مقاربة أسلوبية لرواية زقاق المدق ـ إدريس قصوري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse8899تقديم:
لابد أن نؤكد، في البداية، أننا إذ ننظر إلى نجيب محفوظ لا ننظر إليه على أنه مفتي الرواية العربية، ولكن على أنه الشخصية التي أبرزت معالمها وبسطت مشروعيتها للامتداد والتشعب.إذ استطاع أن يبعث نفسا جديدا في الإرهاصات الروائية الأولى ويبلغ بها مرحلة الفطام الفني كما دفع بها إلى أن تستوي ناضجة كاملة في وحدة منسجمة مشكلة نموذجا حقيقا بالاحتداء وقابلا للتطويع والامتداد ولاستيعاب تجارب واتجاهات عديدة.
إننا ننظر إلى نجيب محفوظ ليس لمواقفه السياسية أو أفكاره الدينية أو النفسية أو الأخلاقية، ولكن لأنه استطاع بحق أن يرسي قواعد كتابة روائية ذات نفس جديد له من الصفات والمقومات ما جعله يستمر لفترة زمنية طويلة، ويخلق جبهة عريضة من القراء لم تعد لتستكين للمغامرات الريفية، ولا لجو العبارات الحزينة، جبهة عريضة تتأمل مصيرها، في زقاق العدم والحياة التعسة في مصر الجديدة والوطن العربي، في وضوح تام..

ولا تكمن أهمية نجيب محفوظ في كونه استطاع أن يخيب أفق انتظار أوسع جماهير قراء الرواية بنقلها من حياة الطبيعة وسكب الدموع إلى حياة الدروب المصرية الضيقة ومغاراتها البئيسة فقط، ولكن كذلك، في دفعها لتتلقى الصدمة ولكي تفتح حوارا قاسيا بشأن وجودها من جهة، وأيضا في إثراء المادة الروائية عبر أسلبة أخصب العناصر وأكثرها فاعلية في الذاكرة والكتابة من جهة ثانية.

إن نجيب محفوظ لم يطرق مواضيع كانت في الظل أو يعد ركبها من قبيل المغامرة في بيئة اجتماعية سكونية مكبلة بتابو المحرمات فحسب، ولكن، وهذا هو الأساس، عمل على توحيد أصناف شتى من المتناقضات كان ينظر إليها على أن كلا منها يشكل عالما خاصا به وله مجاله المفضل وفق خصوصية النوع وقدسية المرجع أو غرابته؛ بحيث عمل على خرق هذه النظرة الجامدة ومزج بين القصة والرواية والخطبة والشعر والمقامة والتاريخ والإعلانات الإشهارية والرقص والغناء والهتاف، وطوع اللغة اليومية لمقتضيات الكتابة الأدبية والروائية بشكل خاص، كما مزج بين لغات عصور مختلفة وأزمنة متضاربة، بل بين لغة المناقشات الدينية والمواعظ وأدب الزهد والصوفية وبين لغة المقاهي والشذوذ والماخور، واستثمر العلامة والرمز والمؤشر والإشارة مخرجا بذلك كله، ومن خلاله، صورة المسارب الزقاقية الحقيقية في مقابل شوارع الأحياء الراقية، وصورة مصر العتيقة في مواجهتها لمصر الجديدة بثقافتها الطارئة وأخلاقها الموروثة، بطموحها وسكونها الزهدي.
بواسطة هذا التركيب الكيميائي للعناصر المختلفة استطاع نجيب محفوظ أن يبث في منظومة الزقاق قيما متخالفة توحد بين رجل الدين الحزين ورجل السياسة الشاذ في حلة واحدة وليعترف كل منهما بعجزه وأوزاره وافتقاره لأسباب الوعي الحقيقي والإدراك الواعي وليقف كل من عباس الوقور وحميدة العاهرة على لا جدوى سبيله ويذكر مزالق تمثله الفكري والذهني لهذا العالم.

ولم يترك نجيب محفوظ، في كل ذلك، أي شيء من شأنه أن يغني عالمه ويسبغ عليه نوعا من التعدد وشيئا من التنوع.فالدعاية الانتخابية تمتزج بالحفلة الماجنة، وتختلط الخطبة السياسية بالرقص والغناء والموسيقى والمجون وهتاف الأطفال وصفيرهم، كما يجتمع التهكم والسخرية والاستخفاف بالحكمة والعبرة والنصيحة، والزهد والرغبة في الحج بالدعوى إلى خدمة الجيش الغازي، والحزن بالرضى والإيمان، والخيبة بالتوصية بالصبر، ويلتقي الحب بالفجور والقوادة، والرغبة في الانتقام والثورة بالاستسلام، ورفض الزواج والصابون والطبخ والغسيل والأطفال بارتضاء العهارة واحتمال لكلمات الجنود والارتكاز لنشرة الحب الممزوجة بالصفعات والصد، والمشاهد السوقية المبتذلة والأهجية المبالغ فيها بالموعظة الدينية والتأمل المستفيض في أصل الوجود ونظام الكون، والحرمان والكبت بالأشعار الرومانسية والأمثلة المبتذلة.

ما يهمنا من أعمال نجيب محفوظ إذن، هو هذا التفاعل اللغوي بين الأصوات وأثره في خلق حوارية عميقة ذات وظيفة بنيوية في إخراج العمل إلى الوجود أثرا متكاملا يفور بالحياة ومعطيات الواقع الحي وصخب الآراء والمواقف والأفكار من خلال مزج المعطيات الخارجية وردم المسافات الزمنية بين الماضي والحاضر والمستقبل.ذلك، إن ظلال الفئات الاجتماعية وأضواء الحقب التاريخية وألوان وأنماط الوعي السائد كلها حاضرة في النص، تتفاعل، إيجابا وسلبا، لتخرج بنية متسقة ومكتملة المعالم الفنية كما تقتضيها خصوصية النوع.إن أهمية نجيب محفوظ موضع اختبار جذري جديد لا يبدأ من الآخر ولا من الماضي، ولكن من عمق اللحظة الزمنية التي يعيش فيها ومن عمق الحاضر المظلم بكل أبعاده الفلسفية: السيكولوجية والاجتماعية، وقيمه الفنية والواقعية، وبجميع أنماطه الثابتة والسكونية والسلبية بشكل خاص ومتميز.
من هذا المنطلق، يمكن أن نقول كلمة موجزة بصدد الآداب القصصية السابقة على مرحلة نجيب محفوظ دون أن يكون هدفنا هو إصدار حكم نهائي بشأنها، ودون أن يكون قصدنا هو محاكمتها بمعايير لا تطيقها كما سبق أن أشرنا إلى ذلك.

لم تكن الأسلبة بمعناها المفهومي حاضرة في الكتابات السابقة على نجيب محفوظ، ولم يكن يخطر لأصحابها قط أن يكون لها تأثير عميق في بعث جو خاص من الجوار يعطي للعمل أدبية مستحقة مفعمة بالجدل والتأثير والتأثر.إن النظرة الأحادية والتناغم العام لأسلوب الكاتب بعالمه الخاص والخالص في الوصف والإخبار والتبليغ وخلق المناقشات الباهتة، هو الطابع المميز لتلك الأعمال والممثل لمناخاتها، وهو منطق محكوم بالطابع الشعري والنغمة الرومانسية ذات الإيقاع العاطفي الشفاف والخالي من كل التوترات الاجتماعية والترقيات المختلفة، ومن كل أشكال التضمين والإضمار والرمز والإيحاء والنمط الصميمية.ولا غرابة أن يكون بعضهم شاعرا ممتازا أو ناقدا للشعر بامتياز أو مسرحيا أكثر منه روائيا أو كاتب سيرة حذق، وحتى في الحالات النادرة التي يحضر فيها الجانب الفلسفي، فإن روح المنطق العقائدي التعادلي هي التي تؤطر الرواية وتتحكم في صياغة العمل وتحديد أبعاده وخلفياته.

مدار اللغة:

ذهب باختين، في إطار تحديده للمستويات التي تنتظم حوارية الخطاب الروائي وتعدد الأصوات اللغوية، إلى حصرها في مجموعة من المفاهيم الإجرائية التي تختلف وفق بنية تمظهر الصوت لغويا انطلاقا من مختلف تجليات تفاعلات لغة السارد بلغات شخصيات أو لغة النوع الروائي عامة بلغة أنواع أدبية أخرى، علما بأن خصائص كل لغة هي تجليات وعي وفكر وإيديولوجية قبل أن تكون مجرد تنويعات صفية على اللغة ذاتها.
إن الرواية، في نظر باختين، هي أولا وقبل كل شيء، معسكر لأساليب مختلفة، إنها متعددة الأساليب والألسن والأصوات، ولغتها لغة مركبة تنطوي، في غالب الأحيان، على وحدات لسانية لا متجانسة. ذلك، إن"أسلوب الرواية هو تجميع لأساليب، ولغة الرواية هي نسق من"اللغات"".[1]

ولما كان الخطاب الروائي خطابا متنوعا وثنائي الصوت، كانت بنية الرواية قابلة لضم مختلف الأجناس التعبيرية وتجميع مختلف اللغات والأساليب التي تعتبرها وحدات تأليفية من صميم مادتها وإليها يعود الفضل في صياغة حواريتها التي تتسع لخطاب آخر مستبدلة مفهوم الخلق الفني لدى الأسلوبية التقليدية بمفهوم التشخيص الأدبي والصياغة الجمالية للموقف والفكر في بنائها النهائي الذي اصطلح عليه باختين بـ"صورة اللغة"بفضل عملية الأسلبة وبإيعاز من القوة المؤسلبة.

والتشخيص الأدبي للأجناس التعبيرية والأصوات اللغوية، في أسلوبية باختين، لا يعني أبدا إلغاء الأبعاد الاجتماعية والتاريخية لتلك الأجناس والأصوات واللغات والأساليب.إن فاعلية الأسلبة، بالأحرى تكمن في قدرة المبدع على تجسيم تلك اللغات كلها، وبشكل متساوي الحظوظ، في بنية النص.ذلك إن اللغة في الرواية هي لغة اجتماعية والجنس التعبيري هو شكل إيديولوجي وكل صوت هو نمط الوعي موضوع تحت أشعة الرواية لاختبار صلابته وقوته.لهذا يذهب باختين إلى أن صورة اللغة، في الرواية"هي صورة منظور اجتماعي، وصورة عينة إيديولوجية اجتماعية ملتحمة بخطابها وبلغتها"[2]ولا يمكن"أن تكون صورة شكلانية"[3]، كما أن"الخصوصيات الشكلية للغات ولصيغ الرواية وأساليبها، هي رموز لمنظورات اجتماعية"[4]، أو بتعبير آخر، إنها"ذات طبيعة مفهومية قبل أن تكون مجرد أساليب منظمة وفق نسق معين"[5]، مما يعني أن قيمة الأسلبة في الرواية لا تنشأ عن الصدمة الناجمة عن مواجهة لفظين أو ألفاظ متخالفة–كما يحدث في السطر الشعري-ولكن عن الصدمة النابعة من احتكاك لغتين أو أكثر في الملفوظ الواحد كما في النص كله، حيث ينشغل الوعي المؤسلب بإقامة بنية أسلوبية مصدرها جميع اللغات.
وطبقا لهذا التصور، قام باختين بتصنيف سائر الطرائق المساهمة في تكوين"صورة اللغة"إلى ثلاثة أصناف أساسية متصلة ومتداخلة فيما بينها، حددها كالتالي:

1-التهجين.
2-تعالق اللغات القائم على الحوار.
3-الحوارات الخالصة.[6]
غير أنه لما أراد أن يقدم تعريفات لها، لم يكتف بها فقط فأضاف إليها نوعين آخرين، وهما التوزيع والأسلبة البارودية، لتشتمل عملية الأسلبة، في كليتها، خمسة أصناف متداخلة فيما بينها، نعرض كالتالي:
1-التهجين:هو مزج قصدي للغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد، أو التقاء وعيين لسانيين ينتمي كل منهما إما لحقبة زمنية أو فئة اجتماعية مختلفة عن أولاهما مما يعني حضور نمطين من الوعي: الوعي المشخّص والوعي المشخَّص.[7]

وصورة اللغة، باعتبارها هجنة قصدية، هي، أولا وقبل كل شيء، هجنة واعية؛ أي أنها، بمعنى من المعاني، لغة مؤدلجة خاضعة لتنبير معين ولتشديدات دقيقة لها إيقاعها وموقفها الخاصان تجاه اللغة الأولى موضع التشخيص، الشيء الذي يجعل الوعي المشخص وعيا مختلفا له بنيته اللسانية المغايرة، علما بأن لغته تلقي أضواءها الكاشفة على اللغة الأولى دون أن تخرج عن نفس التركيب اللغوي ونفس الملفوظ ولتحرز، في الوقت نفسه، على نوع من الضابط الأدبي؛ أي على تلك المسافة بين الذات الكاتبة وبين لغة الشخصية تحت الكشف، الشيء الذي يحتفظ، وفق ذلك، في النهاية، لكل شخصية ولكل وعي باستقلاليته النسبية في بنية النص حيث تتوفر لها جميعا نفس الحظوظ الأسلوبية والأدبية لتبادل الانجذاب والانتداب دون تأييد مسبق لإرادة على أخرى.والقول بتكافؤ الفاعليات والإمكانات بين اللغات المتصارعة، لا يعني، إطلاقا، أنه، توازن جملي أو نحوي وأي شيء من هذا القبيل، إنه بالأحرى، تكافؤ صوتين اجتماعيين حقيقيين ونوعين من الوعي والتعبير لهما وجود  مستقبل في العالم الخارجي، ولهما حضورهما التاريخي المميز فعلا[8].

2-الأسلبة:هي أسلبة وعي لساني معاصر لمادة لغوية تنتمي لوعي آخر، بحيث تكون اللغة الأجنبية هي مادة الكتابة.وهكذا، يتم حضور وعيين لسانيين في ملفوظ واحد، وعي من وهو موضوع التشخيص والأسلبة.والوعي المؤسلب، في هذه الحالة، لا يتقيد باللغة موضوع الأسلبة في مجملها، ولكن يستخلص منها بعض العناصر ويترك البعض الآخر، دون أن يخل بالحفاظ على توافق لغته واللغة موضوع الأسلبة.على أن باختين يشير، في هذا المضمار، أيضا، إلى تحفظ واضح مؤداه أنه في الأسلبة يعمل الوعي اللساني للمؤسلب بالمادة الأولية فقط للغة موضوع الأسلبة، بحيث يضيئها باهتماماته الأجنبية دون أن يضيف إليها مادته هو، وينبغي الحفاظ على هذه الإضاءة من بداية الأسلبة إلى نهايتها، بحيث إذا ما حدث أن تم إدخال المادة المعاصرة في المادة الموضوع، فإن الأمر، حينئذ، لا يتعلق بأسلبة ولكن بتنويع[9].

ولتنويع الحدود المنهجية بين التهجين والأسلبة، أضاء حميد لحميداني هذين الصنفين بقاعدة إجرائية واضحة تمكن الباحث من أن يكون على بينة من الفروق النظرية السابقة ويعي بشكل جيد نقط التماس والتقاطع بينهما:"التهجين:لغة مباشرة أ مع، ومن خلال لغة مباشرة ب في ملفوظ واحد.

الأسلبة:لغة مباشرة أ، من خلال لغة ضمنية ب في ملفوظ واحد"[10].

3-التنويع:هو نوع من الأسلبة التي لا يكتفي فيها الوعي المؤسلب، في إضاءة للغة موضوع الأسلبة، باهتماماته، ونواياه، فقط، ولكن يعمل على أن يدخل عليها أيضا مادته الأجنبية المعاصرة لتصبح الإضاءة مزدوجة ضمنية/نوايا ومباشرة/مادة.

4-الأسلبة البارودية:تعمل الأسلبة البارودية، على عكس الأسلبة التي تتوخى الحفاظ على توافق نوايا اللغة المؤسلبة واللغة موضوع الأسلبة، على ردم توافق نوايا اللغة المشخصة كليا مع نوايا اللغة المشخصة، إذ لا تتخذ منها مجرد مادة للأسلبة، ولكن تلتزم بكسر نواياها وتحطيمها و"فضحها"، مما يجعل مقاصد اللغتين متعارضة، حيث تهيمن اللغة المشخصة على اللغة المشخصة، ويختل التوازن لصالح الأولى على حساب الثانية[11].

5-الحوارات الخالصة:يشمل هذا النوع جميع الروايات؛ لأنه يتعلق بحوار الشخصيات وبأقوالها.ذلك، إن أقوال الشخصيات هي، في أصلها، أقوال جاهزة منتجة ومحينة أدبيا في/وعبر لغة الكاتب.ومن ثمة كان لها حضور قوي في توجيه لغة الكاتب والتأثير عليها أيضا[12].

على أنه، لا ينبغي فهم الحوار بأنه مجرد التبادل الآلي للكلام بين شخصيتين أو مجموعة من الشخصيات بشأن موضوع معين أو حول تيمة محددة بمعنى، أن الحوار لا يخضع لتأطير زمني أو مكاني أو تيماتيكي ضيق أو أية مسافة مبتذلة.إن الحوار، هنا، أيضا، يتخذ صبغة مفهومية؛ أي يكون بمعنى الحوارية وبمعنى الصورة العامة للأسلبة، أو كما قال باختين نفسه:"إن حوار اللغات ليس مجرد حوار القوى الاجتماعية في سكونية تعايشها، بل هو أيضا حوار الأزمنة والحقب والأيام، وحوار ما يموت ويعيش ويولد، هنا ينصهر التعايش والتطور معا في الوحدة الملموسة الصلبة، لتنوع مليء بتناقضات لغات مختلفة"[13]، وأضيف إلى ذلك، فأقول إن الحوار بمفهومه الحواري لا يختزل في كلام الشخصيات وسجال الأفراد، وفي البنية الشكلية لهذا الكلام وذلك السجال ولا كل المواضعات، ولكن يعد، قبل هذا وذاك، وأكثر من كل شيء، حوار ذاكرة/أو ذاكرات لها امتدادها الزمني والتاريخي في الماضي والحاضر، ولها بعدها وأبعادها المستقبلية كذلك.
وحوار الذاكرة هذا لا يكون، أبدا، حوارا بطوليا أو انتقائيا فقط، ولكن يكون حوارا يمنح من مقوماتها المشرقة والمظلمة على حد سواء بما يقوض السيرورة الاجتماعية ويضيء الجدل الطبقي في استراتيجياته المتعددة.

ويجمل باختين الحديث عن هذه الأصناف والأنواع في ملاحظة عامة تشير إلى أنه من السمات المميزة للكاتب الروائي رغبته في التعبير عن نفسه في لغة الآخرين والتحدث عن الآخرين من خلال لغته الخاصة به،[14] إذ يتم تبادل الإضاءة الأدبية للغات والألسن المختلفة، فيلجأ في كل مرة، على إثر ذلك، إلى استعمال وسائل وحيل تضمن تأمين الإضاءة الأدبية للغات والإيديولوجيات. وهكذا، فـ"التعدد اللساني الاجتماعي يكون أيضا متناثرا داخل خطاب الكاتب، وحول الشخوص، خالقا بذلك مناطقهم الخاصة.وهذه المنطقة هي شعاع الفعل بالنسبة لصوت الشخصية مختلطا، على نحو آخر، بصوت الكاتب"،[15] وبهذه الكيفية"يكون التجابه حواريا:وجهة نظر ضد وجهة نظر، نبرة ضد نبرة، تثمين ضد تثمين".[16]
وتجدر الإشارة أنه إذا ما استثنينا الصنف الأخير من ترسيمة باختين للأصناف التي وضعها نمذجة لصورة اللغة، في الخطاب الروائي، وهو ما أسماه بالحوارات الخالصة، فإن الحدود بين هذه الأصناف تظل، إلى حد ما، مبهمة وغير مضاءة بما يكفي لتمييز الفروق الدقيقة فيما بينها؛[17] على الرغم من عناية باختين بالجانب الإجرائي أولا ثم التنظيري ثانيا.وإذا كانت حالة التعقيد هاته ناجمة عن تداخل هذه الأصناف في الروايات، فإن تبرير عجز الاستخلاص النظري بما هو خاصية أسلوبية، قد يتضمن، في هذه الحالة، من المخاطر والمخاوف ما من شأنه أن ينسف المشروع كله، خصوصا إذا ما علمنا أن باختين-على رغم حصافته على المستوى التطبيقي-لم يرفق هذه الأشكال بتطبيقات كافية ترفع ما علق بها من اللبس وتعزز فروضه النظرية،[18] لاسيما أنه في كل المقاطع المستشهد بها والمحللة من لدنه، لم يكن ليضع لها عناوين فاصلة.ذلك إنه كان يتحدث عن الأسلبة ومستوياتها وأشكالها بصفة مجملة، وقلما اعتنى بتعيين الصنف الذي هو بصدده.

ولئن كان ذلك كذلك، وإيمانا منا بصلابة مشروع باختين وواقعية طروحاته جماليا وأدبيا وإيديولوجيا، فإننا سنعمل، في هذا المبحث الأخير، على تقديم أمثلة لكل شكل من الأشكال السابقة لعلها تكون كافية لسد النقص الحاصل في هذا الجانب.[19]

*-التهجين:

1-أول ما افتتح به السرد في رواية:"زقاق المدق"هو هذا المقطع:"تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحف العهود الغابرة وأنه تألق يوما في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري أي قاهرة أعني؟...الفاطمية؟...المماليك؟ السلاطين؟، علم ذلك عند الله وعند علماء الآثار، ولكنه على أية حال أثر، وأثر في نفيس.كيف لا وطريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصنادقية، تلك العطفة التاريخية، وقهوته المعروفة بقهوة كرشة تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك، هذا إلى قدم باد، وتهدم وتخلخل، وروائح قوية من طلب الزمان القديم الذي صار مع مرور الزمن عطارة اليوم والغد..."(ز.م1).
يتضح، من خلال هذا الاستهلال الملحمي وما يتضمنه من تكثيف لصورة الفضاء-الذي ستتمحور حوله وضمنه عملية الحكي-بكل أبعاده:الزمانية والمكانية والتاريخية والحضارية، أن الكاتب يقتحم مجالا متعددا في جل عناصره ومكوناته.إذ، ندرك، منذ الوهلة الأولى، أنه يواجه أفكارا واقعية عامة متمثلة في فكر الآخر، في ما يقوله وما يفكر به، سواء كان هذا الآخر تاريخا، أقوالا، كتبا، أو صورة حضارية جاهزة:رسم الزقاق، قهوة كرشة المزدانة الجدران بتهاويل الأرابيسك، أو لغة قديمة: قدم باد، تهدم وتخلخل، طب الزمان القديم، كرور الزمن، عطارة اليوم والغد، الشيء الذي يضعنا أمام كلام الآخرين، شواهد كثيرة.وهو كلام محكوم بحساسية ماضوية تعيش على إرث الأمس، حيث يستوي التاريخ، في كل تقطباته الفرعونية والفاطمية والمملوكة والسلاطينية واحدة وكلا لا يتجزأ، وربما لا يقبل التوحد أيضا، وحيث يستوي الزقاق بحي الصنادقية أو ينفصل عنه كليا، ويمتد الزمن في شكله الهلامي كتلة"مضيئة"لا تستجد في سماء مصر بشيء.

وإذا كان الكاتب يواجهنا، في هذا الملفوظ، منذ البداية بآراء الآخرين:(شواهد كثيرة، علماء الآثار)، فإنه يضمن ذلك رأيه الخاص كذلك.وهو رأي نابع من التوتر الذي يوحي برفضه لكل نظرة ماضوية وبعدم اطمئنانه لأحكامها.ذلك، إنه يرى في تشعبات تلك الشواهد علامة على سكونية العالم الجديد واستمرار معالم العالم القديم وتفكك أوصاله، وأنها هي نفسها أصل عزائه، فيترك لها وحدها الاحتفاظ بمعالمها لتدلو بدلوها في معرفة كل ما يتعلق بحياة الزقاق.وتكمن تعددية هذا المقطع الاستهلالي في تعدد الحدود والأبعاد التالية:

-الآراء: شواهد كثيرة، علماء الآثار، أعني، المعرفة.

-الزمن: العهود الغابرة، تاريخ القاهرة، الفاطمية، المماليك، السلاطين، العطفة التاريخية، الزمان القديم، اليوم، والغد.

-المكان:زقاق المدق، القاهرة، طريقة، الصنادقية، قهوة كرشة، جدرانها.

-اللغة:لغة معاصرة في البداية ولغة قديمة في آخر المقطع ابتداء من:"قدم باد"، إلى"اليوم والغد"

2-"فاكفهر وجه الشاعر، وذكر محسورا أن قهوة"كرشة"آخر ما تبقى له من القهوات، أو من أسباب الرزق في دنياه، بعد جاه عريض قديم، وبالأمس القريب استغنت عنه كذلك قهوة القلعة. عمر طويل ورزق منقطع، فماذا يفعل بحياته؟وما جدوى تلقين ابنه البائس هذا الفن وقد بار وكسد؟...ومادا يخبئ له المستقبل وما يضمر لغلامه؟ اشتد به القنوط، وضاعف قنوطه ما لاح في وجه المعلم من الجزع والإصرار"(ز.م10).
نقف في هذا الملفوظ إزاء لغتين منصهرتين تمام الإنصهار، حتى إنه لا تكاد الفروق بينهما تتضح جيدا إلا بعد إمعان النظر.وتكمن صعوبة تعيين الحدود بينهما في انعدام وجود أية مسافة بينهما على المستويين:التركيبي والتأليفي، ذلك إن اللغتين معا تندمجان في ملفوظ واحد يعود على من يسرد.
واللغة الأولى هي لغة الشاعر السيئ الحظ الذي تصرم مجده ككل شيء في عالم الزقاق. وحدود هذه اللغة معروفة كأية لغة قديمة ضابطها الأول هو معجمها إضافة إلى المستوى الصرفي المنحرف وفق قوانين اللهجة الشعبية المصرية ودلالاتها الخاصة:

-المعجم: القهوات، جاه عريض قديم، عمر طويل ورزق منقطع، بار وكسد، يخبئ كرشة.

الصرف: القهوات.

وإضافة إلى كل ذلك، نجد هناك نظرة الأسى والحزن والإحساس بالخيبة والمرارة الكامنة في كل ما ذكرنا من لغة قديمة، وفي ما يسري في مخيلة الشيخ من تساؤلات عن المستقبل.وهي تساؤلات جاءت ممزوجة بلغة الوعي المؤسلب، الشيء الذي جعلها تتضمن صوتين:صوت المتسائل وصوت المتعجب ولعلها متسائلة بعجب في الآن نفسه كما يدل على ذلك ترادف علامتي الاستفهام والتعجب.
أما اللغة الثانية، فهي لغة الوعي المؤسلب، وهي هنا لغة شارحة ومعقبة على اللغة الأولى، أو كما يبدو من خلال هذا العطف المبدل عما قبله"أو من أسباب الرزق في دنياه".والبعد الانتقادي في هده اللغة، لا يكتفي بإخراج إحساسات الشاعر في تعابير معاصرة وإضاءة جوانبها الغامضة، ولكن يمتد إلى إبراز تساؤلاته في شكل سوداوي ومأساوي يوازي حسرة الشاعر ويساير قنوطه.
وعلاوة على كل هذا، نجد أن اللغتين معا مندمجتان في وحدة تألفيه منسجمة.إذ تكاد معالم الهجنة تنطمس كليا لولا دلالة المعجم وما تسمح به من قراءة اللفظ على ضوء أنماط الوعي المختلفة، من فسحة التأويل كما يبدو من هذا التعبير الذي نستخرج منه مقومات ودلالات لغتين تدل كل منهما على حقبة زمنية بعينها وتحيل على لغة اجتماعية واضحة:"ما جدوى تلقين ابنه البائس هذا الفن وقد بار وكسد؟".

أ-لغة حقبة قديمة واضحة السمات: بار، كسد.
ب-لغة معاصرة بينة المعالم:تلقين، الفن.
لغة الشاعر المتكسب بشعره وغنائه، حيث يصير الغناء مصدرا للعيش ويعول عليه في الحياة كلها بما يشبه الحرفة أو المهنة، حتى إذا ما بطل وسقطت قيمته في"السوق"بفعل تبدل الأحوال ومنافسة"الراديو"، انقطعت أسباب رزقه وانعدم لديه معنى الحياة.وهو وعي تقليدي بالأساس.
د-لغة الفنان المعاصر الذي لا يرى في الفن مادة للاستهلاك والاسترزاق أو سلعة للسوق تسري عليها مفاهيم"البورصة"ولغة التجارة والمضاربة ولا يخضع للمنافسة والتكسب أبدا.وأكثر من هذا لا تقف عليه حياة الفرد كلها وتتعلق به أسباب الديمومة، وبالأحرى أن يصير مادة تنسحب عليها مفاهيم الوراثة والتعلم حيث يخلف الابن الأب كما خلف هذا الأخير الجد، وتتوالى سمفونية الفن هكذا في إيقاع واحد يرتبط بليالي الأنس والطرب واحتساء القهوات وانتظار ما تجود به أيادي السمار والمحسنين.

3-"وعاوده قلبه الخفقان العنيف والتهب وجهه احمرارا، وذابت نفسه وجدا وقلقا وانفعالا(...)وفكره لا يستريح من اضطرابه.ثم نهض حسين كرشة وإعطاء نقوده(...)وجعل يتابعه بعينه من موقفه، فلاح لعينه مرحا نشيطا سعيدا، وكأنه يرى فيه هذه الصفات لأول مرة."لن تحظى بها حتى تغير ما بنفسك".صدق حسين بلا ريب، إنه يعيش عيشة الكفاف، ولا يكاد يتمخض كدح يومه عن رزق ذلك اليوم، فإذا أراد أن يبني عشه في هذه الأيام العسيرة فلا معدي عن فتح جديد.الألم يقنع بالأحلام والتمني وهو قابع هامد مغلول اليد والإرادة؟ لماذا لا يجرب حظه ويقتحم سبيله كما بفعل الآخرون؟"( ز.م 40).

نقف في هذا المقطع على لغتين اجتماعيتين تمثل كل منهما حالة متميزة من الوعي، لكنهما مسوقتان معا في تعبير واحد يعود على قول عباس لحلو أبرزناه ولاسيما النتيجة التي خلص إليها وإقراره بصواب رأي حسين صديقه.ذلك، أن تعبير"صدق حسين بلا ريب...يفعل؟""وإن كان يندرج في السرد غير المباشر الذي يعود إلى السارد، فإنه، في الأصل، مقتطع من أقوال عباس لحلو ويدل على رأيه فيما قاله له صديقه حسين.بيد، أنه يكثف لغتين اجتماعيتين:لغة متصالحة مع الواقع، ولغة رافضة له أو على الأصح يشير إلى وعي أحس بلا جدوى هذا التصالح بإيعاز من وعي آخر ومحفز على عدم قبول التراضي.

واللغة الأولى، فهي لغة عباس لحلو، وتجسد وعيا راضيا، مستكينا، مطمئنا، قانعا ومستسلما، وقد قرر تغيير هذه النظرة السكونية إلى الحياة وارتياد آفاق بديلة بإرادة جديدة.
أما اللغة الثانية، في اللغة المحفزة، لغة حسين ووعيا الرافض لكل الأغلال وغير المكترث بحياة الكفاف والقليل من الجنيهات وما لا يزيد عن لقمة العيش ولا يكفي لتحقيق الآمال.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن كلا اللغتين منقولتان ضمن الأسلوب غير المباشر الذي يعود على السارد. إذ يمكن اعتباره لغة ثالثة اعتبارا لكونه يمثل الوعي المؤسلب.وتقف مسؤوليته في الوصف الدقيق لتزعزع فكر عباس واضطرابه وبداية تشبعه بفكر حسين ومشايعته لأفكاره.

4-"أولئك فتيات صغيرات من أهل الدراسة، خرجن بحكم ظروفهن الخاصة البائسة وظروف الحرب عامة عن تقاليدهن الموروثة.واشتغلن بالمحال العامة مقتديات باليهوديات.ذهبن إليها هزيلات فقيرات، وسرعان ما أدركهن تبديل وتغير في ردح قصير من الزمن، شبعن بعد الجوع، وكسين بعد العرى، وامتلأن بعد هزل، ومضين على إثر اليهوديات في العناية  بالمظهر وتكلف الرشاقة، ومنهن من يرطن بكلمات، ولا يتورعن في تأبط الأذرع والتخبط في الشوارع الغرامية.تعلمن شيئا واقتحمن الحياة.أما هي فقد(...)كانت تضاحكهن في صفاء كاذب والحسد يأكل قلبها، ثم لا تتردد عن نهشهن-ولو على سبيل الدعابة الساخرة-لأقل هفوة، فهذه فستانها قصير معدوم الحياء، وهذه ذوقها سقيم، وتلك عيناها تزوغان من التحديق في الرجال، والرابعة كأنها نسيت أيام كان القمل يزحف على رقبتها كالنمل؟كان هذا اللقاء بلا ريب من بواعث تمردها الدائم"(ز.م 43-44).

يقدم لنا هذا الملفوظ وجهتي نظر متعارضتين حول موضوع واحد أو ظاهرة شائكة دقيقة. وجهة نظر ناقدة وواعية، ولو أنها تقيم بينها موضوعها مسافة ساخرة كما توحي بذلك نظرة المقطع الأول غير المبرز.وهي وجهة نظر المفكر الاجتماعي الذي يهتم بالبحث في الظواهر عن سؤالين:لماذا؟ وكيف؟، أي الذي ينظر إلى الأسباب والجذور الاجتماعية أكثر مما يهتم بالإجابة السطحية، أو أنه يبحث عن الجذور خلف المظاهر، علاوة على تفكيك ملامح الظاهرة.وسخرية هذا الوعي سخرية ضمنية من آراء الآخرين وأفهامهم المغلوطة، كما يظهر ذلك من هذا التعبير الذي يبدو أنه من كلام الرأي العام الشعبي:"ذهبن إليها مكدودات...فاقتحمن الحياة".ووجهة نظر منتقدة لا واعية ومندمجة بالموضوع، وهي وجهة نظر ناجمة عن وعي"بدائي" بسيط وتسيجه ظنون الغيرة.ذلك، إن الكلام المبرز في الملفوظ أعلاه، وهو كلام حميدة بالتحديد،كلام مفتعل وأحكامه ذاتية نابعة من نزوة جوانية متمركزة على الذات.

5-"(...)وطافت بالمرأة الذكريات المحزنة فعاودها الألم الذي ينغص عليها صفو الحياة.ما الذي يدعوه إلى قضاء الليل خارج داره؟ أيكون ذالك السبب القديم؟ ذالك الداء الوبيل؟.سيقول الفاخر أنه مجرد تغير يراد به دفع الملل، والانتقام لمكان أوفق لفصل الشتاء.ولكن هيهات تهضم نفسها أمثال هذه المعاذير الكاذبة.وإنها لتعلم من أمر نفسه ما يعلمه الناس جميعا.لذلك أصبحت المرأة في هم مقيم"(ز.م 75).

يتضمن هذا الملفوظ لغتين اجتماعيتين متعاطفتين:لغة الزوجة ولغة السارد.وكما يبدو، فالكلام الذي أبرزناه يعود على الزوجة ويعد من صلب تساؤلات الزوجة بشكل غير مباشر في مسرود السارد.وهي تساؤلات حائرة تنم عن قلق الزوجة واضطرابها من جراء ما ينبت فيه زوجها من أمور شاذة ولا يتورع عنها أبدا.وقد تم التمهيد لهذه الأسئلة بقول السارد هو كلام الزوجة وليس من جنس كلام السارد في شيء.غير أن ما تلا ذلك من كلام، في الملفوظ، والذي يعود على السارد،  وإن كان يتميز بلغته الخاصة، فإنه في تقويمه العام وخلفيته لا يخالف رأي الزوجة ولا يعاكسه.وأكثر من هذا، ينم عن تعاطف مع الزوجة؛ ذلك إنه لا يخامر السارد أدنى شك في ما روداها من أسئلة، وما نطقت به من احتمالات تبريرية بحيث، إن أمر المعلم كرشة لا يختلف حوله اثنان من أهل الزقاق. بيد، إن تعاطف السارد مع المرأة لا يقف عند حدود التسليم بإمكانية تورط كرشة في فضيحة جديدة، ولكن أيضا، في يقينه من إمكانية تنفيذ الزوجة ما تتوعد به زوجها.ويتضح كل هذا من قوله التأكيدي الشارح:"لذلك أصبحت المرأة في هم مقيم"وهو نظير ما اصطلح باختين على تسميته بالتعليل الموضوعي المزعوم19وهكذا، يقف صوت السارد إلى جانب صوت المرأة متعاطفا معها ورافضا لسلوك الزوج، بل وساخرا متهكما من تبريراته الوهمية المحتملة.ذلك، إن ظاهرة مثل هاته، في نظر السارد، تمثل أمرا لا يمكن الاطمئنان إليه.ومن ثم كان لزما على السارد أن يعلن عن انحيازه بشكل من الأشكال.

6-"ومن عجب أنه كان يرى نفسه على الحق دائما، لاعتراضها سبيله بلا مبرر، أليس من حقه أن يفعل ما شاء؟ وأليس من واجبها أن تطيع، وأن ترضى مادمت حاجاتها مقضية ورزقها موفورا؟ وقد أمست من ضرورات حياته، كالنوم والحشيش والبيت بخيرها وبشرها،  فلم يفكر جادا في التخلص منها، ولو أراد ما منعه مانع، ولكنها كانت تملا فراغا وتقوم على العناية بأمره، ويريدها-على أية حال-زوجا له ولكنه تساءل على رغم هذا كله-في حنقه-إلام يحتمل هذه المرأة؟"(ز.م 79).

نقف في هذا الملفوظ أيضا، على نمطين من الوعي.وعي المعلم كرشة الشاذ الذي يقرأ سلوكه على ضوء فهمه الخاص كما يبدو من الكلام المبرز.وهو وعي يتحدث من بؤرة معرفية جاهزة محكومة بمنظومة فكرية وسلطة ذكورية في مجتمع رجولي يقوم على تبخيس المرأة ولا يقيم لها وزنا ولا يولها أي اعتبار يذكر.وهو وعي يسحب عن المرأة  بعدها الإنساني وقيمتها كفرد كامل الحقوق الاجتماعية ليجعلها مخلوقا مجبورا على طاعة الزوج الجبار والرضى بقدره ونصيبه، بل ومسلوب الإرادة أمام من يعيله ويكفله رزقه.ثم هناك الوعي المؤسلب وهو وعي ناقد ينهض بمهمة تفسير التمثل الأول والتعليق الضمني عليه ليصل به إلى أقصى أبعاده عتمة.فالوعي المؤسلب، هنا، لم يكتف بالتعاطف مع المرأة ولا بمعارضة وعي الزوج الشاذ والتعجب منه، ولكن عمل على فضحه وعلى تعرية ما يكتنفه ويقوم عليه من نظرة تشييئية ساقطة ومتخلفة.لذلك، إن هذا الأخير ينظر إلى زوجه نظرة ساقطة كأي شيء بسيط وثانوي أصبح، بحكم العادة والتقاليد، من صميم لوازم حياته.وهي(الزوجة)بذلك تعتبر حاجة طبيعية كأي شيء آخر أو أقل منه لما تخلق له من متاعب وتبديه من اعتراضات متوالية.

7-"واستأثرت به النشوة أياما، ثم مضت حماسته تفتر ونشوته تخبو، لا لجديد جد ولكن لتيقظ الشك وفعله.وراح يتساءل لماذا يظن الإعراض دلالا؟ ولم لا يكون إعراضا حقا؟ ألأنها صدته في غير قسوة ولا فظاظة؟ولكن هل يتوقع الإنسان من جارة العمر أقل من هذه فظاظة؟..حقا لقد غالى في سروره، وأنها لنشوة كاذبة. بيد أنه لم ينكص على عقبيه، وكان كلما لسعه الشك اندفع في سبيله ذائدا عن سعادته"( ز.م) نقف في هذا الملفوظ كذلك، وعلى غرار ما سبق من إشكال الهجنة، على شكلين من الوعي ينقد الثاني الأول ويناقضه.فالوعي الأول هو الذي أبرزنا خطه، ويقدم لنا صورة عن إدراك عباس لمعنى الحب في حالة من الشك والارتياب.حيث يؤول اعتراض حميدة عنه-تماشيا مع فكره-بما يريحه ويبسط أساريره، فيتراءى له الاعتراض رغبة والصد مجاملة.
وهو تأويل ينم عن نظرة رومانسية حالمة للحب تؤاخي بين النقيضين وتنظر إلى الحياة نظرة رمادية. والوعي الثاني هو الوعي المؤسلب، ويعيد تقويم النظرة الأولى ومغالاتها ويبسط زيفها.و أكثر من هذا يتساءل بعجب كيف لم يتخل عباس لا عن مجرد سروره فحسب ولكن عن هذا الحب نفسه كاملا، ويعجب كيف يزيده الشك غبطة وحماسة وكيف يمضي في طريق بشكل عبثي.

8-"فتنهد من الأعماق، ونفخ محزونا قانطا.ترى أين هي الآن؟..ماذا تصنع؟ وماذا أصنع الله بها؟..أتعيش على ظهر الأرض أم ترقد في قبر من قبور الصدقة؟..رباه...كيف تحجر قلبه طوال ذلك العهد فلا استشف ريبة ولا شامة نذيرا...كيف استنام إلى طمأنينة الأحلام ولذة المنى فأكب على العمل غافلا عما يخبئه له الغد؟.. وأيقظه الزحام من ذهوله فتنبه إلي الطريق، هذا الموسكى طريقها المختار بأناسه ودكاكينه، كل شيء فيه باق على حاله إلا هي، اختفت كأن لم تملأ الدنيا بهاء بالأمس. وألمت به رغبة في البكاء، ولكنه لم يستسلم لها هذه المرة(...)فيجدر به الآن أن يتساءل عما هو فاعل، أيدور على الأقسام وقصر العيني...ولكن ما جدوى ذلك؟ أيدوخ في شوارع القاهرة مناديا باسمها؟، أيطرق أبواب البيوت بابا بابا؟ لله ما أعجزه وما أعجز حيلته.إذن هل يعود إلى التل الكبير متناسيا ما وراء ظهره؟، ولكن لماذا يعود؟، لماذا يصر على تحميل نفسه ألام الغربة؟. لماذا يكد ويكدح ويجمع النقود؟. الحياة بغير حميدة عبء ثقيل لا طائل تحته.غاضت في قلبه مشاعرها جميعا ألا فتورا يزهق الأنفاس وخمودا يقتل الإحساس..."(ز.م.246-247).

إن التداخل اللغوي في هذا الملفوظ واضح جدا، ويستوي أن يكون الكلام الذي أبرزنا خطه يتضمن لغتين. ذلك، إن هجنته لا تخلو من أمرين، فتارة يحتمل الملفوظ أن يكون الكلام كلاما صافيا لعباس لحلو وهو يضطرم أسى وأسفا على حميدة وعلى سذاجته السالفة، كما يحتمل أن يكون الكلام كلاما خاصا بالسارد وهو يرصد ساخرا إحساس عباس ويعقب هازئا أفكاره وما يتطاير من مخيلته من تساؤلات ونوايا. وهكذا، تنجلي الحدود بين الوعيين، ويغدو كل منها محتملا وواردا.على أن الأهم في كل هذا ليس وحدة الملفوظ، ولكن ذلك البعد الدلالي المختلف الذي يستتبع قراءة الملفوظ بنبرتين مختلفتين، تارة بنظرة الوعي المشخص الساخر، وأخرى بنظرة الوعي المشخص الآسف والحائر.ذلك "إن ما هو أساسي في الحوارية، ليس إيجاد علاقة منطقية أو شكلية أو بلاغية بين ملفوظين بل تحقيق علاقة دلالية، أو حوار فكري يظهر من خلال تباين معلن في المواقف".20

*-الأسلبة:
 1-"هجر أهله وإخوانه ومعارفه إلى دنيا الله كما يسميها، ولم يستبق من آثار الماضي جميعا إلا نظارته الذهبية.ومضى في عالمه الجديد بلا صديق ولا مال ولا مأوى.ودلت حياته على أن بعض الناس يستطيعون أن يعيشوا في هذه الدنيا المتقيحة بمرارة الكفاح بلا مأوى ولا مال ولا معين، ثم لا يجدون هما ولا كربا ولا حاجة.لا جاع يوما ولا تعرى ولا شرد.وانتقل إلى حال من السلام والطمأنينة والغبطة لا عهد له بها.وإذا كان قد فقد بيته فالدنيا جميعا صارت بيتا له، وإذا كان قد حرم مرتبه فالتعلق بالمال قد انقطع عنه يبلى الجلباب فيأتيه جلباب جديد، ويتمزق رباط الرقبة فيجيئه رباط جديد، ولا يحل مكانا حتى يرحب به ناسه"(ز. م17).

إننا نقف في هذا الملفوظ، وبخصوص الأسلبة، على خلاف ما سبق أن رأينا في أشكال التهجين، حيث، تتراص لغتان في ملفوظ واحد وتقف إلى جانب أخرى، وحيث يظهر واضحا انتقال السارد من لغته إلى لغة شخصية ما أو بمعنى آخر تضمينه المادة اللغوية لشخصية ما في مسروده غير المباشر، إزاء مادة لغوية واحدة تنتمي للغة أجنبية عن الكاتب ومؤسلبة من طرفه.إن الصوت المتحدث في هذا الملفوظ هو الصوت المؤسلب.ويتضح أن المادة اللغوية ليست مادته هو، إنها تنتمي لوعي آخر، وعي غيري.فالألفاظ كلها تؤكد بأن هذه المادة ذات مرجعية بارزة تعود على الشخصية المتصوفة بمبادئها وأفكارها وسبل عيشها وجميع ما يتعلق بالكرامات والآثار، من زواج وإنجاب ومال ولباس وعلاقات أسرية وأخرى اجتماعية.أما اللغة الثانية، لغة الوعي المؤسلب، فحاضرة عبر نبرتها أو تشديدها المتجاوز لزاوية الملاحظ والمستخلص للنتائج كما تشي بها إحساسات الشيخ.واللغة المؤسلبة، وإن كانت تشتغل بواسطة مادة أجنبية، فإنها حاضرة من خلال سخريتها ومن خلال الاستنتاجات اللامنطقية بين المقدمات والنتائج أو لعلها ظاهرة من خلال توالي الجمل واضطرادها الخلفي.بحيث يتساءل الوعي المؤسلب كيف تكون"الدنيا متقيحة"والفرد أعزل ومجردا من كل أسباب العيش، ويكون-بالتالي-مرتاحا مطمئننا يأتيه رزقه من كل حدب وصوب؟ وكيف يمكن للفرد أن ينقلب، في فترة وجيزة، من حال إلى حال؟ وقد تم التمهيد لسخرية الوعي المؤسلب بنبرة خطابية ترثي حال الشيخ وتعزيه في منقلبه وعلى حاله الجديد:"هكذا ختمت حياته بالأوقاف.وهكذا قطعت صلته بالبيئة الاجتماعية التي كان واحدا منها"(ز.م17)كما فعل السارد على تثمين أفكار الشيخ بقبوله صدقات المعلم كرشة الشاذ المتهور والتصريح، وإظهار إضافة إلى كل هذا، بأن الشيخ إنسان عادي كباقي رجالات الزقاق:"وبحسبه أن يفتقده المعلم كرشة نفسه-على ذهوله-إذا غاب عن القهوة يوما.ومع ذلك فلم يكن يأتي شيئا مما يعتقد فيه العامة من المعجزات والخوراق وقراءة الغيب.فهو إما ذاهل صامت أو مرسل القول كما يحب لا يدري أنى يكون موقعه من النفوس"(ز.م17- 18).

2-"فتساءلت ترى كيف تكون حياتها في كنفه لو صدقت الأيام أمله؟ إنه فقير، رزقه كفاف يومه، ولسوف يأخذها من الطابق الثاني لبيت الست سنية عفيفي إلى الطابق الأرضي في بيت السيد رضوان الحسيني، وأحسن ما يمكن أن تجهزها أمها فراش نصف عمر وكنبة وعدد من الأواني النحاسية.ولا يدخر لها بعد ذلك إلا الكنس والطبخ والغسل والإرضاع.وربما قطعت طريقها حافية في جلباب مرقع "(ز.م 88).
من الواضح أن الكلام قد جاء في سياق الأسلوب غير مباشر، لكن ما يلفت الانتباه هو كون مادته تدل على أنها طارئة على هذا الأسلوب وعلى لغة السارد.فالمادة اللغوية، في هذا الملفوظ، تنفرد بطابعها الخاص، ولها حقها التداولي المتميز والمحكوم عادة بفضاء البيت وطقوس الحكي وأمارات ومؤشرات ورموز المؤسسة الزوجية بكل وظائفها منظورا إليها من زاوية وعي متمرد على البؤس والحرمان وغير راض بأحكامها.بيد، إن اللغة الثانية وهي اللغة المؤسلبة قد أضاءت طموح الوعي الأول بنظرة متوالية ومنسابة.ذلك إن الملفوظ كله قد تناسل من أوله إلى منتهاه بما يشبه جملة واحدة لا تنفصل أجزاؤها، بحيث إن طموح حميدة لا يرى في فقر عباس سوى سلسلة من المشاكل والإحباطات بصورها المرعبة التي تبحث لنفسها عن مخرج ومهرب منها سيما وأن كيانها كله تملأه رغبة عارمة للمال والجاه والثياب الفاخرة والحلي النفيسة.وانسياب أطراف هذه الصورة المؤلمة على لسان حميدة قد وزاه على المستوى التركيبي انسياب أجزاء الجملة وهو اختيار من عمل الوعي المؤسلب بما يشبه أخر أجه إحساسات حميدة في ذبابات لغوية تشبهها وفي إيقاع يماثلها، لكنه إيقاع محكوم بإظهار إيغال حميدة وإفراطها في التخيلات وفي الرفض.وذلك ما مهد له السارد بقوله:"بيد أن خيالها وثب وثبة قوية عبر بها قنطرة الحاضر إلى المستقبل"( ز.م 88)، وعقب عليه كذلك قائلا:  «وريعة كأنما اطلعت على مشهد مخيف، وتحرك في أعماقها هيامها المفرط بالثياب"( ز.م 88).

3-"(...)سيجعلنا منه حديثهن بقية الطريق، ولعلهن يضحكن كثيرا من الفتى المغفل الذي هاجر إلى التل الكبير ليجمع ثورة لمحبوبته، فآثرت عليه أخر وفرت معه.ياله من مغفل حقا، ولعل أهل حيه جميعا قد لغطوا بغفلته.وقد رحمه عم كامل فأخفى عنه الحقيقة كما أخفتها أم حميدة، وهل كان بوسعهما أن يفعلا غير ما فعلا؟(...)لم تمت إذن، ولم يعرض لها حادث، ولقد أخطأوا خطأ كبيرا في البحث عنها في الأقسام وقصر العيني، وغاب عنهم أنها تنام سعيدة رخية البال بين ذراعي الرجل الذي خطفها.ولكنها ودعته ومنته، فكانت تخادعه؟..ومتى أحبته؟وأي جرأة شيطانية أغرتها بالفرار معه..."( ز. م248).
ينبغي التأكيد قبل الشروع في التعليق على هذا الملفوظ، أن مادة اللغة"الأجنبية"، في نظرنا، وكما أراد لها باختين نفسه، لا تكون دائما لغة قديمة أو لا منطقية.فحدود اللغتين في الأسلبة ليست، دائما، واضحة وبينة. وما يجعل منها كذلك هو محاولة الوعي المؤسلب الحفاظ على نوع من التوافق بين لغته واللغة المؤسلبة.وهكذا، فقول باختين بأن لغة الوعي المشخص لغة معاصرة لا يعني بالضرورة أن مادة الوعي المشخص مادة قديمة21.واللغة المحينة تعني اللغة موضوع التشخيص في سياق معين من  من سياقات الرواية وفي لحظة من لحظاتها الحورية أكثر ما تعني لغة معاصرة.

من هذا المنطلق، يبدو أن هذا الملفوظ يتضمن لغتين:مباشرة وضمنية.أما اللغة المباشرة فحاضرة عبر مادتها.ذلك، إن جل الألفاظ المحورية في هذا الملفوظ لا تخرج عن ثقافة عباس لحلو وعن مستوى إدراكه ساعة معرفة بهروب حميدة مع فرج:(حديثهن، بقية الطريق، يضحكن، فرت، مغفل، أهل الحي، لغط، رحم، جرأة  شيطانية، أغرتها المعاذير لأهل الزقاق:( وهل كان بوسعهما أن يفعلا غير ما فعلا).بينما تحضر اللغة المشخصة عبر علامات التنصيص من استفهام، تعجب، نقط بياض، التي تضيء جميعها تساؤلات عباس وما تضطرم به نفسه وتحرص عليه من حسن نية حتى بعد سماع خبر حميدة المؤلم ومعرفته بحقيقة غيابها.فالوعي المؤسلب هنا يكشف لنا عن حيرة عباس وعن صدمته وعدم تصديقه لما جرى، وعن تجاهله حتى في هذه اللحظة لأسباب خروجهما كل عصر، مما يظهر بأن تساؤلات عباس المتتالية وليدة وعي عديم التجربة بالحياة، وعي محب يرى الحياة بعين من الصفاء ويندهش للخديعة كما يدل على حاله:"كان ممتقع اللون:بارد الأطراف، تلوح في عينيه نظرة ساهمة قاتيمة"( ز.م 248)

*- التنويع:

1-"كان الشيخ درويش على عهد شبابه مدرسا في إحدى مدارس الأوقاف، بل كان مدرس لغة إنجليزية، وقد عرف بالاجتهاد والنشاط، وأسعفه الحظ أيضا فكان رب أسرة سعيدة.ولما انضمت مدارس الأوقاف إلى وزارة المعارف سويت حالته ككثيرين من زملائه غير ذوي المؤهلات العالية، فاستحال كاتبا بالأوقاف، ونزل من الدرجة السادسة إلى الثامنة، وعدل مرتبه على هذا الأساس.كان من الطبيعي أن يخزن الرجل لمصيره حزنا عميقا وثار ثورة جامحة ما وسعته الثورة، يعلنها حينا ويكتمها-مقسورا مغلوبا على أمره- أحيانا ولقد سعى كل مسعى، وقدم الالتماسات، واستشفع الرؤساء، وشكا الحال وكثرة العيال، دون جدوى.ثم سلم للنقوط بعد أن تحطمت أعصابه أو كادت.واشتهر أمره في الوزارة كموظف كثير التبرم والشكوى، عظيم اللجاج والعناد سريع التأثر، لا يكاد يمضي يوم من حياته دون شجار أو اصطدام، كبير الاعتداد بنفسه والتحدي للآخرين"(ز.م16).
لا يجتمع هذا الملفوظ بين لغتين فقط ولكن بين لغتين وبين مادتين.فكل من الوعي المشخص والوعي المشخص حاضر عبر لغته وعبر مادة 22.أما المادة الأولى، فهي مادة الوعي المؤسلب الواصف لحال الرجل/الشيخ قبل وبعد فصله من عمله.والنظرة المشخصة المخالفة لنظرة الرأي العام-ولا سيما جانب من الموظفين الذين كانوا يشتغلون مع الشيخ قبل تزهده-تظهر نبرتها الجديدة في نواياها المؤدية لفصل الشيخ كما يبدو من خلال ألفاظها وأقوالها.ذلك، إن تسوية حالة الشيخ الضعيف الكفاءة تتعارض مع ما يقال عنه من اجتهاد ونشاط كما يستحيل أن يصدق هذا الانقلاب الكلي في حياة الرجل من مدرس لغة إلى شيخ متصوف.والمادة الثانية هي مادة قديمة تؤكد العقلية التقليدية للشخصية المتصوفة وبالأحرى أن تكون"مدرس لغة إنجليزية"أو مؤهلة لذلك.وهذه المادة واضحة في الملفوظ:"سعى كل مسعى، قدم التماسات استشفع الرؤساء، شكى الحال وكثرة العيال".وهي لغة قديمة لا ينفع في لحظة معاصرة وجديدة من الإصلاح وتسوية الأوضاع.كما يمكن للمادة نفسها أن تعود على الوعي المؤسلب لما تحصل لديه من دلالات السلب وتتضمن من شحنات ساخرة.وهكذا يوازي تنويع المادة تعارض في النوايا والمقاصد.

2-"(...)فكان بيته كالقصور جمال بناء ونفاسة أثاث وكثرة خدم وحشم.وفضلا عن ذلك فقد انتقل عقب زواجه من البيت القديم من الجمالية إلى قصر منيف بالحلمية.فترعرع الأبناء في وسط جديد منقطع الأسباب ببيئة التجار وأوساطهم(...)وحين جد الجد تمردوا على نصحه وأبوا الالتحاق بمدرسة التجارة أن تكون فخا لهم(...)ومع ذلك كانت الحياة سعيدة، وقد ندت آثارها الطيبة في جسمه البدين المتين، ووجه الممتلئ المورد، وحيويته الشابة المتوثبة سعادة منشؤها أن كل شيء في وضعه المأمول، تجارة رابحة، صحة جيدة، أسرة سعيدة، أبناء موفقون قد عرف كل منهم وجهته واطمأن إليها.وكان له غير هؤلاء الأبناء بنات أربع، تزوجن جميعا وبارك الله في زيجاتهن.فبدا كل شيء باسما منبسطا لولا ما ينتابه بين الحين والحين من التفكير في مصير الوكالة والتجارة" (ز.م67).
ينتمي هذا الملفوظ إلى الأسلوب غير مباشر، لكنه يتضمن، إضافة إلى مادته اللغوية مادة أخرى دخيلة ترجع لفئة اجتماعية وتعود على عقلية تجارية تنظر إلى عملها بعين من"الاطمئنان"كما ترى إلى رغد العيش بإحساس بالعظمة وسلطان الجاه والسمو كما يبدو من المادة المبرزة.غير أن إقحام هذه المادة اللغوية في أسلوب السارد ودمجها مع مادته الخاصة لإضفاء نوع من التنوع عليها محكوم بالوعي المشخص.هذا الوعي الذي، وإن كان يفسح المجال أمام المادة الأجنبية كي تعبر عن نفسها بنفسها، في أنفة وحزم ونشوة من الظفر، فإنه يتركها تتلاشى تلقائيا بفعل تواجدها، جنبا إلى جنب، مع لغته هو التي تشي بأن واقع الحال قد تغير ولم يعد كما كان أو كما يزعم السيد سليم علوان أنه كذلك أو كما يتراءى للآخرين أنه حقيقة.ولعل تمهيد الوعي المؤسلب للكلام بـ"كان"التي تفيد انقطاع الحدث يؤكد ذلك، إضافة إلى تعقيب الوعي المؤسلب على المادة الأجنبية بقوله:"فبدا كل شيء باسما منبسطا لولا ما ينتابه بين الحين والحين من التفكير..."، بحيث نستشف من خلال المكون"بدا"زيف وعي السيد سليم وضبابية رؤيته.وأكثر من هذا، فالوعي المؤسلب لم يكتف بالمكون الفعل المذكور، ولجأ إلى استدراك باللفظ الأداة:"لولا" التي تفيد نفي الحال وإثبات عكسه.

 3-"كان شديد الحذر بطبيعة الحال صونا لمنزلته وكرامته، فهو السيد سليم، وهي فتاة مسكينة، والزقاق يزخر بالألسن الحادة والأعين المتطفلة.وتقف عن العمل وجعل ينقر المكتب بسبابته متفكرا.أجل هي مسكينة وفقيرة ولكن الرغبة لا ترحم واأسفاه، والنفس أمارة بالسوء..مسكينة مسكينة وفقيرة ولكن وجهها البرونزي ونظرة عينها وقدها الممشوق، كل أولئك مزايا تستهين حقا بفوارق الطبقات، وما جدوى المكابرة؟ إنه يهوى العينين الفاتنتين والوجه المليح، الجسم الذي يقطر إغراء. وهذه العجيزة الأنيقة التي تزري بورع الشيوخ.إنها أنفس من موارد الهند جميعا.وقد عرفها منذ كانت صبية تتردد على الوكالة لابتياع ما تحتاجه أمها من الحناء ومواد المفتقة والمغاث.رأى ثدييها وهما نبقتان ثم وهما دومتان، حتى استويا رمانتين، وعاين عجيزتها وهي أساس أملس ولم ينهض عليه بناء ثم وهي تكور رقيق يتمطى به النضج، واخيرا وهي كرة تنضج أناقة وأنوثة وراح الرجل يحضن إعجابه المترعرع حتى أفرخ في النهاية رغبة عارمة"(ز.م 72-73).

هنا أيضا، تمتزج مادتان لغويتان:مادة الوعي المؤسلب بمادة الوعي المؤسلب.وتنفرد كل مادة بعالمها الخاص.الوعي المشخص يتمنع بوضعه الاجتماعي الذي يقف عائقا أمام رغبة الزواج من حميدة"الفقيرة والمسكينة"، الشيء الذي يخلق المتاعب كثيرة تقف حصنا منيعا أمام تحقيق نزواته.ومقومات هذا الوعي لا تتجسد في كلام السيد سليم التاجر فحسب، ولكن من خلال طريقة تفكيره، ومن وعي التاجر المراب والمضارب الذي يعيد إخراج صورة حميدة خطوة خطوة ونفسا نفسا، ويتبع تمرحل نموها ونضج أعضائها كما يحرس على نمو تجارته.وقد آثر الوعي المؤسلب أن يدرج مادة اللغة الأجنبية ليفضح ما تضمر من نوايا مريبة ومن وعي تشييئي لخصه بإيجاز في نهاية الملفوظ بقوله: "وراح الرجل يحضن إعجابه المترعرع حتى أفرخ في نهاية عن رغبة عارمة"( ز.م73).

4-"(...) وذكر وهو لا يدري زوجه وأسرته.كانت زوجته إمراة فاضلة، تتحلى بكل ما يحب الرجل من أنوثة وأمومة ومهارة فائقة في شؤون البيت، وكانت على شبابها مليحة ولودا.فهو لا يأخذ عليها نقيصة واحدة، فضلا عن ذلك كله كانت من أسرة كريمة تتفوق عليه كثيرا في الأصل والمحتد، وهو يقر بفضلها جميعا، ويضمر لها ودا صادقا ولا يضايقه إلا أنها استوفت شبابها وحيويتها، فقصرت عن مجاراته وعجزت عن احتماله، فبدا بالقياس إليها-وبسبب حيويته الخارقة-شابا نهما لا يجد فيه ما يشتهيه من متاع"(ز.م 73)
يتضمن هذا الملفوظ-كما هو واضح أيضا-وعيين ومادتين لغويتين مختلفتي المعالم والسمات.ذلك، إن اللغة المشخصة تنطق بلسان اللغة المشخصة فتصوغها بأسلوبها الخاص وعبر استحضار أهم مكوناتها(أي اللغة موصوع التشخيص) كما تعينها هذه الحدود مجتمعة:
- الاستعلاء:امرأة فاضلة، أسرة كريمة، الأصل، المحتد، فضل.
- التجارة، إخلاص، مهارة، كريمة، فضل، قصرت عن مجاراته، متاع.
- الإنجاب:أمومة، ولود.
- الجنس:أنوثة، شباب، ملوحة، ود، حيوية، قصرت عن مجاراته، عجزت عن احتماله، نهم، يشتهي.
وهي كلها حدود وألفاظ وتعابير منظور إليها من زاوية وعي ساخر كما يدل على ذلك تنادبها وتنافرها فيما التعليل الموضوعي المزعوم.وهو ليس كذلك، لكون استحضاره للغة الأجنبية استحضارا صوريا أريد به عكس ما وضع له وصيغ بما يناقض نواياه ولا يدل دلالة قاطعة على صدق تلك الإحساسات وذلك الشعور:"والحق أنه لا  يدري إن كان ذلك ما علقه بحميدة، أم أن هواه ما جعله يستشعر هذا الفراغ الأليم"(ز.م 73)

5–(...)وإنه ليأكل صينية الفريك، أما حميدة...رباه لو كانت من أسرة كريمة ما تردد لحظة في طلب يدها.ولكن كيف تصير حميدة ضرة للسيدة عفت؟ وكيف تصبح أم حميدة الخاطبة حماته كما كانت يوما المرحومة ألفت هانم؟ وعلى أي وجه تكون حميدة امرأة أب لمحمد سليم القاضي وعارف سليم المحامي والدكتور حسام سليم؟ وهناك أمور أخرى-لا تقل عن هذه خطورة-ينبغي تقديرها حق قدرها. هناك بيت جديد لا بد-في هذه الحالة-أن يتهيأ.ونفقات جديدة وربما ضاعفت من نفقاته القديمة، وورثة جدد خليقون أن يمزقوا وحدة أسرته المتماسكة، وأن يلوثوا صفحتها الناصعة بالعداوة والبغضاء.وفي سبيل أي شيء كل هذه المتاعب؟...ميل رجل-بل زوج أب-في الخمسين لفتاة في العشرين، ولم يغب عنه شيء من هذا، لأنه رجل لا يفوته بحال تقدير المتاعب التي تتصل بالمال وأحوال المعيشية"(ز.م 74).

بنفس الإيقاع السابق، وبنفس البعد الساخر، يحلق الوعي المؤسلب بلغة موضوعه ويستدرجها، شيئا فشيئا، حتى تصل بها أفقها المسدود ويضعها على كرسي الاعتراف بشكل تلقائي، إذ تحس إحساسا فظيعا بخبث نواياها وعتمة تفكيرها وخواء المضارب البخيل.
إن هذا الملفوظ من الأسلوب غير المباشر يتتبع وعي السيد سليم حتى يصل به حافته الأخيرة.بحيث راح يختبر صلابة إحساساته وصدق نواياه تجاه حميدة ليستخلص أن لغة السيد سليم لغة تاجر لا محب.ولعل اللغة المؤسلبة، رغم معارضتها للغة علوان وأفكاره قد ظلت تحتفظ بعناصر مادته اللغوية: "أسرة كريمة، السيدة عفت، ألفت هانم، نفقات جديدة، ورثة، متماسكة، ناصعة، عداوة، بغضاء، متاعب"، وهي كلها ألفاظ معجمية تمثل مادة أولية لكل تفكير من هذا النوع ذي علاقة بالمال وأحوال المعيشية والريبة كما ذكر السارد في تعقيبه في آخر الملفوظ... للبحث بقية


الهوامش

[1] -ميخائيل باختين:"الخطاب الروائي"، ترجمة"محمد برادة، مرجع سابق، ص.ص 32-33.
[2] -نفسه، ص 106.
[3] - نفسه، ص نفسها.
[4] - نفسه، ص107
[5] - حميد لحمداني:"أسلوبية الرواية"، مرجع سابق، ص 35.
[6] - ميخائيل باختين:"الخطاب الروائي"، مرجع سابق، ص 108.
[7] - نفسه، ص 108.
[8] - نفسه، ص 109.
[9] - نفسه، ص 111.
[10] -حميد لحمداني:"أسلوبية الرواية"، مرجع سابق، ص 88.
[11] -ميخائيل باختين:"الخطاب الروائي"، مرجع سابق، ص 111.
[12] - نفسه، ص 111.
[13] - نفسه، ص 112.
[14] - نفسه، ص 25.
[15] - نفسه، ص 74.
[16] - نفسه، ص 73.
[17] -أنظر:أ)تصريح باختين نفسه في المرجع السابق
ب)تعقيب حميد لحمداني في كتابه السابق ص.ص 84-85.
[18] -أنظر نفس الملاحظة في المرجع السابق للحمداني حميد، ص 86.
[19] -نلفت الانتباه أننا نستعمل بنفس المعنى والدرجة المفاهيم التالية:الوعي المؤسلب=الوعي المشخص=اللغة المؤسلبة=اللغة المشخصة= اللغة الواصفة.و الشيء نفسه بخصوص معادلاتها:الوعي المؤسلب=الوعي المشخص= اللغة المشخصة=اللغة الموصوفة.