عباس الحلاوي ـ قصة : رشيد تجان

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse04032تنتظم براريكنا1  في مجموعة من الأزقة يجمع شتات أطرافها حيٌّ صفيحي يدعى "الكاريان"، يضم مهاجري القرى القريبة من مدينة الدارالبيضاء والبعيدة عنها. تختلف لهجاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ويجمع البؤس بينهم على حد سواء. يظهر القهر على وجوههم الشاحبة، يشتغلون بعضلاتهم القوية طيلة اليوم، متفرقين في مشاغل مختلفة، ويعودون مساء. تختلف بهم السبل بين من دخل بيته وأغلق الباب خلفه، وبين من اطمأنَّ على حال أسرته ثم انصرف عند الحلاق لمعرفة أحوال الأصدقاء وتبادل أطراف الحديث وتدخين "الكيف"، وبين من ابتُلِي بأشياء أخرى فينصرف إليها، فتجده قابعا في فرن "الدرب" يلتمس الدفء شتاءً.
عباس واحد من كل أولئك الناس، يبعد عن كوخنا بخمس أزقة في اتجاه الشرق، يعرفه الجميع، يصنع الحلويات ويبيعها للزبائن في الشارع العام، عبر عربة يدوية، بعجلتين. كلما حل بالساحة التي تتفرع عنها كل الأزقة إلا وخلق الفرجة. رجل محبوب من الجميع، صاحب نكتة ويمتاز بخفة دم. في السراء والضراء حاضر، يساعد على بناء الخيمة لاستقبال المعزين ويتأسف لضياع الفقيد الذي كان شُعلةً يستنير بها كل من عرفه، إن كانت هناك وفاة ما، ينعي مع الناعين ويشهد الجنازة ويصلي عليها سيرا على الحديث النبوي :" مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ"، ويعظ من معه بما تيسر له معرفة بالدين، ويعود مع الناس من المقبرة ليأكل ما لذ من كسكس الجيران المُعَدِّ لهذه المناسبة، ويتخشع لقراءة القرآن ليلا، يأخذ الموعظة من أفواه الفقهاء، حَفَظَةِ القرآن، ويتصدق عليهم بعد العَشاء مما تيسر من رزق حلال.

أما إن كانت هناك مناسبة فرح فيكون مختلفا تماما، مبتهجا حد الفرح، يذهب إلى الحمام بعد صلاة الفجر يوم الحفل الذي غالبا ما يكون زفافا ليستحم ويغيره ملابسه المعتادة ويلبس أخرى خاصة بالمناسبات، يكون سعيدا كسعادة الأطفال بلعبهم أو بملابس العيد الجديدة.  يكون ذلك اليوم عطلة لا يمارس نجارة ولا يشتغل بشيء سوى التحضير لحفل الليل. يظهر في الساحة قرب مكان الحفل لمدة قد تمتد حتى بعد صلاة المغرب أو تكاد، ثم يغادر في هدوء، دون أن يترك أثرا، أو أن يثير انتباها.
بعد صلاة العشاء يستقبل أهل العرس المدعوين فرادى وجماعات إلى أن يجيء آخر المدعوين، يتساءل أغلب الناس عن عباس الذي لم يحضر بعد، لأن حضوره يغير مسار الليلة، يكون للحفل طعم منفرد، وهو نجم الحفل بامتياز، يُدخل البهجة والسرور على كل الحضور.
يدخل عباس القاعة فيصفق الجميع ويهتفون باسمه، أما هو فينحني أمامهم تواضعا وباحترام تام، يجلس قرب الشيخات في عمق القاعة. وبعد برهة ينساق مع إحدى هن في حديث ما تمهيدا للاقتراب منهن وشراء معرفتهن. عندما يعلن الشيخ رئيس الفرقة، عازف الكمان، يترنح عباس في مكانه، وبين الفينة والأخرى يشرب كأسا من النبيذ الأحمر الرخيص، وكلما ازداد شربه ازداد سكره، ولما يشعر بالانشراح يرفع كأسه عاليا ويصيح ملء فيه:"إِدِيرْهَا اَلْكَاسْ أَعَبَّاسْ". عند ذلك يكون قد وصل حالة السكر الطافح فيدخل في حضرة صوفية لا يعلم نهايتها إلا العلي القدير، وعند ذلك تكون الشيخات كذلك قد توزعن على المدعوين للرقص لهم وكسب قسط من المال، يداعب عباس شيخة جميلة الوجه، ويلامس قدها القويم لدغدغة مشاعرها، فترتفع درجة حرارته في مصفه السفلي، ويشعر برغبة جامحة نحوها، يشتهيها لنفسه، غير أنها تتخلص منه بهذا الشكل أو ذاك، يتوجه إلى المنصة للرقص كأنه يهرب من جاذبية الجسد ومن أنوثة الأنثى. يرقص ويرقص وتنتفخ أوداجه، وكلما استمر العزف كلما خلع ملابسه، مبتدئا بقميصه وصولا في بعض حالات النشوة إلى سرواله.
تختلس النساء النظر على الرجال وأفعالهم من خلال فجوات أو ثُقُبٍ في أماكن معينة حيث لا يتمكنون من رؤيتهن، ولو أن الجميع على علم بذلك، كأنهم يمثلون أدوارا مسرحية. هذا التجسس يكون شاهدا على الأزواج أمام زوجاتهم اللواتي يتحيَّن الفرصة لمناداة زوجها لتوبيخه على ما يقوم مع الشيخات.
حين يشتد الفرح ويصل النشاط حده الأقصى وتتمايل الأجساد ذات اليمين والشمال راقصة جذلانة بما هي فيه من نشوة ينبطح عباس أرضا تاركا الجسد الواهن الذي فعل به الدهر ما أراد وحفرت فيه تجاعيده جداول لمن يشاء أن يعبث به أو يجعل ظهره آلة إيقاع، وبين الفينة والأخرى يطلق صيحات يهتز لها الجميع تعبيرا منه على ما وصل إليه من ابتهاج وانغماس يصل حد الحلول. يبقى الحال على هذه الحال إلى أن يَتَمَيَّزَ الخيط الأبيض من الأسود، وينبلج الصبح من كنف الليل، وترسل الشمس خيوطها الأولى، يغادر عباس الحفل مع بقية المدعوين بعد أن أشبع روحه وغذاها طربا وغناءً، وبعد أن أنهك الجسد طيلة الليل رقصا وانبطاحا وشُربَ خمر إلى بيت "أمغار" بائعِ الحليب ومشتقاته من لبن وزبدة يطلب كأس لبن بصوت أجش كأنه فقد صوته في مزاد علني أو في ملعب سباق الكلاب، أو كأنه مرشح إحدى الدوائر الانتخابية أصيب ببحة من كثرة شرحه لبرنامجه الانتخابي الذي سيعود على البلاد والعباد بالنفع والخير الوفير. ولما ينتهي من شرب اللبن ينحدر مع الزقاق المتعرج نحو بيته وقد أنهكه التعب.
الدارالبيضاء في 16 ـ 09 ـ 2016
1 براريك : أكواخ