الحمامة و الحَيدَوَان ـ قصة : الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

كان غضا، و كانت سنواتها الخمسون تزحف بها نحو النهاية، فقد أعمته ثروتها عن تجاعيد وجهها     و عن يديها المعروقتين، جذبته إليها سيارتها الفارهة و أسورة الذهب التي يضج بها معصماها، و قلائد العقيق المتناثرة فوق جيدها. أما ما جذبها إليه فقوته و سمرته الكالحة. كان جريئا و كانت تبحث عن تلك الجرأة و تتمناها، كان جامحا و عنيدا، و كانت تفتش عمّن يحكم شد لجامها و يسوسها و يركبها، كانت تبحث عمن يميتها ببطء ثم يحييها، و كان هو ذاك الجواد الذي ظلت ترسم صورته في ذهنها، و حين عثرت عليه لم تفرّط فيه. لم تجد قبله سوى الذين أشارت إليهم بسبابتها فمدوا إليها رقابهم فداست عليها ضاحكة ساخرة مستهزئة. لكنها عندما وجدته أدركت معنى أن تكون مسحوقة. شد طرف حبلها بيده         و ترك لها العنان تركض كما تشاء فاسحا لها البرية تنعم فيها باطلاق قوائمها غير مكترثة بالصخور المدببة الناتئة، و كلما عن له أن يدنيها منه جذب الحبل، فأدار عنقها إليه، فتأتيه  متمسحة على أعتابه صاغرة ذليلة سلسة الركوب...

أشفق عليها في البداية و ظن أنها وحيدة و في حاجة إلى من يسندها، و حين رأى ما كانت تفعله بغيره أمعن في ما فعله بها. لم يسع إليها و لم يذرف الدموع أمامها و لم يمسح بلور سيارتها يوما. قادته المقادير يوما إلى الالتقاء بها، نصحوه أن يأتي إليها منحنيا لتشفق عليه، لكنه أتاها رافعا هامته و اثقا من خطوته، و هكذا كانت بينهما تلك القصة التي تروي بعض تفاصيلها في مذكراتها: " تدفعنا الحياة أحيانا كثيرة إلى البحث عن الزوايا المزهرة فيها، فنعبر خلال بحثنا الأنفاق الضيقة المظلمة و نشق الأودية المجدبة الكالحة و نمشي فوق البحار الناضبة، يقودنا الخوف و الحذر، فلا الواحد منا يصيب هدفه و لا هو يتهاوى في إحدى الهوى السحيقة فيدق عنقه و يستسلم لقدره، و إن هو بلغ النهاية فلا يصل إلا مكدودا مهدودا قد هده البحث العبثي، و كلما بلغ مأربا قاده طمعه إلى التقدم بحثا عن نجاح جديد، لكن النهاية تلك المرة تكون أبعد و أسوأ، فنعلل النفس بالحلم و نمني الذات بالمرابع البهية النظرة التي نتوهم أن أعذب السيمفونيات و أمتعها تعزف هناك...جاءني بلا واسطة، و دخل مكتبي بلا استئذان، استفزني كبرياؤه،     و عوض أن أصرخ في وجهه رادة عليه عنجهيته و جنونه، وقفت احتراما لجرأته، و عوض أن أُعرض عنه دعوته إلى الجلوس أمامي  ..."
رمته الأقدار أمامها، من مكان قصي جاءها بعد أن طوّحت به الحياة بين المدائن، لا يدري أي قدر ساقه إليها، خاض دروب الحياة بطولها و عرضها، جاءها بعد أن خبر العيش و كابد الفقر و الجوع        و السجون، كان يرفض الاستقرار و الركون إلى الراحة، جوّاب آفاق كان، كان كمن يتنكب فرحا في إحدى الأماكن أو كمن يهرب من قدره، رفض السكينة، كالماء كان يفسد إذا ركد.
بعد محاورة قصير و توقيع على بعض الوثائق صار سائقها الخاص و سرعان ما أصبح كاتم أسرارها. كانت قبله تنتقل وحيدة من مكان إلى آخر، تقضي نهايات الأسابيع في مدن كثيرة، لم تعرف حواجز و لم ترضخ لها، قبله كانت تفتح صفحاتها و تخط عليها في صمت، ثم تعود إليها فتمحو ما كتبت، تسكر        و تصحو، ترتكب الآثام و تستغفر، تقسو و لا تعتذر، حياتها المليئة بالمفاجآت كانت تحياها قبله وحيدة. أما اليوم، فقد جاءها من يشغلها، تصر على أن يرافقها أين ما حلت، أدخلته إلى عالمها لا بوصفه سائقها، بل بلا صفة، يراقبها من بعيد، بذراعيه القويين أحاطها و حماها و أبعد عنها ألوانا من المعاناة.
لم ينحن يوما، و لم يبح بما يرى، أبكم كان و أعمى، و كثيرا ما كان يوصله و ينتظرها في الخارج، لا يغادر السيارة. على إحدى صفحاتها كتبت: " على قدر جرأته فقد كان خجولا و لطيفا، كان فظيع في تأدبه و في روعته و في عزة نفسه، الحياة عنده أمل متواصل لا ينتهي، شوقه للفرح بلا حدود، و بقدر ما كان يطلع على الكلمات التي كنت أخطها على صفحاتي، كان كتوما لا يبوح بما يقرأ."
الزواج و الارتباط و العلاقة الدائمة أشياء لا تصلح لامرأة فاقت الخمسين و أفل ربيع عمرها،           و هي لا تبحث إلا عمّن يحيي فيها الجذوة بين الحين و الآخر، أو يروي فيها تعطشها إلى نبض الحياة. كانت تتألم و هي تحدق في المرآة لترى تفاصيل الحياة مرسومة على وجهها، تهرب منها بالمساحيق      و عمليات شد الجلد التي نصحها الأطباء بعدم الإفراط فيها، أسنانها المتآكلة و رموشها الاصطناعية المستوردة، و النظارات باهظة الثمن...كلها ما كانت لتحجب عن الأعين نظرتها الآيلة بها نحو الأفول...ملابسها المتنوعة و عطورها المستوردة، كلها لن تعيد إيها وميض شبابها... عزاؤها فيه أن يرافقها، تتوكأ عليه، يؤنس وحشتها في ليالي الشتاء الكالحة.
تخلت عن زوجها أو تخلى عنها، لا أحد ينبئك، فقد دفتر مذكراتها يروي التفاصيل " زواجنا لم يكن ليرتقي به إلى عالمي، و ما كان ليدنيني من عالمه، فاختلفنا و تباعدنا و تهاجرنا و انفصلنا، و مضى كل منا يبحث عن ذاته في عالمه ." هكذا لا أحد يفهم من منهما فارق الآخر، فكل كلماتها تؤكد أن ما قاما به كان مشتركا، لم تطغ إرادة أحدهما على إرادة الآخر، تباعدا راضيين قانعين، إذ لم تجد في زوجها ذاك الفارس الجامح، و لم يجد فيه المهرة الأصيلة و لا النوع النبيل.
حافظ على المسافة القائمة بينهما، و صانها في غيابها و في حضورها، لم يأبه لغمزات العابرين و لا الفضوليين... جمعتهما سنوات عشر، تتحدث عنها بقولها: " لم تكن السنوات العشر التي قضيناها معا قادرة على تغيير طباعه، و لم يتدخل يوما في ما لا يعنيه، عجيب أمر رجل يدوم صمته عشر سنوات، عجيب أمر رجل يحفظ ماءه عشر سنوات، عجيب أمر رجل تعرض عليه متع الحياة عشر سنوات         و يصرّ على صدّها."
و ذات صباح أفاقت المدينة على هيكل سيارة فارهة محترقة في إحدى الأودية قد تكون هوت من على الجسر، و بقايا أجساد آدمية متناثرة أثبتت التقارير الطبية أنها لرجل و امرأة،و ما زالت التحقيقات لم تنته.