كم راودتني الأحلام ـ قصة : لمياء الآلوسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse11031كيف لي ان أسرد كل تلك الحكايات التي أصبحت تلاحقني، وتستدرجني إلى متاهات لا تعني شيئا سوى إنها كومة من الأحلام التي تطاردني طوال الوقت.
كم تراودني أحلام يقضتي، وكأنها حيوانات خرافية، قادمة بكل همجيتها من أعماق عقلي الخائف، المتوتر، المرصود بعشرات الايماءات الغائرة في أعماق عقلي المتأرجح بين الخوف، والحيرة، كم مرة تملكتني وطافت بي بعيدا حتى تصبح أفكاري معشوشبة بطحالب تلك الأحلام التي أصبحت تسد منافذ كل ما هو منطقي، ومعقول، لم أعد أسأل، فمن له القدرة على التحليق معي في هذا العالم الافتراضي الساحر الذي يجرني إليه طوال الوقت، ليرفعني بعيدا عن جدران الغرفة الضيقة التي تضمني  تحت سقفها الواطئ، إلى دنيا هي أوسع من أن يلمها قلبي الصغير . 
فعندما  يرسلني لأقطع كل تلك الأميال للوصول إلى المقهى كي اشتري له مشروبه الذي يحوله منذ الرشفة الأولى إلى رجل رقراق كماء النهر، كان صاحب المقهى يدرك جيدا أن أبي يبتز طفولتي، ويعيث فسادا في حياتي، كنت أتطلع إليها كي تمنعه من إجباري على قطع كل تلك المسافات، بكل الوسائل التي لم تتعلمها جيدا، تحاول أمي أن تردعه، تمارسها بكل ما فيها من رغبة في أن تكون امرأة مرضية، لكنها تقع صريعة ضعفها فلا تتمكن من منعه، أمي المتعبة حد الإعياء، كانت تنظر إلي دون أن تقول شيئا، أو تفعل ما يجنبني تلك المشقة.

ولكنني  كنت مخبولة به، إلا إن غيابه  كان يبث في داخلي رعبا لا حد له، رعبا يشبه تلك النظرة التي رمقنا بها وهو يودعنا في المرة الأخيرة، عندها رحل إلى الأبد وبقيت تلك النظرة الجزعة تحز رقبتي كلما أغلقت عيني .
لقد كانت تضع جبينها على إفريز نافذة غرفتنا، وتلملم ثوبها حول ساقيها التي نتأت فوقهما عروق زرقاء مشوهة بيضاهما الخافت، وملمسهما الناعم، ثوبها الأسود الذي غلف حياتها، وأسرارها، وسرق ضحكتها، ثوب أسود لا يبلى، قدّ عليها، حتى أصبحت أراها سوداء قاحلة كالأرض البور.

يبدو أن الأحلام كانت تؤرجحها هي الأخرى، ففي لياليها الكئيبة كانت تنقلب باتجاهي حيث كنت احتل مكانه على سريرهما، ثم تلفني بين ذراعيها، كنت اعرف بفطنتي الغريبة أنها تلف جسده،  تغمغم ببعض الكلمات التي لا أفهمها، فأيقن أنها ليست لي،  فتقتحمني الرؤى التي تصيبني بالهلع، وتتأزم الصرخات في داخلي دون أن أتمكن من إفلاتها،  فبيتنا لا يميزه عن باقي منازل الحي سوى أن المرأة التي فقدت زوجها عليها أن تتحمل وزر مغامرات، ونزوات رجال أدمنوا الحروب، أناخ بها الحزن، وكان عليها أن تبقي ظهرها يافعا، وقويا طوال العمر .      
بسببها بسبب عجز أمي، بسبب غياب أبي، بسبب هذا الحزن الحرون، بسبب كل الجنون الذي عصف بنا، بسبب الخراب الذي حل فينا، اهرب إلى أحلامي، وأوهامي .. وتهويماتي الخبيئة، أعبث بها .
 فامرأة الجن  تصر على إنها راودت أبي كثيرا، وإنها عبثت معه طويلا في كل الأزقة، كانت تلاحقه تحت شرفات المنازل حيث كانت تختبئ، وعندما اقترب منها، وتذوق الجسد المحرم وعشقه، كنت أنا طفلتها التي غزلتني بين أصابعها الطويلة المدماة ( ولا ادري لم اختار لها أصابع طويلة مدماة )  كنت طفلتها النحيلة، الجائعة، بعيون سمراء جميلة، ووجه مدور فضي، حاولت إسكاتي لكنها لم تتحمل صراخي الإنسي طويلا، فألقتني في ليلة مقمرة، قارصة البرد، مما جعل سحنتي شاحبة  طوال الوقت، وأحاطت خصري بين ذراعيها، لم تفلتهما حتى صاحت ديكة الحي كلها، لذلك أصبحت ساقاي طويلتين أكثر مما يلزم لفتاة ستبلغ الرابعة عشرة من عمرها عندما يستحيل القمر بدرا .
دثرتني بغطاء وبري ناعم، ووضعت بجواري بعضا من ثمار كان لطعمها الغريب أثره على فطنتي في سنوات طفولتي البكر، لتسلمني إلى يدي امرأة بلون البرونز تتزين بأقراط مدلاة على رقبتها الطويلة، وأساور اسمع خشخشتها دون أن أراها، كانت شفتاها المخضبتين باللون الأحمر القاني، وثدياها المندفعين من شق فستانها الزهري الرائق، وجسدها المضمخ بعطر الياسمين،  ترفعني عن الأرض الرملية، كما لو كنت قطة تائهة، تكاد تموت جوعا، وقد أوسعها الأطفال  ضربا وتعذيبا، حملتني لتضعني معها في مضارب الغجر، مخبأة طوال سنوات طفولتي، لذا تجدني أحب الغناء، والرقص إلى هذه الدرجة من الهوس الذي يستدعي العقاب الصارم من أخوتي، وغضب أمي العاصف .
كنت ارقص مع جمع من البنات، لكنني اغرق في حالة من النشوة، والجنون، بعدها أجدني في عالم آخر، ويغيب عن ناظري كل شيء، وفي كل مرة أصحو أكاد اختنق تحت دثار الأغطية الثقيلة، أرشح عرقا باردا،  وترافقني الحمى أياما طويلة، دون أن أتذكر شيئا، عندها اسمع صوت أمي تقول: سوف احملها إلى المقبرة  كي تستعيد وعيها، في كل مرة كنت اسمعها تردد هذه الجملة، ولا تفعل، ولم اسألها فيما بعد لماذا المقبرة، لماذا هذا اليقين من أنني سوف أصحو في  المقبرة،  
أمي التي عجزت عن منعي من حضور إي عرس، أو حفل من تلك الحفلات التي يبتدعها السكان هنا، لم تتمكن أيضا من منعي، من تتبع خطوات تلك المرأة الغريبة التي تحط في حينا  بملابسها الفضفاضة، البراقة، وشعرها الشارد عن غطاء رأسها الأحمر القاني بزهوره القرنفلية، وهي تحمل حقيبة مملوءة بأشياء تثير في داخلي مزيدا من الأحلام، فأتخيلها تحمل خلخالي الفضي الصغير، وثوب سمائي قديم لطفلة لم تتجاوز السنتين، هي أنا، تثيرني أحلامي  فأضعها ورغباتي تحت وسادتي وأغفو .
-    إياك أن تقتربي من تلك المرأة، ستضعك تحت عباءتها وترحل بك بعيدا.
-    لكنها تمشي بلا عباءة يا أمي  .
-    حقا ؟
-    اجل ليس سوى فستانها الزهري .
-    وإن يكن .. إياك أن تركضي ورائها  .
ولكنني كنت اتبعها كظلها، اقتربت مني ذات يوم، وعندها شممت عطرا مميزا، جرفني إلى أماكن تخيلت أنني اعرفها جيدا، عطرا ليس لأي امرأة في هذا الحي، ولا لأمي أيضا، وسمعت في تلك اللحظة دق طبول لطالما شدتني إليها .
أجفلت وأنا اسمعها تقول : تريدين سن ذهب ، أعطيني عشرين فلسا، يالله، وسوف أمنحك سنا ذهبيا، يمنح ابتسامتك الحلوة هذه بريقا مميزا.
لكنني كنت أعرف حقا، أنني لو فتشت في كل زاويا البيت، فلن أجد فلسا واحدا، ولا حتى في صندوق أمي الخشبي الذي تدخر فيه كل مبلغ تحصل عليه من عمل المخبز الصغير لدفع ديونها  .
أصبح بريق الأسنان الذهبية التي لن تتمكن أمي من دفع ثمنها،  يزيدني انعزالا وغربة، وحزنا، إضافة إلى أن هذه المرأة الغريبة لم تعرفني، بل إنها أنكرتني بكل بساطة .
كانت هي، أمي البديلة، الغجرية الشاردة في عالم من الصواعق والمروج ، وشعرها الذي يحصد أضواء القمر البعيد، تترصد هذا الجزء من المدينة فهو الجزء المتبقي من المدينة القديمة، سكانها  طبقة واحدة من الفقراء العاملين في البناء، أو النجارة، أو الحياكة.
 لم يكن في المدينة فرن، أو مخبز، لكن ربات البيوت تعاقدن مع دائرة  التموين لتزويدهن بالطحين بأسعار مخفضة، وكان على النساء أن يخبزن، ويعجن طوال الليل والنهار، ينام الحي، وتتعالى أصوات ارتطام حوض العجين الكبير بالأرض الرتيبة، والحزينة، من وراء الأبواب المغلقة .
أنا وأخوتي الصغار، وكل من يدخل بيتنا من الأقارب، كلنا كنا ننام على صدرها، الذي تنبعث منه، رائحة الحنطة، والطحين، المعجون بعرقها، وحزنها، ودموعها المنسابة طوال الوقت بصمت، في عزلة لياليها الشاحبة .
 يداها الملطختان بالعجين، وجوانب فستانها الأسود الذي لا ترتدي غيره،  تلك المرأة المسحوقة التي لا أريد أن أكون مثلها، لكنني بعد هذا العمر وقد تجاوزت الأربعين، أصبحت بمرور الزمن، أنا، هي، وكل ذرة في جسدي تفوح برائحة التعب، ودموعي دائما تبلل حوافي فراشي البارد، سحقا .
لكنني رغم ذلك لا أريد أن أكون هي، لهذا ومنذ ذلك الزمن، أي منذ أربعين سنة وأنا احلم بحياة أخرى، لكن أحلامي تلك لم تكن مشرقة، لا طعم لها، بل كانت أكثر قتامة، ونساءها أكثر تعبا من أمي ومني، لكن لم تنقطع كثيرا أحلامي .
انتبهي ..  صوتها الزاجر، يصلني وأنا ارتعد في ذلك الشتاء القاتم، البرد يعشش في جدران الصف، في أرضيته العارية، على المقاعد الخشبية التي تنخر مؤخراتنا الناحلة، تكز على عظامنا الهزيلة، نضم الأيدي المزرقة في الجيوب الفارغة، وتحت الآباط الدافئة، تشخص عيوننا الدامعة من البرد والجوع، إلى المعلمة المتأنقة الدافئة تحت معطفها الباهظ الثمن، وجوربيها وحذاءيها اللامعين، حتى لنحسبها قادمة من كوكب آخر .
-    انتبهِ، وكفي عن هذه النظرات الشاردة  .
 يجعلني صوتها ارتجف في كل مرة، عندما تحاول أن تصطاد الابتسامات الخجلة فوق شفاهنا وهي تشير إلى الأعضاء التناسلية التي تضع صورتها التوضيحية على السبورة،
فالكتب المدرسية يشوبها الكثير من الإبهام فيما نحتاج إلى معرفته عن ما في أجسادنا من خبايا، والمدرسات القادمات من العاصمة للتدريس في مدارسنا النائية، كن يخشين التحدث عن تلك الخبايا، فهن غير قادرات على نزع العباءة السوداء  التي اضطررن إلى ارتدائها، احتراما لتقاليد العوائل المحافظة هنا، كيف لهن التلميح إلى عورة الرجل، أو المرأة .
لكنني كنت مفتونة بكلام آخر يأتيني من آنسة أخرى، أنيقة، غارقة عينيها بكحل يزيد من جمال عينيها الصغيرتين كعيني الطير، بنظرات عجلى تتوقف أمامنا كثيرا، تقف دائما في مقدمة الصف لا تبرحه، وكأنها متأهبة للمغادرة، لم تكن تتجول بين مقاعدنا، كما تفعل بقية المعلمات، لكنها تجعلنا نتطلع إلى قامتها المديدة، كنت اشعر الآن إنها ربما كانت مسكونة بنا، أو بشيء غريب، تقف طوال الوقت على قدميها دون أن تتحرك كثيرا، بذلك الحذاء النظيف الامع أبدا، والمتناسق وبلوزتها المحبوكة بدلال على خصرها الناحل، الآن ربما اشعر إنها كانت مختلة عاطفيا، مكتئبة في بعض الأحيان، هشة، هناك كم من الأشخاص يتحركون فيها وعبرها، لكن فيها جرأة أخاذة في قدرتها على تحريضنا على فهم ما يدور حولنا، كانت تزين حياتي بوجودها، هل كانت تعلمنا معنى أن تكون كل واحدة منا أنثى، أم كانت تزرع في داخلنا الإحساس بالفخر، لأننا أساس الحياة، وصنيعتها الأكثر عطاءً، تغرقني أفكارها التي أصبحت جزءاً مني، كنت أتشبث بوجهها الذي يتورد كلما حدثتنا عما فينا من أنوثة، وكيف علينا أن نفخر بها، لكنها نحيلة بما يكفي لكي نرى الأشياء من خلالها، وربما لذلك لم تطل البقاء في مدرستنا، وفي الحياة لقد غادرت بهدوء، كما دخلت مدرستنا بهدوء.
لكنني سرعان ما أنسى ذلك كله، وتبقى حدود أمنياتي وأحلامي في أن يمر الوقت سريعا، كي تعود تلك الغجرية في موسمها المعتاد، برائحتها الغريبة المنعشة، العابقة بالذكريات، ذكرياتي أنا من ملكوتي الذي جئت منه .
تصعقني ملابسها البراقة حيث تختلط الألوان، ويصبح للفوضى جمالا أخاذا على جسدها الممتلئ، والمتدفق حيوية، وصوتها وهي تغني ببحتها القوية، ورقصها المجنون، الذي يباغتني كل ليلة، فتحتجزني الجدران، وتقيد خطواتي، ويعاودني الحلم في أن  أتسلق تلك الجدران العالية، وعندها سوف أعود ابنة جاءت بأجنحة الجان على ضوء القمر، لكنني كلما حاولت أن احلق عاليا، تصبح تلك الجدران أكثر قسوة وصلابة .
ومرة أخرى تراودني رغبة ملحة فيما لو جاءت هذه المرة، أن اسألها أن تفتح لي حقيبتها التي صنعتها من قماش فستاني القديم، فربما أجد خلخالي الفضي الصغير، عندها لن أكون بحاجة إلى تسلق جدران أزقتنا العالية النتنة، فستحل علي بركة الرب في كل الأحوال  .
في تلك الظهيرة المنعشة، في بداية شهر نيسان، وفي طريق العودة من المدرسة قالت لي ( منى ) ابنة مهدي الحمّال، إن أمها تلك المرأة التي كنت أقف أمامها متمتعة بسماع لجلجة لهجتها العجيبة، إذ تتداخل فيها الكلمات بطريقة لا يمكننا نحن الصغار إلا أن نضع اكفنا على أفواهنا كي نخفي قهقهاتنا، منذ عهد بعيد جاءت من بغداد فتداخلت لهجتها البغدادية ولهجة منطقتنا القريبة إلى لهجة أهل الموصل، ولا اعرف كيف أن امرأة متمدنة من العاصمة، تطيق العيش مع مهدي الحمال الذي يبدو تائها بجسده الضخم المنحني قليلا إلى الأمام طوال الوقت، و دشداشته المعلقة أطرافها في حزامه المتهرئ الأسود، وساقيه الهزيلتين، تكاد لا تنتمي إلى قدميه المفلطحتين كأنهما خفي جمل .
قالت منى متفاخرة:
-     أمي ستضع سنا آخر من الذهب عندما تأتي الغجرية .
لم أدرك للحظة أني قادرة على حمل كل هذا القدر من الحنق والغضب .
لكنني في هذا اليوم من الأول من نيسان نسيت  حنقي، وغضبي، وأنا أشم رائحتها .
أخ، أجل، إنها هنا، إني أشم رائحة غريبة، رائحتها هي التي كانت ترافقني طويلا، كنت اعرف إنها هنا، اجل رائحتها التي أبهرتني دائما موجودة هنا في كل الأزقة التي علي اجتيازها للوصول إلى البيت، لم أتمكن من رؤيتها لكن عزفا مجنونا رفعني عن الأرض .
رغم أن الوالدة لم تسدد مبلغ القرض، لكني سوف استحلفها بكل ما تؤمن به بأن تدفع لي عشرة فلوس، هو ثمن لأرخص أنواع الأسنان الذهبية  .
دخلت البيت، لقد أنهت أمي النوبة الصباحية، بعد ذلك ستواصل الخبز للمنازل الميسورة التي تدفع لها مبلغا ثابتا، عندها، أجفلت، مرتعدة،  صرخت  ( يا الله..)
 إنها .. هي امرأة الحلم المذهلة، إنها هنا في بيتنا، بذات الثوب القديم لولا إن ذيله غدا مهلهلا، وذات الحقيبة لولا إنها رتقت في مواضع كثيرة، تبدو أكثر تعبا، وفقرا، وشيخوخة من العام الماضي، حذائها ممزق، ورائحتها أكثر نفاذا، وقوة، لكن الطبول، لا زالت تدق في رأسي، لم اقل شيئا لا أريد أن افسد تلك اللحظة، عندها ظهرت أمي تحمل أطباق الطعام وأرغفة الخبز الحارة .  
 كنت أحدق بها طوال الوقت، أحاول أن اختار شيئا مميزا، وفريدا فيها يجعلها أكثر تميزا عن أمي، اقتربت من حقيبتها أردت أن أجد خلخالي، أو بعض ذكرياتي، لكنها وضعتها في الفجوة بين ساقيها المعقودين أمامها قبل أن أمد يدي، لم تتحدث إلي طوال الوقت، بل ولم تلتفت إلي، لو فعلت ذلك لعرفت أني ابنتها،
  كانت تحدث أمي عن امرأة لا تجد مستقرا، أتعبها التجوال، وأنهكها الترحال من مدينة إلى أخرى،  فقدت أولادها الواحد تلو الآخر في أمراض لم تعد تذكر أسماؤها، ضيعتهم في الترحال .
-    حتى قبورهم ما عدت اعرف مكانها، فلقد التبس الأمر علي، في أي المدن  ضيعتهم، لا أعرف .
انخرطت في بكاء مر في الوقت الذي كانت فيه أمي تقدم قدح الشاي، لكنها سرعان ما مسحت دموعها وبدأت بمحاولة إقناع والدتي في وضع سنا ذهبيا، لكن أمي كانت تعتذر
-    هل رأيت أرملة تزين فمها بسنة ذهبية ؟
-    رأيت .. رأيت الكثير مما لا يمكن تصديقه، عن أرامل، ومطلقات، ونساء يخاتلن أزواجهن، ويفعلن ما لا يمكن تصديقه .
كنت ارتجف وأنا اجلس مدوخة برائحتها، ورغبتي،  وأمي ترجوني بعينيها أن أبقى صامتة، هناك أشياء لا تنسى، إذ تبقى تلك النظرة التي رمقتني بها أمي وكأنها تتوسل إلي، تحفر ذكراها في رأسي .
لكن الغجرية .. أمي الحقيقية كانت  ترقب ذلك الحوار الخفي بيننا، أنا وأمي، فاغتنمت فرصة دخول الوالدة إلى الداخل .
قالت وهي تسحبني إليها:
-    تعالي أيتها الجميلة .. سأضع لك سنا ذهبيا، مادامت أمك ترفضه .
ثم أخرجت أدواتها من حقيبتها المتهرئة، وقربتني إليها، كانت لحظة فريدة عندما وضعت رأسي على صدرها الذي كنت أتخيله شهيا، عارما، مثيرا لكل رجال الحي وفتيانه، كانت تفتح فمي وهي تدندن بأغنية ذات وقع حزين ممطوط، تتأوه قربي، وكنت كمن تنتظر حتفها، أراوغ يديها التي ما زالت محتفظة برائحة طعامنا، ودسمه، وروحي هائمة في مكان آخر، مكان لا اعرفه، ولن أتمكن من معرفته، لكن صوتها كان يهدهدني، أسرفت في نشوتي بها، كان رأسي على بطنها اللينة، مشوشة، كانت تقودني معها، حافية، هشة الأرض حولي، بل إني لم أكن معلقة بشيء ، يتأرجح جسدي بين صوتها وضغط بطنها تحت رأسي وثدييها المتأرجحين فوقي، كنت في خضم ذلك العنفوان كله كنت أتقوس على روحي وافقد الكثير من ثبات قدمي.
 لم أكن أنا، متمنية ألا أكون أنا  .
صفعني صوت أمي الخافت، فأنها لا تملك مبلغا يكفي،  
-    إنه من ارخص الأنواع، ولن يدوم طويلا، لذا لن أبادله بأي مبلغ.
كانت كلماتها ساخنة حزينة، تتقافز كدموعها الساخنة على وجنتيها، أثارت رعدة خفيفة في جسدي، وجعلتني أطوقها بين ذراعي، فلمحت وميضا في عينيها، جعلني في تلك اللحظة ادرك أننا نحن الثلاثة كنا نسخة متكررة لحياة لا تعني شيئا، سوى إنها تتلقف السعادة أو قل الفرح بشكل سري ومبتسر، حتى لكأن الحياة كلها تختصر في هذه اللمحة من الزمن .