من مجالس الشاي إلى مجالس المقهى - ايت الحسن الحسن

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ككل عطلة صيف تكون الوجهة المفضلة لأبناء دوار "تسكورت"[1] المهاجرين إلى المدن هي دوارهم لما له من خصائص طبيعية تتجلى في تواجده على ضفاف نهر "اسيف المال" وكذلك تواجده بالقرب من سد أبي العباس السبتي أو المعروف لدى أهل المنطقة ب "سد تسكورت" والذي مكن الدوار من الاستفادة من الطريق المعبدة نحو مركز "مجاط". المنطقة تابعة إداريا لعمالة "شيشاوة "  جنوب مدينة مراكش المغربية وهي منطقة جبلية معروفة أساسا بأشجار الزيتون والخروب "تيكادا" باللغة الأمازيغية، رغم أني لست ابن المنطقة إلا أني اقضي معظم العطلة هناك لأن زوجتي من هذه المنطقة.
يعرف الدوار رواجا كبيرا في الصيف بقدوم اغلب  أبنائه وكذلك لأن اغلب الأعراس تقام في هذه الفترة من السنة والتي تتميز بمجموعة من الطقوس والعادات من أهمها طقس "تاراكت"، حيث يقوم المدعون   كل حسب قدرته ومكانته الاجتماعية في الدوار بإعطاء صاحب العرس قدرا ماليا أمام الحاضرين، حيث يتكلف "البراح" بإعلان اسم صاحب الهدية وقيمتها التي تتراوح بين خمسين درهما إلى ما يفوق ألف درهم خاصة إذا حضر احد الأعيان الحفل، حيث يقول البراح مثلا : " واا 200 درهم ز غدار محمد او عمار زغيد ار الدارالبيضاء، ايخلف ربي"[2].

إن المبلغ المالي الذي يهديه احدهم ما هو في الحقيقة إلا "سلف" أو رد لسلف  كما اخبرني احد كبار السن، فرغم أن الهدية اختيارية إلا أنها في الحقيقة إلزامية،  انه بتعبير( مارسيل موس)"  [3]le don et le contre don" "العطاء ورد العطاء" حيث ينتظر صاحب الحفل من المدعوين رد الهدية التي قد يكون أعطاها أو سيعطيها في أعراس الآخرين بما يعادلها أو أكثر منها،  فإذا كان العريس هو المنظم للحفل فغالبا ما تعطى له النقود أما في حالة العروس فتكون اغلب "تراكت" عبارة عن هدايا لتأثيث المنزل (فرن، زرابي، أوني مطبخيه...)، كما تتميز أعراس المنطقة بحضور رقصة "تاسكوين"[4].
في هذه المقالة لن اهتم بتفاصيل العرس، لكن ما أثار اهتمامي أكثر هي مجالس الشاي أو "اكور وتاي" والتي قد تتكرر في اليوم أكثر من ثلاث مرات والتي لها مجموعة من الطقوس والأدوار الاجتماعية، كنت احضر بعضا من هذه المجالس إذا دعيت لها أو كان أهل زوجتي من ينظمها، وكنت دائما ألاحظ و التقط مجموعة من المعلومات خاصة من كبار السن  لأكتشف دور هذه المجالس ومن يحضرها وما يقال فيها، هل هي فقط لشرب الشاي؟ أم لها أهداف أخرى؟
تقام هذه المجالس خاصة قبل صلاة الظهر أو بعد صلاة العصر وقد تقام بعد صلاة العشاء[5] حيث يجتمع مجموعة من الأشخاص قد يكونون من نفس العائلة (الأعمام، الأخوال...) وقد لا يكونون كذلك، يجتمعون في إحدى المنازل أو تحت أشجار الخروب على ضفة النهر. هذه المجالس لها مجموعة من الطقوس، أولها مكان الجلوس الذي يجب أن يكون منظما ونظيفا، يقول احد كبار السن : " الموضع انقين أدلين د لفراش اد زيين" يعني المكان النظيف والفراش الجيد للجلوس والاجتماع، يجلس المجتمعون في مكان مفروش ونظيف خاصة في وسط الدار "اسراك" حيث تتميز منازل المنطقة  بانفتاحها عل السماء وعدم توفر النوافذ إلى الخارج وتواجد حوض به نباتات في مركز الدار كما يستعمل في بنائها الطين " اللوح" بلغة المنطقة.
يتولى إعداد الشاي شخص متمرن على ذلك يدعى "القام وتاي" أو المعلم وتاي"[6] وقد يتولى الأعداد عدة أشخاص إذا كان الجمع كبيرا، يقوم احدهم بتهيئة اللوازم الضرورية لأعداد الشاي (الصينية، الكوؤس، المقراج، حبوب الشاي الجيدة، السكر، النعناع، قارورة الغاز أو المجمر ...)، انه من العيب إعداد الشاي من المطبخ من طرف النساء[7]  لأن ذلك يدل على عدم الترحيب بالجمع. يقوم "المعلم وتاي" بتنظيف يديه ثم تهيئ الشاي، يحسب عدد الحاضرين ليقابله بعدد الكؤوس حيث لا يجب أن يبق احدهم من دون كأس شاي ولا يجب أن يصب كأسا زائدا عن الحضور، وإذا تولى عملية الأعداد أكثر من شخص فإنهم يقومون بحساب عدد الحاضرين الذين سيتكلف بهم ولا يصب الشاي إلا في نفس الوقت من طرف المعدين. "اتاي اغورسكر الرزا اكرو سيس اورتيكي" فلابد من كاس الشاي أن يكون جيدا يعلوه زبد ابيض الذي يبقى في قعر الكأس، ليسمع معد الشاي من الحضور "بصحتك" وإلا سيحرم من المهمة في الجلسة القادمة.
أورد "عبد الأحد ألسبتي" و"عبد الرحمان لخصاصي" في كتابهما "من الشاي إلى الآتاي العادة والتاريخ"[8] أن الزوايا  في المغرب في عهد الحسن الأول كانت تنصب  رجلا خاصا بطقوس الشاي "مول الآتاي" كما أن إعداد الشاي يخضع لمجموعة من الطقوس المحكمة حيث يتولى معد الشاي "مقيم الشاي"، الذي لا يجب أن يكون عبدا أو اسود البشرة أو من الحراطين والفقراء، تحضير الشاي بطريقة محكمة كما يراعى في توزيع كؤوس الشاي نوع من التراتب  الاجتماعي  الذي لا تخلو منه هذه المجالس أيضا رغم أن الشاي يوزع ابتداء من اليمين إلا أن طريقة جلوس الأفراد توحي بهذا التراتب  الاجتماعي حسب سلطتهم الدينية (الفقيه) أو المالية (التجار، الأعيان ).
يقول احد كبار السن : "اورلي اكور بلا اتاي" بمعنى لا يوجد مجلس بدون شاي فحوله يتجاذب الجالسون أطراف الحديث وتناقش أمور الدنيا والدين، يقول الناظم "اور رحم ربي الكيسان وتاي اكوان ما غي كور ايناك رميغ"[9] بمعنى ربي لا ترحم كيسان الشاي التي يجتمع حولها بدون حديث ومناقشة. يقوم الحاضرون في هذه المجالس  بمناقشة أمور الدوار من مثل مشاكل الماء والمسجد والطريق وقد تناقش أحوال السوق خاصة إذا صادف المجلس يوم السوق حيث يتحدثون عن اثمنة الخضر والبهائم كما يمكن أن يتحدث الجمع عن أمور سياسية أو أحوال المدينة التي قدم منها البعض، إلا أنها في بعض الأحيان تكون فقط للترفيه عن النفس حيث يحكي كبار السن قصصهم وتغير أحوال الدنيا. إن هذه المجالس التي عوضت بالمقهى في المدينة تكون خاصة بكبار السن حيث تخلو من الشباب الذين لهم مجالسهم هم الآخرون إما على ضفة النهر أو "العين" والتي أصبح يؤثثها الهاتف الذكي والذي يغيب في مجالس الشاي عند كبار السن إلا لمكالمة مهمة.
"إن من بين وظائف الشاي أو الآتاي انه مشروب يقترن بالجماعة والعائلة والأنس والضيافة"[10]، فحوله تجتمع العائلة والأصدقاء بل والفت حولها قصائد شعرية [11] إلا إن هذه المجالس والتجمعات أصبحت ناذرة في العادات المغربية بل تنعدم في المدينة حيث طغت قيم الفردانية وتلاشت قيم الجماعة التي تتدخل في حياة الفرد، وهذا ما يتجلى في انفعالات الشباب القادمين من المدينة و الذين لا يستسيغون تدخل أهل الدوار في شؤونهم وخاصياتهم حيث تسمعهم دائما يقولون : "كثرة التحنزيز[12]، هاد الناس ماكايدخلوش سوق روسهم" بمعنى أنهم يشعرون أنهم مراقبون من طرف الجميع، إنها المراقبة الاجتماعية « le contrôle social » فالكل يعرف كل شيء عن الكل عكس ما يعيشونه في المدينة التي لا تعرف عن جارك شيئا ويمكن أن لا تراه أكثر من أسبوع ولو كان يعيش معك في نفس العمارة أو الحي، وحيث تسود العلاقات السطحية. انه الفرق بين العيش في الجماعة المحلية والعيش في المجتمع « [13]communauté et société » حيث الحياة في الأولى تتسم بالتناغم والانسجام والتوافق بين الأفراد بينما في الثاني يبقى الأفراد مختلفين ومستقلين عن بعضهم البعض رغم القرب الجغرافي بينهم.
رغم أن هذه المجالس مازالت تؤثث الحياة الاجتماعية في "تسكورت" خاصة في الصيف إلا أنها لا تخفي تغيرات اجتماعية كبيرة تشهدها المنطقة كباقي البوادي المغربية خاصة في العلاقات الاجتماعية ونمط الاستهلاك الذي أصبح يعتمد على المنتجات الاستهلاكية والتخلي على المنتجات الطبيعية (البيض البلدي، الحليب، الخضر على ضفة النهر، الدجاج البلدي...)، يقول احدهم : "كولشي غ السوق" أي يتم اقتناء كل المنتجات من السوق، بل بدأت تظهر أمراض من مثل السكري والكوليسترول وأمراض الركب، بل إن منهم من أوصاه الطبيب بالرياضة، وهذا ما يتجلى كذلك في طقوس تحضير الشاي التي تحدثنا عنها حيث أصبح من الضروري تحضير براد من الشاي دون سكر.  كما أن الأعراس التي ذكرت سابقا أصبحت تؤثثها المجموعات الغنائية عوض "احواش تسكوين"،  فهل التحضر كنمط عيش لم يعد مقتصرا على المدينة وأصبح من سمات البادية المغربية؟
"يان اسوان سين ابد فسين" أي من شرب كأسين من الشاي فليقف على اثنين أي رجليه، من العادة أن يشرب الحضور كأسين من الشاي ومن لا يرغب في ذلك فليعلم "القام وتاي " لكي لا يصب له الكأس الثاني أو يخبره بذلك قبل أن يبدأ في تهيئ البراد الثاني، يتم شرب الشاي عادة مع الحلويات أو بعض الفواكه الجافة "الفاكيت"، يختتم المجلس بالدعاء للجالسين والأموات والجماعة.
إن الحياة الاجتماعية دائمة التغير والتبدل، فالمجتمع لا يبقى كما هو في حالة استقرار بل دائم التحرك كماء النهر الذي قال عنه (هريقليطس) أننا لا نستطيع أن ننزل فيه مرتين وهذا ما يتجلى في مجموع العادات والطقوس التي تغيرت وتتغير باستمرار، فمجالس الشاي التي كانت محور هذه المقالة هي الأخرى بدأت تقل تدريجيا حيث ظهرت نواة مقهى في الدوار تقدم مجموعة من المشروبات وخدمة مشاهدة المباريات الكروية كما أن الشباب أصبحت لا تعنيهم هذه المجالس ولا يحضرونها مع آبائهم وأجدادهم كما أن عملية تحضير الشاي بالنسبة للضيوف كثيرا ما أصبحت تتم من المطبخ من طرف النساء والذي كان بالأمس القريب عيبا ويدل على عدم الترحيب بالضيف . لا شك أن التحول والتغير الذي أشار إليه "عبد الأحد السبتي" و"عبد الرحمان لخصاصي" بأنه بطئي ولكنه حاصل لا محالة[14] قد حصل بالفعل في طقوس إعداد الشاي أو في تعويضه بمشروبات أخرى كالقهوة والعصير والمشروبات الغازية . فهل يوما ما سيصبح" اكور وتاي"  طقسا يحكى عنه فقط؟     

المراجع المعتمدة
    السبتي عبد الأحد و لخصاصي عبد الرحمان ، من الشاي إلى الآتاي العادة والتاريخ، الدار البيضاء : مطبعة النجاح الجديدة، 1999 ،486 صفحة، ( كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة بحوث ودراسات رقم 25).
Emile Durkheim, « Communauté et société selon Tönnies », Sociologie [En ligne], N°2, vol. 4 |  2013, mis en ligne le 25 septembre 2013, consulté le 25 septembre 2017. URL : http://sociologie.revues.org/1820
 
[1]  تسكورت تعني طائر الحجلة وقد سمي الدوار بذلك حسب  "أسطورة" يحكيها أهل الدوار، يقولون أن أجدادهم كانوا يقطنون على ضفة النهر إلا انه كانت تزعجهم كثرة الضفادع والنمل فشكوا أمرهم إلى احد الشرفاء "اكرام" فاقترح عليهم أن يقوموا بالقبض على طائر الحجلة  "تسكورت" ثم يرسلوه، فالمكان الذي سيحط فيه سيتخذونه دوارا، حيث حطت الحجلة في الضفة الأخرى للنهر ليتم اتحادها مكانا للاستقرار إلى يومنا هذا.
[2]  يعني 200 درهم من عند محمد بن عمر من هنا إلى الدارالببضاء نسبة لمقر سكنه.
[3] Nicolas Olivier, « Marcel Mauss, Essai sur le don. Forme et raison de l'échange dans les sociétés archaïques », Lectures [En ligne], Les comptes rendus, 2008, mis en ligne le 06 février 2008, consulté le 26 août 2017. URL : http://lectures.revues.org/520
[4]  رقصة امازيغية حربية في إيقاعها، "تاسكوين" هي جمع" تسكت" وهي القرن التي تغرس في احد طرفيها أنبوبة نحاسية تصدر رنينا أثناء الرقص.
[5]  استعملت هنا الزمن الديني لأنه هو الأكثر استعمالا في تحديد المواعيد،
 هذه المعلومة استقيتها من احد معدي الشاي بالدوار والذي كان يمتهن مهنة بيع الشاي في الأسواق.[6]
[7]  يحكي لي احد كبار السن انه في مجلس قام صاحب المنزل بإعداد الشاي من المطبخ، فقال له احد الحاضرون : "ارواس اسكيغ ترميت" بمعنى أظن انك تعبت منا أي غير مرحب بنا عندك.
[8]  السبتي عبد الأحد و لخصاصي عبد الرحمان ، من الشاي إلى الآتاي العادة والتاريخ، الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة ، ص. 44-45، (سلسلة بحوث ودراسات رقم 25).
[9]  الناظم غير معروف حيث تسمع خاصة من كبار السن هذه الجملة "اينا اونظام" يعني قال ناظم أو شاعر دون ذكر اسمه. فهده الأبيات الشعرية أو "النظم" تقال في الأعراس خاصة من طرف فرقة أحواش فتصبح أمثالا يضرب بها.
[10]  السبتي عبد الأحد و لخصاصي عبد الرحمان ، المرجع نفسه، ص.42
 انظر السبتي عبد الأحد و لخصاصي عبد الرحمان، المرجع نفسه، ص 102-106 [11]   
  يقصد به في الدارجة المغربية تدقيق النظر في الشخص وملاحقته بالنظرات.[12]
[13] Emile Durkheim, « Communauté et société selon Tönnies », Sociologie [En ligne], N°2, vol. 4 |  2013, mis en ligne le 25 septembre 2013, consulté le 25 septembre 2017. URL : http://sociologie.revues.org/1820
[14]  السبتي عبد الأحد و لخصاصي عبد الرحمان ، المرجع نفسه، ص.53