الواقعية في شعر الشاعر المغربي" عبد القادر زرويل " من خلال ديوان " جدائل الشَّمس " ـ سعيدة الرغيوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse26084تقديم:
عندما يَتَلَوَّنُ الشِّعر بلون الواقع وقضاياه، فإن الشاعر ينخرط بكل حواسِّه ونبضاته في ذاك الواقع لينقله لنا ويجُسَّ نبضه بكل تفاصيله ووقائعه بكل صدقٍ.ولمَّا كان الشِّعر تعبيرا عن الوجدان والعاطفة أيضاً،فإن المبدع بصفة عامة والشاعر على وجه الخصوص يُمْسك يراعه بكل صدقٍ لينقل لنا تموجات هذا العالم وهذا الواقع بكل تلاوينه وتجلياته، بكل شموعه المُضيئة، وبكل سوداويته وقتامته.
إن جدائل الشَّمس1، ديوان شعر للشاعر المغربي "عبد القادر زرويل"2 المنحدر من مدينة جرادة المغربية في الشرق المغربي، الذي استفزه الواقع بكل ألوانه وأطيافه، فكان الشعر أداته للتعبير والانخراط في هذا الواقع.
يَفْتَتِحُ الشاعر ديوانه الشعري بالتَّساؤل عن ضوءِ القمر الذي غَيَّبَهُ المُتَلاعِبُون بالكلمات، والذين ما فتئوا يطبِّلون ويُزَغْرِدُون ويَعِدُون الكادِحين بالصَّبر،هم – بطبيعة الحال- يبيعُونَهم الوهم والسَّراب.

يقول في "لعبة كلمات" ص 4 -  8 من الديوان:
أَرى الأيام حُبالى
بكل عجيب وجديد
يُسايرها صناع كلمات
بالطبل والزغاريد
يخيطون للكادحين
من جميل القول
ثياب الصبر
فأين هو ضوء القمر؟
فهو يستعين باللغة الانزياحية نحو:( يخيطون للكادحين من جميل القول ثياب الصبر).
والحلم الملعون يقتل الفعل والحياة...تفجر فيها الكلمات سنابل ...الخ).
هُو التَّوْقُ للتَّحرُّر من قيود الإذلال والفقر والفساد الداخلي يتبدَّى في شعره المضمَّخ بالألم والحزن.
إذ الجو النَّفسي يتجلى ويتمرأى من خلال النبض الشعري المُوغل في الذات الإنسانية التي ترزخ في ظلال المرارة، فوَهبَ وهَبَّ قلمه لتصويرها.
تتعاقب الصور الموسومة بالقتامة والتي تُعَرِّيها النصوص الواردة بين دفتي ديوان " جدائل الشَّمْس".

ونغوص مع الشاعر " عبد القادر زرويل" في جدائل الشمس، ومن تصوير جميل ودقيق لبائعي الوهم والسَّراب الذين يجعلون من الكلمات لغة لإسكات صوت الكادحين، المعذبين الذين يُعانون في ظل سوقٍ ساستها المتلاعبون بالكلمات إلى شذرة موسومة بـ" غسق" ص 9
غسق
طوال الوقت/ تنام المدينة
  ثملـة
 معذبة
   ممتعقة
...       
هنا ترتسم صورة الموت والنوم وغياب الكرامة في ظل مدينة مهزومة لا حراك ولا حركة فيها.
يقول في نفس الصفحة (( ص 9)):
...
مدينة ساحة للرَّقص
مشدودة بالمسامير ..

 وفي الصفحة 11-12  يصور لنا الشاعر مشهداً مؤلِماً لصبية تسْتَجْدِي الموت علَّها تموت وتنتهي صفحة الذُّل والعار وتنمحي وتحل محلَّها الكرامة.

وصبية دمعها
أنهار
تستجدي الموت
أن تموت
لتطوي صفحة الذل
والعار
وينمو العز، أزهار

هو الشاعر الثائر الذي يُناضل بالحرف وبالكلمة يُجَسِّدُ لنا مشاهد من قلب واقع يضج بالألم والمعاناة والتناقض والظلم، وتعتور ذاته مشاعر الدعوة إلى التَّحرُّر والانعتاق من براثين الظلم بكافة أشكاله والفقر والاستبداد التي يمارسها البعض في حق المُستضعفين.
هو الطائر الجريح الممزق الذي يحمله الحنين إلى مُعانقة الحرية في ظل تفشِّي الاضطهاد وعواصف الظلام والرعب والظُّلم، فيعكس لنا حالة الحصار والتَّضْيِيق، وهذا ما تشي به الأسطر أو الشذرات الشعرية المبثوثة في الصفحتين 13- 14 والتي عنونها " بحنين".
ويومِئُ الشاعر إلى أن شمس الحرية ماتزال بعيدة المنال والنَّوال في قرية تَئِنُّ من الفقر وترنو للخلاص وهذا ما يتبدَّى في نص "جُرح الرَّوابي"..هي جراحات تنِمُّ عنها المفردات التي وظَّفها الشاعر في نسج مشهد آخر من مشاهد ولوحات الألم والجرح ص 15.
قرية نائية
أكواخ متناثرة
بسفح الجبل
حياة صعبة
متوحشة
رائحة الفقر
تتصاعد
...الخ.
نؤكد هاهنا، أن الشاعر قدْ أفلح في تقريبنا من حالة البؤس الذي  تعرفه القرية النائية، وقد أسعفته النعوت والأوصاف في وضعنا في الصورة عن كثب.، ونُلْمِعُ أيضاً إلى أنَّهُ بالرَّغم من بساطة اللغة الموظفة إلا أنه استطاع أن يجعل المتلقي للشذرة الشعرية يتحسَّسُ صعوبة الجرح في تلك الروابي.
وقد كان بليغاً لمَّا جعل للفقر رائحة تتصاعد الشيء الذي يدفع القارئ للتوقُّف هنيهات لتصَوُّر رائحة الفقر..هي اللغة الانزياحية تُشكِّل مِعمار النص الشِّعري.
إن حروف الشاعر في " جدائل الشَّمس"، مُبلَّلةٌ بالجراح المجتمعية الظَّمْأى للحرية، إذ يصور الانتهازي الذي يُقْبِرُ حياة العديدين ويرْقُصُ فرحاً على جراحاتهم..فيكُون مصيرهم النَّفْي إلى حيث تراكمات الفقر والجهل.
وضع قضايا النَّاس
بالدَّرج العبوُس
حكَّ إسْته
فأنعش المجلس
بالرَّقْص
...ص 18 من الديوان الشعري.
...توعد المعذبين
إعْصاراً
من الجهل والفقر
وكل أنواع الكفر
هدهد بطنه
توضأ بالانتهازية
فهي أريج يومه
...الخ ص 20.
يرْنو الشاعر من خلال قصائده إلى مُعانقة الحرية،وهذا ما تُترجمه أغلبية نصوص هذا الديوان الشعري،إذْ يرسم بعض خُيوطها...
تبدو أشعاره حزينة، وتسبح ذاته في بَحْر الألم والأنين والوجع ..هي ذاته تحترق وتَتُوقُ لمعانقة جدائل الشَّمس، وما الشَّمس إلاَّ شمس الحرية والكرامة الإنسانية المفقودة والمُغيَّبة، فهي الرَّغبة المنشودة، وهي الحاضرة في مَطلب الشاعر، الغائبة في الواقع.
هُو فُؤاده يغزوه العذاب ...يغيب عنْه الهَوى والورد، فهو المكبَّل بالقُيود وهذا ما يعكسه النص الشعري المُعنون بـ: " بحر الجمر" في ص 25-26.

يقول:
ياذا العذاب!
متى تنجلي
لم يبق بالفؤاد
هوى ولا ورد
...
ياجرحاً بلا قرار
تعذبني هاتـه
القيود.
هي حروف تستلهم الوجع فَتُورق شعراً ينْضح ألماً، يتوق الشاعر للانعتاق من براثين كل قوى التَّسلُّط والقمع والانتهازية، وتخليص الطاقات الخلاَّقة من التَّعطيل الذي يطالها والتي تُرْكنُ ملفاتها في الدَّرج العبوس.
في " جدل الملفات" ص 18، جاء على لسان الشاعر

وضع قضايا الناس
بالدرج العبوس
حكَّ إسته
فأنعش المجلس بالرقص
سكب الظلمة على الضَّوء
إلى قوله في ص 20
...
توضأ بالانتهازية
فهي أريج يومه
والمدينة تفاحـة
بين فكيه
يقضمها كالقرد

ينطلق الشاعر من الذات الجمعية التي تتخبط في المآسي الاجتماعية التي لا حصر لها ليصور لنا معاناتها وآلالامها وفواجعها.
إنَّه يمسك اليراع لِيُفْرغ كأس القلب المسكون بالحزن حتى الثمالة على ضياع حياة شعب في ص 28، وبالضبط في نص " صدى الساعة" يقول:

أأنت في ربيع العمر؟
أم ضاعت منك نبضة القلب
كم هي محزنة
دقات الساعة
دقة متعبة
وحراس حقوق الإنسان
ثمالى بالنعاس
فاستيقظ النَّوم
وما استيقظوا
يغُوص الشاعر في عمق الواقع ليرسم قضاياه،ومنعرجاته ويحلله، فتبرز نفسية الشاعر القلقة المضطربة في نصوصه الشعرية.
هي خيوط ومنعرجات اليومي ترسمها أنامل ومشاعر الشاعر المُتْعبة المفجوعة والموجوعة كما ألمعنا إلى ذلك في السابق من الأسطر.

كل لوحة في "جدائل الشَّمس" ،تعكس لنا معاناة ما، هي الانتظارات العميقة تحرق الأدمغة، تسرق السنين والعمر وتظل مجرد انتظارات عقيمة لاغير ص 31-32.

الزمن متعب
وسلة الانتظارات
الضريرة
فاضت
والحلم يحلم
ومواعيد كالأحزان
تحرق الأدمغة
ووعود عديدة
تقدم لنا بالشوكة
والسكين
لكنها هي الآكلة
منا
سنينا
وسنينا
الشاعر" عبد القادر زرويل" يُناضل باليراع والحرف،هو ينبري لتصوير القضية الفلسطينية والمفاوضات الزائفة التي كَثُرَ فيها  التصفيق والنَّهيق واقتسام الكعكة، هو المصور الفتوغرافي،لكن أداته الحرف الثائر، وشعاره رفض كل أشكال الزَّيف، وهذا ما ينِمُّ عنه نص " مفاوضة " ص 43 من الديوان.

مفاوضة

بالأمس و كالعادة
على مائدة المفاوضات
ناقشوا ألوان العذاب
هل هو أسود فاقع
أم يميل إلى البياض
    الدَّاكن؟
    فاختلفوا كثيرا
    كثيرا
    كثيرا
    وبقي العذاب مستمرا
    مستمرا
     مستمرا
هي شعرية النِّضال يرسمها حرف ألق بنكهة السَّرد، ويمكن أن نسمه بشعر المقاومة في ظل الجرح الذي كانت تعيشه الذات العربية عموما والفلسطينية على وجه الخصوص.

إن الشاعر يعبر عن خوالجه التي يمزقها الجرح، وهذا ما نستشفه من قصيدة" قلبي طائر جريح " في ص 49-50.
يقول:
قلبي طائر جريح
والكلاب لا تكف
    عن النباح
والصمت بعد الصمت
    سهم نافــذ
    أصـــم
استنتاج:
أن يُسَيَّج القلب بسِيَاجِ الحزن والكمد،ويُفلح الشاعر في نقل ذلك إلى المتلقي بكل بلاغة وكأننا بصدد بلاغة الصورة « Rhétorique de l’image » ، فهذه قمة الشاعرية والتصوير المُبدِع وإنْ اتَّكأ على السرد.
لقد عمِد الشاعر بقلمه النَّازف الثائر إلى تصوير بشاعة الذِّئب الذي يسفك الدم العربي، وينزع الشاعر إلى التعبير عن ذلك بلغة مباشرة بسيطة قريبة من المُخاطب العادي، يهيم الشاعر على وجهه وتفر منه العبارات القمينة بالتعبير عن بشاعة الوحش الحاقد، ويتضح لنا هذا بجلاء من خلال ص 46-47 في نص شعري عنوانه " هائم".
...
فهل ضاعت كل الكلمات
التي تعبر عن رغبة
       هذا الوحش الحاقد
شعر " عبد القادر زرويل" شذرات تنكتب لوحات قاتمة معبرة عن قضايا عدة عاشها الكاتب أو عايشها أو عاينها...فينتصر لديه نور الفكر على الظلام رغم الفواجع،رغم اللَّيل المُوغل في الظَّلام ..سينجلي الظلام وتنقشع الأنوار،فالشاعر يؤْمن بالفكر التنويري الذي ينْمَحِي معه بؤْسُ الظَّلام، وهذا ما نلمسه من الشذرات الشعرية الكائنة بالصفحة 50 في نص محال عليه سابقاً " قلبي طائر جريح".
الطائر الجريح لا ريب عندما يزول الظلام وينمحي، سيلوح الفجر الساطع ونور الحرية وسيصير طليقاً حرا.
وأنا أتجول في " جدائل الشَّمس" لم أحترم الترتيب الذي اعتمده الشاعر في ترتيب نصوصه، بل فضَّلت أن أنتقل بين أزاهير وقطوف شذراته المُبَلَّلَة بنبضاته وخفقات قلمه الثائر طوراً، النَّازف طوراً آخر، والتي هي انعكاس لصوت المجتمع ولصوت الذات الموجوعة التي تَتُوقُ للخَلاصِ من الظُّلم والاسعباد والقهر...الخ، والتي نقلنا إليها الشاعر " عبد القادر زرويل" بكل صدقٍ، فهو المتمكن من أسرار اللغة.
وفي نص أمريكا الدمار ص 36-37-38-39، يُصَوِّرُ لنا الشاعر آلة الهدم والدَّمار الأمريكية التي تُعْدم السَّلام وتعْزِفُ وترْقُصُ على جراحات الشُّعوب، والعراق أنْمُوذجاً للبلد الذي دمَّرته وأبادت شعبه...في الوقت الذي تبقى الحلول سجينة التَّنظير والجدل العقيم.
يقول في نص " أمريكا الدَّمار":

أمريكا آلة الدَّمار
تذبح الأمم
تقضم غصن الزيتون
        الأخضر
        لا ترحم...( ص 36).
وبِنَفَسٍ حمَاسِي  يدعُونا الشاعر من خلال نص "رائعة الخلود" إلى النِّضال وتَرْكِ أزياء الصَّمت والهوان للخلاص من الظُّلم ..هو مرتبط بالقضية الفلسطينية التي اغتصب الإسرائليون أرضها ومنعوا عنها الإعانات يقول في ص 58.
فلنناضل
    ولا نلبس أزياء الصَّمت
    والهوان
    ونرد الظلم مهما كان
    فكل الحدود خائفـة
    حتى صدقات العطف
    لا تمر
    أقسم أن قطــرة دم
    من جرح صبي بغزة
    تثبت حق البقاء والعودة
خاتمة:
عنْدما يُمْسك الشاعر المُبْدع يراعه، ويَتَماهى مع الموضوع الذي يشتغل عليه لانستطيع أن نَمِيزَ بينهما ..إذْ يحْصُلُ التَّماهي بين الذَّات والموضوع، وهذا ما نلمسه في ديوان " جدائل الشَّمس"، الديوان الشعري المُضَمَّخ بأحاسيس الشاعر الثورية.
وكأن بالشاعر يُمْسِكُ بألة فتوغرافية فيعمد لتصوير الواقع وتقريبه من القارئ/ المتلقِّي بأسلوب جميل ويستعين بصور شعرية بسيطة، إلا أنها تظل باذخة وأقْدر على التأثير، فينفعل بها القارئ بسرعة.
ويبقى ديوان " جدائل شمس" أنموذجاً للشعرية الواقعية، ويبقى الشاعر "عبد القاردر زرويل" ابن بيئته الذي يتوغَّل في مسالكها ودروبها ومنعرجاتها، والذي يمتطي اليراع للتعبير عن مختلف تمظهرات الواقع وتموجاته وتناقضاته، والشاعر ينطبق عليه ما قاله " محمود درويش":
أظن أن كل شاعر
في العالم هو
يحلم، يحلم بأن
يكون صوتـه
صدى صوت
     الأخرين.