عَلمَنَة الإبداع ـ عمر طاهيري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse70      بدأ الحديث أول ما بدأ عن العَلمانية في السياق السياسي، فصيغت أقوال وعبارات صارت متداولة بين الناس من بينها قولهم "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، ومنها تعريفهم الأولي للعلمانية بمعناها الجزئي حين قالوا "العلمانية هي فصل الدين عن الدولة"؛ بهدف إبعاد الدين عن أنظمة الحكم، فكانت بذلك علمانية جزئية، ثم اتسعت الدائرة إلى العلمانية الشاملة، ليشمل مجال العلمنة دوائر أوسع مثل السوق والإعلام، وحياة الإنسان الخاصة والعامة، أي أنه وقع انتقال من الإنساني إلى الطبيعي/ المادي، ومن التمركز حول الإنسان إلى التمركز حول الطبيعة، والانتقال من تأليه الإنسان وخضوع الطبيعة إلى تأليه الطبيعة وإذعان الإنسان لها ولقوانينها ولحتمياتها، فشكلت بذلك العلمانية سقوطا في الفلسفة المادية، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري .
 

  لقد صارت العلمانية بهذا المعنى رؤية شاملة للكون بكل مستوياته ومجالاته، لا تفصل الدين عن الدولة وعن بعض جوانب الحياة العامة وحسب، وإنما تفصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن كل جوانب الحياة العامة في بادئ الأمر، ثم عن كل جوانب الحياة الخاصة في نهايته، إلى أن يتم نزع القداسة تماماً عن العالم، بحيث يتحول العالم (الإنسان والطبيعة) إلى مادة استعمالية.  ولعل دوافعه في سياق النسق الكنسي الخرافي كانت له مبرراته؛ لكن الإشكال وقع بعد تعميم النموذج ليشمل كل الثقافات والشعوب تحت مظلة "عصر العولمة"، ومنها البلاد العربية الإسلامية، التي حُمل إليها هذا الصراع بين الكنيسة والعلم؛ ليصير صراعا وهميا مفتعلا بين الإسلام والعلم، وصُنعت لذلك أبواق ومنابر، وصار الإسلام رمزا للتخلف ومعاداة العلم ومصادرة العقل، وغير ذلك من الغرائب التي يفاجئك بها بنو جلدتنا ممن يسمون أنفسهم محمدا وعليا وزينب وفاطمة ... 
    تلك بداية الحكاية، لكن الإشكال علا خطره وصار أكثر تهديدا على الذات المسلمة حين أُدخل المفهومُ الدخيل إلى مجال الثقافة والفن والإبداع عموما، فصرنا نسمع عبارات أخرى جاءت في حقيبة الواردات مثل "الفن للفن"، و"الفن لا علاقة له بالأخلاق"، و"الإبداع لا علاقة له بالدين"، فنتجت تبعا لذلك نصوص قصصية وشعرية وروائية تجعل مركز الإبداع فيها هو "الجنس"، مجردة إنتاجها من كل دين وخلق، وكأن "المبدع" في هذه اللحظة يحاول أن يغطي عن ضعف قدراته الإبداعية، في أي مجال من مجالات الإبداع، سواء أكان في الشعر أم في المسرح أم في الموسيقى أم في التشكيل أم في غير ذلك؛ فيلجأ إلى جانب يثير انتباه المتلقي ويأخذه إليه، فيجره من جهة العاطفة لا من جهة الإبداع، فيحكم على منتوجه "الإبداعي" بأنه أروع إبداع وأجمل إبداع؛ وغير ذلك من عبارات التقدير والثناء، وهو في الحقيقة إنما يشكره على لحظة الإمتاع العاطفي/ الجنسي التي جعله يعيشها.
    غير أن الأمر هنا ليس على إطلاقه، فإذا كانت حال كثير من المبدعين على هذه الصورة؛ فإن مبدعين آخرين لهم ما لهم من تمكن وقوة فنية، سواء في الجانب السردي أو في غيره، ولكنهم للأسف الشديد لا يوظفونها في الرقي بالفن والإبداع، بل يشغلون أنفسهم بأمور خارج دائرة الدورة الحضارية، فيحرمون أنفسهم فرصة الإسهام في بناء الوعي وترشيد سلوك المتلقي العربي ليستعيد رشده ويسعى نحو الإمساك مجددا بمشعل الدورة الحضارية.
   لقد آمنوا بفكرة عَلمنة الإبداع، وراحوا يبدعون خارج منطق "الإنسان المستخلف في الأرض"، وخارج دائرة "الأمانة"، وأنتجوا ما أنتجوا بعيدا عن الأخلاق والدين وحاجات الإنسان الحقيقية. لقد ركبوا موجة الجنس، وراحوا يغردون في سماء ليست سماءهم، وأرض ليست أرضهم، وساحة لست ملكهم.
   العواطف والمشاعر حقيقة كونية بشرية لا خلاف في ذلك، لكن الإشكال الحقيقي حين يختزل الإنسان ذاته كلها في دائرة الجنس والجسد وأعطافه، ويُمركز ذاته كلها حول هذه الدائرة؛ لا يخرج عنها ولا يتجاوزها، وكأن العواطف والمشاعر تنتهي مع ثنائية الرجل والمرأة في جانبها الجنسي.
الإبداع أوسع من ذلك وأكبر، الإبداع تفكير وأفكار، الإبداع وعي وترشيد، الإبداع فن وجمال؛ وليس فحشا وابتذالا، الإبداع هبة إلهية لطائفة من الخلق ينبغي أن يُشكر عليها واهبُها، بتوظيفها في مسارها الذي يخدم رسالة الدين الذي تؤمن به وتتجمل بالانتساب إليه، وليس معولا تَهدم به أركان هذا الدين وتَدُك معالم هذه الحضارة.
•    باحث في النقد والبلاغة