محمد الماغوط : أنشودة التسكع ـ طويل حسن

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse2763" مخذولٌ أنا لا أهل ولا حبيبه
أتسكعُ كالضباب المتلاشي
كمدينةٍ تحترقُ في الليل
والحنين يلسع منكبيّ الهزيلين
كالرياح الجميله ، والغبار الأعمى
فالطريقُ طويله"( قصيدة جناح الكآبة )
محمد الماغوط شاعر يكره الاستقرار الانضباط ، يزلزل كل شيء ؛ القصائد و الحيوات و الكلمات و الارواح.فالمبدع في نظره كالنهر الجاري ان استقر تعفن . ينطلق من الصور ليحولها بسحره الى زخات مطر وبقايا حيوات . هو عاشق للخمر و السيجارة والحياة ، يسقط الكلمات لتتحول الى مزيج من المرارة والحزن و الجمال. طفولة قلبه تطحن عمق تجاربه لتصير نضجا صادما يصفع القارئ كأنه مشروع عدو للشعر والشعراء .هو خلق ليتسكع في الارصفة و المدن و الكلمات ، هو بدوي رحالة احمر لكن من نوع خاص ،  انه بدوي ، وفق تعبيره ، يغني في اركسترا الصحراء . انه بدوي مقلوب : همجي في بداوته الى حدود المدنية الحقيقية و محارب للتصنع والزيف الى حدود الثمالة، فبيته الشعري بدون سقف .يحاول ان يبيع حياته شعرا صادقا ، ويحرق تجاربه وبؤسه بحطب الكلمات؛فقد صرخ في إحدى لوحاته :

كل الايام التي قضيتها بلا طعام
و الليالي بلاغطاء
وكل سخرية من أسمالي في الاعياد
وكل ليلة قضيتها مشردا في الشوارع
............
وكل قملة عثر عليها هذا الحلاق او ذاك المفتش في رأسي
وعقب سيجارة ملتقطة من الشارع في فمي
.......
اريد ثمنه شعرا
او صورة شعرية واحدة جديدة
وعفا الله عما مضى " ( قصيدة حب افلاطوني ، ديوان البدوي الاحمر )

 هو في شعره مغتصب للكلمات ولكن للأسف بجمال عنيف ، يذكرنا بمشهد الاغتصاب في الفيلم الامريكي كلاب القش  ، اليس كل اغتصاب فعلا دنيئا؟  . "حين يكتب محمد الماغوط ، ينحني على الورقة البيضاء ، كمن يريد نحر الكلمات بمبضع جراح "(محمد الماغوط اغتصاب كان و اخواتها، خليل الصويلح )،  في وحشيته هذه نشم رائحة لعنة احباطات و عذابات الشاعر ارتير رامبو وعشقه للاستقلال العاري الخشن  ؛
" حتى لو كان البرد من حولي يقطع المسمار
ارفض ان اكون من او في بطانة احد
افضل ...
العراء البكر
العراء النابغة . (قصيدة حروب مشردة ، ديوان البدوي الاحمر )
هو يتعرى شعريا بعنف ، ليس له الوقت الكافي لإزالة قطع ثياب كلماته قطعة قطعة  ، فهو مطارد مزق من الخوف قصائد كثيرة . يقترب بشعره لرجل الارصفة ، يحطم الشعر النخبوي على ابواب البؤساء و يعيد إليه الحياة بدون وساطات ، ويجعله لغة للقلوب الصادقة و الفورية منغمسا في قطرات المطر .
"كلما كتبت كلمة جديدة ...
تنفتح امامي نافذة جديدة
حتى انتهي في العراء(الربيع من ديوان البدوي الاحمر)
في احدى حواراته يصرح " لم اجد نفسي في خيمة التنظيرات . اردت ان ابقى وفيا لتجربتي كماهي . اذ لم اكن متم بالشكل بل بالاحساس القادم من تجربة ما و معاناة ما . فليس في شعري رموز او اسطورة "(محمد الماغوط اغتصاب كان و اخواتها ،خليل الصويلح)
لقد عاش الغربة مع جماعة الشعر ، حيث  اقتحم سكون بداهاتهم و استبدادها ، معلنا عن نهاية التدجين ، فالشعر في نظره حيوان بري حر ، الوزن و التفعيلة و القافية تعتقله .  فلقد حول  الشعر " من الصومعة الى المقهى " . انه فعلا بدوي كما كانوا يقولون ، لكنه بدوي ازقة و ارصفة  ، متسكع في الحياة و متمتعا بسقوط المطر، بدل إنتظار سقوط الغيث  كأي بدوي كلاسيكي،  على  الارض داعيا الله ان يحولها  معه الى عشب اخضر . بدوي وحشي يصيد الحيوات و يحولها الى كلمات عاهرة لاتخضع لقانون . هو نحاث جميل لفعل الخرق ، حيث يحوله الى تمثال فاتن يتبول على القوانين و المعارض الفلكلورية . هو ضد الجدية حيث  يعتبر كل انسان جدي مريض وفيه خلل حيث ينسج حياته كغرفة بملايين الجدران.هو شاعر زوربوي (زوربا اليوناني )، يرقص و يغني ويكره  البنادق ، فالحياة رغم كل مرارتها ، لا تحتاج  دائما الى بطولة جندي ، بل في غالب الاحيان الى رصاص قصائد و  كثير من البساطة و العبث .
محمد الماغوط عاش التعاسة و العذابات في قريته " السلمية"  ووسط  اسرته  الفقيرة، فتعلم منهما السوداوية و الحزن و التمرد . فحول خليط احاسيسه هذه الى وقود كلمات عارية و مندفعة ، الاهم فيها ليس الشكل  بل ما تحمله من مشاعر صادقة  في مواجهة التصنع المجاني ؛ الذي يقدس وضعية النقط في الجمل او نحوية المفردات، و يستبد بالارواح و عريها و يحاول سجنها في قيود من ذهب شعري موضوع بعناية من طرف القبيلة الشعرية. محمد الماغوط صعلوك فوضوي مقاتل ضد سجن مشاعر الجماعة  لفائدة احاسيس الفرد، الم يصرح في احدى حواراته " انه يحزن ان نال احدهم صفعة ، اكثرمن حزنه على استعمار بلد "  .  كان يتقن  امتصاص احساس الفرد ، ولو سبب ذلك في  الموت الجماعي في ساحة الشعر . وهو وحش طليق يتحدث بواسطة شعره الى روحه الطوافة البرية و لا يهمه  الآخر .  فجمهوره ، ارادوا ام لم يريدوا، هم ضحايا روحه و طرائد سهامه  و قرابين معبده الشعري .  لقد كان لايحتمل  توظيف  الرموز و  الحواجز في قصائده فقد صرح :"اني احب ان اطلق الاشياء كالصرخة او الطعنة . و مامن طعنة تصيب هدفها ، اذا جاءت الي متعرجة الطريق او مترددة . و لدي قناعة قديمة هي انه لايمكنك ان تصيب أي هدف و يدك ترتجف" (محمد الماغوط اغتصاب كان و اخواتها ، خليل الصويلح )  . كلماته رصاصات مباشرة من بندقية  روحه واحاسيسه  ، لكنها  ليست  هيكل عضمي بئيس في قاعة درس ،  " انا لااكتب اذا لم اكن مثخنا بالجراح "كما قال في نفس الحوار . فهو سياف للكلمات بامتياز يصيب قارئه في الروح و يدميها مطرا و صديد غابة . اختار ان يكون غرابا هداما و سوداويا ، فالشعر في نظره فيه جانب كبير من النواح ولايهم نوعه زغاريد او بكاء .
"نُصفُهُ نجوم
ونصفه الآخرُ بقايا وأشجارٌ عاريه
ذلك الشاعرُ المنكفيءُ على نفسه كخيطٍ من الوحل
وراء كل نافذه
شاعرٌ يبكي ، وفتاةٌ ترتعش ،
قلبي يا حبيبةٌ ، فراشةٌ ذهبيه ،
تحوِّم كئيبة أمام نهديك الصغير . "( قصيدة رجل على الرصيف)
محمد الماغوط  طفل صغير داخل شاعر كبير ، استوطنته القصائد فروت روحه العطشى للدهشة و العري ، فالطفل يكون في ابهى لحظاته  ، عندما يرمي لباسه في حوش الدار ساخرا  من والديه كالقرد المتوحش الصغير .ولاينسى ان يرقص على موسيقى صيحاتهما وصيحات الجيران خارقا  سكون  زمن القيلولة. فقد قال يوما " انا طفل لدرجة استطيع ان اشم معها رائحة الحليب على شفتي ".
قصائد محمد الماغوط  حيوانات برية حرة ، اصطيادها يحتاج ضوء القمر و روح ممزقة حلوة تعشق الارصفة والتسكع في الازقة و الحانات و تحث قطرات المطر. كلماته  صعبة على  الترويض، وتعشق التحليق في الغابات و البراري .لقد رحل عنا محمد الماغوط و في فمه سيجارة ، لقد ذهب مع مروضته الوحيدة ،  تاركنا في صمت مزعج و في وحش  كبير لروحه البرية  الجميلة ، التي رغم كل شيء ترقص لنا في قصائده المجروحة بالموت القادم من الشرق .
" اخذوا سيفي كمحارب و قلمي كشاعر و ريشتي كرسام و قيتارتي كغجري ...
وأعادوا لي كل شيء و أنا في الطريق الى المقبرة ...
ماذا اقول لهم اكثر مما يقوله الكمان للعاصفة "(مرآة اخيرة )