الإصلاحات السبعة الضرورية للقرن الحادي والعشرين - إدغار موران – ترجمة : مصطفى ناجي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تقديم :
يرصد موران في هذا العرض مجموعة من الظواهر الهامة التي تحدد مصير المجتمعات البشرية في العصر الحديث: فالواقع معقد، سريع التطور... وهو ما يستدعي التدخل الفاعل من قبل صانعي الأفكار كي يبادروا إلى فهمه، ويبحثوا عن حلول له. ولا يتحقق ذلك إلا ببناء معرفة جديدة تتفاعل فيها اختصاصات معرفية مختلفة من أجل تأسيس وعي شمولي يتجاوب مع واقع مركب. وبروح المصلح يحاول الفيلسوف أن يرصد مشكلات هذا الواقع، ويرسم أفقا للتفكير في الحلول الضرورية لتفادي المخاطر التي يحملها، والتي تهدد مستقبل البشرية. ( المترجم)
نص إدغار موران
سأنطلق من ملاحظة للفيلسوف الإسباني خوسي أورتيغا إي غاسيت José Ortega y Gasset يقول فيها: "إننا لا نعرف ما يحدث مع أن ذلك هو ما يحدث بالضبط". ما سبب هذا الجهل؟ السبب هو أن الوعي يأتي دائما متأخرا إزاء الحدث من أجل فهم ما يحدث. والسبب الثاني هو أننا نعيش في عصر يتطور بسرعة فائقة، وهو ما يجعل الوعي يتأخر أكثر. أضف إلى ذلك أن الأحداث قد بلغت درجة هائلة من التعقيد: لقد أصبح كل شيء متداخلا، الظواهر الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية والدينية. وهذا التعقيد هو ما سيتعصي على الفهم. وهكذا نجد أنفسنا في وضعية إعاقة معرفية، خاصة وأن هذه المعرفة التي نتوفر عليها ونستعملها قد تشكلت ضمن اختصاصات منفصلة عن بعضها، مجزأة ولا تتواصل فيما بينها. هناك خبراء في الاقتصاد، وخبراء في الطوبوغرافيا، وخبراء  في كل العلوم، ولكن هذه العلوم لا تتواصل مع بعضها.
 إن الواقع لا يشبه الجامعة. إن الأمور المنفصلة عن بعضها في الجامعة متداخلة في الواقع. وهذا هو السبب الأخير: إن نمط معرفتنا يجعلنا عميانا إزاء المشكلات العامة والأساسية. هذا المشكل إذن بالغ الأهمية لأن الأمر يتعلق بمشاكل أصبحت حيوية، وفي نفس الوقت أصبحت قاتلة. لنحاول إذن أن نبدأ  بتشخيص لما يحدث. ما يحدث، الجميع يعرفه.  إنه العولمة، أي أن كل شيء قد أصبح مترابطا ومتشابكا داخل سيرورة متزايدة. هذه العولمة تحمل في طياتها الحسن والقبيح.

بأي معنى نتحدث عن الحسن؟ نتحدث عنه بمعنى الترابط بين كل مكونات البشرية اليوم. لقد أصبحنا متصلين مع بعضنا بينما ظل الناس والمجتمعات خلال حقب طويلة منفصلين، دون تواصل بينهم. لقد أصبحت مصائرنا مترابطة، أي أننا نعيش مصائر مشتركة. لقد أصبحنا جماعات توحدها مصائر، خاصة وأننا نواجه مخاطر تهددنا جميعا، وهي مخاطر تتعلق بنشر الأسلحة النووية، مخاطر تدهور المحيط الحيوي، مخاطر أزمة اقتصادية متزايدة، مخاطر الاندفاعات الإثنية، الدينية، الإيديولوجية وحتى مخاطر المجاعة التي لم تختف بعد. يربطنا إذن مصير مشترك، وهو مصير يفترض أن يدفع بنا نحو التضامن، ويجعلنا مواطنين على كوكب الأرض.
لقد خلق هذا المسلسل أسس مجتمع عالمي. لماذا؟ السبب هو أن وجود مجتمع يقتضي وجود مجال للتواصل. والحال أن كوكبنا قد أصبح متصلا بواسطة وسائل  تواصل متعددة ومباشرة، بشكل لم يسبق له نظير في أي مجتمع. ولكي يوجد مجتمع، يجب أن يوجد اقتصاد. والاقتصاد المعولم موجود، لكنه  لسوء الحظ اقتصاد غير مضبوط. ولكي يوجد مجتمع، يجب أن توجد سلطة شرعية، ولا يمكن أن نعتبر هيئة الأمم المتحدة ممثلة لهذه السلطة. ولكي يوجد مجتمع، يجب أن يوجد وعي جمعي. وهذا الوعي بالمصائر المشتركة هو بالضبط ما يخلق الروح الوطنية. لا يتعلق الأمر اليوم بإلغاء الروح الوطنية المتعلقة ببلد محدد. (لكن ) يجب أن نفهم أن لدينا كوكبا أصبح هو وطننا. وهذا الإحساس لا يوجد إلا عند بعض الجماعات الصغيرة المتفرقة.  لدينا الأسس لبناء مجتمع جديد إذن، ولكننا توجد أيضا الأنساق التقنية والاقتصادية التي تحول دون بناء هذا المجتمع.
لنلخص إذن. الحسن هو إمكانية توحيد التنوع، وخلق وحدة داخل هذا التنوع لأول مرة في تاريخ البشرية، وحدة سلمية تتيح إمكانية لتحقيق مرحلة جديدة في تطور البشرية. هذا هو الجانب الحسن.
ولسوء الحظ، فإن الحسن لا ينفصل عن القبيح. فما هو القبيح إذن؟ القبيح هو أن المسلسل الذي يحرك العولمة، وهو مسلسل علمي، تقني، اقتصادي، مسلسل متناقض. فالعلم يوفر المعرفة، ويوفر الفائدة، كما أن التقنية يمكن أن تحرر الإنسان من الجهد العضلي الذي كان يمارسه على المادة. كل هذا متناقض، لأن الآثار السلبية لذلك تتزايد باستمرار، فالعلم والتقنية يخلقان أسلحة الدمار الشامل، والاقتصاد يؤدي لا إلى تدمير المجال البيئي فحسب، وإنما يؤدي أيضا إلى تدمير حقيقة الإنسان. القبيح يعني أولا التدمير المستمر لمحيطنا الحيوي الضروري لوجودنا: تدمير التنوع الحيوي، التغيرات المناخية، أشكال التلوث المتعددة والمتنوعة... القبيح أيضا هو أن هذا الاقتصاد المعولم لا يتوفر على منظومة حقيقية للضبط والمراقبة، وأن أزمة اقتصادية يمكن أن تؤدي إلى عدة كوارث. القبيح هو أننا نعيش أزمة، وهي ليست أزمة المحيط الحيوي فحسب، ولا هي أزمة علاقة الإنسان بالطبيعة فقط، ولكنها أيضا أزمة تنمية، أزمة المجتمعات التقليدية، أزمة حداثة. تتمثل أزمة المجتمعات التقليدية في كون مسلسل العولمة، وهو مسلسل تغريب، هو مسلسل لا يدمر المعتقدات الخرافية أو عوامل الانغلاق داخل هذه المجتمعات فحسب ، ولكنه يدمر فيها أيضا أشكال التضامن، ويدمر معارف ومهارات وطرقا راقية في العيش. وتدخل هذه المجتمعات في حالة فوضى. والحل المقترح لذلك هو الحداثة. لكن هذه الحداثة نفسها تعيش اليوم أزمة. إنها تعيش أزمة لأننا نحن أنفسنا نكتشف في مجتمعاتنا التي تسمى متقدمة أن الخيرات المادية لم تحقق إشباعا معنويا ونفسيا. هنا حالة قلق نفسي وسط الوفرة المادية. إن هذا المجتمع يخلق مشاكل جديدة. إن حضارة لا تخلق فقط حالة القلق، ولكن الإفراط في النزعة الفردية قد دمر أشكال التضامن القديمة، ومع ذلك لا زلنا في سباق محموم، ولكن إلى أين؟ هنا علينا أن نطرح المشكل المتعلق بمفهوم التنمية، ما دمنا بلدانا يفترض أنها متطورة وأن بقية بلدان العالم متخلفة وعليها أن تتطور. بخصوص هذا المفهوم أيضا هناك الحسن وهناك القبيح. صحيح أن التنمية بالصين وأمريكا اللاتينية والهند مثلا قد أدت إلى ظهور طبقة متوسطة وصلت إلى مستوى نمط الحياة اليومية في الغرب. ونلاحظ طبعا أن شباب هذه البلدان سعيد بالتحرر من قيود العائلة التقليدية ومن معتقدات الأسرة، وسعيد بحصوله على درجة من الحرية في علاقاته، بما فيها العلاقات الجنسية. بل إن هناك سحرا لاكتشاف ماك دونالد أو كوكاكولا، وهي أشياء مبتذلة بالنسبة لنا، ولكنها تبدو في البلدان الأخرى كأشياء مرتبطة بامتيازات المجتمع الغربي. هناك إذن شيء مهم في الولوج إلى الرخاء الغربي. ولكن ذلك مرتبط أيضا بالولوج إلى كل السموم الموجودة داخل الحضارة الغربية، أي سموم الاستهلاك والهوس بالشراء، الأهمية المتزايدة للمال الذي يلغي جزءا مهما من العلاقات الإنسانية القائمة على الشعور بالرضى، وعلى الصداقة والتضامن مع الآخر.
إن الهوس بالسيارة جعلنا سجناء الازدحام، وهو ما سيحدث بسرعة في القارات الأخرى التي تقتني السيارات. أضف إلى ذلك أن الصين أو الهند، إذا تزودتا بالسيارات بنفس الكمية التي في الغرب بالنسبة لسكانهما، فإننا سنحتاج إلى خمس كواكب مثل الأرض كي نشبع كل الحاجات الطاقية ونزيل آثار التلوث. يعني هذا أن هذا السباق نحو التنمية هو سباق نحو الهاوية. هذه هي السمات المتناقضة في ما تقدمه التنمية. وأضيف أن التنمية لا تقدم فقط بعض الرفاهية لجزء من السكان الذين يلتحقون بالطبقة المتوسطة. إنها تخلق أيضا كميات هائلة من البؤس. يجب أن ننظر إلى الخرائط كي نرى المساحات الهائلة من مدن الصفيح التي تحيط بكبريات المدن بأمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا.

ما هذا البؤس؟ لقد كتب مجيد غانيما، وهو مفكر إيراني كتابا هاما جدا سماه: "حين يطرد البؤس الفقر". (يبين أنه ) يمكن أن نكون فقراء، كما في الحضارات القديمة، كالحضارة الإفريقية مثلا، حيث كان الفلاح يعيش مع عائلته على قطعة أرضه الصغيرة، حيث يمارس زراعة متعددة، وكانت لديه دجاجات وعنزات. وكان يتمتع بحد أدنى من الاستقلالية. ولكن حين يطرد هذا الفلاح من أرضه بسبب الزراعة الأحادية الصناعية، فإنه يتوجه إلى هوامش المدن، إلى مدن الصفيح حيث يصبح كادحا، يفقد كل شيء ويصبح في وضعية تبعية تامة. هذا هو البؤس. أضف إلى ذلك أن التنمية تخلق أوضاع بؤس هائلة في الوقت الذي تخلق فيه بعض الرفاهية. ونرى في بلدان أوروبا الغربية كفرنسا مثلا، أن الفقر كان موجودا، لكن البؤس كان شبه منعدم، إلا بين بعض الفئات المهمشة، لكننا نرى اليوم أن البؤس ينتشر على حساب الفقر. 
يجب إذن أن نعيد النظر في عقيدة التنمية. إن فكرة التنمية المستدامة غير قادرة على إزالة  كل خطورة ونقائص التنمية. أريد (هنا) أن أتحدث عن التنمية البشرية. لماذا؟ لأن التنمية كما تم تصورها تقول لنا إن التقنية والاقتصاد هما القاطرة التي ستقود قطار حياة أفضل، قطار الديمقراطية والرفاهية وإشباع الحاجات والتخفيف من الصراعات الاجتماعية. ولكن لا شيء من ذلك يحدث في الواقع. أضف إلى ذلك أننا قد شهدنا تنمية اقتصادية مصحوبة بالديكتاتورية، كدكتاتورية أغوستو بينوتشي. نلاحظ إذن أن التنمية لا تحقق الديمقراطية والرفاهية. إنها تحقق طبعا بعض الأمور المهمة كأن تحقق درجة من التحرر، ولكن يجب أن نعيد النظر في نمط التنمية، وأن نعيد توجيهها نحو التنمية البشرية. فحينما ننظر إلى النمو في عالم الأحياء مثلا، نلاحظ أن البرعم هو الذي سيفرز الزهرة؛ أو نلاحظ أن الجنين الذي يخرج من بطن أمه سيتطور كما، ولكنه سيتطور أيضا على مستوى بنائه، وسيكتسب خصائص كيفية جديدة. إن التنمية لا تعني فقط تطورا كميا ولكن كيفيا أيضا.  إلا أن التنمية قد تم تصورها حتى الآن من زاوية كمية. وتم تطبيقها بطريقة أحادية على ثقافات وحضارات شديدة الاختلاف، من منظور النموذج الغربي النمطي دون الانتباه إلى ضرورة إنجاز تمازج بين ما اكتسبته هذه الثقافات من غنى وقيم في طرق العيش وفي المعارف، بما فيها المعارف الطبية، وما تقدمه ثقافتنا الغربية من حرية وديمقراطية وصحة. وهكذا، بدل التفكير في المزج (بين هذه الحضارات)، أي بدل التفكير في ما أسميه سياسة إنسانية تمزج بين الفضائل الموجودة في مختلف الثقافات، فإننا نطبق بطريقة فجة وتبسيطية صيغة واحدة تتجاهل فضائل الثقافات الأخرى. وأقول أكثر من ذلك، على غرار مجيد غانيما، إنه يجب أن نحارب الأمية لا الأميين، لأن هؤلاء الأميين ليسوا مجرد أناس جاهلين بالقراءة، وإنما هم أناس يتوفرون على ثقافة شفوية تقليدية تعود لآلاف السنين، تتضمن معارفهم، خبرتهم الحياتية، حكمتهم، وكذلك أوهامهم ومعتقداتهم. فنحن أيضا لنا أوهامنا ومعتقداتنا بدءا بوهم التقدم. لقد عشنا مدة طويلة وهم التقدم كقانون تاريخي يجب أن يتحقق آليا، ولكنه وهم انهار (الآن). كل ذلك لنقول: إن هذه العولمة في تطور، ولكنها تخلق أزمتها الخاصة، أزمة كونية، بل أزمة الإنسانية التي لم تستطع أن تحقق إنسانيتها. ولا يقتصر الأمر على هذه الأزمات. إن ما خلق العولمة، هذه المركبة الفضائية التي يحركها الاقتصاد والعلم والتقنية والربح، هي مركبة دون ربان، فهي تتجه إذن نحو الهاوية. على ضوء هذا يجب أن نفكر في حل. أقول: إننا نسير نحو الهاوية. هذا مجرد احتمال، وليس يقينا. وماذا تعني كلمة احتمال؟ تعني أننا مع أحسن المعلومات التي نتوفر عليها في الحاضر، ومع ما نراه من مسلسل حالي، يتضح أن الاحتمال هو الكارثة. ولكن حدث عبر التاريخ غالبا أن غير المحتمل قد تحقق. لهذا يخرج الجديد من رحم غير المتوقع، وأحيانا من رحم الإبداع. لنأخذ مثال حدث غير متوقع حديث العهد، وهو أن يدفع بأوباما كمرشح عن الحزب الديمقراطي ليصبح رئيسا للولايات المتحدة، مع أنه كان منافسا قليل الحظوظ، غير مولود بأمريكا، أسود وهجين في نفس الوقت. لا أحد كان يتوقع فوزه قبل ستة أشهر. إن غير المتوقع يحدث غالبا. ويمكن لوتيرة الوعي أن تتزايد خلال فترات الأزمة، لأن هذه الأخيرة هي مرحلة تزايد الشكوك، وتفكك منظومات كانت منضبطة، وانطلاق عوامل مكبوتة من عقالها، ونجاح الخيال والبحث في إيجاد حلول جديدة، ولكن يحدث أحيانا أخرى أن يتم الاعتماد على الحلول الخرافية والرعاية الإلهية لحل الأزمة. ذاك ما شهدناه بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى سنة 1929 التي اجتاحت العالم. فقد قدم جوابان للأزمة. الأول كان هو العهد الجديد لروزفلت، وقد كان جوابا ضمن إطار ديمقراطي. والجواب الثاني كان النظام الشمولي النازي الذي وصل إلى الحكم بألمانيا بطريقة شرعية. و لا ننسى أن هذين الجوابين عن الأزمة لم يزيدا الأزمة إلا عمقا على أرض الواقع، لأن وصول هتلر إلى السلطة أجج السعي نحو إعادة تسليح ألمانيا، وأجج رغبتها في استعادة مناطق  فقدتها ألمانيا القديمة. وباختصار، فإن كل ذلك قاد إلى الحرب العالمية الثانية. وكلف حل الأزمة عشرين مليون قتيل من أجل الوصول إلى ما بعد الحرب حيث ستظهر أزمة من نوع جديد. يجب أن ندرك إذن أن الأزمة قد تؤدي إلى نتائج بالغة الخطورة. ولكن علينا أن نعرف أيضا أنه قد توجد إمكانية لتخطي الأزمة. وهذا في العمق هو العمل الذي سنقترحه أنا ومساعدتي. سوف نقترح الطرق التي تقودنا إلى طريق الخلاص من هذا الوضع. هنا يجب أن نعرف أن النسق حين يصبح عاجزا عن معالجة مشاكله الحيوية والمصيرية، فإن هذا النسق معرض لأحد الأمور التالية: إما أن ينحل، أو يتراجع، أو أن ينجح في أن يفرز من تلقاء نفسه نسقا أغنى قادرا على حل المشاكل، أي نسقا أعلى métasystème. إننا نعرف أنه يمكننا أن نعود إلى حالة تتفكك فيها العولمة عن طريق العودة إلى أشكال مختلفة من السياسة الحمائية. ويمكن أن نعتقد أن هذا سيقودنا نحو تفكك هائل. ويمكن أن نتصور إمكانية التوجه نحو نسق أعلى. كيف ذلك؟ إن كلمة "نسق أعلى" métasystème    كلمة مهمة لأنها تذكرنا بكلمة  métamorphose. وهي كلمة غنية جدا، بل هي أغنى من كلمة "الثورة"، لأنها تدل على التحول. فالكائن يتحول مع المحافظة على هويته. إن دودة القز حيوان زاحف يدخل إلى الشرنقة، ثم يشرع في تدمير ذاته كدودة، سيدمر جهازه  الهضمي كي يعيد بناء نفسه من جديد بطريقة مختلفة تماما فيتحول إلى كائن بأجنحة، وعند نهاية هذا المسلسل، تتمزق الشرنقة فتظهر الفراشة بعد تحقق عملية التحول. إن التحول ظاهرة منتشرة في عالم الحيوان. والإنسان نفسه حين يكون في بطن أمه يكون كائنا مائيا لا يتنفس الأوكسيجين. ولكن حين يولد فإنه يتحول إلى كائن بري. وعرف تاريخ البشرية عمليات تحول، مثل تلك التي حدثت لبعض الجماعات البشرية الصغيرة المتفرقة في بعض مناطق العالم تمارس الصيد والجني، ثم اجتمعت ونظمت نفسها ضمن مجتمعات تراتبية كبرى في المدن والقرى، تمارس الزراعة، ولها جيش، ودين... إن التحول أمر محتمل. والمشكل (بالنسبة لنا)  هو كيفية الخروج من تاريخ دام عشرة آلاف سنة من الحروب المستمرة، حروب أصبحت اليوم حمقاء تهدد البشرية، وذلك كي نحقق المجتمع الجديد الذي تحدثت عنه. كيف نصل إلى ذلك ؟ هنا نقترح استكشافا للطرق التي توصلنا إلى هذه الغاية.
الفكرة الأولى هي أن هناك سبعة أنواع من الإصلاح لا تنفصل عن بعضها: الإصلاح الاقتصادي، الإصلاح الاجتماعي، الإصلاح السياسي، إصلاح المعرفة، إصلاح التربية، إصلاح الحياة، والإصلاح الأخلاقي. وكل إصلاح من هذه الإصلاحات لا يجدي منفردا. ففي الاتحاد السوفياتي مثلا، قام النظام بإلإلغاء المادي لمجموع الطبقة الرأسمالية، ومجموع البورجوازية من أجل خلق مجتمع دون طبقات. إنهم لم يفشلوا في ذلك فقط، بل خلقوا مجتمعا استغلاليا من نوع جديد. وفشل المشروع تماما سنة 1989 حينما عادت الرأسمالية وعاد الدين أكثر قوة بعدما ساد الاعتقاد أنه تم القضاء عليهما قضاء نهائيا. إننا في حاجة إلى إصلاحات اقتصادية، ولكنها لا تكفي. وإننا في حاجة إلى إصلاحات اجتماعية طبعا، ولكنها لا تكفي أيضا. ونحن أيضا في حاجة إلى إصلاح أخلاقي، ولكنه لا يكفي بمفرده. لا يمكن تحقيق هذه الإصلاحات إلا بالعمل الجماعي. لن أقدم هنا لائحة خاصة بكل حقل. ما يجب أن ندركه هو أن إصلاح المعرفة ضروري لأن نظام معرفتنا الحالي يمثل عائق، ويجعلنا عميانا. وهو إصلاح يبدأ من إصلاح التربية. وهذا موضوع يمكن توسيعه في مناسبة أخرى. ما أريد التأكيد عليه هنا هو أنه يجب النظر لهذه الإصلاحات مجتمعة؛ الأمر الثاني هو وجود مبادرات متنوعة في كل المجتمعات، سواء الأوروبية، الإفريقية، الأمريكية اللاتينية... وهي مبادرات تولد، وتتشكل داخلها أشكال تضامنية، تتكون جمعيات ومقاولات صغرى من أجل محاربة التلوث، من أجل إرجاع الحياة لقرية، من أجل خلق أنشطة اقتصادية للتضامن، من أجل محاربة التدهور البيئي. إنها مبادرات من كل الأنواع. وليس موضوع عملنا هو وضع موسوعة لكل هذه الحركات الموجودة، وإنما جرد لهذه الإصلاحات الأساسية وهي في طور الولادة، منفصلة عن بعضها، معزولة، مجزأة، من أجل الربط بينها، وذلك لأنه لا يوجد أي جهاز إداري أو أي حزب سياسي، في أي مكان، يسعى إلى لم شمل هذه الحركات. يتمثل عملنا إذن، من جهة أولى، في بناء الطرق، ولكننا نبين أيضا أن كل طريق منها قد عرف بدايات متفرقة، معزولة، وأنه موجود بالقوة. وكمثال على ذلك المجتمعات الغربية التي تعرف ظاهرة هامة جدا، وهي أن الأفراد يعانون بشدة من إكراهات العمل في المدن الكبيرة. وهي إكراهات الزمن، إكراهات التخصص، إكراهات السلوك، إكراهات من كل الأصناف. ولهذا فإن من يتوفرون على الإمكانيات يسافرون نهاية الأسبوع للاستجمام. ماذا يحدث خلال هذا السفر؟ يحدث تغير في حياتهم يخالف ما يعيشونه في المدينة. إنهم لا يهتمون بالوقت، يهيئون طعامهم على الفحم، يتخلون عن ربطة العنق، يجتمعون مع أصدقائهم، يعيشون حبهم. وبعبارة أخرى، فإن طريقة تحملهم للحياة اليومية في المدينة تجد نقيضها المؤقت خلال هذه العطلة بالنسبة لمن يتوفر على الإمكانيات لفعل ذلك. ولكن لهذا الأمر دلالة أقوى في نظري. إننا نعيش في عالم يخضع كل شيء فيه للقياس الكمي، وننسى أن هناك أشياء غير قابلة لهذا القياس: الحب، السعادة، طمأنينة الروح؛ هذه أشياء لا يمكن مطلقا حسابها. قد نطور المؤشرات الكمية. قد نضع مؤشرا يهم التعليم والصحة وبعض المظاهر الخارجية. ولكن لا يوجد مؤشر حقيقي للسعادة أو الرضى... إذا نظرنا إلى موضوع المال مثلا، سنلاحظ أن كل شخص يدرك في أعماقه أن الفرح والسعادة أهم من المال. وحينما نفتقد للسعادة والحب والتفهم، فماذا يمثل المال آنئذ؟ إنه يصبح بمثابة تعويض عن هذا النقص. إننا نتجه إلى المال كي ننسى، كي نعزي أنفسنا. إننا ننغمس في الاستهلاك، ونراكم المشتريات. أعتقد إذن أن كل فرد سيفهم، حين تتاح له الفرصة لذلك، أن الأهم بالنسبة إليه هو أن يعيش حياة شاعرية. لماذا  أقول حياة شاعرية؟ أعتقد أن الحياة يمكن أن تنقسم إلى قسمين: قسم نثري يتعلق بما نفعله بالضرورة، بما لا يروقنا ولا يهمنا، لكنه يساعدنا على تلبية حاجتنا للبقاء على قيد الحياة. لكن الحياة شيء والبقاء على قيد الحياة شيء آخر. ولسوء الحظ، فإن السياسة لا تهتم إلا بما يكفل البقاء على قيد الحياة، ولا تهتم أبدا بما يحقق الحياة. إن الحياة تعني التفتح، العيش ضمن الجماعة، التوافق مع الذات ومع الغير. هذا هو الشعر.  أن نعيش حياة شاعرية معناه أن نعيش وفق استعدادتنا. صحيح أنه لا يمكننا أن نعيش حياة شاعرية كلية، لكن يجب ألا نسمح لحياة النثر بأن تستعبدنا. وإذا استطعنا أن نبين أن طريق الخلاص لا يكمن في المزيد من التنمية، المزيد من المال، والمزيد من الأشياء الكمية... مع اعترافنا ببعض الأشياء التي أصبحت مفيدة لنا، إذا بينا أن الأساسي يوجد خارج كل هذا، يوجد في تنمية ذاتنا، تنمية حياتنا الخاصة، حينئذ سندرك بسهولة ضرورة التوجه نحو هذه الطريق الجديدة.
وكخلاصة أقول إن كل المغامرات في التاريخ قد بدأت بداية متواضعة. لنتذكر المسيحية مثلا التي بدأت بداية متواضعة مع بعض الأتباع، وأنها احتاجت إلى قرنين من الزمن داخل الإمبراطورية الرومانية قبل أن تصبح قوة. ولنتذكر البدايات المتواضعة للإسلام. فقد طرد محمد من مكة، اضطر للجوء إلى المدينة، وبعد ذلك أصبح الإسلام قوة تاريخية هائلة. وكانت بدايات الرأسمالية متواضعة أيضا داخل مجتمع فيودالي حيث بدأت كظاهرة طفيلية، ثم انطلقت من عقالها، ودمرت الفيودالية وتغذت على بقاياها الثقافية. كما أن بدايات الاشتراكية كانت متواضعة بدورها. فقد بدأت مع بعض المفكرين المعزولين خلال القرن التاسع عشر، والذين اعتبروا مجانين، ومع ذلك فقد أصبحت الاشتراكية قوة اجتماعية. أعتقد إذن أننا في مرحلة بداية. إننا نرى علامات متعددة لا في هذه المبادرات فحسب، ولكن أيضا في ما نسميه العولمة البديلة حيث توجد، بالرغم من بعض الطفيليات وبعض الإيديولوجيات، وعي بأننا سكان الكوكب الوطن. نحن في البداية، وهدف هذا العمل هو أن نبين أن هناك طريقا ممكنا. لماذا؟ لأن هناك مشكلا في الظرف الراهن، وهو أن الأجيال السابقة التي آمنت بالاشتراكية، بالشيوعية، والتي آمنت باقتصاد السوق، وبإمكانية حل المشاكل، هذه الأجيال هي الآن في حالة تيه وتشاؤم وخيبة أمل. أما الأجيال الجديدة فقد جاءت إلى عالم بدون مستقبل. فلا  أحد يمكن أن يقول كيف سيكون الغد. وهي تواجه تهديدات عامة وتهديدات شخصية تتعلق خاصة بانعدام الأمان في المجتمع. فهنا أيضا لا يوجد أمل. نريد أن نبين أن طريق الخلاص ممكن، والممكن لا يعني الحتمي؛ نريد أن نبين أن الأمل ممكن، والأمل لا يعني اليقين. إذا بينا أن هناك طريقا مفتوحا في اتجاه الأمل، فإن ذلك قد يساهم بقوة في التقدم في هذا الاتجاه، وفي توسيع هذا الطريق، وفي السير نحو هذا التحول الذي لا يمكن لأحد حتى الآن أن يتصوره، لأننا لا ندري أبدا ما سيحدث قبل كل خلق جديد. هنا يكمن المشكل، وهنا يكمن الدافع لما سنقترحه من إصلاحات.
عرض شفوي مسجل على اليوتوب تحت عنوان: ( les sept réformes nécessaires au XXIè siècle ).