دراسة الفلسفة العربية في القرن العشرين: مقالة في التأريخ للفلسفة العربية[1] ـ ديميتري غوتاس[2] ـ تعريب: د. يوسف مدراري[3]

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

لا أظن أن في تاريخ الفكر البشري فكرا عانى، ومازال يعاني من ظلم المؤرخين كالفكر الفلسفي في الإسلام[4].
مقدمة:
إذا كانت الفلسفة بصفة عامة من المواضيع التي يصعب التأريخ لها؛ فإن الكثير من الباحثين يعتقد أن الفلسفة العربية هي من أكثر الفلسفات التي  تعكس تلك الصعوبة،  التي يواجهها المؤرخون للفلسفة بصفة عامة لاسيما المختصون في الدراسات العربية والإسلامية. وبطبيعة الحال لا أتفق مع هذه الدعوى التي تقول بأن الفلسفة العربية تستعصي على التأريخ، وسأبين فيما بعد بالحجج الدامغة أسباب شيوع الفكرة القائلة بصعوبة التأريخ للفلسفة العربية في أوساط الباحثين في حقلي الدراسات العربية والدراسات الإسلامية. ولعل من أسباب شيوع هذه الدعوى أن مؤرخي الفلسفة بصفة عامة؛ سواء مؤرخي الفلسفة اليونانية أو فلسفة القرون الوسطى،  وذوي التكوين العميق في اللغة اليونانية واللاتينية لا يجدون في تكوينهم العلمي والأكاديمي ما يساعدهم على تذليل الصعوبات التي تواجههم عند التعامل مع الفلسفة العربية. وتعتبر اللغة العربية هي العقبة الكأداء التي تواجههم، بالإضافة إلى التباين الذي يحسه هؤلاء الباحثون بين ثقافتهم والثقافة العربية الإسلامية. وعندما يجتهد الباحث المجد منهم في الاشتغال على الفلسفة العربية عن طريق مطالعة الدراسات  التي أنجزها في الموضوع  المستشرقون الذين أرخوا للفلسفة العربية، يجد أن تلك الدراسات لا تسمن ولا تغني من جوع كما سأبين ذلك فيما بعد.

فالمناهج الدراسية القديمة قد رسخت في أذهان الباحثين مقولة أن الفلسفة في الحضارة العربية الإسلامية كانت في أحسن أحوالها ممارسة هامشية وثانوية، هذا بالإضافة إلى أن الشلل قد دب في الجسم الفلسفي العربي بعد الضربة الموجعة التي وجهها إليها الغزالي في القرن 11م. كما أن الفلسفة  حاربها وأقصاها أولئك الذين يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة، مما أدى إلى اعتبار الفلسفة  غير ذات أهمية – ووجهة النظر هذه تتعزز من خلال بعض القراءات العرضية لبعض الدراسات المتخصصة - والتي لا تبعث على القراءة - والتي أشرت إليها سابقا وبالتالي فتجاهلها لا يطرح أي مشكلة.
وفي كلتا الحالتين، فإن سوء الإدراك هذا يمكن أن نجد له تبريرا، فهو لا يرجع إلى للفلسفة العربية[5] نفسها بل يرجع إلى طلبتها وشراحها ؛ فالمستعربون أنفسهم والذين أرخوا للفلسفة العربية لم يقوموا بعملهم كما ينبغي، وفشلوا بصفة عامة أولا في عرض نتائج أبحاثهم على مؤرخي الفلسفة في صورة معقولة ونسقية، مما يمكِّن من تلمس الصلات والقواسم المشتركة بين الفلسفة العربية وغيرها من الفلسفات، وثانيا في عرض تلك النتائج على زملائهم في أقسام الدراسات الإسلامية والعربية بطريقة تبين وثاقة الصلة بين الفلسفة العربية وبين الممارسة الفكرية في الثقافة الإسلامية. فلم يعد كافيا مع حلول هذه الألفية الجديدة أن يكتفي مؤرخو الفلسفة المدرسية الوسيطة، والمختصون في ميدان الدراسات الإسلامية أن يعبروا عن استعدادهم للاعتراف بالدور الحاسم الذي مارسته الفلسفة العربية على المسيحية الوسيطة والإسلام، وهذا ليس كافيا في نظري بسبب الحقيقة التاريخية[6] التي تؤكد ذلك التأثير، والذي لا يمكن لأحد أن يجادل بخصوصه أو ينكره. لكن  يتعيّن على مؤرخي الفلسفة العربية في الغرب أن يقدموا أبحاثهم إلى المتلقي بطريقة تقنعه بأن الفلسفة العربية جديرة بالدراسة، ويمكن أن يستفيدوا منها في  بحوثهم.
والآن سأجتهد في بيان مسألة جوهرية وهي كيف أننا معشر مؤرخي الفلسفة العربية في الغرب قد فشلنا في تقديم الفلسفة العربية وعرضها على زملائنا في أقسام الدراسات الإسلامية أو خارج أقسام الدراسات الإسلامية، بطريقة تجعل من الفلسفة العربية تحظى بالقبول كجزء من اهتمامنا العلمي المشترك منذ زمن طويل. وجدير بالذكر أن دراسة الفلسفة العربية ظل مطردا منذ ظهور كتاب أرنيست رينان (Ernest Renan) المؤسس لعهد جديد وهو  et l’Averroïsme  Averroèse (ابن رشد والرشدية) سنة 1852 أي منذ ما يناهز قرن ونصف من الزمن. ومن خلال إلقاء نظرة سريعة على الكتاب المفيد لفرناند فان ستينبيرغن (Fernand van Steenberghen)  المسمى بــ Introduction à l’étude de le philosophie médiéval[7] (مدخل لدراسة فلسفة القرون الوسطى) ستبين لنا أن الدراسة الأكاديمية للفلسفة اللاتينية والعربية قد بدأت في الوقت نفسه تقريبا – ومع ذلك فلا مجال للمقارنة بين المنجز من البحوث الأكاديمية في الفلسفتين. ولكن نجد من الناحية الكمية  وفرة في الدراسات التي تؤرخ    للفلسفة العربية وتدرسها؛ حيث تم تحقيق تراكم كمي منذ ما يزيد على قرن ونصف، وهذا ما يدفعني إلى إعادة النظر في الأسباب الحقيقة التي تعيق إحراز تقدم كيفي في دراسة الفلسفة العربية. لذلك سأعمل من خلال هذه المقالة على تقييم الأخطاء - سواء كانت عن قصد أو عن غير قصد - والتي رافقت دراسة الفلسفة العربية في القرن العشرين، وأنا متأكد أن تلك الأخطاء لو تم تجنبها فستعود للفلسفة العربية حظوتها ومكانتها التي تستحقها سواء في حقل الدراسات الإسلامية أو الدراسات العربية، وبصفة أعم ستعود للفلسفة العربية مكانتها في سياق التأريخ للفلسفة الغربية.

قبل الشروع في الموضوع أو أن أوضح بعض الأمور التي تبدد بعض الأفهام الخاطئة والتي أشرت إليها سابقا. الفلسفة العربية لم تلق حتفها على يد الغزالي (ت.1111) ولم يكن النظر الفلسفي ممارسة هامشية في الحضارة الإسلامية. بالإضافة إلى أن الفلسفة لم يجهز عليها أهل السنة والجماعة، بل استمرت الممارسة الفلسفية في الحضارة الإسلامية بقوة ونشاط واستقلالية لعشرة قرون - وقد يقول البعض أن الممارسة الفلسفية مازالت مستمرة في إيران -   وأسهمت في تشكيل ثقافة رفيعة، سواء قبل أو بعد ابن سينا شارحها الأكبر.

يكمن المشكل الأكبر في  أن الفلسفة العربية قد درست بشكل غير متوازن، حيث انصب البحث بشكل كبير ومكثف على شخصيات فلسفية معينة وعلى فترات زمنية معينة، وهذا يعد سببا كافيا نبرر به فشل مؤرخي الفلسفة العربية في الغرب من تقديم الفلسفة العربية بشكل دقيق للقارئ. وعدم التوازن وقلة التقدير والفهم للفلسفة العربية سواء في أقسام الدراسات الإسلامية أو في أقسام الفلسفة يمكن إرجاعه إلى هيمنة ثلاث مقاربات، تلك المقاربات التي احتكرت دراسة الفلسفة العربية، يمكن أن  نجمل  هذه المقاربات في:
1.         المقاربة الاستشراقية
2.         المقاربة الإشراقية
3.         المقاربة السياسية

وسأحاول الآن عرض هذه المقاربات بتفصيل وتقديم بعض الأمثلة الدالة عن كل مقاربة.

أولا : المقاربة الاستشراقية

تعد المقاربة الاستشراقية من المقاربات ذات التاريخ الطويل والأكثر تشعبا، ويمكن للبعض أن يضيف والأكثر  استنساخا. لقد أصبح مصطلح "الاستشراق" مصطلحا حمال أوجه في الدراسات العربية والإسلامية، ويثير الكثير من الانفعالات، وليس لدي الآن نية للدخول في نقاشات نظرية وذات طبيعة سجالية، سواء مساندة أو معارضة. وما أقصد به بمصطلح "الاستشراق" هو تلك الصورة التي تكونت في القرن التاسع عشر عن أهل "المشرق"، وهم العرب في هذه الحالة، والذين انطبع في الذهنية الغربية أنهم "روحانيون" و"شهوانيون" و"غيبيون" وغير عقلانيين، بالإضافة إلى ولعهم بالدين والذي  مَهِروا  به مثل بني عمومتهم من العبرانيين. أضف إلى ذلك  أن العرب يعيشون في مجتمعات يسودها الاستبداد، وأن طرق عيشهم وأنماط تفكيرهم غير قابلة للتغيير[8].
هذه الصورة الكاريكاتورية  عن العرب التي رسمها مستشرقو القرن التاسع عشر، خفت حدتها في القرن العشرين، ويمكن القول إنه لا يوجد أحد اليوم يتمسك بتلك الصورة الكاريكاتورية في شموليتها، لكن تلك الصورة تبرز بشكل جلي ما كان أوروبيو القرن التاسع عشر ميالين إلى اعتقاده حول هؤلاء الناس الذين يعيشون في المجتمعات الإسلامية؛ أي بتعبير أدق حول هؤلاء الشرقيين[9]. هذا النزوع المسبق إلى مثل تلك الصور النمطية لم يحدد فقط تمثلات الغربيين عن الشرق بل حدد كذلك طبيعة الأسئلة التي يمكن أن تطرح بخصوص هؤلاء الشرقيين في المجتمعات الغربية، وبتعبير آخر تحدد تلك التمثلات الأجندة الأوربية في البحث الأكاديمي، وهذا في رأيي ما يمكن أمن نبرر به المنهج الذي يسلكه البحث الأكاديمي الغربي في مقاربة العالم الإسلامي حتى يومنا الحاضر، وهي من الآثار الجانبية للاستشراق، وهذه الآثار لا نستطيع الانفكاك منها، رغم تظاهرنا بالتعددية الثقافية.

تظهر تلك الآثار الجانبية - التي أشرت إليها سابقا- في دراسة الفلسفة العربية من خلال مجموعة من التجليات. ويمكن إجمالها في أربع تجليات:
‌أ.        النظر إلى الفلسفة العربية باعتبارها فلسفة صوفية،
‌ب.   الفلسفة العربية مجرد وسيط بين الفلسفة اليونانية والفلسفة اللاتينية الوسيطة،
‌ج.    أفق الفلسفة العربية هو التوفيق بين الفلسفة الدين،
‌د.     الفلسفة العربية ماتت بموت ابن رشد.
أ‌-             النظر إلى الفلسفة العربية باعتبارها فلسفة صوفية
النزوع إلى اعتبار الفلسفة العربية فلسفة صوفية، يتجلى بشكل جلي في بحث لأحد المستشرقين الدانماركيين وهو مهرن (A. Mehren) الذي اشتغل على ابن سينا بشكل مطرد في نهاية القرن التاسع عشر. وحتى أبين ما أصبو إليه، دعوني أحكي لكم فصول قصة طويلة، سبق لي أن حكيتها، وهي في غاية الدلالة على قضيتنا، وأعتقد أنها جديرة بأن يعاد سردها مرة أخرى في هذا المقام.

أشار ابن سينا (ت. 1037) في مقدمة كتابه الكبير "الشفا" –  sufficientia كما كان يسميه الفلاسفة اللاتين – أنه كتب كتابين أساسيين يجمعان كل موضوعات الفلسفة؛ وهما كتاب "الشفا" ثم كتاب "المشرقيون"، والفرق بين الكتابين، كما بين ذلك ابن سينا، يكمن في الأسلوب: فكتاب "الشفا" هو كتاب شرح وتحليل ويحتوي على نقاشات تتعلق بمواقف الفلاسفة عبر تاريخ المشائية، وعلى العكس من ذلك  فإن كتاب "المشرقيون" هو كتاب يبين فيه ابن سينا مواقفه واختياراته الفلسفية، حيث يعرض فيه فقط النظريات الفلسفية التي يراها صحيحة، ولا يشغل نفسه في هذا الكتاب بالرد على أصحاب المواقف المخالفة. فمن خلال كتاب "المشرقيون" كان ابن سينا يشير إلى هؤلاء الفلاسفة في المشرق؛ أي خراسان، وبمعنى أخر يقصد بذلك نفسه وطلابه الذين كان يأمل أن يكملوا المسيرة التي بدأها.

لكن الحظ لم يحالف كتاب "المشرقيون" حيث ضاع قسم منه بُعَيد كتابته، كما أن دائرة رواج هذا الكتاب كانت ضيقة، وحتى يومنا هذا ما تبقى من كتاب "المشرقيون" لا يتجاوز النصف: قسم في المنطق والطبيعيات[10].  وإذا لم يحالف الحظ كتاب "المشرقيون" فضاع جله، فإن كتاب "الشفا" كان محظوظا حيث حفظ بشكل كامل وفي نسخ متعددة، وشاع في الأمصار حتى وصل إلى الأندلس، ليترجم جزء منه إلى اللاتينية. وفي الأندلس كان من الطبيعي أن يثير كتاب "الشفا" اهتمام ابن طفيل (ت. 1186) أستاذ ابن رشد؛ حيث  أشار إلى الكتاب في مقدمة حكايته الفلسفية "حي ابن يقظان"، هذه الحكاية التي تحمل عنوانا فرعيا ذا دلالة كبيرة وهو: "في أسرار الحكمة المشرقية"، ولكن بهذا العنوان الفرعي يكون ابن طفيل قد أساء تقديم الفرق الأسلوبي بين كتاب "الشفا" و"المشرقيون" - والذي أشار إليه ابن سينا نفسه في مقدمة "الشفا" واعتبره الفرق الجوهري بين الكتابين - وذلك لأسباب تخصه ولا يعنينا الخوض فيها في هذا المقام، حيث اعتقد ابن طفيل ان كتاب "الشفا" يحتوي فقط على المذهب المشائي، بينما كتاب "المشرقيون" يحتوي على "أسرار الحكمة المشرقية" هذه الأسرار التي تتوافق مع حكاية "حي ابن يقظان"[11].
ولا يبدو أن ابن طفيل كان موفقا في إقناع معاصريه بصواب فهمه للفرق بين كتابي "الشفا" و"المشرقيون"؛ فابن رشد الذي قرأ مقدمة كتاب "الشفا" نفسها التي قرأها ابن طفيل لم يوافق  أستاذه  في وجهة نظره، كما أشار إلى ذلك في العديد من المواضع. وقد وجد خيال ابن طفيل رغم ذلك آذانا صاغية، واحتُفِي به أيما احتفاء  في أوساط المستشرقين في العصر الحاضر، والذين كانوا تواقين ونزاعين للاحتفاء بفهم ابن طفيل لموضوع كتاب "المشرقيون"، والذي يزكي تصورهم للشرق باعتباره شرقا صوفيا ويميل إلى المثالية. ومن هذا الباب دخل المستشرق الدانماركي مهرن حيث افتتح كتابه بعرض وجهة نظر ابن طفيل بخصوص الفلسفة "المشرقية" لابن سينا،  واعتبر وجهة نظر ابن طفيل قرآنا منزلا لا يمكن أن يحتمل الخطأ، وبذل وسعه في البحث عن نصوص لابن سينا تتضمن تلك الحكمة "المشرقية"،  فإنه لم يظفر بشيء، وذلك بسبب ما أشرت إليه سابقا من كون كتاب "المشرقيون" ضاع منه قسم كبير، ولم يبق منه إلا أجزاء في رزمة من المخطوطات لم يتعامل معها مهرن تعاملا حذرا. وبسبب قلة النصوص التي تُسند وجه نظره فقد كان مهرن نزَّاعا إلى استخدام خياله؛ فعمد إلى بعض القصص الرمزية المقتضبة لابن سينا، وأضاف إليها الفصول الثلاثة الأخيرة من كتاب "الإشارات والتنبيهات"، هذه الفصول التي تتحدث عن نظرية المعرفة في الفلسفة، والتي يقصد منها ابن سينا اتصال الإنسان بالعقل الفعال، ويوظف ابن سينا في هذه الفصول بين الفينة والأخرى اصطلاحات المتكلمين والمتصوفة بدل الاصطلاحات الأرسطية المعروفة. ثم نشر مهرن المجموعة كاملة في أربع كراسات. ووضع لها عنوانين؛ العنوان الأول بالعربية ثم العنوان الثاني بالفرنسية، وقد استعار العنوان العربي من العنوان الفرعي الذي ذيَّل به ابن طفيل "حي ابن يقظان" وهذا العنوان هو "رسائل ابن سينا في أسرار الحكمة المشرقية"، رغم أنه لا رسالة من تلك الرسائل في الواقع  حققها مهرن في تلك الكراسات، ولا حتى تلك الرسائل تحتمل عنوانا كهذا، لأن الفلسفة المشرقية سواء كمصطلح أو كمفهوم لم يتم الإشارة إليه ولو مرة واحدة في تلك الرسائل. والأسوأ من ذلك كله هو العنوان الفرنسي الذي وضع مهرن للمجموعة كلها وهو: "Traités mystiques d’Avicenne" (مصنفات صوفية لابن سينا، ليدن 1889-1899) والذي يوهم القارئ بالارتباط الوثيق بين الفلسفة المشرقية لابن سينا والتصوف، رغم أن هذا الربط غير مؤسس  بتاتا على أدلة. وحتى يكون المتلقي على بينة من أمره، فالمستعرب الإيطالي الكبير كارلو ألفونسو نالينو (Carlo Alfonso Nallino) الذي يعتبر من الدارسين المتمكنين للفلسفة العربية، يعترض بقوة على ذلك العنوان وذلك سنة 1925، حيث اعتبره "عنوانا اعتباطيا إلى حد كبير وليس له أي سند من المخطوط، وبالتالي سيكون هذا العنوان مصدرا للخطأ فيما بعد"[12]. لكن هذا الاعتراض للأسف كان عديم الجدوى، وذلك أولا لأن كراسات مهرن كانت قد عرفت طريقها إلى الطبع، واكتسبت مشروعية بواسطة النشر، وثانيا لأن أسطورة الفلسفة الصوفية الشرقية أو أسطورة الفلسفة المشرقية كانت قد أعادت الظهور في مجموعة من التجليات، والتي لا تمت بصلة إلى النصوص الفلسفية الموجودة ولا تمت بصلة إلى فكر ابن سينا. ودعوني أضرب لكم  مثالا على التضليل الذي مورس على الفلسفة العربية بهذا الخصوص، فالمستعربون قاموا بتضليل المختصين بالفلسفة اللاتينية في كون الفلسفة "المشرقية" لابن سينا هي شيء مغاير لفلسفته الأخرى؛ فخيال ابن طفيل سيظهر مجددا في المصنف الأخير لألان دو ليبرا (Alain de Libera)  حول فلسفة القرون الوسطى[13].

ب‌-        الفلسفة العربية مجرد وسيط بين الفلسفة اليونانية والفلسفة اللاتينية الوسيطة
تعتبر مقولة أن الفلسفة العربية هي مجرد وسيط بين الفلسفة اليونانية والفلسفة اللاتينية الوسيطة من المقولات التي تعيق دراسة الفلسفة العربية بعيدا عن أي تحيز، وتعيق تقديمها وعرضها كما هي لغير المتخصص الذي لا يعرف اللغة العربية. وهذه المقولة يفهم منها شيء واحد وهو أن الفلسفة العربية ليست ذات قيمة في ذاتها لأنها مجرد وسيط بين الفلسفة اليونانية وبين السكولاستية اللاتينية. هذا الموقف يمثله أحسن تمثيل أحد الأوائل الذين كتبوا مقدمات عامة في الفلسفة العربية وهو دي بور (T.J De Boer) وعنوان كتابه هو:  The  History of Philosophy in Islam (تاريخ الفلسفة في الإسلام) هذا الكتاب الذي ظهر لأول مرة باللغة الألمانية سنة 1901[14] و كُتِب له القبول وأصبح مرجعا معتمدا في موضوعه، والذي ستظهر له ترجمة إنجليزية والتي طبعت عدة مرات، وبقيت تطبع حتى ظهر كتاب هنري كوربان (Henry Corbin) المسمى بـ Histoire de la Philosophie Islamique  (تاريخ الفلسفة في الاسلام) سنة 1964، والذي سأتحدث عنه لاحقا. وقد كان دي بور جد صريح في بيان القيمة المعرفية لموضوع كتابه؛ أي الفلسفة العربية، حيث يقول:
وظلت الفلسفة الإسلامية على الدوام فلسفة انتخابية، عمادها الاقتباس مما ترجم من كتب الإغريق؛ ومجرى تاريخها أدنى أن يكون فهما وتشربا لمعارف السابقين، لا ابتكارا؛ ولم تتميز تميزا يذكر عن الفلسفة التي سبقتها، لا بافتتاح مشكلات جديدة، ولا هي استقلت بجديد فيما حاولته من معالجة المسائل القديمة؛ فلا نجد لها في عالم الفكر خطوات جديدة تستحق أن تسجلها لها[15].

القيمة المضافة الوحيدة التي ينسبها دي بور إلى الفلسفة العربية تتجسد في أنها تساعد في التأريخ الاجتماعي للأفكار، حيث يضيف:
ولتاريخ الفلسفة في الإسلام شأن أيضا، لأنه يرينا أول محاولة للتغذي بثمرات الفكر اليوناني تغذيا أبعد مدى وأوسع حرية مما كان عليه الأمر في نشأة علوم العقائد عند النصارى الأولين. وإذا أحطنا علما بالظروف التي أتاحت تلك المحاولة استطعنا أن نصل بطريق القياس إلى نتائج متعلقة بدخول العلوم اليونانية  عن طريق العرب إلى النصارى في القرون الوسطى؛ ولكن يجب أن نكون في هذا القياس على حذر، ويجب ألا نفرط في أمره الآن على الأقل؛ ثم إن معرفتنا بتلك الظروف ربما أفادتنا ببعض العلم بالعوامل التي بتأثيرها تنشأ الفلسفة في الجملة[16].
وإنه من العجب العجاب أن تصدر مثل هذه الأحكام الغليظة من  باحثين كبار امثال دي بور، والذين من المفروض أن يكونوا واعين بالعدد الكبير من المصادر الفلسفية العربية التي لم تدرس بعد، لأنه بسبب هذه الأحكام العامة والتي لا تستند على تقييم ودراسة لكل النصوص الفلسفية العربية ستبدو الفلسفة العربية وكأنها لم تأت بجديد وأصيل، حتى وإن قرأ المهتم كل المصادر الفلسفية العربية. وهذا الحكم نجد له خلفية في الفكرة القائلة – والتي يمكن وصفها بالعنصرية في الوقت الحاضر- أن الساميين – وهم العرب في هذه الحالة - ليس لهم القدرة على التفكير النقدي والعقلاني، لأن ما يتقنه هؤلاء الساميون هو التفكير الديني، والتصوف على وجه الخصوص. هذه بعض  الادعاءات التي ربما تكون غير واعية، والتي كانت جد مؤثرة في دراسة الفلسفة العربية، وهذا ما يمكن أن نستشفه من خلال ما سيأتي في هذا البحث.

في هذا الصدد نستحضر العمل الكبير الذي قام به سيمون فان دين بيرغ (Simon van den Bergh) في دراسة الفلسفة العربية وذلك عن طريق ترجمته المشهورة لكتاب "تهافت التهافت" لابن رشد، والذي هو عبارة عن رد  لابن رشد على انتقادات الغزالي للفلاسفة. وقد نشر سيمون فان دين بيرغ ترجمته في  جزأين؛ الجزء الأول ضم الترجمة الكاملة "لتهافت التهافت"، والجزء الثاني تضمن ملاحظات مسهبة توضح الكثير من القضايا الفلسفية، مع إحالات على الفلسفة اليونانية[17]. وقد يعتقد البعض أن انهماك سيمون فان دين بيرغ في الترجمة وفي التحشية عليها ، ووقوفه على أدلة الغزالي رغم قساوتها، وكذلك وقوفه على ردود ابن رشد العالية الدقة والفنية، سيقنعه على الأقل في هذا الموضع، بوجود فكر فلسفي رفيع في كتاب ابن رشد. والأسوأ من ذلك أنه صدّر ترجمته باقتباسين: أحدهما لأبيقور (Epicurus) يقول فيه: "اليونان فقط هم  الذين يتفلسفون"، وهذا يفهم منه ضمنيا أن كتاب "تهافت التهافت" الذي ترجمه ليس إلا مجرد اقتباسات من الفلسفة اليونانية[18]. والاقتباس الثاني هو عبارة عن مقولة لابن ميمون  في كتابه "دلالة الحائرين":
واعلم أن كل ما قالته فرق الإسلام في تلك المعاني المعتزلة منهم والأشعرية هي كلها آراء مبنية على مقدمات، تلك المقدمات مأخوذة من كتب اليونانيين والسريانيين الذين راموا مخالفة آراء الفلاسفة ودحض أقاويلهم[19].
وبالتالي إذا كان المختصون في الفلسفة العربية يقدمون الفلسفة العربية باعتبارها ليست إلا انتحالا ونقلا للفلسفة اليونانية، وليست ذات قيمة في تاريخ الفكر الفلسفي، فإنه يهون علينا الأمر عندما يصور مؤرخو الفلسفة الغربية - وخصوصا مؤرخو فلسفة القرون الوسطى- الفلسفة العربية بنفس الطريقة.

ج‌-        أفق الفلسفة العربية هو التوفيق بين الفلسفة والدين
هذه القضية لها علاقة بالقضيتين السابقتين. وتتلخص هذه القضية في اعتبار أن الإضافة النوعية التي أضافتها الفلسفة العربية إلى المعرفة الإنسانية تكمن في بيانها للعلاقة بين الدين والفلسفة. وفي الحقيقة يصعب تتبع أصل هذه الفكرة، فمن جهة نجد الفكرة السائدة بين الكثير من الأوساط العلمية في الغرب في القرن 19، أن الساميين كانوا نزاعين إلى التدين، وبالتالي فمن الطبيعي أن تترك تلك النزعة أثرا عند ممارستهم للفلسفة. ورغم ذلك فالأهم من هذا، هو أن اهتمام الباحث الغربي بهذا الموضوع يعود كذلك إلى المجادلات بخصوص علاقة الدين بالفلسفة في الفلسفة اللاتينية في العصور الوسطى، ولاسيما اهتمامهم بنظرية ابن رشد حول ثنائية الحقيقة؛ الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية. فمنذ صدور كتاب أرنيست رينان المسمى بـ  Averroèse et l’Averroïsme (ابن رشد والرشدية) والذي نشره سنة 1852 وحتى صدور كتاب آخر يحمل نفس العنوان لكن من ألان دوليبرا وموريس روبن هايو (Maurice-Ruben Hayou) سنة 1991. ويمكن سرد قائمة طويلة من الكتب التي توهم القارئ بأنها تتعرض لتاريخ الفلسفة العربية،  ولكنها في الحقيقة تناقش فقط بعض الجوانب من مشكلة علاقة الدين بالفلسفة في الفلسفة العربية[20]. وعلاقة بالموضوع يعتبر أوليفر ليمان (Oliver Leaman) من بين الدارسين المحدثين الذين وقعوا في نفس الخطأ القاتل؛ حيث نشر كتابه الذي  بعنوان An Introduction to Medieval Islamic Philosophy[21] (مدخل للفلسفة الإسلامية الوسيطة) فباستثناء الفصلين السادس والأخير من الكتاب اللذين يعالجان قضايا منهجية تتعلق بـ"كيف نقرأ الفلسفة الإسلامية"[22]، فإن الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب تتضمن تحليلا للمسائل الثلاث التي كفّر بسببها الغزالي الفلاسفة، بالإضافة إلى تحليل ردود ابن رشد على الغزالي. أما الفصل الرابع فيتعرض للأخلاق انطلاقا من تصادم وجهات النظر بخصوص علاقة الدين بالفلسفة، أما الفصل الخامس فيعرض فيه مراجعة أخرى لما يسمى بالفلسفة السياسية عند كل من الفارابي وابن رشد، هذا الموضوع كذلك يناقشه المؤلف انطلاقا من مقولة تعارض الدين والفلسفة. الانطباع الذي يوحي به هذا الكتاب هو أن الفلسفة العربية الوسيطة ليست في الحقيقة سوى اجترار استمر لقرون لقيم الحقيقة النسبية للدين والفلسفة، هذا الاعتقاد الخاطئ نفسه هو مما يؤاخذه أوليفر ليمان نفسه، في الفصل الأخير من كتابه على هؤلاء الذين تبنوا موقفا سياسيا في تفسير الفلسفة العربية (أتباع ليو ستراوس الذين سأتحدث عنهم فيما بعد). ويشير أوليفر ليمان في المقالة التي كانت أصل الفصل الأخير من كتابه، إلى أن سبب هذا الاعتقاد الخاطئ يعود في جزء مهم منه إلى النشرات والترجمات الغربية لنصوص الفلسفة العربية، حيث ركزت حركة نشر الكتب والترجمة على موضوعات معينة. وهذا في الحقيقة ليس إلا إسقاطا لانشغالات غربية في هذه القضية على الثقافة الإسلامية الوسيطة، وسيكون تبعا لذلك من الخطأ الجسيم الاستنتاج انطلاقا من الانشغالات الغربية أن ''موضوع علاقة الدين بالفلسفة كان هو الشغل الشاغل للمفكرين المسلمين. والأهم من ذلك ان النصوص التي انشغلت بعلاقة الدين بالفلسفة  انتقاها وأولاها الغربيون مزيد اهتمام لأنهم كانوا يعتقدون  بأنها نصوص أساسية. وهكذا يكونون قد حققوا  تخميناتهم بأنفسهم"[23].

هذه الحلقة المفرغة للتي تدور حولها المقاربات الغربية للفلسفة العربية هي ما يميز بشكل حاد التفسيرات التي تعطى للفلسفة العربية. ويظهر أننا  معشر مؤرخي الفلسفة العربية في الغرب نبدأ دائما بتصور مسبق حول ما يجب ان تكون عليه الفلسفة العربية، وبعد ذلك يتم التركيز على تلك المقاطع التي تزكي ذلك التصور المسبق. وارتباطا بذلك تظهر تلك النصوص المختارة بعناية وكأنها تقوي ذلك التصور المسبق انطلاقا من النصوص ذاتها. وأنا على يقين أن الباحث المتجرد والنزيه سيتضح له أن مقولة "أن جوهر اهتمام الفلسفة العربية هو بيان أن الدين لا يعارض الفلسفة" هي مقوله هامشية ولا تتمتع بأية أهمية في أجندة الفلسفة العربية، وأن النقاش بخصوص علاقة الدين والفلسفة لم يجر إلا في فترات زمنية محددة وفي مناطق جغرافية بعينها. فالأندلس كانت مثالا على الرقعة الجغرافية التي احتضنت ذلك النقاش في زمن ابن رشد. إذن، فليس من المعقول أن نعممه على سائر العالم الإسلامي وطوال عشرة قرون من تاريخ الفلسفة العربية، وبالتالي ليس من حق أي باحث أن يعمم القول أن الفلسفة العربية كان شغلها الشاغل هو بيان العلاقة بين الدين  والفلسفة، وليس في معتمده إلا مثال واحد -وهو مثال ابن رشد- خصوصا مع وجود حجة دامغة تدحض هذا التعميم: فالغزالي (ت505/1111م) في "طوس" (شمال شرق إيران) رغم ردوده القوية على الفلاسفة وتكفيره إياهم، والدعم المؤسساتي الذي حظيت به أطروحات الغزالي، هذا بالإضافة إلى دعم زملائه العلماء ومن خَلَفه في المدارس النظامية،  إلا ان الفلسفة استمرت في الازدهار وبزخم كبير ومتجدد في كل مكان في الشرق على امتداد القرن الثالث عشر والرابع عشر[24].

بالإضافة إلى ذلك، فإنه من التضليل الكبير في سياق الحضارة الإسلامية الوسيطة، أن يتم مناقشة سؤال: من هو الأصح هل الحقيقة الدينية أو الحقيقة الفلسفية؟ بنفس الطريقة التي   بها مناقشة الموضوع في مجتمعاتنا المعاصرة. فكل الفلاسفة العرب مجمعون باستثناء الرازي (Rhazes) على أن الحقيقة الدينية – لبعض الأديان مثل الإسلام والمسيحية واليهودية والزردشتية وفي بعض الأحيان الوثنية بالنسبة  إلى الصائبة – صحيحة، وأن اهتمامهم لا ينصب على نقض حقائق تلك الأديان. ويعد مبحث "النبوات" في كتب الفلاسفة العرب هو المجال الذي يناقش فيه هؤلاء الفلاسفة قضية العلاقة بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية، حيث انحصرت المناقشات في مجال نظرية المعرفة ثم المنطق القضوي. فالسؤال الذي طرح في نظرية المعرفة هو:  كيف يمكن للرسول – رغم أنه لم يتلق أي تكوين فلسفي- أن يعرف المعقولات (Intelligibilia) والحقائق  الأبدية في عقول الأجرام السماوية، وفي النهاية واجب الوجوب. والجواب يكون في هذه الحالة متوقفا على تحليل النفس الإنسانية وملكاتها العقلية والتخيلية، وبعبارة أخرى يتم الإجابة عن السؤال في سياق إشكالية كتاب النفس(De Anima) لأرسطو[25]. وفي حالة المنطق القضوي، السؤال الذي يطرحه الفلاسفة كيف وعبر ماذا يتصل الرسول من أجل معرفة المعقولات؛ أو بعبارة أخرى، ماذا كان يستعمل؟ هل يستعمل قضايا برهانية أو جدلية أو سوفسطائية أو خطابية أو شعرية، والجواب دائما يكون في سياق الأرغانون الأرسطي، خصوصا كتاب المواضع (Topics)، وكتاب الخطابة، بالإضافة إلى الأخذ بعين الاعتبار ملكة الخيال التي كانت عملية مصاحبة لعملية إدراك المعقولات[26].

وكان من نتائج هذا التحريف الخطير أن تم اعتبار مقولة "معارضة الدين للفلسفة" موضوعا مركزيا في الفلسفة العربية، وفي الحقيقة  فإن مروجي هذه المقولة لم يستوعبوا جيدا ابن رشد، هذا الأخير الذي اتكأ عليه مروجو تلك المقولة من أجل إعطاء سند لها، فمن المعروف أن رسالة ابن رشد "فصل المقال وتقرير ما  بين الحكمة والشريعة من اتصال"، هذه الرسالة التي  نشرها وترجمها ودرسها  العديد من الباحثين منذ أول نشرة للرسالة في البدايات الأولى لدراسة الفلسفة العربية في الغرب لمولر (M. J. Muller) في سنة 1859 في كتابه Philosophie und Theologie von Averroes  (الفلسفة وعلم الكلام عند ابن رشد ) والذي نشر في ميونخ، وهذا كفيل ببيان أن قضية تعارض الفلسفة مع الدين هو اهتمام غربي وليس له أية علاقة بالفلسفة العربية، فابن رشد نفسه بدأ رسالته بما يلي:
فإن الغرض من هذا القول أن نفحص، على جهة النظر الشرعي، هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع؟.. أم محظور؟؟ .. أم  مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب؟؟ [27].
وبالتالي يظهر بوضوح من خلال ما قاله ابن رشد، أن رسالة فصل المقال هي رسالة فقهية بالأساس وهو رد على نص فقهي آخر للغزالي، ولست أقصد هنا كتاب: "تهافت الفلاسفة" الذي رد عليه ابن رشد بكتاب "تهافت التهافت". هذا النقاش بالإضافة إلى بعض الفتاوى الفقهية بخصوص جواز دراسة الفلسفة والمنطق في الإسلام ينتميان لميدان الفقه وليس ميدان الفلسفة، ولا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن كلا من الغزالي وابن رشد هم فقهاء في المقام الأول، وذوو شهرة في ميدان الفقه، ويتمتعون بسبب ذلك بتقدير كبير في مجتمعاتهم. من هذا كله يمكن القول  إن هناك سوء فهم مزدوج في الدراسات الغربية للفلسفة العربية، ليس فقط فيما يخص جعل المواضيع  الفقهية مواضيع فلسفية – بغض النظر عن ما يؤدي إليه هذا الخلط من الحط من قدر الممارسة الفلسفية العربية وذلك عن طريق النظر إلى النقاشات العقدية والاستدلالات الفقهية الرفيعة خير مثال للفكر الفلسفي في الحضارة الإسلامية - و لكن كذلك اعتبار النقاش الفقهي أفضل نموذج للفلسفة العربية ككل، وجعله يحتل  الصدارة في اهتمامات تلك الفلسفة.

د- الفلسفة العربية ماتت بموت ابن رشد
 العائق الرابع الذي يؤثر على بحوث المستشرقين في دراسة الفلسفة العربية، وهو تلك الفكرة القائلة بأن الفلسفة العربية ماتت بموت ابن رشد؛ وهذه نتيجة طبيعية لمن يرى أن الفلسفة العربية هي مجرد وسيط بين الفكر اليوناني والفكر السكولاستي المتأخر، ونتيجة حتمية - إذا كنا ننظر إلى الفلسفة العربية انطلاقا من مركزية أوربية - لاعتبار الرشدية هي آخر إبداع قادم من العالم الإسلامي وأثر في الفكر الأوربي الوسيط. وفي الحقيقة ندين منذ مدة كبيرة وحتى وقتنا الحاضر بدين كبير إلى العمل الكبير الذي قام به المستشرق الفرنسي هنري كوربان الذي وضح زيف هذا الرأي من خلال كتابه الذي يمكن اعتباره كلاسيكيا Histoire de la Philosphie Islamique  (تاريخ الفلسفة الإسلامية )والذي صدر سنة 1964، والذي لم يترجم إلى الأنجليزية إلا سنة 1993، فمن خلال الكثير من المقاطع يبين لنا كوربان هذه الفكرة التي نحن بصدد بيانها بذكاء كبير، يقول كوربان:

يتبادر إلى الذهن عند ذكر اسم "ابن رشد"، تلك الشخصية القوية، وذلك الفيلسوف الفذ الذي سمع عنه العالم الغربي قاطبة القليل أو الكثير. ولكن المشكلة، في هذا الأمر، هي أن النظرة الغربية لم تكن واسعة الأفق؛ وذلك أن القوم، كما أعربنا عن  أسفنا لذلك آنفا، قد درجوا على النقل والترديد بأن ابن رشد كان  أبرز اسم وأبرع ممثل لما يسمى بالفلسفة بـ "بالفلسفة العربية"، وأن هذه الفلسفة بلغت معه ذروتها ثم انقضى أمرها عندما قضي الرجل. ولقد غرب عن بالهم، والأمر كذلك، ما كان يحدث في الشرق، حيث مرت مؤلفات ابن رشد دون  أثر ملحوظ.  فلا دار في خلد "نصير الدين الطوسي" أو "مير داماد" أو "هادي السبزوري" ما تعلقه لتواريخ الفلسفة عندنا من أهمية ومعنى على ذلك النقاش الجدلي الذي دار بين الغزالي وابن رشد. بل إننا إذا ما أوضحنا لهم ذلك، لأثار الأمر دهشتهم، كما يثير دهشة خلفهم اليوم[28].
أكثر من ثلاثين سنة من صدور كتاب كوربان في لغته الأصلية، إلا أن الواقع يبين أن ما يزيد على تسعين بالمائة مما ينشر في الغرب من كتب ومقالات بخصوص الفلسفة العربية تعالج فقط الفترة الممتدة بين الكندي إلى ابن رشد، رغم الكم الكبير من النصوص الفلسفية المهمة والمتفردة لمجموعة من الفلاسفة الذين أتوا بعد ابن رشد.
دعوني الآن أوضح هذه الفكرة من خلال مثالين. الكل منا يعترف بتفوق ابن سينا وريادته، لكن لا أحد الآن يعرف الشيء الكثير عن مدرسة ابن سينا الفلسفية ومن خلفه من تلاميذه في نشر فلسفته بعد وفاته، والذين كانوا المسؤولين عن  نشر كتب الشيخ الرئيس ودراستها في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، وبداية القرن الثاني عشر؛ فلا نجد في الدراسات الغربية من يتحدث عن أي جانب من جوانب هذا الموضوع، سواء من انتشار كتب ابن سينا بين تلاميذه إلى شرح   تلاميذه لكتبه[29].

ثانيا، نستحضر هنا مثال أثير الدين الأبهري، الفيلسوف الموصلي المتوفى سنة 1204م. والذي كتب متنا مدرسيا في المنطق، والذي يعتبر تلخيصا لجميع مكونات الأورغانون الأرسطي، وقد أعطى لكتابه اسما يونانيا وهو إيساغوجي (Eisagoge) والتي تعني المدخل إلى المنطق. وعنوان الكتاب قد استعاره المؤلف بوعي من فورفوريوس (Porphyry) لكن موضوعه الأساس هو مواد الأرغانون ككل وليس فقط "الكليات الخمس" لفورفوريوس. وقد كتب القبول لكتاب الأبهري ونال شهرة في الأوساط الفلسفية العربية التي أتت بعده. وقد وضعت عليه   العديد من العلماء عبر عدة قرون عشرات الحواشي. وظل يدرّس في المدارس الدينية في الإمبراطورية العثمانية حتى بداية القرن العشرين.   فقد حل إلى حد كبير  محل كتب ابن سينا الصغيرة في المنطق. وقد كتب الأبهري كذلك كتاب "هداية الحكمة"، والذي كان يقرأ على نطاق واسع، حيث تطرق فيه الأبهري إلى: المنطق والطبيعيات والإلهيات، متبعا في ذلك بشكل بيِّن النموذج الذي وضعه ابن سينا. فكتاب "هداية الحكمة" كان موضوعا للكثير من الشروح والحواشي، ولكن لا نعرف إلا القليل عن هذه الكتب شديدة التأثير سواء على مستوى مضامينها أو تحليلا لتلك المضامين، ونجهل كذلك العلائق التي تربطها بفلسفة ابن سينا، وأخيرا لا نعرف الإضافات الفلسفية التي حققتها شروح تلك الكتب.

نفس الملاحظة المتعلقة بالفلسفة العربية بعد ابن رشد نسجلها على كتاب ماجد فخري A History of Arabic Philosophy (تاريخ للفلسفة العربية)  الذي ظهر سنة 1970[30]. حيث خصص لموضوع الفلسفة بعد ابن رشد فصلا مختصرا (الصفحات من 293- 311)، حيث  خصصها للفلسفة الإشراقية وتطوراتها الصَّفَوية، متبعا في ذلك هنري كوربان. ولكن ماجد فخري لم يذكر شيئا عن  تقليد التراث السنوي في البلاد العربية وفي الإمبراطورية العثمانية.  والملاحظة نفسها نسجلها للأسف عن الكتاب الحديث الصدور في  جزأين بعنوان: The History of Arabic Philosophy (تاريخ الفلسفة العربية) وإشراف سيد حسين نصر وأوليفر ليمان[31].
هذه  مظاهر أربعة للمقاربة الاستشراقية  التي طبعت دراسة  الفلسفة العربية وشرحها لمدة تزيد على قرن ونصف. لذلك لا نعجب  عدم تحمس مؤرخي الفلسفة في الغرب ممن لا يعرفون اللغة العربية للفلسفة العربية، عندما يقرؤون مثل هذا التصوير الممسوخ لتلك الفلسفة، ومن ثم يتم تثبيط عزائمهم عن تعلم اللغة من أجل التعرف عن قرب على الفلسفة العربية. ولكن إن تم في العقود الأخيرة إضعاف نفوذ المقاربة  الاستشراقية إلى حد كبير، فإن أثر المدرسة  الاستشراقية لم ينته بشكل تام. ولكن ما يثير الانزعاج أكثر من الفهم المشوه للفلسفة العربية من  أتباع المقاربة  الاستشراقية، هي أن هذه الأخيرة كانت سببا في ظهور مقاربتين بديلتين في دراسة الفلسفة العربية؛ وتعتبران أكبر قوة وأكبر تأثير. المقاربة الأولى تتجسد في التأويل الإشراقي لهنري كوربان، والمقاربة الثانية تتمثل في تأويل سياسي غرائبي  لليو ستراوس  (Leo Strausse).

ثانيا: المقاربة الإشراقية

أشرت للتو لموقف المستشرقين القاضي بأن الفلسفة العربية عرفت نهايتها بموت ابن رشد، وما نتج عنه من إهمال للفلاسفة الآخرين الذين أتوا بعد ابن رشد، ولكن هناك أسباب أعمق لهذا الإهمال. ومن سخرية القدر أن كوربان القائل باستمرار الفلسفة بعد ابن رشد يعتبر سببا رئيسا في إهمال الفلاسفة الذين أتوا بعد ابن رشد كما سنبين ذلك فيما بعد. ويعتبر هنري كوربان أحد المختصين في "الإيرانيات"، ويعتبر من بين الباحثين الذين طبعوا ميدان الفلسفة العربية، ويحلو للبعض ان يلقبه بمتصوف العصر الحاضر، ولكن إذا سألنا هنري كوربان فإنه سيفضل أن نصفه بكونه "ثيوصوفي" أو "حكيم متعالي" (Theosophist). وكان عنده هوس شديد بالروحانيات الإيرانية[32]. فكتابه الأول عن الفيلسوف السهروردي قد  أثر على فهمه ليس فقط للفلسفة العربية المتأخرة بل وحتى  على فهمه للحضارة الإسلامية ككل. فالسهروردي، الذي لقي حتفه لأسباب يبدو أنها غير معروفة، في حلب سنة 1191م  على يد ابن صلاح الدين الأيوبي (ويظهر أن ذلك القتل كان بأوامر من صلاح الدين الأيوبي نفسه). والسهروردي هو مؤسس المدرسة الإشراقية، والتي تعتبر نسخة أفلاطونية للسينوية، حيث  إن الأفكار الأفلاطونية قد أعطيت لها وضعيات أنطلوجية فيما يسمى بعالم المثل، بين عالم الصيرورة والفساد وعالم المعقولات للأجرام السماوية. من الناحية الإبستمية فعالم المثل لا يمكن الولوج إليه إلا عن طريق ملكة الخيال الأرسطية/ السينوية، كما أن عالم المعقولات لا يمكن الولوج إليه إلا عن طريق العقل. واتباعا لنهج ابن سينا، فإن السهروردي يعبر عن كونه الخاص بألفاظ شعرية، مستعملا في ذلك فكرته المتكررة المتعلقة بالمفهوم الزاردشتي القديم للنور، ثم تأويل عالم المثل الأفلاطوني بالإضافة إلى الموجودات العاقلة بلغة علم الملائكة الزرادشتي (Zoroastrian angelogy ). في هذا السياق يمكن تعريف الإشراق هو بأنه عملية الولوج إلى عالم المثل وعالم المعقولات ثم تجاوزهما إلى ما هو  أبعد. فكوربان اختار  أن يركز اهتمامه على التمثل الرمزي لنظام السهروردي، والنظر إليه باعتباره دمجا للفلسفة والتصوف. وفي آخر المطاف الوصول إلى اعتبار هذا المزيج هو الصورة التي تمثل الإسلام. وباتخاذ هذا الموقف يكون هنري كوربان قد تبنى وجهة النظر الاستشراقية القديمة القائلة بأن الفلسفة العربية هي فلسفة صوفية في نتائجها، وجعل وجهة النظر ترتقي حتى اعتبرها الأساس التأويلي لمقاربته. وأضاف كوربان أن السهروردي ومن أتى بعده في المدرسة الإشراقية وجهوا مجهوداتهم من أجل دمج للسؤال الفلسفي مع الفتوحات الروحانية. ففي الإسلام - بغض النظر عن كل الحيثيات – هناك عدم انفصال بين تاريخ الفلسفة وتاريخ التصوف[33]. وهكذا يتحدث كوربان عن "الفلسفة الإسلامية من منطلق أن تحولاتها و أنماطها مرتبطة بالضرورة بالمعطى الديني والروحي في الإسلام"[34]. في هذا السياق برر كوربان وصفه للفلسفة العربية  بأنها "فلسفة إسلامية"[35].

هناك مجموعة من المزالق تؤدي إليها المقاربة التي يعتمدها كوربان. أولا ليست هناك أي دواعي إثنية لوصف الفلسفة  بأنها عربية كما يدعي ذلك كوربان في تبريره لرفضه هذه التسمية، ولكن نرد على كوربان بالقول إننا نسمي الفلسفة "بالعربية" لسببين أساسيين. السبب الأول هو أن اللغة العربية كانت هي لغة الحضارة الإسلامية ثم الأداة التي بواسطتها يتم ترسيخ الهوية والوعي الذاتي وتبليغ مكونات الثقافة إلى كل المواطنين في العالم الإسلامي، بغض النظر عن ماهية معتقدهم الديني. والفلاسفة الذين كتبوا في الفلسفة  بوصفها فلسفة (وليس كعلم كلام أو كتصوف كما يمكن أن يتصور كوربان) لم يكونوا فقط مسلمين بل كان منهم المسيحيون واليهود والوثنيون (الحرانيون). فكلهم شاركوا في  المشروع نفسه،  والأهم من هذا أنهم كانوا ينظرون إلى انفسهم باعتبارهم منخرطين في نفس الانشغال العلمي مع بعضهم البعض، متعالين عن الاختلافات الدينية فيما بينهم، والرسم البياني الذي قدمته في الأول  ضمنته كذلك كلا من إسحاق الإسرائيلي وابن ميمون  اللذين كانا يهوديان، بالإضافة إلى بشر بن متى مؤسس المدرسة المشائية في بغداد ثم كل  أتباعه باستثناء الفارابي كانوا مسيحيين. أما ثابت ابن قرة فقد كان وثنيا (صابئيا)،  أما الرازي فكان ملحدا. يتضح لنا بعد هذا البيان كم هو ظلم وسماجة أن نصفهم  بأنهم فلاسفة مسلمين بالمعنى الديني كما يقترحه كوربان، فإذا جاز لنا تمسيتهم بفلاسفة مسلمين جاز لنا أن نسمي كل من فورفوريوس وأفلوطين- فالأول سوري والثاني مصري-  بأنهم فلاسفة رومان. وثانيا، وما يستلزم من النقطة  الأولى التي أشرت إليها، أنه عبر جهود المترجمين للكتب الفلسفية اليونانية، فقد أصبحت اللغة العربية لغة فلسفية حيث كسبت استقلالية وأصبحت لغة أساسية في التعبير عن الفكر الفلسفي. وحتى في الحالة التي كانت فيها بض الكتب الفلسفية مكتوبة بالفارسية، فإن المصطلحات ظلت عربية بالإضافة إلى نمط التفكير الذي ظل عربيا، وهذا مسالة واضحة من خلال الأساليب التعبيرية المتبعة في تلك الكتب. 

والأكثر من ذلك أن وصف الفلسفة العربية بكونها إسلامية، يؤدي "بالضرورة إلى ربطها بالمعطى الديني والروحي للإسلام"، وهذا يؤدي إلى تضخيم البعد الديني في الفلسفة العربية، والذي  لم يكن حاضرا بالمرة في أجندتها. فالتمييز بين الفلسفة وعلم الكلام كان جد واضح لأي طالب للفلسفة اللاتينية الوسيطة، ولا يجب الخلط بين الإثنين: فالفلسفة العربية ليست هي علم الكلام، سواء في الفترة التي سبقت ابن سينا أو التي  أتت بعده. فمن الوارد أن علم الكلام استعار مفاهيم ومواقف من الفلسفة العربية (خصوصا كتاب الجدل ثم نظرية المعرفة)، كما أن الفلسفة العربية قد تنبهت إلى بعض المواضيع المركزية في علم الكلام (مثل طبيعة معرفة الرسول ثم طبيعة صفات "الكائن الأسمى")، لكن التناول الفلسفي والكلامي لهذه المواضيع يظل منفصلا؛ لأن الفلسفة تتناول هذه المواضيع بالاعتماد على معطيات وحجج فلسفية مستقاة من مواضيع فلسفية، كما يتم تبليغها في قالب برهاني، بينما علم الكلام ينطلق في التدليل على تلك القضايا انطلاقا من نصوص الوحي، ويتم تبليغها بالاعتماد على حجج جدلية وخطابية. فعن طريق تعمية الفروق بين كل من علم الكلام والفلسفة - من أجل ما يعتبره كوربان الحقيقة الأسمى للإشراق الإلهي – يكون كوربان قد جعل من الفلسفة العربية مجرد تصوف أو علم كلام، وهو يكون بخطأ قد وجه الاهتمام إلى أبواب الفلسفة التي تناقش موضوعي "النبوة ثم وحي الأنبياء"[36]، على أساس أنها تمثل جوهر اهتمامات الفلسفية العربية، ثم تجاهل المئات من المجلدات التي كتبت في المنطق (ومن بينها الخطابة والشعر)، في كل المواضيع التقليدية التي تتطرق للطبيعيات، وكذلك لما بعد الطبيعة بالمعنى الأرسطي التي هي دراسة الموجود بما هو موجود. ونفهم مما سبق لماذا لم يلق كتاب كوربان اهتمام الأوساط الأكاديمية رغم أنه كان من الأوائل الذين تطرقوا للفلسفة العربية بعد ابن رشد، وهذا واضح بجلاء لأن كوربان لخص الفلسفة العربية بعد ابن رشد في  أنها تصوفا و مجرد تحققات على المستوى النفسي، وبالتالي فقد أعطى كوربان للباحثين ذوي العقول الفسلفية مبررا لكي يهتموا بشيء مفيد وأجدى.

 الأثر الذي خلفته مقاربة كوربان في دراسة الفلسفة العربية المتأخرة، وهو أثر لا نستطيع الانفكاك عنه والذي امتد حتى إلى ابن سينا، متبعا في ذلك أثر المستشرق الدانماركي الآنف الذكر مهرن الذي تحدث عن فلسفة ابن سينا "المشرقية" باعتبارها فلسفة صوفية. فكما  أوضحت ذلك، ذهب كوربان أبعد من ذلك حيث اعتبر ابن سينا المبشر والمؤسس الحقيقي لإشراق السهروردي، على الرغم من اتهام السهروردي نفسه لابن سينا  بأنه مشائي حتى النخاع ولكنه لا يفقه المشائية. ونتيجة لذلك فإن الدراسات الجادة لابن سينا في الغرب بعد كتاب هنري كوربان (طهران، باريس 1954) Avicenne et le récit visionnaire  والذي ترجم إلى  الإنجليزية في سنة 1960 Avecinna and the visionary Recital  كانت معدودة ومتباعدة زمنيا. لذلك لم يتضايق الفلاسفة من النظر في كتب ابن سينا، إذا كان كل ما يتوقعون إيجاده هو مجرد عقائد باطنية. وبنفس الطريقة، فإذا كانت مقاربة كوربان قد صرفت الفلاسفة عن دراسة فلسفة ابن سينا ودراسة الفلسفة اللاحقة على ابن سينا، فإن مقاربة كوربان قد شدت إليها الباحثين الذين يهتمون تحديدا بالعقائد الباطنية باعتبارها وسائل من أجل الإعلاء من شأن أجندتهم الشوفينية سواء كانت دينية أو إثنية أو شخصية. وما أبعد هذا كل البعد عن دراسة الفلسفة العربية باعتبارها فلسفة في سياقها التاريخي، هذا زيادة  على أن مقاربة كوربان جعلت الفلسفة العربية أكثر صعوبة بالنسبة  إلى المؤرخين والباحثين في الإسلام.

 ثمرة هذه المقاربة، التي أصبحت  أكثر شعبية في العشرين سنة الأخيرة (كما رافقها ظهور الأصولية في كل من العالم الإسلامي والغرب)، هو اعتبار كل من الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام والتصوف مرتبطين بينهم بشكل كبير، وأن مصدرهم المشترك وأصولهم توجد في القرآن والحديث. هذه المقاربة التي يمكن تسميتها بالدفاعية الإسلامية، والتي  تبناها الكثير من الباحثين المسلمين، وعلى رأسهم سيد حسين نصر[37]. ففي هذه الحالة حلت الثيولوجيا محل الدراسة الأكاديمية.

ثالثا: المقاربة السياسية

وأختم بالتعرض إلى المصيبة الكبيرة التي أصابت دراسة الفلسفة العربية، تلك المصيبة التي تولد عنها مقاربات خاطئة للفلسفة العربية في القرن العشرين. يتعلق الأمر بالمناهج التأويلية لليو ستراوس  كما طبقها في تفسيراته للفلسفة العربية. والملاحظ أن مقاربة كوربان وستراوس تمتحان كلاهما من المقاربة الاستشراقية القديمة؛ فنزعة كوربان لتأويل الفلسفة العربية كلها باعتبارها إشراقا تعتبر فرعا متفرعا من وجهة النظر  الاستشرافية القديمة القائلة بأن الفلسفة العربية هي مجرد فكر صوفي وأنها غير عقلانية، فكذلك مقاربة ليو ستراوس  تعتبر فرعا متفرعا للتصور  الاستشرافي الكلاسيكي للفلسفة العربية باعتبارها تجسد بشكل ثابت الصراع القائم بين الفلسفة والدين. فكما طبع السهروردي مقاربة كوربان للفلسفة العربية – بسبب فرط حساسية كوربان من السهروردي-  فإن الشيء نفسه وقع لـ ليو ستراوس  حيث  إن هذا الأخير بدأ الأمر معه من خلال وقوفه على مقدمة "دلالة الحائرين" لابن ميمون حيث اعتبر أن ما فهمه من تلك المقدمة ينطبق على كل الفلسفة العربية[38]. في تلك المقدمة وضع ابن ميمون قائمة بالأسباب التي تعتبر مسؤولة عن التعارض أو وجود أقوال يناقض بعضها بعضا في أي كتاب من الكتب، ثم عرض ابن ميمون بعض الاقتراحات لكيفية القراءة من أجل تلافي عدم الاتساق أو التعارض الظاهر[39]. ولا يوجد أي جديد بخصوص المقاربة التي يعتمدها ابن ميمون من أجل درء التعارض والتناقض، فهو يقترح تأويلا رمزيا للنصوص الدينية، وهذه مسألة قديمة تعود على الأقل إلى الرواقيين، وكانت تستعمل عبر التاريخ في مختلف التقاليد الدينية في الشرق الأوسط حتى عصر ابن ميمون؛  الأمر نفسه كان يطبق على النصوص الفلسفية، وخصوصا نصوص أرسطو بسبب غموضها، حيث أصبح التأويل الرمزي للنصوص الفلسفية الأرسطية سمة بارزة عند الأرسطيين في الإسكندرية. فالفارابي تبنى بالجملة التعاليم الإسكندرانية بهذا الموضوع – كما هو الحال لمواضيع أخرى – حيث أرجع أسباب غموض نصوص أرسطو إلى ما يلي:

وابن ميمون معروف بأنه تلميذ متعصب للفارابي. ففي مقدمة "دلالة الحائرين" نجد ابن ميمون يتبنى الكثير من الحجج التي أوردها الفارابي في كتبه بخصوص كيفية قراءة النصوص الفلسفية، خصوصا رسالة الفارابي "الجمع بين رأيي الحكيمين" (أفلاطون وأرسطو )؛ ففي عصر ابن ميمون كانت تلك الحجج التي قدمها الفارابي قد أصبحت موضوع سجال وذلك بسبب استعمالها الواسع وانتشارها على يد ابن سينا[40].

ولا يعرف  ستراوس رغم كل إنجازاته، اللغة العربية بالشكل الكافي الذي يؤهله لقراءة الفلسفة العربية ، وبالتالي فهو لا يعرف الفلسفة العربية، وفشل في إدراك السياق التاريخي ثم الأصول الفلسفية لمقدمة "دلالة الحائرين" لابن ميمون، وكان قد تأثر ببحثه عن سقراط وإعدامه من طرف الأثينيين. وقد أساء فهم مقدمة ابن ميمون بشكل أدى به إلى أن يعتقد أن الفلاسفة لا يعبرون عن مواقفهم بشكل صريح خوفا من الملاحقة، وخشية أن يتعرضوا لمثل ما تعرض له سقراط. ثم  بعد ذلك قام بتعميم هذا الموقف - الذي يزعم  أن ابن ميمون تبناه- على كل الفلاسفة المسلمين. وإذاك إذا أراد المرء أن يحاكمه انطلاقا من تحليله لكتب الفارابي فهذا الأخير يعتبر فيلسوفا غير مناسب لكي يتم توثيق أطروحة ستراوس، وذلك لأن الفارابي يصرح بوضوح وبدون تلميح بنقده لعلم الكلام باعتباره علما، حيث أنزله إلى مرتبة لا تقل عن شيء شبيه بالتلاسن في الأزقة، هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإنه يعتبر الدين بصفة عامة  ذا دور وظيفي في المجتمع يتجلى في حفظ النظام المجتمعي بين العوام.

إن فهم ستراوس للفلسفة العربية يتأسس على فرضين: أولا يفترض ستراوس أن الفلاسفة الذين يكتبون بالعربية كانوا يشتغلون في بيئات معادية للفلسفة، وكانوا مضطرين للتعبير عن مواقفهم وآرائهم بطريقة تتماشى مع الدين الإسلامي، وثانيا كان الفلاسفة العرب مضطرين لكي يطرحوا مواقفهم الفلسفية بطريقة مقَنَّعة. "وهذا ما يتطلب [من أجل فهم نصوصهم] مفتاحا من أجل فهم الطريقة الخاصة التي تم بها تأليف تلك النصوص، وهذا المفتاح يتجلى في الصراع بين الفلسفة والدين"[41].  وهذا يعيدنا إلى الأصول التأويلية التي يستقي منها ستراوس أفكاره، وهي بكل وضوح ترجع إلى الموقف  الاستشرافي القديم الذي يعتبر أن الهم الوحيد للفلسفة العربية هو تدبير الصراع بين الفلسفة والدين؛ وبناء عليه كيف يمكننا أن نتبنى مقاربة ستراوس ونقول  إن الفلاسفة حتى عندما يؤلفون في المنطق فإنهم يخفون المقاصد الحقيقية لكلامهم،  الشيء نفسه بالنسبة  إلى مؤلفاتهم في جميع مواضيع الطبيعيات (بخلاف قدم العالم)، الخ، باعتبارها مواضيع لا تدخل ضمن المواضيع المهدِّدَة لما يمكن أن يعتبر مواقف سلفية للسلطة الدينية؟

هذا الموقف الستراوسي لا يمكن أبدا الدفاع عنه أو تبنيه عندما يتعلق الأمر بالفلاسفة العرب المسلمين لأنه يتعارض مع الوقائع التاريخية – فلا  يوجد أي فيلسوف تمت ملاحقته أو حتى إعدامه، بسبب آرائه الفلسفية[42] - ولكن هذا الرأي يعتبر متهافتا حتى بالنسبة  إلى ابن ميمون؛ فهو وأسرته تعرضوا  لمضايقات الموحدين واضطروا للرحيل عن الأندلس سنة 1149، ليس لأن موسى ابن ميمون فيلسوف بل – على  أية حال فهو في ذلك الوقت بالكاد يبلغ سن المراهقة - لأنه كان يهوديا. وزيادة على ذلك فإنه يبدو واضحا كم هو سخيف  الادعاء بأن الفلسفة نشأت في بيئات معادية لها في المجتمعات الإسلامية، رغم أنها كانت تمارس في مختلف الأزمنة والأمكنة على امتداد التاريخ الإسلامي على امتداد ما يزيد على  عشرة قرون (ينظر في الرسم التوضيحي الذي وضعته في  أول البحث). ورغم ذلك فإننا نعجب لبعض الآراء التي تجعل من بعض الافتراضات حقائق مقطوع بصحتها والتي على أساسها يتأسس البنيان النظري لأطروحة ستراوس:

الفلسفة الإسلامية السياسية كانت على مر الدوام ملاحقة، في محيط ينبغي أخذ الحيطة والحذر حتى لا يتم خرق لتعاليم الوحي والتقاليد المتعارف عليها في المجتمع الإسلامي. وذلك لأن النصوص الدينية والتقاليد ترسم الخطوط الموجهة للإدارة المدنية للمجتمع، كما أنها تفرض تعليمات بخصوص الطريقة التي يجب أن تدبر بها الحياة الدينية[43].

هذا القول الغليظ تم تقديمه بطريقة تجعله ضربا من القول بغير علم حيث لا يوجد ولو مرجع أو مصدر واحد يمكن أن يسنده، لأن ما تم ذكره في  ذلك الاقتباس من المفترض أن يكون 'على الدوام'، ومن المفروض أن يكون هناك مثال يدعم وجهة النظر تلك. لأن أمثال هؤلاء الكتاب لا يعيرون أي اهتمام للوقائع التاريخية؛ فهو يبدأ من وجهة النظر  الاستشراقية  الأساسية القائلة  إن الفلسفة لا يمكن أن تزدهر في "الإسلام" بسبب أن جوهر هذا الأخير يتعارض مع العقل، ثم يزيدون الطين بلة بفساد التأويل للفلسفة العربية، تلك التأويلات التي يتم استعارتها من التأويليات اليهودية للعلماء اليهود في العصور الوسطى. فالفكرة القائلة بأن الإسلام معاد للفكر الفلسفي، فكرة تتكئ عليها كل  الادعاءات المشابهة، وهي بنفسها فكرة استشراقية مؤسسة جزئيا على أحكام مسبقة معادية للإسلام ومعادية للسامية وكذلك مؤسسة بشكل جزئي على جهل بالوقائع المجتمعية في المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ[44]. 

ورغم كل ذلك فقد استطاعت نظرية ستراوس أن تجد لها أتباعا ينصرونها من  طلاب الفلسفة العربية، وكان لها أثرين سلبيين على حقل الفلسفة العربية، وكلا الأثرين هما نتيجة طبيعية للفرضين الأساسيين الذي تتأسس عليهما نظرية ستراوس. الأثر السلبي  الأول أن نظرية ستراوس خلقت ما يمكن أن أسميه حرية مطلقة أو فوضى بين مؤيدي هذه النظرية في قراءتهم لنصوص الفلسفة العربية. وهذا ما يعني، أن أحدهم لو ادعى أن فيلسوفا ما لم يقصد ما قاله وأن ذلك الفيلسوف يعمد إلى إخفاء مقصوده ، فكيف إذن، السبيل إلى فهم مقصوده الحقيقي؟ بعبارة أخرى كيف السبيل لإيجاد "المفتاح" من أجل فتح مغاليق أقواله الحقيقية المزعومة؟ الستراوسيون دائما يدعون أن بحوزتهم المفتاح الحقيقي وأنهم باستطاعتهم قراءة ما بين السطور، ولكن دعوتهم في ذاتها لا يمكن أن تخفي اعتباطية في مغامرتهم، ويلزم عنها قبول أي تأويل كيفما كان لنصوص الفلسفية وذلك بسبب غياب لقواعد اللعبة[45]. النتيجة الأخرى لهذه الفوضى التأويلية تتمثل في أن الكثير من الباحثين الستراوسيين يشعرون أنهم في حِل من التقيد بأهم القواعد الفيلولوجية والتاريخية في البحث. هؤلاء الباحثون، يقعون في مقارنات للنصوص الفلسفية العربية مع نصوص كل من أفلاطون وأرسطو، ثم يحللون النصوص الفلسفية العربية وكأن الفلاسفة العرب يرجعون إلى نفس النصوص اليونانية لكل من أفلاطون وأرسطو كما هي عندنا الآن، وكأن الفلاسفة العرب لديهم نفس الفهم للمجتمع اليوناني القديم ولمؤسساته كما نفهمها الآن. وبالتالي فإن كل العوامل التاريخية والفيلولوجية التي حكمت فهم الفلاسفة العرب للتقليد الفلسفي اليوناني تم إلغاؤها: عوامل مثل سوء تقدير المعنى من قبل المترجمين، وأخطاء النساخين، والتخمينات التي يجريها المترجمون إذا استعصي عليهم ترجمة كلمة ما، والإضافات التفسيرية والاجتهادات التي تراكمت على مر اثني عشر قرنا، بالإضافة إلى الفاصل الزمني الذي ليس باليسير بين الفلسفة اليونانية الكلاسيكية و"بداية" اللغة العربية، ثم الطبيعة الدلالية والتضمينية للمصطلحات والتعابير العربية، والتي كانت رائجة إبان الفترة الزمنية لكل فيلسوف عربي[46].  وغني عن القول انطلاقا مما سبق بيانه أن مقاربة مثل مقاربة ستراوس تدخل ضمن فن الأدب وليس ضمن البحث التاريخي الرصين.

نفس الافتراض القائل بأن الفلاسفة يخفون المقصود من كلامهم، يقود إلى نتيجة سخيفة لا يمكن للعاقل أن يتمسك بها. فإذا كان الفلاسفة يخفون المقصود الحقيقي من كلامهم في نص معين والفلاسفة هم من يستطيع فك شفرة ذلك النص، فهذا يحمل فكرة ضمنية مؤداها أن المجتمعات الإسلامية على مر عشرة قرون لم تحو إلا بعض العشرات أو يقارب من الأفراد ذوي الذكاء الخارق – هم الفلاسفة بطبيعة الحال – الذين يستطيعون فهم المقصود الحقيقي من تلك النصوص، وأن الآلاف من علماء الدين، الذين نجح هؤلاء الفلاسفة في إخفاء مقصود كلامهم عنهم، كانوا مغفلين، عاجزين عن قراءة ما بين السطور. وبالتالي فالنتيجة الحتمية أن الباحثين من مناصري النظرية الستراوسية في العصر الحاضر، لا يجدون أية صعوبة في الكشف عن تلك المعاني الخفية التي أخفاها هؤلاء الفلاسفة، وبالتالي فهم أذكى وأعقل من الآلاف من علماء الدين الإسلامي[47].

الأثر السلبي الثاني لنظرية ستراوس وهو افتراض أن "السياسة" هي المفتاح من أجل فهم ما يزعم أنه المعني المخفي للفلسفة العربية. ولأن الفلسفة العربية يفترض أن جل اهتمامها هو جدلية الدين والفلسفة، ولأنه في الإسلام (كما هو الحال في اليهودية عكس الكاثوليكية في العصر الوسيط) ليس هناك فصل بين الشريعة والقانون المدني، وبالتالي فإذا "كانت الفلسفة يجب أن تفكر في أفق أي قانون يجب أن يكون ذلك القانون هو الفقه"[48]. لذلك فالسبب الذي يجعل هؤلاء أن الفلاسفة العرب يقومون بتورية آرائهم الحقيقية كما يزعم الستراوسيون، راجع إلى أن هؤلاء الفلاسفة كانوا يكتبون عن السياسة وأن ما يقوم به هؤلاء الفلاسفة في جوهره هو فلسفة سياسية. وهكذا فكل الفلسفة العربية إلى زمن ابن رشد يُنظر إليها باعتبارها تملك إطارا سياسيا. دعوني الآن أقتبس نصا لأهم مناصر للنظرية الستراوسية لباحث مشهور هو محسن مهدي:

  عبر تاريخ الفلسفة الطويل في الإسلام، طالما فهمت الفلسفة من طرف من يمارسها باعتبارها علم العلوم والتي تتضمن النظر وتأويل الدين (الوحي، النبوة، والفقه) باعتبارها مشاكلات فلسفية...ففي الفترة الكلاسيكية للفلسفة الإسلامية كان الدين (وضمنه علم الكلام وأصول الفقه) يتم النظر فيه في الإطار الذي توفره الفلسفة السياسية...الإطار السياسي الذي تم إهماله بشكل كبير في الفترة ما بعد الكلاسيكية... واستبدل بإطار جديد يوفره التصوف الإسلامي[49].

تم التأسيس لهذه التأكيدات انطلاقا من شواهد وأدلة مهلهلة، ففي الحقيقة فإن الفيلسوف العربي الوحيد المنتمي إلى الحقبة "الكلاسيكية" أي قبل ابن رشد، والذي تم قتله بحثا تحت ما يسمى الفلسفة السياسية، هو الفارابي. فباستثناء هذا الأخير لا يوجد أي فيلسوف -وذلك بطبيعة الحال إذا وضعنا حدا للخيال- يمكن القول إنه كان "فيلسوفا سياسيا". أفضل ما يمكن أن نمثل به هذه القضية هو كتاب Medieval Political Philosophy  (الفلسفة السياسية في العصر الوسيط)الذي اشترك فيه كل من محسن مهدي ورالف ليرنر (Ralph Lerenr) وكلاهما ستراوسيان، وهو عبارة عن جمع لنصوص فلسفية عربية مترجمة، وهكذا يتم الالتجاء إلى إخراج اي شيء مكتوب يمكن أن يعتبر سياسيا، حتى ولو كان عن طريق التكلف. بالإضافة إلى أن تلك النصوص المختارة تتضمن كذلك أحد كتابات ابن سينا ورسالة صغيرة لابن باجة، ومختارات لابن طفيل، ثم رسالة "فصل المقال" لابن رشد. هذا الأحير الذي تعرضنا إليه فيما سبق لا يدخل ضمن الفلسفة السياسية، بل هو كتاب فقهي. أما الحكاية الفلسفية لابن طفيل "حي ابن يقظان" فتدخل ضمن التعليم الفلسفي الذاتي (philosophus autodidactus)، وضمن نظرية المعرفة. أما كتاب ابن باجة المسمى "تدبير المتوحد" فهو نص غامض حول كيفية الوصول إلى تخليص النفس إذا كان يحكمنا حكام غير صالحين، كما قرر ذلك الفارابي. أما النص المختار ضمن نصوص ابن سينا فليست له أية علاقة بالفلسفة السياسية، بل له علاقة بالتأويل الرمزي لنصوص الوحي، كما ناقشنا الأمر سابقا عند الحديث عن ابن ميمون. يظهر أنه من المهم القول إن تلك النصوص العشرة المجموعة باعتبارها ممثلة للفلسفة السياسية المزعومة التي جمعها محسن مهدي وليرنر في نصوص مختارة تم التكلف والتحايل في التعامل معها؛ فهناك نصين فقط من تلك النصوص تم إدراجه كاملا، بالإضافة إلى نص ابن رشد الذي ينتمي إلى الفقه، أما النصوص الأخرى المتبقية فتم إدراجها مجتزأة وتم التركيز فيها على المقاطع التي تشير إلى بعض القضايا الاجتماعية ولمبحث النبوات. تلك النصوص المجتزأة، تم تلقفها خارج سياقها الذي وردت فيه في الكتاب ككل، تلك الكتب التي ليس لها أي علاقة تذكر بالفلسفة السياسية، وقاموا بتعميم انطباع مغلوط مفاده أن هناك نصوصا مهمة في اللغة العربية تتحدث عن الفلسفة السياسية.

وفي حقيقة الأمر ليست هناك أي فلسفة سياسية في حد ذاتها في اللغة العربية قبل ابن خلدون، بناء على الفهم المعتاد لمصطلح السياسة؛ فليس هناك بتعبير آخر أي فن مستقل يدرس ضمن الفلسفة العربية الذي ينظر في العوامل السياسية والأنصار السياسيين والمؤسسات السياسية باعتبارها عناصر مستقلة تشتغل بدينامية ذاتية داخل بنية المجتمع[50]. أما الحديث الذي نجده بخصوص الحاكم الكامل والحاكم الفاضل في بعض نصوص الفارابي فيتركز فيه النقاش على قضية الفيض ونظرية العقول الفعالة  للأسكندر الأفروديسي  والتي تم تطويرها على يد الفارابي نفسه، وسأورد هنا مقتطفا للفارابي:

فبحصول المستفاد يكون الاتصال بالعقل الفعال على ما ذكر في كتاب النفس... القوة التي بها يمكن أن يوقف على تحديد الأشياء والأفعال وتسديدها نحو السعادة. / فهذه الإفاضة الكائنة من العقل الفعال إلى العقل المنفعل بأن يتوسط بينهما العقل المستفاد هو الوحي. ولأن العقل الفعال فائض عن وجود السبب الأول فقد يمكن لأجل ذلك أن يقال إن السبب الأول هو الموحي إلى هذا الإنسان بتوسط العقل الفعال. ورئاسة هذا الإنسان هي الرئاسة الأولى وسائر الرئاسات الإنسانية متأخرة عن هذه وكائنة عنها ... والناس الذين يدبرون برئاسة هذا الرئيس هم الناس الفاضلون والأخيار والسعداء. فإن كانوا أمة فتلك هي الأمة الفاضلة. وإن كانوا أناسا مجتمعين في مسكن واحد كان ذلك المسكن الذي يجمع جميع من تحت هذه الرئاسة هو المدينة الفاضلة [51].
فالأساس العقلي لما يسمى "الفلسفة السياسية" عند الفارابي تم فهمه بشكل جيد عن الفيلسوف السياسي الحقيق في الإسلام وهو ابن خلدون الذي قال بخصوص هذا الموضوع:
وما تسمعه من "السياسة المدنية" فليس من هذا الباب، وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأسا. ويسمون ذلك المجتمع الذي يحصل فيه ما ينبغي من ذلك بـ "المدينة الفاضلة"، والقوانين المراعاة في ذلك بـ "السياسة المدنية". وليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع بالأحكام للمصالح العامة، فإن هذه غير تلك. وهذه "المدينة الفاضلة" عندهم نادرة وبعيدة الوقوع، وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير[52].
ينكر ابن خلدون في هذا النص بشكل واضح أية إسهام للفلاسفة العرب في الفلسفة السياسية المحضة: " وليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع بالأحكام للمصالح العامة، فإن هذه غير تلك" هذا ما وقف عليه ابن خلدون نفسه. إنه من الممكن أن يكون لنا تحفظ على بعض الأمور التي وردت في "المقدمة"، ولكن إذا تعلق الأمر بالمعارف العامة، بالإضافة إلى نفاذ البصيرة بخصوص الكثير من القضايا المتعلقة بالحضارة الإسلامية، خصوصا نفاذ البصيرة فيما يتعلق ببعض الأمور الجزئية مثل هذا الموضوع الذي نناقشه، فإنه من المفروض أن يُنصح مؤرخو الفلسفة العربية أن يتبعوا ما يقوله ابن خلدون وأن يضربوا بعرض الحائط ما يقوله ستراوس. ومع ذلك فإن انتشار التأويل الستراوسي للفارابي كان له أثر سيء على الاتجاه العام للدراسات المتعلقة بهذا الفيلفسوف الكبير، مثل الأثر السيء للمقاربة الإشراقية لكوربان بالنسبة إلى ابن سينا التي عمرت وقتا طويلا في ميدان الدراسات السينوية. هذا بالإضافة إلى أنه يمكن أن يستشف من قول محسن مهدي -كما أشرت إلى ذلك سابقا- أن هاتين المقاربتين احتكرتا دراسة الفلسفة العربية؛ فالستراوسيون يدَّعون أنهم الجديرون بدراسة الحقبة الكلاسيكية من الفلسفة العربية (قبل ابن رشد)، أما الإشراقيون من أتباع كوربان فيعتبرون أنفسهم أجدر بدراسة الفلسفة العربية في الفترة ما بعد الكلاسيكية (بعد ابن رشد). الانتشار الكبير للدراسات التي كانت وما تزال نتيجة للمقاربة الاستشراقية القديمة على علاتها، والتي تولد عنها كل من المقاربة الستراوسية والمقاربة الإشراقية، واللتان تتحملان مسؤولية سوء التقديم والعرض للفلسفة العربية.

البحث في الفلسفة العربية في إطار هذه الشروط، يبطل العجب من كون الفلسفة العربية لم تنل الاحترام والتقدير لحد الآن، والتي هي أهل له بين أوساط مؤرخي الفلسفة العربية والباحثين في العربية والإسلام، فنحن طلاب الفلسفة العربية خذلناهم وخذلنا الفلسفة العربية نفسها. فهناك الكثير من العمل ينبغي القيام به، وكلنا أمل في أن تتركز الجهود في القرن الواحد والعشرين في تحقيق وترجمة ودراسة المئات -ليس هذا من قبيل المبالغة- من النصوص المهمة للفلسفة العربية التي تمثل نتاج عشرة قرون الممارسة الفلسفية العربية. فهذا سيوفر النصوص المهمة والضرورية والتي على أساسها سنكون في وضعية صحيحة للكتابة عن الفلسفة العربية، في القرن الثاني والعشرين، وإعداد تاريخ يليق بمقام الفلسفة العربية.

ذيل للمقالة:

هذه المحاضرة تعرض مقاربة أولية وإجمالية لدراسة التأريخ لتاريخ الفلسفة العربية. ولو أن الموضوع لم يتم التعرض له من بل بالشكل المرضي وتقديمه إلى طلاب الفلسفة العربية، مهما اختلفت خلفياتهم المعرفية، والذين تكوينهم هو في التقليد الفلسفي الغربي، لأن التأريخ للفلسفة العربية يعتبر جزءا صغيرا في مجال التأريخ لتاريخ الفلسفة، والذي مُحضت له الكثير من الدراسات المهمة والرفيعة، ينظر على سبيل المثال بعض المقالات الأولية التي تعد بالشيء الكثير في المجموعات التالية:

·         The Historiography of the History of Philosophy, History and theory, Beiheft 5 (‘s-Gravenhage: Mouton & Co., 1965).
·         J. J. Ree, M. Ayers and  A. Westoby, Philosophy and Its Past (Sussex: The Harvester  Press, 1978).
·         R. Rorty, J.B. Schneewind  and Q. Skinner,  Philosophy in  History:  Essays  on the Historiography  of  Philosophy  (Cambridge:  Cambridge  University  Press, 1984).
·         G.  Boss,  La philosophie et  son  histoire (Zurich:  Editions  du Grand  Midi, 1996).

هذه الدراسة الأخيرة تتضمن كذلك قائمة بكل المراجع المتعلقة بالدراسات المنجزة في القرن العشرين (ص327- 349). ولتكوين رؤية عن المنجز (أو غياب المنجز بالأحرى كما حاولت أن أدلل عليه في هذه المحاضرة) في التأريخ للفلسفة العربية، فإنه من الضروري أن تخضع لنفس النوع من التدقيق الفاحص. فعندنا الكثير من المصادر عديمة القيمة ومصدر هذه الدراسات نجدها في القائمة البيبليوغرافية المتميزة لـ:
·         Hans Daiber, Bibliography  of Islamic Philosophy, 2vols(Leiden:  Brill,  1999).
ينظر كذلك مراجعتي لهذا الكتاب المتميز في : Jouranl of Islamic Studies, 11, (2000), pp. 368-372..  وقد كان مقال هانس دايبر  والذي شكل نقطة الانطلاق بالنسبة إلى كتابه:
·       “What is the  Meaning of and to what End Do We Study the History of Islamic Philosophy ? The History of a Neglected Discipline”  pp. Xi-xxxiii
في الكتاب  نفسه والتي تقدم تقريبا قائمة بيبليوغرافية كاملة عن التواريخ التي وضعت للفلسفة العربية منذ العصر الوسيط حتى وقت صدور الدراسة، مع تعليقات على المواد البيبليوغرافية. وأرجو أن تكون هذه المقالة فاتحة لبدء نقاش حول الموضوع، مع التذكير بأن بعض الإحالات في الهوامش في هذه المقالة تثير الكثير من الأسئلة والمواضيع للنقاش، التي لم يكن من المناسب أن أثيرها وأتعرض لبعض جوانبها في هذه المحاضرة العامة.

 
[1] - هذه المقالة هي عبارة عن محاضرة ألقيت في الرابع من يوليوز سنة 2000م في المؤتمر السنوي لـ  BRISMES في كامبريدج، فباستثناء بعض المراجعات الطفيفة وبعض الإضافات فيما يتعلق بالمراجع، فإن نص المحاضرة بقي على أصله الذي ألقي بها على الجمهور.
[2] - أستاذ اللغة العربية بجامعة ييل.
[3] - حاصل على الدكتوراه بدار الحديث الحسنية، الرباط، المغرب. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
**- أود أن أنبه القارئ الكريم إلى أن جل النصوص الفلسفية العربية التي أوردها الكاتب مترجمة، فقد عدت للأصل ونقلت منه، وكذلك بعض اقتباسات المؤلف من مراجع، فإن كانت مترجمة إلى العربية، فإني رجعت إلى تلك النصوص وأحلت عليها. كما أني عملت على تعريب عناوين المقالات والكتب التي ذكرها المؤلف بلغات مختلفة.
[4] - محمد عابد الجابري، نحن والتراث، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط. السادسة،  1993، ص34.
[5] - أقول فلسفة "عربية" وليس فلسفة "إسلامية"  لدواع ستناقش فيما بعد عند الحديث عن المقاربة الإشراقية.
[6] - مثل هذا الاعتراف نجده ماثلا على نحو متزايد في الكتب المدرسية للفلسفة اللاتينية الوسيطة. ينظر مثلا ما قاله أحد الباحثين الكبار في هذا المجال وهو:
K. Flasch: 'Die  zivilisatorische  und  damit  auch  die philosophische  Entwicklung  des lateinischen  Westens  seit  dem 13.  Jahrhundert  ist  ohne  den  Einfluss  der  Araber nicht  zu verstehen'
في كتابه:
 Das philosophische  Denken  im  Mittelalter  (Stuttgart:  Philipp  Reclam jun.,  1986),  p262
نجد كذلك نفس الانطباع في كتابه:
Einfuhrung  in die Philosophie  des Mittelalters  (Darmstadt:  Wissenschaftliche  Buchgesellschaft,  1987),  p95
وعلى نحو لا يمكن إنكاره، فرصد الفلسفة العربية في أمثال تلك الكتب المدرسية  تعتريه الروتينية والميكانيكية، وهذا راجع إلى الأسباب التي تشكل صلب هذه المقالة.
 
[7] - (Paris/ Louvain : Publications Universitaires, 1974), pp42-43.
[8] - قدم محسن مهدي الدليل على تفشي هذه التصورات في أبحاث بعض المستشرقين في النصف الأول من القرن العشرين في مقالة له بعنوان:
«Orientalism and the Study of Islamic Philolosophy», in Journal of Islamic Studies, 1 (1990), pp79-93.
[9] - نموذج مغاير لهذا نجده في كتاب ليون غوتييه (Léon Gauthier)وهو باحث ذو أهمية كبيرة في ميدان الفلسفة العربية ومحقق نصوص، اسم الكتاب:
Introduction à l’étude de la philosophie musulmane. L’esprit sémitique et l’esprit aryen : la philosophie grecque et la religion de l’Islam, (Paris : 1923)
[10] - ينظر:
D. Gutas « Avicenna’s Eastern (Orienal )Philosophy. Nature. Contents. Transmission», Arabic Sciences and Philosophy, 10, (2000), pp159-180.
[11] - تجد الدوافع والأسباب في انحياز ابن طفيل مفصلة في:
D. Gutas, « Ibn Tufayl on Ibn Sina’s Eastern Philosophy», Oriens, 34 (1994), pp222- 241.
اعتراض جمال العمراني على التفسيرات التي قدمتها وجوابي على تلك الاعتراضات تجدها في المقالة المشار إليها في الإحالة السابقة، ص161. الإحالة رقم 10.
[12] - « Filosofia ‘Orientale’ od ‘Illuminativa’ d’Avicenna?» Rivista degli Studi Orientali, 10 (1923- 1925) ; p443 : ‘’Titolo affato arbitrario, senza alcun fondamento nei manoscritti, e che poi è stato causa d’errori’’.
[13] - La Philosophie Médiévale (Paris : PUF, 1993, second édition 1995), pp115- 116.
[14] - Geschichte der Philosophie im Islam (Stuttgart : F. Frommans Verlag, 1901).
[15] - دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة: عبد الهادي أبور ريدة، ط. الخامسة مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د. ت، ص50 (قمت بالرجوع إلى الترجمة العربية عن الأصل الألماني عوض الترجمة الإنجليزية التي اعتمدها الكاتب)
[16] - نفس المرجع، ص51.
[17] - Averroes , Tahafut at-Tahafut, (oxford and London : Luzac & Co., 1954).
[18] - ينظر المراجعة التي قام بها فرانز روزنطال  لكتاب سيمون فان دين يبرغ والذي عرض هذه القضية: المغزى العام لهذا الكتاب، يقول روزنتال "مغزى هذا الكتاب تلخص في الاقتباسين اللذين صدر بهما المترجم كتابه؛ فالأول تعود إلى أبيقور ونفادها أن "أن اليونان هم من يتفلسف". ورغم المكانة الكبير لفان دين يبرغ، لا يمكن بأي حال من الأحوال إلا أن نقول أن تعمد إيراد ذلك الاقتباس –المأسوف عليه- يدل حقيقة على شوفينية ثقافية، تلغي الجهود الفلسفية لكل من الغزالي وابن رشد وكذلك جهود فان دين يبرغ ". ينظر هذا في: Journal of Near Eastern Studies, 15, (1956), p198.
[19] - ابن ميمون، دلالة الحائرين، ت. حسين أتاي، مكتبة الثقافة الدينية، د. ت.  ص180
[20] - De Libere and Hayoun’s Averroèse et l’Averroisme, (Paris : PUF)
ظهر هذا الكتاب في السلسة الشهيرة "Que sais-je?"  وفي الصفحات3- 8 قدما خلاصة للنقاش في هذا الموضوع مع قائمة لأهم المنشورات التي عالجت الموضوع.
[21]- (Combridge : Combridge University Press); cf. my review in Der Islam, 65 (1988), pp339-342.
[22] - هذا الفصل هو في الحقيقة تم نشره سابقا في مقالة من طرف المؤلف والتي حملت عنوان:
"Does the Interpretation of Islamic Philosophy Rest on a Mistake ?"  في International journal of Middle Eastern Studies, 12 (1980), pp525- 538.
[23] - Leaman, «Does the Interpretation of Islamic Philosophy Rest on a Mistake ?», p529.
[24] - أشار هنري كوربان إلى الفكرة نفسها عندما ذكر أن أبا البركات البغدادي واصل الإبداع الفلسفي بعد وفاة الغزالي، فهذه الإشارة تعتبر حجة دامغة للرد على القولة المبالغ فيها التي تذهب إلى بأن نقد الغزالي للفلسفة أقبر الفلسفة في الإسلام. History of Islamic Philosophy (London and New York : Kegan Paul, 1993 ), p179. لمعرفة المزيد عن موقف أساتذة النظامية من الفلسفة في القرن الثاني عشر ينظر كتاب: فرانك كريفل  Appostasie und Toleranz (Leiden : Brill, 2000), p350-358. من أجل مزيد اطلاع على ازدهار الفلسفة في الشرق في عصر ابن سينا ينظر: 19D. Gutas, ‘’The Heritage of Avicenna : The Golden age of Arabic Philosophy. 100-c.1350’’, In the proceedings of the Leuven Conference on the heritage of Avecinna. September,1999, to be edited by J. Janssens and D. De Smet، أما في الغرب الإسلامي، وخصوصا في الأندلس، تراجعت الفلسفة بعد ابن رشد (ت. 1198)، وابن طملوس (ت. 1223) ليس بسبب الهجمة التي تعرضت لها الفلسفة من الغزالي ولكن بسبب حروب الاسترداد وبسبب تردي الأوضاع المجتمعية للمجتمع العربي في شبه الجزيرة الإيبيرية.
[25] - Cf. D. Gutas, ‘Avicenna : De Anima (V6). Uber die Seele, uber intuition und Prophetie’, in K. Flasch(ed.) hauptwerke der philosophie. Mittelalter (Stuttgart: Reclam, 1998), pp 90- 107.
[26] - هذا النقاش استهله الفارابي ثم تابع النقاش الفلاسفة الذين أتوا بعده. ينظر المقالة الأولى التي طرقت الموضوع:
R. Walzer, ‘Al-farabi’s Theory of Prophecy and divination’, Journal of Hellenic studies, 77, (1957), pp142- 148.
تمت إعادة طبع المقالة في كتابه: Greek into Arabic (Oxford : Cassirer, 1962), pp. 206- 219.
[27] - ابن رشد، فصل المقال، ت. محمد عمارة، القاهرة:  دار المعارف،1999، ط. الثالثة.  ص22.
[28] - هنري كوربان، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ت. نصير مروة وحسن قبيسي، (بيروت: منشورات عويدات للنشر والطباعة، ط. 2، 1998)، ص358.
[29] - أول دراسة تطرقت لهذا الموضوع هي دراسة: D.C. Reisman , The Making of the Avicennan Tradition (Leiden : Brill, 2002). حيث تطرق في هذه الدراسة إلى نقل وانتشار متب ابن سينا بين تلاميذه المباشرين. ينظر كذلك: Griffel ; Apostasie, p341-349
لمن أراد التعرف على كتب اللوكري التلميذ غير مباشر لابن سينا.
[30] - New York : Columbia, second edition 1984.
[31] - London : Rutledge, 1966. من صفحات الكتاب المكونة من 1200 صفحة، فباستثناء تلك الصفحات المهمة لتحليل فلسفة نصير الدين الطوسي (ص. 527- 584)، لا نجد إلا اثني عشر صفحة خصصت للتراث السينوي (ص 584- 596)
[32] - ينظر نعي كوربان من تشارلز هنري دو فوشكور (Charles-Henri de Fouchécour) في Journal Asiatique, 267(197 9), pp231-237.
ولمعرفة المزيد عن أعماله وتأثيرها بالإضافة إلى مناقبه بالإضافة إلى قائمة بالمراجع التي تحدثت عنه ينظر:
Pierre Lory in : Rutledge history of Islamic Philosophy, II, pp1149- 1155,
[33] - Corbin, History, pXVI
[34] - Corbin, History, pXIV
[35] - Corbin, History, pXII- XIV.
[36] - Corbin, History, pVX.
[37] - ينظر على سبيل المثال مقالته:
« The Quran and the Hadith as Source and Inspiration of Islamic Philosophy» in the Routledge History of Islamic Philosophy, I, pp27- 39.
نجد في نفس الإصدار الذي تضمن مقالة سيد حسين نصر "تضبيا" للتمييز بين هذا التخصصات الثلاثة: الفليفة العربية ثم علم الكلام و التصوف. من أجل مناقشة للخلفية الأيديلوجية والتوجهات النظرية التي يصدر منها سيد حسين نصر، وكذلك مكانته في التاريخ الفكري المعاصر لإيران، ينظر:
M. Boroujerdi, Iranian Intellectuals and the West (Syracuse : Syracuse university Press, 1996), pp. 120- 130.
[38] - من أجل تفسير واضح لعلاقة تطور أفكار ستراوس في علاقتها بمنهجه في قراءة ابن ميمون ينظر:
Remi Brague, 'Leo Strauss  et Maimonides',  in  S. Pines and Y.  Yovel (eds) Maimonides  and Philosophy  (Dordrecht  and  Boston,  MA:  M. Nijhoff, 1986),  pp246-268; English  translation  as 'Leo  Strauss  and Maimonides',  in A.  Udoff (ed.) Leo Strauss's Thought (Boulder,  CO and  London:  Lynne  Rienner, 1991),  pp. 93-114. وقد كثرت الكتابات بخصوص ستراوس وابن ميمون بشكل يصعب على الحصر. ونجد تحليلا للتأثير الذي شكلته الفلسفة العربية على فكر ستراوس في :
  G. Tamer,  Islamische  Philosophie  und  die Krise  der  Moderne, Das Verhältnis  von  Leo  Strauss  zu  Alfarabi,  Avicenna  und  Averroes  (Leiden:  Brill,  2001) ثم نجد تحليلا ماتعا للخلفية الأيديلوجية لتأويليات سترواس التاريخية والفلسفية وعلاقتها بالجناح السياسي المحافظ عند:
  G.  Paraboschi.  Leo  Strauss  e la  destra  americana  (Rome:  Editori  Riuniti,  1993),  especially pp. 70-78.
[39]- See S. Pines, The Guide of Perplexed, p17.
[40] - لمعرفة المزيد عن هذه القضية، فيما يتعلق بابن سينا وبأتباعه ينظر:
 Gutas, Avicenna, pp225-234.
[41] - Cited from O Leaman, « Does the Interpretation…». p525/
[42] - السهروردي، (ت. 1192)، الذي يتم ذكره كمثال في هذا السياق (ذكره حديثا Griffel, Apostasie, 358)، قد تم إعدامه؛ لأنه قام باغتصاب مكانة العلماء المحليين باعتباره مؤتمنا على أسرار الأمير ومتلاعبا بالأمير الملك الظاهر ابن صلاح الدين. كذلك إعدام أبو المعالي الميانجي  (ت.1131، وقد ذكره فرانك كريفل، تم بسبب ليس بسبب آرائه الفلسفية، ولكن كما ذكر ذلك البيهقي "بسبب عداوة بينه وبين الوزير أبو القاسم النسابادي"، ينظر:
 M. Meyerhof , « Ali Al-Bayhaqi’s Tatimmat Siwan Al-Hikma», Osris. 8 (1948), p175.
[43] - C.E. Butterworth, « Rhetoric and Islamic Political Philosophy », International journal for Middle east studies, 3 (1972). P. 187, emphasis added
[44] - الأساس الاستشراقي الذي تتكئ عليه مقاربة ستراوس  تجد لها مناقشة من طرف:
O. Leaman, « Orienatalism and Islamic Philosophy», in Routledge History of Islamic Philosophy, II, 1145- 1146.
[45] - التوصيف المرضي الحرفي للغلو في التأويل، حيث التأويل ليس لديه أية حدود أو ضوابط، حللها أمبرطو إيكو:
in the essays in Interpretation and over interpretation, with R. Rorty, J. Culler, and C. Brooke-Rose (Cambrodge: Cambridge university Press, 1992),
حيث ان ايكو ابرز جنون العظمة والطبيعة الاستحواذية عند غلاة التأويل (ينظر على سبيل المثال ص48)، ورغم أن إيكو لا يحيل على ستراوس، ولكن تحليله جد مهم من أجل وضع المغامرة الستراوسية، سواء في إطار تقليد معروف من الناحية التاريخية وفي إطارها الإيديلوجي.
[46] - انظر على سبيل المثال:
(a) Ch. E. Butterworth, Averroes’ Middle commentary on Aristotle’s Poetics (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1986 )by J. N. Mattock in the¸ Review, 37 (1989), pp332-333, and by D. Gutas, in Journal of the American Oriental Society , 110 (1990), pp92-110, and (b) of J. Parens’s Metaphysics and Rhetoric (Albany: SUNY, 1995) by D. Gutas in International Journal of the classical tradition, 4 (1998), pp405-411.
جواب Butterworth  على مراجعتي لكتابه ، بغض النظر عن أنه فشل في الإجابة بكل دقة ولو عن واحد من التهم الموجهة اليه، فإن وجهة نظره مستنبطة من الإطار السياسي للغلو في التأويل –التي اشرت اليها في الإحالة السابقة- التي ينغمس فيها اتباع نظرية ستراوس. ينظر هذا في:
« Translation and Philosophy: the Case of Averroes Commentaries », international journal of Middle east studies, 26 (1994), pp19-35, and cf. His “De la Traduction philosophique ”, Bulletin d’etudes Oriental, 48 (1996); pp77-85.
[47] - المثال الجد مناسب اقتبسه من  Gutas  'Ibn  Tufayl  on Ibn  Sina',  p223 note  2 قدمه:
  M.  Mahdi  on  Arabic  'Philosophical  Literature'  (in  Religion,  Learning  and  Science  in  the  'Abbasid  Period
[The Cambridge  History  of Arabic  Literature],  edited  by  M.J.L.  Young  et  al. (Cambridge:  Cambridge  University Press, 1990),  pp76-105
يدعي محسن مهدي أن ابن طفيل فهم إحالة ابن سينا على "الفلسفة المشرقية" في مقدمته لكتاب "الشفا" على اعتبارها دعوة لنا من أجل الانخراط في قراءة "حذرة" لكتاب "الشفا" وكتب أرسطو. وهكذا -بحسب مهدي- يميز ابن طفيل بين المعنى "العميق" والمعنى "السطحي" لتلك الكتب وبالتالي فهو يستخدم هذا التمييز (بين السطحي والعميق من المعاني) من أجل ثلاث غايات: "من أجل تجنب التعرض بشكل صريح لتلك القضايا التي أثارها الغزالي في التهافت"، "من أجل التلميح إلى هذا... فالغزالي تعامل فقط مع المعاني السطحية للشفا لابن سينا" و "من أجل حماية الكتابات الفلسفية من الأعين المتربصة لرجل مثل الغزالي" (ص101). هذا التحليل يفترض أن ابن طفيل يعتقد أن عالما كبيرا من عيار الغزالي مغفل بما فيه كفاية لكي ينخدع بالعبارات المغشوشة والتراكيب البهلوانية المزعومة لابن سينا، وما أبعد هذا الفهم عن الواقع.
[48] - for a statement of this position see introduction by R. Lerner and M. Mahdi in Medieval Political Philosophy (New York: The Free Press, 1963); p14.
[49] - Muhsin  Mahdi  with  M.W. Wartofsky  in  the  Editors'  Note in  The  Philosophical  Forum,  4 (1973), p4. Mahdi later  expanded  on this position in  The Political  Orientation  of Islamic Philosophy,  Occasional  Papers  Series (Washington,  DC: Centre  for Contemporary  Arab  Studies,  Georgetown  University, 1982).
[50] - حتى الباحثين الأكثر قابلية لكي يجدوا ما يسمى بالفلسفة السياسية في الإسلام يجدون صعوبات في توثيقها وهكذا يناقشون ما يصطلحون عليه بـ "مظاهر" الفلسفة السياسية للفلسفة العربية. انظر للمقالات التي قام بتحريرها:
C.E. Butterworth, The Political Aspects of Islamic Philosophy,
 [مقالات مهداة ألى محسن مهدي], ( Cambridge MA : Harvard University Press. 1992)
[51] -  الفارابي، كتاب السياسة المدنية الملقب بمبادئ الموجودات، ت. فوزي متري نجار، بيروت: المطبعة الكاثوليكية، 1964.  ص79- 80.
[52] - ابن خلدون، المقدمة، ج، 2، ص111- 112، ت. عبد السلام الشدادي، الدار البيضاء: بيت الفنون والعلوم والآداب، 2005.