علقم الأزقة ـ قصة : ياسين الشعري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

  يسير بمحاذاة الجسر مكتئبا كاسف البال، تائها في شرارات أحزانه ونكداته، يرتدي أطمارا بالية وحذاء مرقعا باهت اللون، ويضع طربوشا أبيض تعلوه طبقات من العفن والأوساخ، يمسك ما تبقى من سيجارة وجدها ملقاة على الأرض ما تزال تصارع موتها. كان ينظر إليها ويتفحصها، سائلا نفسه لماذا يمسك بها إذا كان لم يسبق له أن دخن، هل فعلا سيجد في امتصاص دخانها عونا على نسيان همومه؟ كيف يكون الداء دواء؟ وضعها بين شفتيه، وصار يدخل الدخان إلى رئته، ولكنه ما لبث أن رماها لما أحس أنه على وشك أن يختنق، ورفسها بكعب حذائه، ثم صار يسرح بخياله في ذلك العالم الذي أُجْبِر على  العيش فيه. لم يكن عالَما مثاليا تحيط به هالة من نور، وتنشر فيه الزهور رحيقها، وتصدح فيه الطيور بأناشيدها الأخاذة، وتحلق السعادة في كل أرجائه، ولكن كان عالما بهيما، ضرير النجم، ساقط النواحي... إنه عالم الحزن الذي أُلْقِيَ فيه منذ أن فتح عينيه على هذه الحياة، ذلك العالم الذي شده إليه كما تشد البهيمة إلى الشجرة بوثاق من حديد..

     سار بمحاذاة الجسر يطوي الطريق طيا، وينفذ من مكان إلى مكان ظانا أن ذلك سيخفف عليه بعضا من تلك الأحمال التي تقبع فوق ظهره من الحزن والغم.
      طاف طوفته المعهودة، ثم عاد أدراجه وقد سيطر الحزن عليه أكثر فأكثر. ولما أضناه التعب وقهره الضنك، ألقى بنفسه على أحد الكراسي واستسلم للنوم، لا يقيه من عادية البرد لا غطاء ولا دثار، ولا يفترش إلا الأخشاب أو الصخور. ينام ليستيقظ في الصباح، يهيم على وجهه في أرجاء المدينة يطلب كسرة خبز وشربة ماء، نفس الحالة تتكرر يوما بعد يوم، ولكنه لصغر سنه قليلا ما يظفر بما يريد، إلا إذا صادف يدا رحيمة تصدقت عليه ببعض الدراهم أو زودته قطعة خبز، وأحيانا كثيرة كان يمر عليه يوم بكامله لا يجد ما يأكله، فيلجأ إلى القمامة ليبحث عن بقايا أطعمة فإذا وجدها تناولها بشراسة ونهم كأنه يلتهم الشواء. ستة عشر حولا من حياته قضاها في الأزقة نائما فوق الكراسي يجلده البرد، ويقطر عليه الندى، ويمزق أحشاءه الجوع، حتى صار نحيلا هزيلا إذا رأيته حسبته ميتا خرج من جدثه قرييا. يغدو في الطرقات باكيا شاكيا أوجاع الحياة، يفتت الأكباد الرحيمة بشكواه الأليمة، ويُبَرَّحُ ضربا من عند أصحاب القلوب الصلدة التي لا تعرف الرحمة إليها طريقا.. ينام في العراء ليلا فيهاجمه السكارى حتى أصبح ذات يوم مقتولا في أحد شوارع المدينة. لتطوى صفحات حياة ذلك البائس طيا، كأنه لم يكن في يوم من الأيام على وجه البسيطة، ويستقبله القبر الذي قد يكون أرحم به من بعض القلوب.