فالمشروع التنموي التحديثي هو، في العمق، قرار سياسي، واختيار اجتماعي ينبني على رؤية واضحة الأهداف مكرسة لجميع الفعاليات والإمكانات الاقتصادية والبشرية والتنظيمية لمحاربة التخلف والتبعية، وإحداث التغيرات التنموية والتحديثية المنشودة، في مختلف مجالات الإنتاج وتدبير الشأن المجتمعي العام.
"وهنا يبدو لنا الدور الهام الذي يمكن أن يلعبه الكادر السياسي في تحديد أهداف وأولويات النضال ضد التخلف، وتلك حقيقة إيديولوجية خالصة، ذلك أن النضال ضد التخلف مرتبط بتفاني الكادر السياسي في خدمة المصلحة القومية. وقد تفسر لنا هذه الحقيقة الركود الاقتصادي الذي تعاني منه كثير من الدول المتخلفة الغنية بالمواد الطبيعية. ولا يستطيع هذا الكادر السياسي أن يؤدي مهامه بنجاح دون مشاركة جماهيرية حقيقية، على أن يتم الارتفاع بمستوى وعي الجماهير إلى أقصى حد ممكن"(24).
ومن البديهي أن دولة ثالثية بكوادرها المتخلفة، ومرتكزاتها وامتداداتها، وبما ترسخه في المجتمع من قيم وإيديولوجيا وسلوك سياسي… لا تستطيع، بحكم ما توسم به مما قدمنا من سمات وخصائص، أن تسمو بالوعي الجماهيري إلى المستوى الذي تصبح معه قادرة على تكثيف هذا الوعي لصالح مسيرة تنموية تحديثية مدعومة بإيمان واقتناع الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة بأنها تخدم، في هذه المسيرة، قيما وممارسات ومصالح مشتركة. وبدل ذلك، تعمل دولة السلطات المطلقة هذه على إقبار كل المبادرات القاعدية المخالفة المتحفزة، وعلى إنهاك وإضعاف المجتمع المدني: Société civile بالعنف إلى حد التآمر ضده ضمانا لتأييد سيطرتها وإدامتها عوض أن تعمل على تقويته، وأن تكون سنده في تحقيق توازنه، وفض نزاعاته، وتوجيه طاقاته واختلافاته نحو الخلق والإبداع والمبادرة، وتكريسها لخوض الصراع ضد التبعية والتخلف بدل الصراع الذي تخلقه بين دولة استبعادية من جهة، ومجتمع متفكك متحلل، من جهة ثانية(25). وهكذا تفشل هذه الدولة في إيصال المجتمع إلى تحقيق أي توافق حقيقي بين مختلف شرائحه وتوجهاته الفكرية والسياسية والاقتصادية… الأمر الذي يبرز، على المستوى العملي، إخفاقها أيضا في بلورة أي صيغة عقلانية لتدبير عصري متحضر لدواليب ومكونات واختلافات ومصالح ومشكلات… المجتمع، وقضايا شأنه العام، كما يبرز ذلك، على المستوى الفكري، عجز هذه الدولة عن تأسيس أي ثقافة ديمقراطية معممة اجتماعيا، مكرسة لقيم الاختلاف والحوار والتبادل… ومتبناة من طرف مختلف المكونات والقوى الفاعلة في المجتمع.
وفي غمار أوضاع الانحلال الاجتماعي والخلقي هذه، وفي شرط غياب تلك الثقافة المجتمعية الآنفة الذكر، "تفقد كل القيم التقليدية والحديثة تماسكها وفعاليتها. وبفقدان هذه القيم، تفقد النشاطات جميعها معناها والفعاليات الاجتماعية والفردية بريقها. وعندما تفقد الحياة كل معنى، والنشاطات كل قيمة لا يرى الأفراد وسيلة لتحقيق ذواتهم لا في هذه المهنة ولا في هذا النشاط، لكن فقط في التوحد والتماهي مع السلطة، وفي طلب السلطة، وفي الصراع للوصول إلى أعلى قمة فيها. تصبح السلطة والتسلط هما القيم الوحيدة الممكنة، ويولد لدى كل فرد وفي روحه متسلط صغير. وفي هذه السلطوية المشتركة بين الأفراد والحكم يتحقق التماثل والتمثيل، وتجد ديكتاتورية الحاكم المطلق معناها"(26).
قد نؤاخذ من طرف البعض على هذه الصورة المأساوية –ولكنها الواقعية- التي قدمناها عن الدولة الثالثية. كما قد تنعت هذه الصورة بأنها تشاؤمية وتيئيسية في الوقت ذاته. غير أنه تجدر الإشارة إلى أن مجتمعات العالم الثالث –ومن ضمنها المجتمعات العربية بالطبع- لا تشكل كلا متجانسا ومتماثلا في تجاربه السياسية وأنماط الدول القومية/الوطنية القائمة.
ومع ذلك تبقى القواسم المشتركة التي ركزنا عليها حاضرة بكل ثقلها وتأثيراتها، منتظمة لأغلب دول العالم النامي، دون أن يمنع ذلك من وجود نماذج تنموية ثالثية رائدة لها مكانتها بالرغم من العوائق والكوابح الذاتية والموضوعية التي تعترض سبيلها(*).
ولعل الأوضاع الاجتماعية المهزوزة والمنحلة هي وقود الفكر النضالي الذي لا يعرف التشاؤم ولا اليأس أو التيئيس. ولعل في استعظام فداحة هذه الأوضاع ما يجعل النضال السياسي والثقافي والاجتماعي ممكنا، بل مشروعا وإلزاميا لبلورة إجماع وطني سياسي وثقافي عقلاني، وصياغة رؤية مجتمعية موحدة وهادفة للتغيير الذي يخدم المصلحة العامة المشتركة، ويحارب التفكك والانحلال. وبغير هذا النضال الواعي، الذي يبنغي أن يتحمل الجميع مسؤولية الانخراط فيه، سوف لن يتحقق لبلدان العالم الثالث أي إقلاع أو تنمية أو تحديث. أما كيفية تشكل هذا الوعي النضالي في ظروف الإحباط والتثبيط هذه، وما هي الشروط الضرورية لإنضاجه والدفع به إلى مداه البعيد؟ فتلك مسألة لم يكرس لها هذا البحث المجتزأ المحدود(27).

8 – تذكير ختامي:
نلح من جديد، بتحفظ شديد، وبحذر نظري ومنهجي مضاعف، على أنه إذا كانت هناك أهمية ما للنموذج التحليلي المقترح، والذي يعتمد الآلية السياسية كمحدد ومفسر للنسق المجتمعي العام، أي لأشكال وقنوات توزيع الاستفادة والمراتب: (المستوى الاقتصادي-الاجتماعي)، وتوزيع المعرفة والقيم والرموز:(المستوى الثقافي-الإيديولوجي) أقول: إذا كانت هناك أهمية ما لهذا النموذج، فإنه يجب، مع ذلك، إبعاد كل نظرة اختزالية لواقع المجتمعات الثالثية المبحوثة، والأخذ بمنظور تكاملي لكل أبعاد وجوانب المجتمع الأخرى غير الجانب الدولوي-السياسي. ذلك أن هذه الجوانب والأبعاد لا يقع الاختلاف، في تحديدها وتفسيرها للنسق المجتمعي، إلا في أهميتها النسبية، وعند مقاربة واقع اجتماعي عيني مشخص في الزمان والمكان. وإذا أدخلنا في الاعتبار كون مجتمعات العالم الثالث تتسم، كما سبق الذكر، بغياب مشروع مجتمعي واضح المقاصد والرؤيا، وبتنضيدات اجتماعية-طبقية غير بينة المعالم… اتضح لنا كم يكون مفيدا الأخذ بذلك المنظور التكاملي لشتى جوانب ومجالات المجتمع. وذلك حتى في إطار إعطاء الأولوية في التحليل والتفسير لجانب أو مجال دون آخر. إن هذا الهاجس النظري والمنهجي هو الذي كان يوجه –على مستوى الخلفية المنهجية- هذه الدراسة المتواضعة، والتي لم نكن نهدف من ورائها سوى إلى فتح حوار علمي حول قضية تعتبر، راهنا، من أبرز القضايا الشائكة في الفكر السوسيولوجي المعاصرn

المراجع:

أولا – المراجع العربية والمترجمة:
1 – إبراهيم سعد الدين (بإشراف): المجتمع والدولة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988.

2 – أحمد سمير (نعيم): (أثر التغيرات البنائية في المجتمع المصري خلال حقبة السبعينات على أنساق القيم الاجتماعية ومستقبل التنمية)، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، العدد الأول، السنة الحادية عشرة، مارس، 1983.
3 – الأزرق (مغنية): نشوء الطبقات في الجزائر…، ترجمة سمير كرم، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1980.
4 – أمين (سمير): المغرب العربي الحديث، دار الحداثة، بيروت، 1980.
5 – أمين (سمير): التطور اللامتكافـئ، دراسة في التشكيلات الاجتماعية الرأسمالية المحيطية، ترجمة برهان غليون، دار الطليعة، بيروت، طبعة ثالثة، 1980.
6 – بادي (بيرتراند) – بيرنبوم (بيار): سوسيولوجيا الدولة، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، طبعة أولى.
7 – بالاندييه (جورج): الأنثروبولوجيا السياسية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، طبعة أولى، 1986.
8 – بركات (حليم): المجتمع العربي المعاصر، بحث استطلاعي اجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، طبعة ثالثة، 1986.
9 – بيوتي (جان مارك): فكر غرامشي السياسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1975.
10 – تورين (ألان): إنتاج المجتمع، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1976.
11 – جماعة مؤلفين: السلطة والأساطير والإيديولوجيات، ترجمة كمال خوري، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1980.
12 – جسوس (محمد): الدرس السنوي بالسلك الثالث، شعبة علم الاجتماع، تخصص النظريات الاجتماعية، الموسم الجامعي 1980-1981، (درس غير منشور، مع الاستئذان بالإشارة إليه).
13 – الحسيني (السيد): دراسات في التنمية الاجتماعية، دار المعارف بمصر، القاهرة، طبعة ثالثة، 1977.
14 – عامل (مهدي): أزمة الحضارة، أم أزمة البورجوازيات العربية، دار الفارابي، بيروت، طبعة ثالثة، 1981.
15 – العروبي (عبد الله): مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1981.
16 – غليون (برهان): (ملاحظات حول الدولة في المجتمعات النامية: آليات السيطرة والعنف)، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، بيروت، عدد 14-15، آب-آيلول، 1981.
17 – غليون (برهان): بيان من أجل الديمقراطية، دار ابن رشد، بيروت، طبعة ثانية، 1980.
18 – غليون (برهان)، الوعي الذاتي، منشورات عيون المقالات، الدار البيضاء، طبعة أولى، 1987.
19 – غليون (برهان): مجتمع النخبة، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1986.
20 – غليون (برهان): اغتيال العقل…، دار التنوير، بيروت، طبعة ثانية، 1987.
21 – شرابي (هشام): البنية البطركية، بحث في المجتمع العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، طبعة أولى، 1987.
22 – شرارة، (وضاح): حول بعض مشكلات الدولة في الثقافة والمجتمع العربيين، دار الحداثة، بيروت، طبعة أولى، 1980.

ثانيا – المراجع الموضوعة باللغة الفرنسية:

1 - Bachrouch, T. : Les élites tunisiennes du pouvoir et la dévotion, Contribution à l’étude des groupes dominants : 1781-1881, Paris, 1972.
2 – Balandier, G. : Sens et puissances…, Ed. PUF, Paris, 1981.
3 – Balandier, G. : Sociologie actuelle de l’Afrique Noire, 3ème Edition, Paris, 1979.
4 – Balandier, G. : (Sous la direction…) : Sociologie des mutations, 3ème Edition, Paris, 1970.
5 – Berque, J. : Le Maghreb entre deux guerres, 3ème Edition, Seuil, Paris, 1962.
6 – Hermassi, B. : Etat et société au Maghreb…, Ed. Anthropos, Paris, 1975.
7 – Laroui, A. : Les origines sociales et culturelles du Nationalisme Marocain, Ed. Maspero, Paris, 1977.
8 – El Malki, H. : (Capitalisme d’Etat, développement de la bourgeoisie et problématique de la transition : le cas du Maroc), Revue juridique, politique et économique du Maroc. N°8 (Spécial), 1980.
9 – Miaille, M. : L’Etat de droit, Ed. Maspéro, Paris, 1976.
10 – Touraine, A. : Production de la société, Ed. Seuil, Paris, 1973.
11 – Touraine, A. : Les classes sociales dans une société dépendante, la société latino-américaine, Tiers-Monde, n°82 – 1975.

(1) - يقترب التصور الذي يقترحه الأستاذ د.محمد جسوس من هذا الطرح. ارجع بالخصوص إلى درسه السنوي بالسلك الثالث، شعبة علم الاجتماع، تخصص النظريات الاجتماعية، الموسم الجامعي 80-1981. درس غير منشور، مع الاستئذان بالإشارة إليه.
(2) - يرى الباحث السوسيولوجي ألان تورين A.Touraine في كتابه إنتاج المجتمع ما يتفق مع الرأي القائل: بأن الآلية السياسية في مجتمعات العالم الثالث تحدد الآلية الاقتصادية-الطبقية: السلطة السياسية، بمعناها السوسيولوجي العام، هي التي تنتج الطبقية، وليس العكس. انظر بصدد هذه المسألة:
Alain Touraine : Production de la société, Ed.Seuil, Paris, 1973.
ألان تورين: إنتاج المجتمع، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1976.
(3) - برتراند بادي/بيار بيرنيوم: سيوسيولوجيا الدولة، ترجمة جورج  أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، طبعة أولى، ص17.
(4) برهان غليون: (ملاحظات حول الدولة في المجتمعات النامية، آليات السيطرة والعنف)، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، بيروت، عدد 14/15، آب-أيلول 1981، ص.ص40-41.
ونفس التصور يقدمه الأستاذ برهان غليون في أهم أعماله الآتية:
*بيان من أجل الديمقراطية، دار ابن رشد، بيروت، طبعة ثانية، 1980.
*الوعي الذاتي، منشورات عيون المقالات، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1987.
*مجتمع النخبة، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1986.
*اغتيال العقل… دار التنوير، بيروت، طبعة 2، 1987.
(5) - نفس المرجع، ص43.
(6) - نفسه، ص45.
(7) - د.سمير نعيم أحمد: أثر التغيرات البنائية في المجتمع المصري خلال حقبة السبعينات على أنساق القيم الاجتماعية ومستقبل التنمية، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، العدد الأول، السنة الحادية عشرة، مارس 1983. ص119.
(8) - نفس المرجع، ص120.
(9) - نستعمل، هنا، مفهومي: السيطرة والهيمنة، بالمعنى الذي يعطيه غرامشي لهما. انظر بهذا الصدد:
    ـ جان مارك بيوتي: فكر غرامشي السياسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1975.
(10) - نستعمل، هنا، لفظة: مشروع، بمعنى مجازي أي سياسة الدولة وتوجهاتها العامة. وذلك دون أن نقصد أن هذه الدولة الثالثة تتوفر على رؤية متكاملة، وبالتالي على مشروع منجسم يفترض أن يكون وفاقيا وشرعيا ومحل إجماع من طرف المجتمع برمته، أو على الأقل أغلبية المجتمع.
(11) - وضاح شرارة: حول بعض مشكلات الدولة في الثقافة والمجتمع العربيين، دار الحداثة، بيروت، طبعة أولى، 1980، ص228.
(12) - نفس المرجع.
(13) - جورج بالاندييه: الأنثروبولوجيا السياسية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، طبعة أولى، 1986.
(14) - بالنسبة للمغرب العربي العربي خاصة تجدر الإحالة إلى:
ـ سمير أمين: المغرب العربي الحديث، دار الحداثة، بيروت، 1980.
ـ مغنية الأزرق: نشوء الطبقات في الجزائر…، ترجمة سمير كرم، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1980.
-El Baki Hermassi : Etat et société au Maghreb… Ed. Anthropos, Paris, 1975.
-Bachrouch Taoufik : Les élites tunisiennes du pouvoir et de la dévotion, contribution à l’étude des groupes dominants 1781-1881. Paris, 1972.
وبالنسبة للعالم الثالث والعالم العربي عموما نحيل إلى:
+ سمير أمين: التطور اللامتكافئ، دراسة في التشكيلات الاجتماعية الرأسمالية المحيطية، ترجمة برهان غليون، دار الطليعة، بيروت، طبعة ثالثة، 1980.
+ جورج بالاندييه: الأنثروبولوجيا السياسية، مصدر سابق.
+ G.Balandier : Sens et puissances, les dynamiques sociales, Ed. PUF, Paris, 1981.
+ G.Balandier : Sociologie actuelle de l’Afrique Noire, 3ème Ed. Paris, 1979.
+ G.Balandier : (Sous la direction) : Sociologie des mutations, 3ème Ed. Paris, 70.
+ A.Touraine : (Les classes sociales dans une société dépendante, la société latino-américaine), Tiers-Monde, N°82, 1975.
(15) - انظر، بصدد أطروحة رأسمالية الدولة، على سبيل المثال:
+H.El Malki: (Capitalisme d’Etat, développement de la bourgeoisie et problématique de la transition : le cas du Maroc), Revue juridique, politique et économique du Maroc, n°8 (Spécial), 1980.
(16) - لا نعني بالمشروع المجتمعي المتكامل –حتى بالنسبة للمجتمعات المتقدمة- المشروع الناجز والمكتمل نهائيا. فمثل هذا المشروع لا وجود له إلا على مستوى النموذج والمثال: (Prototype). وكل مشروع مجتمعي هو استمرارية ومواصلة اجتماعية. إنه صيرورة دائمة بالمفهوم الفلسفي لمدلول الصيرورة.
(17) - انظر: ميشيل مياي في دولة القانون:
Michel Miaille : L’Etat de droit, Ed. Maspero, Paris, 1976.
وانظر أيضا حول مفهوم الدولة عموما:
ـ عبد الله العروي: مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1981.
(18) - جماعة من المؤلفين: السلطة والأساطير والإيديولوجيات، ترجمة كمال خوري، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1980.
(19) - د.هشام شرابي: البنى البطركية، بحث في المجتمع العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، طبعة أولى، 1987.
(20) - للاطلاع على أوضاع المجتمع العربي المعاصر، اطلاعا شموليا على أهم بنياته ومجالاته، تجدر الإحالة إلى الدراسة القيمة التالية:
ـ د.حليم بركات: المجتمع العربي المعاصر، بحث استطلاعي اجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، طبعة ثالثة، 1986.
كما نحيل إلى المعطيات الهامة التي يتضمنها الكتاب التالي:
ـ د.سعد الدين إبراهيم: (بإشراف): المجتمع والدولة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988.
(21) - مهدي عامل: أزمة الحضارة، أم أزمة البورجوازيات العربية، دار الفارابي، بيروت، طبعة ثالثة، 1981، ص51-56.
(22) - سمير أمين: التطور اللامتكافئ… نفس المرجع السابق.
(23) - د.السيد الحسيني: دراسات في التنمية الاجتماعية، دار المعارف بمصر، القاهرة، طبعة ثالثة، 1977، ص:
(24) - نفس المرجع، ص:
(25) - برهان غليون: الوعي الذاتي، مرجع سابق، ص134.
(26) - نفسه، ص135.
(*)  - يمكن الإشارة، بشأن هذه المسألة، إلى تجربة "التناوب السياسي" التي يعيشها المغرب حاليا. وبلا شك فإن هذه التجربة تحتاج، نظرا لأهميتها ومدلولاتها السياسية، إلى تحليل علمي وسياسي معمق لأبعادها وشروطها وآليات اشتغالها. وواضح أن دراستنا هذه –بناء على تموضعها المنهجي المعلن- لم تكن مكرسة لهذا النمط من تحليل التجربة المذكورة.
(27) - ما تزال الدولة، بل وآليات اشتغال الحقل السياسي في مجتمع العالم الثالث عامة، تواصل إعادة إنتاج التبعية والتخلف، وإن كان ذلك بأشكال وأساليب متعددة مختلفة ومتطورة. غير أن زمن العولمة الزاحفة، وإكراهات النظام الكوني الجديد، وتحولات أنساق القيم والمعرفة والتكنولوجيا وأنماط العلاقات والتبادلات المادية والرمزية… أوضاع أصبحت تفرض على مجتمعات العالم الثالث رهانات وتحديات وأدوارا ومهام وتموضعات جديدة قادرة على مجابهة هذه الزمن العولمي، والتفاعل الإيجابي مع معطياته ومكوناته…، والانخراط المستحق في صراعاته ومراهناته السياسية والفكرية والاقتصادية والحضارية… وإذ كنا، في هذا البحث بالذات، قد ركزنا تحديدا على تحليل آليات اشتغال الحقل السياسي في المجتمعات المعنية –الأمر الذي ما يزال في تقديرنا متسما بصلاحية تحليلية، نسبية بالطبع- فإننا نطمح، في دراسة لاحقة، إلى تقديم المزيد مما يغني هذا التحليل، وخاصة بالنسبة للمهام والتحديات التي أصبحت تفرضها على "الدول الوطنية" في مجتمعاتنا الثالثية تحولات العقد الأخير من هذا القرن العشرين المشرف على نهايته القريبة.