موعد مع الرب ـ قصة : عبد الرحيم اجليلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse25061لم يكن الحاج حمو تائها، ظل اليوم بأكمله يبحث عن طريق جزيرة الجبل، ظن لوهلة أنه ضل السبيل، لكن يقينه بالنداء الذي ما فتئ يرن بداخله، جعله يعاود الكرة بلا قنوط. تلك الأشجار اللعينة تحجب عنه الرؤية، و هذه الأحجار العملاقة الملساء تهد من قواه، فلا يكاد يعبر واحدة، حتى يجد أخرى تصده و  تتحدى عزيمته. بعد أيام و ليال من المسير، وصل إلى هذه الغابة، و خلف من ورائه أبويه و أصحابه و قريته، جميعهم سخروا منه و سفهوا أحلامه و أخبار النداء الذي زعم أنه يأتيه من مكان ما في أعماقه. إن الرب ينتظرك في جزيرة الجبل.
بمجرد ما صار على قمة  أعلى حجر قابله، رأى ما يشبه الكوخ، بلا باب و لا سقف، مجرد جدران تحيط الفراغ. عندما دخل مستطلعا، وجد شيخا طاعنا في السن، بلحية تكاد تلامس موضع قدميه، يساكن أفاعي و قردة و طيورا جارحة.

- من هذا الحساء صنع الرب العالم، إرتشف منه حتى ترتوي. خذ هذا المجداف. إتجه شمالا. ستجد قاربا، جدف إلى أن تصل إلى الجزيرة المنشودة، و النهاية المقصودة.
كلت يدا الحاج حمو، و كاد كتفه ينخلع من التجديف. مر وقت طويل و هو غارق في ضباب كثيف، لا يدري أمقبل هو، أم مدبر وجهته. لبث في قاربه حتى آنس نارا. عاود التجديف،  بدأ الضباب ينقشع وتظهر من بين شظاياه، جزيرة الميعاد. تبع وهج النار ودخانها، فألفى لديها جمعا من الناس، ألوانهم مختلفة، منهم العراة، و منهم المتسترون بأثواب فاخرة أو أسمال بالية، يرقصون في صمت و سكون، يمر عليهم شيخ ذو همة و وقار، يضع في أيديهم و أرجلهم قيودا، يلحقه شاب ذو همة و وقار، ينزع عنهم تلك القيود.
تفرق الجمع كأن على رؤوسهم الطير، و بقي الشاب حاملا بعض السلاسل بين يديه، نظر إلى الحاج حمو و تقدم نحوه في هدوء:
- إصعد هذا الجبل، ستجد بئر ماء مهجورة، ألق بهذه الأغلال هناك. إصعد و لا تعقب. أنت على درب اللقاء الموعود.
صرخ الحاج حمو في البئر العميقة، فسمع رجع الصدى، و ارتاب من أمره، يصدر هو صوتا، و يرجع له صوت صدى مختلف. نادى في البئر: أنا حمو، و عاد له الصوت: لا لا لا. تخلص من الأغلال كما طلب منه الشاب، نظر نحو قمة الجبل و هم بالصعود. على مرمى حجر من البئر، سمع صدى حمو مو مو.
في رحلة الصعود، رأى أشجارا مقطوعة، و أحجارا محروقة، و بركا من الدماء. رأى سواقي يتلألأ ماؤها كالذهب، تحمله إلى بساتين غناء مسورة، تصدر منها أصوات عذبة، ناي و قيثارة. خالجته رهبة و رعب، ثم أمن و سكينة، و لم يعد قادرا على تمييز أحاسيسه. جلس إلى صخرة، و اجتاحته رغبة عارمة في البكاء، فالبكاء شعور عابر للأحاسيس.
- يا حمو، لا تيأس بعدما صرت مقتربا من غايتك، ستنتهي آلامك عندما تبلغ الميعاد.
يأتزر ثوبا أبيض، يضع على رأسه عمامة خضراء، ينتعل خفافا من الخوص، وقف رجل يشحذ همة حمو، و يحثه على الاستمرار. ساعده على النهوض من جديد. وضع في يديه كبريتا أحمر: سيعينك على الوصول.
بلغ منه الجهد مبلغه، و لم يعد يفصله عن قمة الجبل إلا بضع خطوات، رفرف قلب الحاج حمو، و ظن أن ساعة الحقيقة قد أزفت، و أن موعده مع الرب آن أوانه. صعق لما رأى ما فت من عضده، و شل من همته. رأى جزيرة جبل أخرى، أكبر من التي هو قائم عليها، و لا يدري هل تكون نهاية المطاف، أم تكون بداية رحلة بلا نهاية. إلتفت خلفه متأملا ما مضى من سيرته، نظر إلى السماء، حيث بدأت نجوم الليل تغزو العتمات، و مضى نحو الموعد المقدس.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟