جمالية الرمز في الشعر الأمازيغي بالأطلس المتوسط : قراءة في قصيدة " موحى أولحاج" ـ مصطفى أنكزدم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Anfasse12114على سبيل البدء
ان الاثار الابداعية الخالدة هي التي تملك مقدرة خارقة على اختراق معالم الحاضر الانساني في بعدها السطحي وبناء أفق جمالي ممتد تتبدى معه أحوال التأسي، وتتغير من خلالها فيزيونوميا النصوص السابقة المقبلة على قراءة النص على حد تعبير "رولان بارت" (1)، وتنكشف الواجهة العاكسة لتفاصيل اللحظة الضاربة في الماضي والمتغلغلة في  تخوم المستقبل.
ابداعية الابداع اذن تتلقفها أنامل المبدع بما تغدقه من حيوات تحكمها هواجس الكتابة، المرتع الذي يستوعب جزئيات الكينونة المبدعة قبل أن تنظمها الذات القارئة والقادرة على لملمة دقائق المنثور  من خلال طقسها الاعتيادي يضمنه التماهي اللامحدود و المفتوح أمام سحر الأثر الابداعي ...
انفتاح الابداع وامتداد أفقه الجمالي تضمنه سحرية الأدب باعتبارها طقسا احتفاليا يؤثثه حضور المبدع من خلال الاستلهام وتخليد النص واسبال الستار عن الاستثنائي  فيه باحترافية تخلقها الدهشة(2) الناجمة عن زحزحة الانتظارات القبلية والتي يخلقها المبدع من خلال النص في نفسية القارئ، عبر تخييب أفق(3) توقع هذا الأخير  الذي يتلقفها بشراهة تدفعه نحو التماهي مع تقلبات نبض هذه الاثار الخالدة وميزاجياتها المتلونة.

المسافة الجمالية اذن، بين النص والقارئ، رهينة برهافة التلقي الذي يرتبط ارتباطا عضويا بماهية النص المبدع وغياب قدرة التحرر من قيوده، وخضوعه لسلطة الأنا الرمزية والحاضرة في النص وعبر النص، كل هذا يبرز العضوية  الرابطة بين التلقي والابداع عموما، والشعر بخاصة،  لما لهذا الأخير من ألفة الى النفوس وعهدة بين القلوب...
من هنا يكون الشعر مرآة عاكسة لوجود الانسان الأول حاله وأحواله، وتكون الشعرية الأمازيغية الشفهية(4) بالأطلس المتوسط مرتعا وقادا تبث من خلالها الذات الشاعرة كل الحنين وكل الشوق والتوق ... تتغنى من خلالها بالمأساة ونقيضها، والملهاة ورديفها... بشكل يضمن لها الرقي والخلود في طابور الآداب العالمي ...
الشعر الأمازيغي الشفهي اذن يعج بروافد الاحساس المتنوع، تتقاطع في تفاصيله معالم البطولة والمفاخرة كما تنبت في ثناياه بذور المعاناة والمأساة، خاصة وأن جغرافية نشأته تمتد بقساوتها وقساوة قاطنيها الى تخوم القصيدة فتخضعها للنفس الحزين المأساوي، ومن ثم يكون أن نتحدث عن حضور مطلق للعلاقة الهيجيلية(5) بين الأدب والمأساة داخل البنية الشعرية الأمازيغية بالأطلس المتوسط لها مقومات تميزها وسحر يضمن لها الدهشة وتخييب افاق انتظارات القراء.

أولا- موحى أولحاج : مأساة شاعر أو شاعر المأساة
لا زالت قريحة الأجداد بالأطلس المتوسط تحتفظ للتاريخ وللأحفاد بمأساة شاعر " أنشاد" خلد نفسه كأبرز شعراء المأساة بالأطلس المتوسط، شاعر عشق الأرض وركب البطولة مدافعا عن الوطنية الثاوية في ثغورها المحتضرة خلال السبعينات من القرن الماضي،  بشهامة رجالات الأطلس شارك " موحى أولحاج" في حرب الرمال سنة 1963، قبل أن يتعرض للاعتقال من قبل جبهة البوليزاريو ومن ثم تم أسره ونقله الى سجون مخيمات تندوف بعيدا عن أسرته وأفراحها وابنه الوحيد "مصطفى"، قاوم شوقهما ولما نفذ الصبر نظم قصيدته، "قصيدة الصحراء"، كل ذلك جعل منه شاعرا فحلا ومناضلا شهما وانسانا غيورا على ثرى  ترفض  أنفة شاعر مثله طمس معالمها ونسف حضور أنا الجماعة منها.
من حاضرة الأطلس المتوسط بمنطقة "بومية" الى أقصى نقطة بالجنوب المغربي كانت رحلة " موحى أولحاج " المأساوية، غايته تحرير الوطن ومجابهة المحتل، زاده في ذلك الصبر والرغبة الجامحة  في مواجهة أعدائه، والكلمة تقيه موج الشوق حين يجتاحه خاصة بعد أن أضحى أسير حرب ذاق مرارة العذاب والأسر ثم  مرارة التوق الى الأهل والأحباب بعد ذلك.
أ‌-    مطلع القصيدة
هذا الحنين والاغتراب الذي أصبحت عليه حال الشاعر المناضل دفعه لينسل من قبضته الخانقة، ويحتفل بكيفيته الخاصة بالذكرى عبر الكلمة الموزونة المقفاة، تخطى  من فجاجها الجغرافية الممتدة بشهامة منقطعة النظير، تحدى الصعاب وتجاوز البقاع والأصقاع حتى ارتمى في حضن " فاظمة حوسى تامحجوبيت" الأخت الملهمة للقصيدة أو أنا الشاعر الثانية، كيف لا وهي منبع مأساة الشاعر في القصيدة، والشبح (6) الذي يؤرقه وهو في الأسر والمنفى، هذه الروح الوقادة في كينونة الشاعر يستحضرها بقوله:
مكي كسان الصالحين أداينود لعور    (بركات الأولياء حين الصعاب تواجهني)
هان أفرون غوري نكاد اخف ا لعواري   (تحملني الى ثراكم وبينكم تلقيني)
      هذان البيتان يبرزان بشدة مدى تعلق صاحبنا بمسقط رأسه، اذ يفصح عن الوله الذي يقطنه ويسفك به بشدة حتى يستنجد بالأولياء لكي يمنوا عليه بالبركات حين الصعاب تواجهه أملا في أن يبلغ المقصد، وهذا ما تأتى فعلا لما أعاروه جناحين حملاه عاليا محلقا عن كل دنيئة تفسد عنه عودته الوهمية الى مرتع الطفولة والذكرى.
بهذا يكون المقصد قد استهل  قصيده بايمانياته الروحانية(7)، شأنه في ذلك شأن زمرة من شعراء الأطلس المتوسط، بدل الارتكان الى المقدمة الطللية، كما أثر عن الشاعر الجاهلي، رغم علاقته الممتدة، أي موحى أولحاج، بالأرض والطلل، وهو الأسير المبعد قهرا عن المنبث ومسقط الرأس، تتعد التأويلات لذلك لكنا نرجح أن يكون الأمر على صلة  بنشأة الشاعر بالقرب من ينابيع التدين المتمثلة في الزوايا الواثبة في عمق جغرافيته، وهذا ما من شأنه أن يؤثر على تربيته الدينية ومن ثم على حياته بصفة عامة وأشعاره بشكل أخص، أولا، ثانيا، لعل احساس الشاعر بفقد أمل العودة الى حضن المكان الحاضر بقوة في ذاكرته بكل تقاسيمه ومعالمه الدقيقة، جعله يستنجد بالقوى الخارجية المانحة للأمل والصبر والالهام الكافي حتى يفرغ فيه ما تبقى من أحاسيس تقض مضجعه  لعلها تريحه فيستريح ويواجه مصيره بالصدر العاري، فجاءت القصيدة مستهلة بمرجعية الشاعر العقدية، حيث يقول في بدايتها:
       أذيك سرزمخ  ايمي أكيزورخ تراخ كشا  (  باسمك أفتتح كلامي متوسلا )
      ربي لباب نا تركالد أدست رزمد ايمي    (  اليك ربي افتح باب الرجاء قليلا )
حيث رجاء الشاعر من الله تعالى أن يمنحه القوة الكافية حتى يتمم قصيدته لما استشعر ثقل البوح والألق المثقلة به كلماته الفضفاضة شوقا وعشقا ونصحا وعتابا ...،لعل هذا ما أحسه الشاعر لما انعزم الخليط من مقلتيه رحيلا حتى كاد يسقط الكلمة من فاه لما خرت قواه من هول الاحساس وغزارته، وهيجان العاطفة التواقة الى الحضن الدافي بعيدا عن الوضع القاسي, حضور هذا بالقوة تحول الى حضور بالفعل  لولا الحاح البوح الباكي الذي امتطى صهوته.

ب‌-     حضور المرأة في حياة الشاعر
لم يكن الحاح الشاعر  على بلوغ غايته الحاحا عرضيا ولكن كان استجابة وصدى عائدا عن الفقد الذي عاشته أسرة الأسير وخيم عليها حين اختار وجهة قلما يعود مرتدوها، انها وجهة الحرب والأسر والفقد والحنين والشوق والموت والخلود...،هذا النفس الحزين الذي خيم على الأهل والأحباب اختار الشاعر أن يقاسم ذويه فيه، ويشاركهم كل  لحظة بلحظة  من لحظة الحزن عليه الى لحظة الأمل في رجوعه ثم لحظة الفرح بعودته من خلال قصيدته التي ينظم فيها:

الان يو ديستما  لتروند  غيفي            ( دموع الأم والأهل تنهمر )
اسيبي  أنوجدي  كري  دي  كون  تيسوريفين ( لرحيلي عنهم  لوعة لا ترأف )
فالشاعر في هذه  الأبيات الشعرية يفصح بجلاء عن عاطفة نجلاء اجتاحت لواعجه وكينونته حين توقع بحدسه الذي لا يخطئ ،خلافا لخطأ الأقدار بمصيره، حالة والدته واخوته اللاواتي أعياهن البكاء والعويل بعد أن انقطعت الأسباب بينهن وبين أخبار الأسير الغائب عن العين، الحاضر في الذاكرة والوجدان.
تعلق الشاعر بالعشيرة والجماعة لم يكن أكثر شأنا من رابطته بالأخت " فاظمة حوسى تامحجوبيت" لم لا وهي حاضرة وجوده واستمراريته رغم عبثية الأقدار به، انها  منسوخه ووجدوه الثاني، منتهى الوصايا وصائنها  متى  باغته الموت وهو في الأسر، يدب في نفسه حزن عظيم يصيبها، وتأسف نفسه على حاله متى تناست غيابه بين لحظات أفراحها...
رابطة " موحى أولحاج" ب"فاظمة حوسى تامحجوبيت" تعكس صورة المرأة في حياة الشاعر بالأطلس المتوسط، موطن الأسى والشقاء، رماد الألم الذي ينبعث منه الأمل قبل أن يزهو في الغمام، اذ طالما استنجد الشاعر الأمازيغي ، في غياهب حضوره  بالمرأة تغزلا تارة:
 ( اتاربات نا كيعدا زين ماكميورون .... اد اليس نوايور ماد الماس نافوكت)
     أو عتابا وشوقا تارة أخرى ،كما هو حال الأسير ( أسير الفقد والحب) مع " تامحجوبيت" حين  يردد  على شفتيه اسمها على مرتين من وراء حدود الموت:
أفاظمة حوسى تامحجوبيت أثنا مي        (  فاظمة حوسى طيفي الذي صرت
كيخ أسمون كمكان ثانيلا كول                   في كل المناحي لا أفارقه )
أفاظمة حوسى تامحجوبيت أثنا مي        (  فاظمة حوسى طيفي الذي صرت
كيخ أسمون كمكان ثانيلا كول                   في كل المناحي لا أفارقه )

من هنا تبرز مكانة الأخت في حياة الشاعر وهو البعيد كل البعد عن أحضانها وأنفاسها التي تشعره بدفء اللحظة وان كان ذلك عبر الاسترجاع والمخاطبة الروحية بينهما، قبلته الثانية ووجهته التي يقصدها الاحساس احساس " موحى أولحاج" وهو الأسير المأسور في التخوم، توأما الروح في كل المناحي قصدهما واحد حتى وان كان للبون بينهما قرار اخر، يبرز  ذلك بجلاء من خلال ترداد اسمها في القصيدة رغم أن  حضوره على مشارف الموت والاندثار، ويأتي عتابها لما أقامت أفراحها على كاهل أقراح أخيها، لما قررت الاحتفال بزواجها من دون احترام غياب الشاعر وأسره، لتزيده مأساة الى مأساة وأسرا الى أسر.

ج – تجربة الموت والحياة
هذا الحضور- الغياب للمرأة في حياة الشاعر الأسير جعل منها مرتعا للأحلام المراودة له وهو يجابه الموت، لم تكن لتتركه وحيدا في المعركة  التي من خلالها استأنس واستحضر تفاصيل المكان ومعالم الزمان وتقاسيم الماضي الممتد في الحاضر، فالمرأة اذن فيصل القصيدة وبوثقتها لكشف الواقعين، حضورها فيهما تحول بتحول احساس الشاعر بين تجربتين، تجربة الموت وتجربة القصيدة ( الحياة)، وما بينهما تتوشح المرأة بلباس الأمل والاستمرار والامتداد...
الانفلات اللاإرادي من قبضة الوضع السليم الى الوضع المتأزم لم يصب الشاعر بالويل والثبور، بل أسبغ عليه نعمة الصبر والمجابهة حين يقول:

اوا ثلا لموت ثلي ثوذرث أذريا تيني       (حياة بالأمس وموت بالغد  لا تقل )
لينق لبارود ولا لثناق لمينا                 ( حتفي اليوم  بساحة الوغى مقرون)
ثنا ازمم غيفي ربي ثتناود سوذار         ( أقدار ترصدني ومشيئة الله تحرسني )
ربي أغايتارو خف ثاذوث لمعصياث      ( تدلنى على فلاح به حالي موصول )
أنشاد ( أو الشاعر) من خلال جس نبض القصيدة السالف، لا يقابل المصير بالوضع العسير، فالرضا بالقدر شيمته وهو يتحول من تجربة الى أخرى مجابها بذلك شبح الموت الذي لا يقرن عنده بالاخر السبب ولكن بالقدر المتسبب، صفة تعكس فلسفته في الحياة المؤطرة  بتجربة الموت والانبعاث من جديد، فوضعية الأسر ( الموت) لم تجهز في انيته على فكرة العودة  الى الأصل ( الحياة) وان كان من خلال السفر عبر القصيدة، ومعانقة أفراح المرأة( فاظمة حوسى) غاية القصيد ومنتهاه، ومكمن الشوق وموطن الأسى.
فالموت  والمنفى بحسبه لا يعادل الاندثار بل الاستمرار، يجسده الأخذ بقدسية الغائب ( غياب موحى عن الأخت والأهل)، وصون حضوره في دقائق اللحظات دون طمس  الكينونة الحية في المخيال الجمعي أو كما ينبغي لها أن تكون، أثر ذلك نلمسه حين الشاعر الناصح يهذي بما يلي:
اوا لرذد امجان سغذ اذا مفاسرخ أوال         ( أعيريني السمع أشرح قولي )
ثكيد يوت لفوت أوريكين ثيأولما                ( خطيئة اقرتفتيها لا تغتفر )
اولا ثكا معنا شا أوبريد امراين غيفي          ( وان هان سحرها على فؤادي ) 
مكا تمغران احزازن ثناقس ثاسا ( كيف كان زواجك بعد رحيلي الى حيث الأسر)
يجا أينا نكري ذو لما لكسور               ( أخشاه انتفاء عاطفة شبح يؤرقني )        
لا شيء يقسو على شاعرنا " موحى " غير الأسر وغربته والنأي ومنفاه، قلبه جراء ذلك مثخن بالآلام الصدئة  ليبقى بلسمه الشافي من قبل ذلك وبعده وجوده الأول وحيواته، حاول بعث حياته فيه وبينها من خلال نسج تحاور بخيوط الخيال تقمص فيه دور الناصح والمعاتب في الحين، عتاب الأخت التي ارتكبت خطيئة الاحتفال واقامة الفرح على أنقاض رحيل الأخ وأطلال غيابه، وعدم صون الذكرى العليلة...، وعلى الرغم من عبثية الأقدار هاته  لا يستوجب الأمر كل اللوم، في قرارات الشاعر، ما دام أنها لم تبلغ حد السأم الذي تسلل اليه وهو في حضرة الأسر والمنفى.
" أناقس النسا " ( انتفاء العاطفة ) شبح يخيف " موحى " في كل لحظة وحين، كيف لا والعاطفة " تاسا" وريد  حياته الأخير في قلب " فاظمة حوسى"ومعها العشيرة جمعاء، في مقابل مرارة المأساة الذي يتجرعها في قلب المنفى، وما بين القلبين شبح الموت يتعقب خطو الشاعر وهو يناشد الحياة.

د- سلطة المكان في القصيدة
لم تمنع تجربة البعد التي خاضها الشاعر قهرا لما رحل عن حضن الجماعة من العودة بالذكرى الى تفاصيل التجربة الأولى ومشاركة الأقرباء أفراحهم وأقراحهم، ومعانقتهم حزنا وغبطة، ومقاسمتهم طقوس العرس، ذلك كان لما اهتزت لواعج كينونته وارتعدت فرائسه لما ارتجت الفرسان المؤثثة  لحفل زواج أخته، حفل احتفل به في المنفى لوحده، قاسمها  فرحتها ثم بكى وحيدا وحرقة تفتك بحاله، فنظم قوله:

ايتوكم لفرح أمينسيك أميش منناي        (بلغتني أهازيج عرسك كأني شاركت )
اسام فرحن كل اركابيين نسرحانات          ( الفرسان فرحتهم وأنا في النأي)
اسنسا لعب الليك تيوكا صباح عنيكا     (  وكم رتلنا تراتيل الفرح حتى الفجر )
في هذه الأبيات من القصيدة  يتساءل " موحى أولحاج" عن أجواء الاحتفال بزواج أخته" فاظمة حوسى"(8)، استحضر من خلال ذلك صورة العرس الأمازيغي البهيج، صورة الفرس والفرسان وغبطتهم العارمة التي يحاكيها الصهيل  في تخوم السماء، بحضرة أحيدوس الذي تمناه الشاعر، وهو المبعد عن أجواء الاحتفال، لو دام حتى انتهاء الليل و الحزن وبزوغ الفجر والرخاء فرحا بالأخت الوحيدة مأساة القصيدة والشاعر...
غير أن تساؤل الشاعر عن الغائب المستتر عنه استهله باطمئنانه للبنان المخضب بحضوره الى جانبها ورؤيتها في حلتها المؤثثة بالحناء، هذا الحضور عقبه تساؤل واستفسار عن تقاسيم الحال، ما يحيل على تناقض نفسي يعيشه الشاعر، بين الحضور الافتراضي الى جانب الجمع وغيابه عن ذلك في الان نفسه، صراع نفسي تحكمه ثنائية الرغبة والعجز، ليكتفي  بالسؤال غير الشافي لغليله الوقاد بين ضلوعه.
ما بين رغبة الحضور الفعلي والعجز المطلق  الذي يحده، قرر" موحى" أن يسجل اسمه في هذا الليلة القمراء قبل طلوع الفجر، وذلك من خلال احتفاله ومشاركته للجماعة نشوتها في زمن واحد ومكانين متمايزين، لما حول جراحه الى أفراح، وكابته الى غبطة ،ولحظة الهزيمة الى لحظة النصر...، فأخذ ينشد باكيا:
 اثا اسعنوخامن زيكي شا لعمرات     ( وان كنت في الأسر قاسمتك)
رزيخ أغانيم نيك ايخف ايمولاتي     ( فرحة عرس بطلقات بارود أنس على أنس)
نكا لفرح أخاتار احوزاخ اورتانيذ      ( هناك حيث الطقس الكبير)
كوياس سا لعب الا ربح اذام غيفنخ الليد   (انت بؤرته حز في نفسي البعد )
اذام أحيدوس نس مكان شا نسل يس  (بعد أبعدك عن فرح دام حتى طلوع الشمس)
الامتداد الوجداني عبر الزمن والرغبة الأكيدة في مقاسمة الجماعة أفراحها جعل الشاعر، كما تدلي بذلك هاته الأبيات، يعايش اللحظة الأصل " أو النموذج" وهو في الأسر، يجعل من تقاسيم "اللحظة الزائفة" هنا امتدادا للفرح هناك، فحول، برهافة الاحساس أزيز الرصاص من غاية المأتم والموت الى غاية الفرح والحياة، فتخيل طلقات البندقية الموجهة الى العدو في  جغرافية الحرب طقسا احتفاليا يؤثث أجواء البهجة  داخل جغرافية العرس والفرح.
لحظة العرس هاته كما تخيلها الشاعر وهو في الحرب، تراءت له فرحا دائما حز في نفسه غياب العروس " أخته" عن بؤرة انيته، الانية أو اللحظة التي من أجلها غير " موحى أولحاج" والرفاق، الذين رق قلبهم لحاله، معالم الحرب ، دائرة الموت والاعتقال، الى طقس أحيدوس، دائرة ارتجال المواويل وتحرير الزغاريد، اهداء لأخت الشاعر ونسف حدود المكان وكبح سلطته على كينونة الأنا الشاعرة.
المكان اذن لم يمارس سلطته على نفسية الشاعر المتحكم في أبعاد الجغرافية واحداثياته، اذ يغيرها حتى تلائم دواخله النفسية وتحاكي لواعجه الذاتية، ومن ثمت تكون امتدادا للعوالم الداخلية المؤرقة، الحالمة والحاملة طموح الشاعر واماله التي ينشدها في كل لحظة من لحظات الوجود.
على الرغم من قدرة الشاعر على تطويع اللحظة المكانية وجعلها في أبهى حلل المحاكاة لكينونته، الا أن حضور التمايز، في خضم ذلك، يثقل كاهل "موحى" ومصداقية القصيدة، ليكون التحرر تحررا نفسيا لا وجوديا، انفلاتا خياليا لا واقعيا، لتبقى ديمومة المقام صبغة تنسف التماثل بين التجربتين، وذلك حين يهذي الشاعر بما يلي:
اشار ديكس لولوي أريد أموا تينيم     ( ومن صميم القفر انبعث زغاريد )
أوناس ذا يكات امش اكاين امتنيخ      ( زغاريد اليتم لا زغاريد الأنس)
لم تكن، اذن، لحظة الاسترجاع والهيام التي عاشها الشاعر في مقاطع القصيدة قادرة على تخليص" موحى أولحاج" من واقعه الحقيقي ووجوده المأساوي، يبزر ذلك لما افتطن وتفنن في اسبال التمايز بين حفاوة الوهمي ومرارة الحقيقي، حين اشارته الى ماهية غيابه عن الأول ومعاناته في خضم الثاني، ومن ثم تنتفي رمزية الزغاريد" لولوي" بالانتقال من طقس العرس الى أجواء الحرب، فرمزيتها في الأول تنفتح أمام الفرح ولحظة الانتشاء...، لتتحول في الثاني الى لحظة الحرب والحزن ولطم الخدود اشارة الى التمزق والفوضى التي يعيشها الشاعر في دواخله ويعاينها في خوارجه التي أذعن لها طويلا واستسلم لها لماما.

د- تراجيدية الانشاد ومأساة التلقي
سيزيفية الشاعر في حمله لصخرة الشوق والحنين المثقلة بها كاهله، لم يكن لها أن تصمد كثيرا لما اهتزت كينونة " موحى" بذكرى الابن الوحيد "سطافا"، الذكرى التي تغولت وفتكت بفؤاد شاعرنا الذي أخذ ينعي وجوده في مشهد تراجيدي يستحضر المأساة في أي مقام من مقامات التلقي، حيث يقول:
ماشا أوري ينغي غاس أيا ن لعيل فيري  ( ولم يكن مأساتي غير صبي ودعته)
ايوا مايمي ايتيني أبابا سغيي حلوى            (في الديار بعيدا عن القلب)
ما يمي غا اكر اغيل كتدارت أمكوياس         ( من بحضنه ينام ولا يأرق)
أدايسوقن واجار نا دنتمون كو سوق   ( وحيدا حين الصغار على السفح)
كوشى اعايدت سخامنس ابرع لواشون   ( كل أباه يرقب في الأفق)
وكيوك دايكر اغيل ابابانس أرثني تسال   (كل أباه يعانق شوقا)
ريخ اك قاللبخ اوا نزغييد ما يتيويد      (حاجتي ناولني وغبطة تسعدني)
الحرب والأسر والعذاب وفاجعة الموت وقتامة الحياة وجهل المصير وانقطاع السبيل ... لا شيء من كل هاته العناوين مؤرقة "لموحى أولحاج" أكثر من حنينه لابنه "سطافا" وفقده له، اعترف بذلك بفيه وأخذ يسرده بفؤاده داخل نبض القصيدة، مشكلا  مشهدا تراجيديا يبدأ من استحضاره لحال الابن  الوحيد ومصيره بعد غياب الأب الحنون.
من يتقمص دور الأبوة بعد الغياب؟ من يحن ويفتح الحضن للبراءة؟ من يلبي رغبات "سطافا" ويهديه الحلوى؟ من يشفق ويحمي ويطمئن ويداعب ويعانق... ؟؟ كلها تساؤلات تستفز " موحى"، تمزقه وهو في الأسر حين يستحضر حال الابن في مقابل الأتراب وهم يعانقون الآباء بعد العودة من السوق وفي أيديهم الفرح والسعادة والغبطة  للأولاد تنسيهم شقوة الطبيعة وتميط سواد طفولتهم التي اعتلت سحناتهم بالأطلس المتوسط.
في ثنايا هذا المشهد يبحث "موحى" عن تقاسيم الابن وحاله بين الأقران، لا أب يحضنه بعد العودة من السوق يهديه الحلوى، يمسح عنه الدمع والحزن، يغدق عليه من الحنان والأبوة، ليبقى الوحيد وحيدا والغريب غريبا، الأول تائها بين الوجوه باحثا عن التقاسيم المألوفة والحضن الدافي يرتمي فيه حتى يشرئب العطف والحنان، أما الثاني فيعتصر ألما ويندب غيابه عن الركب القادم من السوق، غياب، من دون تذكرة العودة، لم يستسغه الابن الذي امتطى صهوة الربوة  حتى الغروب منتظرا الأب الغالي لعل طيفه من بعيد يلوح مبشرا بالعودة الى الاحضان، حال أجهشت قريحة الشاعر فأخذ يهذي:
اقيم ايونو ثاما أوبريد هايحظو سوراعا       ( وابني لا زال عند الأفق)
أوا أورنيدي حاجي بابانك أسطافا        ( يرقب مجيئي وأنا غائب عن الركب)
يواشتينان ايلا غيفران نعاري             (أبوك طفلي بعيد عنك كل البعد)
كلوقت أمزخاس ايوغريب ألغيفش نالا   (بين الكهوف لا يهدأ من مقلته الدمع)
كيخ أحيود سثاسا غيفش أذيعمو ازرينو   (تائه الصحارى من شدة الوجد)
أمام هذا المشهد المؤثث بالحضور والغياب والانتظار والقلق والحزن، حز في نفس الشاعر طول انتظار الابن من دون أمل، وعودته الى البيت معانقا للألم، فقرر السفر عبر الزمن، سفر عبر القصيدة خاطب من خلالها "سطافا"، وأخذ يفصح عن حجم توقه الى مقلتيه البراقتين قبل أن يسرد مبررات الغياب.
لا ترتكن الى الانتظار اللامنتهي فلذة كبدي، اكبح  جماح الشوق داخلك، واعلم أن الركب لم يصحبن نحو قبلة السوق صباحا حتى أغدو نحو مقلتك مساء كما عودتنا الأيام ذلك، فاستتر عن رؤية حجيج السوق الى القرية فلا موطن لي بينهم، يقول "موحى أولحاج" مخاطبا " سطافا"، مضيفا: أتأسف حين أخبرك  أني الأسير في الفيافي، كهوف الجبال مسكني، وفجاجها جرفتها سيول الحنين، ودمع المقل الجارف لا يرأف بي لحظة كلما كان لك مرور بالبال، جنون الاشتياق يلبسني والعين ابيضت حزنا، والشوق يمزقني أملا في معانقتك.
حالة مأساوية  تشتد بالشاعر تتوقد أكثر في مقام الالقاء، فيتذرع للخالق الباري أن ينوب عن غيابه ويحتضن قداسة " سطافا" ويصونها من دناسة الدهر وصروفه، وذلك ما يتبين من قوله:
أنا مزاوك فيك أربي كيخ غيفك ليقين   ( فيك ربي رجائي ورجاء طفل ميتم)
اكيث غيرك يوك أفردي لسرون اشيران  ( جريح الفؤاد يبكي كل الأهل )
مناجاة للخالق وبسط لأكف الذراعة أمام جلاله أن يرأف بالأب وابنه، أن يصون الثاني في حضوره ويقيه شرور الوحدة، ويخفف عن الأول لوعته و حدة الاحساس الذي  ينخر أحشاءه.
محنة الأول ( موحى) في القصيدة  ومأساته فيها نابعة عن الألفة الجارحة التي نشأة بينه وبين الابن، عود خلالها العين وهي ترمق حياة ابنه ممتدة عبر  الزمن، ما جعل التعلق به ثاويا في أعماق الشاعر الذي تمنى لو أن الأقدار اتخذت قرارها في بداية العهد به لعل الأشواق ترأف بحاله قليلا، هذه الرجاء صوره بجمالية أرقى في قوله:
أوا مورديك بضيخ أسنا كرتطظم أللو    ( لو كان رحيلي منذ الأزل
أوريكمين واللن خف ثيدي نك أسطافا  ( لما علق فؤادي بك واهتز عن الفقد
أولا ثخاثر ثاسا نك ذيكي ذغي ثنغايي ( حبك في أحشائي يتنامى
وفاذ نيمنسي نا غرذانتمون كو ييض  ( وشوق الى تقاسيمك يقتلني
وفاذ نيمكلي نا غرذانتمون كو ياس  ( أتوق الى لحظات جمعتنا قبل أن تبعدني
ممي ادا ممي بوصروف واوال    الأقدار عن طفلي الذي يؤنسي
اوا اييون أفردي لتروخ كوياس     ( أيها الوحيد أبكي وحيدا بعد الرحيل
هذا المقطع من القصيدة يبزر بالواضح ما سلف، اذ الشاعر يزيح الوشاح عن الفؤاد النابض بحب " سطافا" وصبابته التي بلغت  حد السقم بعد الرحيل القصري والنأي عن وجود الابن الملهم.
ان الشاعر وهو يشكو ألم الفراق يستحضر معه دقائق الأوقات وتفاصيل الأيام  رغم طيها وانصرامها والزمن الجميل، لحظات موشومة في ذاكرته ما دامت تحتفل باللحظة النموذج، وما رافقها من مداعبة وبسمة  تعانق الشاعر ولا تنفك أن تغادره الا لماما، ذكرى عشقها الشاعر تمنى أن تضرب معه موعدا يريح فيها ابنه قهر الرعي    ويحجب عنه لسعات القر حين الحياة كان لها قرار في ذلك، الا أن أماني الشاعر سرعان ما تحولت الى سراب متلاش لم تنتفي معه الحكاية الممتدة عبر الزمن المخلدة في القصيدة( تنشادت).
ذ- قفل القصيدة
 ابن في اليتم ورحيل نحو المجهول قدر يخيف الشاعر، يبكيه حين الذاكرة تسافر به مرات داخل القصيدة، يجابه مصيره في الحياة ويواجه قدره فيها مفاخرا الدهر والزمن من خلال ختم القصيدة بتعداد سماته في قوله:
كيخ أخدام بو ثغراد أوريكي ذل غاس ايغيمي      ( باحث أنا عن لقمة عيش)
نغاد أزوار مشاكيتوكا ستوكاردوين           ( لا عالة  أجلب العار الى نفسي)
أوريوشي ربي لقمر أذي اعاير شا يس       ( ما أدنمت الدنيئة في المجالس )
اورا نكا معنا بو ابريد اتنوين عاري       (أذكر بها ولا أنا صاحب الشمائل )
بعد عرض لنفسية الشاعر المتأزمة جراء ما صاحبه من معاناة وهو في الأسر، نلمس في نهاية القصيدة ترنحه ومقاومته لوضعيته الجديدة المثخنة بالجراح، وذلك من خلال رده لمكر التاريخ والتصدي لعبثية الأقدار ومفاخرتها بخصال رجالات الأطلس من شهامة وأنفة ووفاء وصبر وبطولة منبعثة من الهامش المنسي... وغيرها من الخصال المتجذرة في كينونة الشاعر.
ولعل اختيار الشاعر سبيل الختم هذا، رسالة مشفرة الى قوى الأسر التي استطاعت أن تغير جغرافيته وبعدها المادي غير أنها فشلت في اغتيال الروحي داخل انيته المؤججة شوقا وحنينا الى الموضع الأول، بالإضافة الى فشلها في نسف المبدا الذي قاد " موحى" نحو مصير امن ببدايته وقاوم حتى نهايته، عل ذلك مفخرة ما بعدها مفخرة يهديها لابنه الوحيد يفاخر بها أترابه حين الكل يكشف عن هدية أبيه العائد من السوق.

ثانيا: جمالية توظيف الرمز في القصيدة
بعد عرض مقتضب لتفاصيل المأساة في حياة القصيدة تتوغل الدراسة الى عمق المنجز الشعري هذا، تتصيد معالم الجمالية فيها حتى يسبل الستار عن ابداعية الشاعر الأمازيغي عامة، ورهافة احساس" موحى أولحاج" خاصة، هذا المرمى يتأتى من خلال رصد للرمزي في القصيدة وكيفية توظيفه داخل بنيتها الفنية والتشاكل أو التعالق بينه وبين الواقعي وحدود الاتصال أو الانفصال بينهما.
لهذه الغاية تأتي العناوين أسفله كاشفة عن بعض حدود الجمالية داخل ملحمة " موحى اولحاج" المؤثثة بالرموز المتنوعة ذات الدلالة المفتوحة أمام تأويلات يحدها السياق تارة وتنفلت من قبضته تارة أخرى.

من مقومات التمايز الفارق بين الابداع الشعري وغيره من دروب الابداع الأخرى يحضر الرمز بثقل دلالاته المفتوحة المتجاوزة للمعطى المعجمي المباشر، الصرح الأولي الذي تشيد عليه رهانات المبدع وتتبلور من خلاله "الطموحات الجمالية " لدى القارئ الضمني المرافق لسيرورات الانتاج المفتوحة.
ولعل شاعرا مرهف الاحساس دقيق الوصف والتوصيف دسم الخيال مثل أنشاد " موحى أولحاج" يكون له أن يجد في اللذاذة غواية يستنجد بسحريتها أمام قتامة المأساة التي ما فتكت تفارقه حتى تزيد قريحته شعرا وبوحا عبر سلسلة من الرموز المتغيرة وفق دفقات أنشاد الشعورية، فنجد الرمزي في قصيدة " الصحراء" رزين التشكل والتشاكل مع الواقعي حتى انتفت دلالته المعجمية وأضحى المخفي فيها يعانق المعلن والمضمر يشاكل الصريح تباشره ذائقة التلقي متى سيقت نحو أفق جمالي  تخيب معه التوقعات القبلية.
وما دام الرمز في الأدبيات الشعرية لا يخرج عن كونه " أداة شعرية استحدثها الشاعر لتجاوز الصورة الشعرية المألوفة، ومحاولة اعادة بناء المعنى عبر استدعاء أماكن وأزمنة وأشخاص ..."(9)، وبتتبعنا لبعض ملامح ذلك في القصيدة، قيد الدراسة، نجد الشاعر قد وفق في تسييج فوضى الرمزية في نظمه لتتحول بعد ذلك الى لبنة أساس في تشييد المعنى.
1- الرمز الديني
سبقت الاشارة الى أن المقصد، كما يدلي بذلك فحوى القصيد، يستحضر في كلامه البعد الروحي بشكل لافت، وذلك حين استهل مأساته ببعض معالم ذلك حين الحديث عن "الصالحين"، هذا الرمز لم يكن ليوظف من قبل الشاعر بعفوية مباشرة أو في معناه السطحي بل جعل منه رمزا دينيا له ما يبرر حضوره في توطيد المعنى داخل البنية الفنية للقصيدة وماهيتها العميقة.
لفظة " الصالحين" في دلالتها المعجمية تدل على  الشخوص غير الاثمة، الفاعلة للخير والداعية اليه، لا تستهويها العبثية ودونية الدناسة موطنها الدائم  تحت لواء القداسة، تسعى الى تقديم المساندة وصون الذات من كل شر قد يلاحقها أو مكروه قد يجابهها...
غير أن صاحبنا لم يكتف بسطحية الدال هاته بل حاول أن يغوص الى كنه مدلوله الذي يكشفه سياق وروده داخل القصيدة، حيث يحيل الى سلطة المقدس المطلقة التي لا تصارعها القوى الخارجية لفرط جبورتيتها، فالأمر اذا لا يتعلق بالفرد الصالح والمصلح ولكن الأمر له  صلة بالأولياء الخير في شموليته، والقداسة في عموميتها باعتبارها زادا وعونا تحقق مارب الشاعر من دون نسبية قد تلحق هذا الدال في معطاه السطحي.
2- الرمز الطبيعي أو الجغرافي
تنقلنا قصيدة " موحى أولحاج" بين أجواء احتفالية مختلفة، وان كان ذلك بروح مأساوية تعكس نفسية الشاعر المتأزمة والمتدبدبة داخل فضاءات جغرافية متلونة منها ما سيق في بعده الأفقي السطحي المباشر، ومنها ما كانت تحكمه " سوء النية" أو عدم الاكتفاء بالجاهز بل الغوص نحو البنية العميقة للمدلولات التي تكشفها الدوال المباشرة.
ولعل المتلقي وهو يتلقى ويتتبع اثار الحضور الجغرافي أو الطبيعي في القصيدة يلحظ مدى قوة حضور البعد الرمزي في هذا المنحى، ما يدل على رهافة احساس صاحبنا حين يجعل من الطبيعة موردا فنيا مكملا للوحته الابداعية وليس مجرد مادة خام، لعل هذا نلامسه في توظيف "تكركورين"( تل صخري) في غير معناه المباشر.
فالتل صخري لا يخرج في أبجدية الجغرافيين عن كونه كتلة أحجار متماسكة تضمن صلابة الحجيرات الصخرية ومقاومتها لعوامل التعرية ...، الا أن عين الفنان تعامت عن مدلول " تكركورين" السطحي " البارد" لتتغلغل في العمق حيث رمزية ذلك ثاوية في تفاصيل مفتوحة يضبطها السياق ويفضحها في قيمة التآزر واللحمة التي تواجدت عليها أسرة " موحى" قبل الرحيل، وأضحت قابلة للتفكك والتعري والتشرذم ... بسبب الأسر والغياب عن ضمان هذا التكتل الأسري، والضياع في الفيافي بعيدا عن الحجيرات الأخرى المكملة "للتل الصلد" ( بريجا وسطافا) ...، ليكون من هموم الشاعر الالحاح على صون ثبات هذه الحجرة وان غاب عمودها، حتى أنه قال في نفس السياق " ثخانث نمامين أينا كاس نغاد قيميس...هاتين ثيواثمين أسكيطار لخير نغاذ أخوب ...".
أما الحضور الرمزي الاخر في هذا المنحى فنلمسه في اشارة " موحى " الى " افران نعاري"، فكما هو معلوم ،وكما صانت الذاكرة ذلك، أن مدلول هذا الدال لا يخرج عن كونه تلك المغارة المتواجدة في تخوم الجبال، يتخذها الانسان بالأطلس المتوسط ملاذا يقيه شقوة القر ويؤمن حياته حتى لا تضحى ضحية حيوان مفترس ...،فهي الراحة والرحمة في الان نفسه، يسعى اليها الانسان الأطلسي راغبا لا مكرها ...
غير أن القصيدة لا تحتفل بنفس المدلول والمعنى بل غاصت وراء سيرورات تأويلية(10) مفتوحة تقودنا اليها وضعية الأسير داخل القصيدة، حيث ارتبطت المغارة فيها عنده بالصحراء والفيافي، المكان الذي واجه فيه الأسر والعذاب والفقد، لتتحول المغارة الى رمز يحيل على الجفاء وغياب الراحة والرحمة وانتظار لحظة الموت من رصاصة غادرة أو أقدار ماكرة...
كما يطالعنها " موحى " في القصيدة أيضا برمزية طبيعية أخرى تتمثل في " أغانيم" ( القصب) الذي هو نوع من النبات  له شكل يميزه وطول يفرده، غير أن سياق وروده في القصيدة خرج عن الفهم المألوف وعانق معاني المعنى " بتعبير الجرجاني"، وأضحى رمزا يحيل الى طقس الاحتفال بالعرس والفرح والزواج... ، يكشف عن ذلك سياق احتفال الشاعر بزواج أخته(الاحتفال الذي لا يتم)، وحضوره الافتراضي الى جنبها وتكسير "أغانيم"(القصب) تيمننا بالعادة التي تجعل للقصب كل معالم الغبطة كما يوردها الشاعر في قوله :" رزيخ أغانيم نيكام أمولاتي"، ما يدل على قيمة حضور رمزية " أغانيم" في الثقافة الأمازيغية بالأطلس المتوسط  باعتباره سيرورة مفتوحة الدلالات ...
على سبيل الختم
هكذا بدأ وأنهى" موحى أولحاج" قصيدة "الصحراء" يصارع فيها المأساة وحيدا ويكابر حتى يبث ما أثقل كاهله بين أحضان الكلمة الموزونة، سلاحه في غمارها الاحساس المرهف الوقاد، سلاح أشهره في وجه مصيره بجمالية ولذة "بارتية"، يستحسنها القارئ تغريه ويقاوم اللذاذة قبل أن  تخيب افاق توقعاته في أكثر من مرة قبل أن يستسلم لإبداعية الشاعر ويتماهى  ونبض القصيدة وحضور الكينونات فيها، كينونة الاخت التي لم تحترم غياب الشاعر، والابن الذي يؤرقه هذا الغياب...
ولنا أن ننفلت قليلا من سحرية القصيد، لنأخذ مسافة جمالية تجعلنا نتفحص جزئيات الجمالي فيه كما تنبئ حصيلة التلقي وألقه الجمالي، ويمكن رسمها في النقاط الاتية:
- الشعرية الأمازيغية الشفهية بالأطلس المتوسط تحمل ملامح القصيدة الأمازيغية الغضة، بخيال شعرائها الطازج، وحضور الجماعة والفردانية بكل ثقلها في تفاصيل الابداع، المجال الذي يجعله الشعراء حيزا للحدث التاريخي الحق قبل أن تتشوه ملامح خلقته.
- مأساة الشاعر في القصيدة تتجاذبها ثنائية الحضور والغياب، الحضور القوي للعشيرة في مخيال الشاعر، ولعل هذا الحضور المؤرق هو الذي يرسم النفس الحزين في القصيدة، وغياب الشاعر عن دقائق ذلك يضيف اليها المصير المأساوي ...
- تلقي ملحمة " موحى أولحاج" يقوم على وجود بؤر ثلاث:
- بؤرة الأخت التي أجهشت مشاعر المقصد، لما خانت الذكرى وأقامت لنفسها طقسا يمايز وضعية الأخ الشاعر، الأمر الذي قذف في قلب هذا الأخير احساسا  بانشطار الذات مرة أخرى بعد وضعية الأسر ...
- بؤرة الابن " سطافا"، ذكرى الشاعر التي تحتضر تحت سوط اليتم والضياع والتيه ...، وما يصاحبها من عجز مطلق تهتز له كينونة الشاعر، وترتعد  فرائسه متى يطلق عنانها أمام محراب البوح والانشاد...
- بؤرة الشاعر أو البؤرة الاطار التي يتشكل ضمنها حضور الأخت والابن، ولعل تقاسيم هذا المعطى تنتظم من خلال وضعية الأسر التي يعيشها " موحى أولحاج"، وقوة البوح في القصيدة، وجلاء رسم الذكرى وأقطابها من الشخوص الى الأمكنة وما بينها من لحظات فرح وبؤس تتقاذف ذات الشاعر.
- انفلات الشاعر من سلطة المكان، وتجاوز اللحظة المأساوية المتولدة عن الجغرافية اللحظية، وارتماؤه بين أحضان اللحظة الأصل التي لا تستوعبها الا  جغرافية الشاعر الأولى، وذلك حين الشاعر يعايش الأهل والجماعة أفراحها وأقراحها على مسافة زمنية  بعيدة وجغرافية ممتدة  متناسيا  المصير المجهول الذي ينتظره...
- توظيف الرمز في أبعاده المختلفة ينم عن شاعرية الشاعر، وقوة خياله الذي يستع اتساع فؤاده لكل الأحزان التي تؤرقه وهو يعيش بين زمنين وجغرافيتين متباينتين في الحضور وبناء القصيدة ...





الهامش:

1- رولان بارت: لذة النص، ترجمة: فؤاد صفا والحسين سحبان، دار توبقال للنشر:س.:1988.ص.:56.
2- ينظر في هذا السياق  المشروع النقدي الذي تقدم به "ياوس" و"ايزر" في اطار ما يعرف بنظرية التلقي، اذ يرجع لهما الفضل الأكبر في استحضار المتلقي داخل العملية الابداعية بعد أن تغافلت عنه النظريات النقدية الكلاسيكية."نظرية التلقي بين ياوس وايزر":عبد الناصر حسن محمد، دار النهضة العربية،س.:2002.
3- المرجع نفسه. ص.: 15.
4- نقصد بالشعرية الأمازيغية الشفهية تلك القصائد التي صانت وجودها بالرواية الشفهية من جيل الى اخر، ومنها القصيدة الخالدة حيز الاشتغال، لما ناءت عنها تجربة الكتابة وأصبحت تقاوم الاندثار خاصة مع رحيل الذاكرة المستوعبة.
5- تتحدد هذه العلاقة في الصلة الوثيقة بين الأدب والمأساة تلخصها مقولة: "الأدب يسعد حين يشقى الأديب".
6- تحضر صور هذا التعبير المجازي من خلال الذكرى التي تتغلغل بالشاعر الى عمق الماضي، حيث الأخت المقيمة للعرس على الرغم من غيابه وأسره، ثم الابن الوحيد اليتيم المجهول المصير لدى الشاعر، وهذا ما يمكن أن نسميه بأقطاب الالهام الشعري المأساوي في قصيدة " موحى أولحاج".
7- يطرح الاستهلال في القصيدة الأمازيغية اشكالات عميقة مرتبطة بفنية القصيدة الأطلسية ومقوماتها الجمالية، ولنا عودة الى هذا النقطة في ورقة أخرى.
8- الاحتفال الوارد هنا هو زواج أخت الشاعر، وهو الاحتفال الذي لم يحترم فيه غياب المقصد أو استحضاره بالنصح كما جرت العادة بالأطلس المتوسط.
9- الرمز في الشعر العربي الحديث بقلم الدكتور أحمد الزعبي ( جريدة الرأي الأدرنية)،السنة.:2001.
10- تبقى الدراسات المخصصة للرمز في الثقافة الأمازيغية قليلة جدا لذلك جاءت هذه القراءة لتلامس الموضوع في بعض جوانبه في انتظار استقراء تام للمنجز الشعري.