ذكريات عابرة ـ قصة : جمال البكاي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse20114هكذا قُطِعَ حَبْلِي السُرِّي بعد أشهر احتجاجات قضيتها وأنا أرفس أحشاء والدتي كي تعجل بي لهذا الوجود ، وكي أُبرهن للجمع بأني ولدت على قيد الحياة كان لزاما علي أن أطلق صرختي الأولى معلنا البداية ، في دروب الدوار نهلت أولى دروس الحياة ، وهناك أسقطت أوَّلَ سِن الحمار ورميته اتجاه الشمس طالبا منها أن تبدلني إياه بسن الغزال ، فعلت ذاك دون توقف وفي النهاية حصلت على أسنان مبعثرة  في كل الاتجاهات لأعلن كفري بتلك التعويذة بعد فوات الأوان ، في الدوار استنشقت أولى نسمات الكيف المدرَّح الذي كان ينفثه على وجهي شخص مْبْلي  يقصدنه جل النساء حاملات أطفالهن في طابور طلبا للعلاج ، رغم كوني على علم  بأن بخاخ الكيف قد قتل جل خلايا دماغي في سن الصبا إلا أني مدين له بتركي على قيد الحياة ، فليرقد جسدك يا حكيم القرية في أمان و ليرحمك الإله .

 ليس هذا فقط ففي الدوار كنا نُعَالجُ من لسعات السُّعال الذي ينخر أقفاصنا الصدرية عند الشجرة المباركة ، نستحم هناك عرايا بماء قارص يبيت تحتها في عز أيام الصقيع ، بهذه البساطة كنا نقاوم الأسقام ، لطالما قبَّلتُ جدع تلك الشجرة و أنا موقن بكونها مصدر طاقة خفية تمدني بالحياة  قبل أن أستيقظ في أحد الصباحيات الأليمة على جثة متدلية من أحد فروعها لشاب قرر أن يضع نهايته هناك ، تأملت طويلا جسده الفارغ من الروح وهو يتراقص مع نسمات عليل الصباح الباردة ، وبعد أن وري جسده الثرى تمردت  على العادات و أعلنت كفري ببركة تلك الشجرة الملعونة ، هكذا تركتها و بدأت أعالج نفسي من الزكام بسيجارة  فليو الممزوجة بروث المواشي و الحمير ..و أنا أستنشق تلك اللفافة خِفْيَة كنت أتنافس مع رفاق الصبا على من يستطيع إخراج الدخان من انفه ببراعة ، أفعل ذلك وأنا أمسح دموع دخان تبغ الحمار الذي أفني ما تبقى من خلايا تركها في كياني بخاخ الكيف ، كم أنت مقاوم يا جسدي المغوار .. في الدوار تعلمت كيف أتهجي الكلمات مقاوما عصا الفقيه التي أكسبتني مناعة ضد الهراوة ، فحفظت ما تيسر بعدما صار جلدي خارطة لندوب عاشت معي شهورا طوال قبل أن تندمل ، لا بأس بذلك الآن مادُمت على قيد الحياة ، شكرا جزيلا  لك أيها الفقيه ..
هذا جزء من شريط الذاكرة .. الآن وبعد مرور ربع قرن وزيادة على رؤيتي للنور أعود للدوار بين الفينة و الأخرى كسائح جاء ليوثق جمال الأمكنة الممزوجة بعبق الماضي ، أفعل ذلك و أنا أبتسم للأطفال الذين يرسلون اتجاهي نظرات البراءة ومعها تساؤلات ترى في وجودي مجرد عابر سبيل توقف عند المحطة وسيرحل بعد أول قطار..