وسائل الإقناع الحجاجي بين المتكلم و المخاطب: نحو مكون سيكو بلاغي ( 1) ـ د. عبد الجليل غزالة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse02046مقدمة
     يَمْلِكُ المخاطب مثل جميع الناس عقلاً يكون مزوَّدًا بالمعتقدات الاتفاقية ، والمفاهيم ، والأفكار ، والتصورات التي تفرضها عليه تربيته ووراثته ، فيقبلها دون أي تعليق أو إبداء أي رأي يذكر . إنه يكتسب هذه الأمور السابقة بمحض الصدفة من أسرته ، ووسطه الاجتماعي ، وحزبه ، وزملائه ، وجيرانه ، مع العلم بأنه لم يسبقْ له أن دقق في هذا الموضوع  أبدا .
    لاَ يَجِبُ أن يوحي المتكلم لمخاطبه بأنه يشبه رجلا آليا لا يملك نسقا سيكو خطابيا psycho_duscursive خاصا ، لأنه سيغضب ويتدمر . يزعم هذا الشخص أن الآخرين هم مجرد دمى أو مجموعة من المتذبذبين الذين يتم حشو أدمغتهم بالمفاهيم ، والأفكار ، والتصورات المتضاربة ، مما يجعله يظن أنه الشخص الوحيد الذي يملك عقلا نيِّرًا ومتحررا من كل الأحكام السابقة . لذلك تجده يكثر من التصريحات الخاصة بهذا الموضوع ولا فائدة من معارضته .
    بَيْدَ أنَّ دور المتكلم المُقْنِعٍ persuasive يكمن غالبا في تقويض أي حكم عبثي سابق لكن هذا الأمر لا يعد هينا ، لأنه ليس هناك شيء أكثر صلابة واستقرارا في عقل شخص معين من فكرة يصر باستمرار على صحتها ، ولا يرتاب أبدا في ضعفها. يمثل هذا الإصرار قسما مهما من قواعده العقلية .

   يَحْتَاجُ المتكلم العربي المُقْنِعِ للتسلح بالصَّبر ، ووضع خطة عمل سيكو بلاغي تقوم على قواعد معهودة ؛ أي أنها ترتكز على حكم سابق آخر يساعده على زوال نفوذ الحكم السابق الأول.
   يَقُودُ هذا الأمر إلى انتقاء ما يؤيد رأيه من بين الأفكار السيكو بلاغية التي يذيعها مخاطبه ، وشنِّ هجوم على الأفكار السابقة كما يبرز ذلك بين طيات الأقوال التالية :
   _  هَلْ تعتقدُ بأن هذا التاجر الذي يملك دكانا جيد الموقع والرواج يحترم زبائنه بالفعل ؟
  _   أنت ترفض تبنِّي هذه الطرائق العصرية التي أعرضها عليك .
  _   إن الرأي العام في المدينة يعدُّك مناصرًا للتنمية والتقدم .
    قَدْ يصرح المتكلم في ظروف ومواقف أخرى مستغربا من قول مخاطبه:
   _   أنت ما زلت تتشبَّث برأيك وتصر على أن التقدم الأخلاقي والعقلي للبشرية غير محدود .
    _  إنَّ العلم يصنع من بعض الرجال أناسا عظماء وسعداء  .
    _  بعض الرجال الشرفاء ، الأتقياء لا يمارسون السياسة التي قد تلطخ سمعتهم.
   _   كثير من الناس لا يفكرون مثلك في هذه المسألة الاجتماعية . إنهم في الحقيقة مجرد سخفاء .
  قَدْ يدفعُ المتكلم مخاطبه لاستنفاذ واستخراج كل احتياطاته الوقائية ، فيعلمه كيف يصبح بعض الناس سجناء أو ضحايا لعاداتهم الخاصة في التفكير السيكو بلاغي ، فيضطرون للدوران في حلقة مفرغة ترتبط بالميدان العقلي نفسه .
   يمكن القول أن العقلية الطائفية ، والحزبية ، والنمطية تقضي نهائيا على الذكاء ، وأن الشخص الذي يقع ضحية لها لا يرى أبدا الأفكار بشكل واضح  ، الأمر الذي يجعله يجانب الحقيقة والسعادة (2  )  .
   يَحْتَاجُ المتكلم إلى الاحتياط من هذه التطورات ووضعها قدْرَ الإمكان ضمن مخطط أفكاره البلاغية السيكو نصية العامة ، لأن المخاطب سيعتقد بشكل سريع أنه يحسبه شخصا غبيا . إذا كان هذا المتكلم يحسُّ بقدرته على ممارسة سلطة بارزة ، فإنه يمكنه الهجوم بشكل مباشر ، حيث يصرح قائلا بشأن الحكم السابق:
    _   هذا غير موجود بتاتا . إنه أمر سخيف ، وفظيع .
   يمكن للمخاطب أن يسارع إلى القول بعد سماع تصريح المتكلم:
   _   هذا هو رأيي الشخصي . سأوضح هذه الفكرة لكي تحتوي السؤال المطروح وتستوعبه بدقة  .
  يُصْبِحُ التنصل من الحكم السابق أمرا سهلا جدا ، خاصة إذا كان المتكلم العربي المُقْنِعُ قد أبدى موافقته أو سخريته من الموضوع قبل أن يجد المخاطب الوقت الكافي ليكوِّن رأيه عن الموضوع بالتَّمام والكمال   .
قيمة البراهين المستعملة  .
     يُمَارِسُ ( البرهان ) تأثيرا عميقا ، خاصة عندما يصرح المتكلم العربي المُقْنِعُ بقول يحمل قوة واستدلالا لافتا للنظر : 
     _    سأقدم لك البرهان القاطع والدامغ على صدق قولي .
  يَهُزُّ المخاطب المعارض كتفيه بشكل غريزي ، وكأنه يجهز نفسه لتلقي صدمة معينة . قد يحدث الأمر نفسه عندما يفكر بجرأة ، وجسارة ، ويرد بقوة :
   _     هيا ، أفرغْ ما في جُعْبتكَ . أنا أنتظر هذا البرهان القاطع بكل ثبات وحزم  .
مع ذلك تبقى هناك مسحةٌ من حزن طفيفٍ تخيم عليه بعد هذا الرد .
   يَرْتَبِطُ مفهوم ( البرهان ) من هذا المنظور بفكرة سيكو بلاغية ذات قوة هائلة لا تقهر ، وهو ما يساعد على مواجه أعثى عقلية متمردة .
   يَكْمُنُ دور المتكلم العربي المُقْنِعِ إذن في تقديم البراهين ؛ أي إثارة عملية عقلية تقود مخاطبه interlocutor للاعتراف بحقيقة موضوع النقاش .
    إِنَّ أجود البراهين هي التي تستند إلى حدث معين تستعمل فيه أثناء الملاحظة طرائق بسيطة تؤدي إلى حصول اقتناع مباشر . إذا أردت إقناع صبي قد أحرقت المقلاة الحامية أصابعه ، فما عليك سوى دعوته لتقريب أصابعه من النار ، كما أنك إذا أردت أن تبرز لأحد الشبان فوائد الرياضة ، فما عليك سوى جعله يشاهد عن كثب مجموعة من الرياضيين أولي بأس شديد ، تغمرهم سعادة عارمة من جراء ممارسة هذا النشاط . لكي تقنع أحد المشترين بضرورة اقتناء آلة معينة ، وتبرر له نوعية الخدمات الجمَّة التي سيحصل عليها من خلال استعمالها ، فإن عليك دعوته لتجربتها فورا .
       يَخْلُقُ البرهان الكتابي انطباعا مؤثرا حتى عند أصحاب العقول النبيهة والمحنكة ، حيث ((  تتبخر الأقوال الشفهية وتنمحي نهائيا ، بينما تبقى الأقوال المكتوبة راسخة في الأذهان وخالدة )) . تتوغل هذه الحكمة المأثورة في لاوعي الإنسان المعاصر ، كما نسمع في كثير من الأحيان قصصا عن التقدم تدافع من خلالها الأطراف المعنية عن استخدام العقل ، والوثائق ، والكتابات الرصينة ، والشهادات التي يمنحها الناس بشكل فطري قيمة مقنعة وكبيرة ، الأمر الذي يطور كل قرار كتابي أو أي موضوع خطابي  topicوتصريح فعلي .
  إِنَّ الأشخاصَ الذين يكثرون من الافتراضات يطلبون الإحسان من الغرباء ، لأنهم يعرفون مقاصد هذا الأمر جيدا . يكون أول تصرف يقومون به هو إخراج حقيبة الأوراق ، والشهادات ، والإجازات ، والرخص ، والرسائل ، والطلبات التي يستخدمونها بلباقة وأدب ، فيدعونهم للقراءة والتفكير :
    _   يا صاح ، ألا ترى أن كل شيء مدون هنا ؟ 
    _   أنا لا أفتري عليك أبدا . إن طريقتي جدية   .
   يَسْتَغِلُّ الوسطاء تأثير (( الوثيقة )) وقوتها بشكل مستمر ، فيحشون حقائبهم بالأدلة ، والقوائم ، والبيانات المدونة على الأوراق (( المزركشة )) ، والإحصائيات ، والفحوص التي يحررها أناس يتوفرون على (( قدرات عالية )) . قد لا يطالع المخاطب هذه الكتابات ، لكنه مع ذلك يتأثر بها أو على الأقل يؤمن بأن الحقيقة الجديدة التي تعرض عليه تتخللها بعض التفاصيل المستفيضة التي تستحق الاهتمام .
    يُرَكِّزُ المخاطب على هذه القوة بكل حيطة وحذر لكي يدعم قوة البرهان المكتوب المفعم بالأختام والتوقيعات ، وهو ما يمنحه صفة وثيقة (( أصلية )) توحي بالاحترام والتقدير .
   يَدْفَعُ النقص في الوقائع والوثائق المؤثرة المتكلم المُقْنِعَ إلى بذل الجهود ليجعل براهينه ملموسة وحركية ، (( وكأنها إنسان بشحمه وعظمه )) حسب قول سيشرون ؛ أي جعلها ترضي مشاعر المتلقي وتدغدغها لتكونه تكوينا قويا ، وتقنعه بقوة المنطق السوي .
    يُمْكِنُ اكتشاف البراهين من خلال تحليل الوقائع ، والأفكار ، والتفكير الجدي في مكانة المخاطب وتقمص شخصيته لجعله يصدر الحكم على مدى ملاءمة برهان معين أو عدم مناسبته لأفكاره .
     لاَ تَمْلِكُ البراهين المعروضة القوة الضاغطة نفسَها ، فإذا تطلب الأمر دعوة شخص معين للانتباه بأن الساعة الثانية عشرة تعد هي واضحة النهار ، فإن هذا الحدث لا يحمل قناعة تامة فورية . يرفض المخاطب قبول صلاحية البرهان ، فيجادل ويؤول الأحداث زاعما أنها غير دقيقة علميا .
    يَظْهَرُ البرهان إذن على شكل تخمين أو حدس بسيط ؛ أي أنه لا يتم قبوله إلا بعد تمحيص دقيق يركز على فحص صحة النقيض .
     قَدْ يستند البرهان المعروض في بعض الأحيان إلى فرضية بسيطة لكن لا تنقصها الفعالية والوضوح ، خاصة عندما تترجم رجاء محددا . 
   هُنَاكَ إذن سُلَّمٌ منظَّمٌ من البراهين يفرض على المتكلم المُقْنِعِ طريقة من التعامل لاعتماده على برهان حاسم يتكون من حدث معين ، ويتلاحم مع برهان آخر يكون قريبا لارتكازه على عملية الاحتمال .
   لاَ يَجِبُ على المتكلم أن يعرض في البداية البرهان الحاسم الذي يكشف بعض جوانب الحقيقة ، حتى لا يصبح الأمر مجرد مغالطة فاسدة ، كما أن المقام يفرض عليه اجتناب المناورات التي تتعلق بتجميع عدة براهين لا ترتبط بالفكرة المطروحة للنقاش ، وتعلن أنه ليس مطالبا بتبرير (( هذه البراهين الجيدة )) ، وهو ما يعكر مزاج المخاطب ، ويزرع في نفسه نوعا من التحدي ، فلا يبقى له أي مجال للتخمين والابتكار . يمثل هذا (( العرض اللامع )) والانحراف الكبير بالنسبة للأسباب المعقولة برهانا قاطعا يجعلنا نصنف المخاطب في خانة الأغبياء ، ويبرز السعي الحثيث لخداعه (   3) .
      يَعْرِضُ المخاطب في البداية سلسلة من البراهين المختلفة ، ثم يقدم بعد ذلك أكثرها إقناعا رفقة عدة تفاصيل مهمة تدفعه للموافقة والإذعان .
     يُعْربُ المتكلم المُقْنِعُ بعدها عن البراهين غير المؤكدة من خلال القول التالي  :
   _  لا أرغب في تكرار توضيحي السابق وإضاعة الوقت .
      يَسْعَى المتكلم هنا إلى مواراة الصعوبات وطمس الضعف الحاصل في براهينه واستدلالاته ، مما يجعله ينجح أحيانا في در الرماد في عيني مخاطبه غير المحنك الذي يبهره أول برهان يقدم إليه ، فيصدقه ويوافق عليه بسرعة دون أي فحص أو تمعن في البراهين الموالية التي يحسبها سليمة وتامة .
    قَدْ يبعد طغيان هذا السلوك (( المشعوذ )) المتكلم المُقْنِعَ عن موضوع النقاش لأن المخاطب سيكتشف مع مرور الوقت أنه قد تم إيهامه ومراوغته ببراهين مزيفة .
الوعود والعهود
   يَعِيشُ الإنسان في هذه الحياة على الأمل ، والترجي أو التمني ، والحلم أكثر ما يعيش على الخبز .  يعني هذا أن أقوال المتكلم المُقْنِعِ تصبح مقبولة عندما تشبع جل الحاجات المرغوبة .
  يَضْطَرُّ هذا المتكلم إلى تقديم وعود متنوعة ، سواء عند بيعه لمنتج معين أو نشره لحقيقة أخلاقية وعقلية ، كما يجب عليه أن يعرف أن (( تقويم )) المزايا التي سيحصل عليها يرتبط بالتزامه بقوله وفعله .
   قَدْ تتنوع هذه الوعود ، فيصبح من الملائم أن نعد الشخص المحب للشهرة بالنصر ، والطموح النهم بالمال ، والمتسلط بالتفوق الاجتماعي ، والمثالي بالرضا عن العمل المنجز ، كما أننا قد نعد في هذا الصدد أشخاصا آخرين بالسعادة الشاملة.
  يَظْهَرُ الاتجاه المأمول طفيفا عند بعض الناس الذين تتضح لديهم غريزة النمو والهيمنة بشكل متطور جدا ، وهم الأشخاص التواقون الطموحون .
     يَغْلِبُ على بعض الناس الحياء الذي يخفي طموحاتهم ، حيث يرون أن التخطيط  planningالجيد يفرض عليهم الظهور بمظهر الشخص الطيب ، البسيط ، المقتصد الذي لا يطمح لأي شيء دون حق مشروع . لا يجب عل المتكلم أن يصدقهم بسرعة ، بل يجب عليه البحث عن القناع the mask الذي يرتدونه ، والرغبة الكامنة وراء ذلك ، كما يجب عليه أيضا أن يثيرهم لكي يحصل على موافقتهم باستعمال منبهات تتعلق بالوعود المقدمة.
   يَصْعُبُ ضبطُ (( فنِّ تقديم الوعود )) والعهود في الثقافة المعاصرة لأننا نصادف في هذا الصدد طرائق متعددة ومتنوعة يستغلها بعض المشعوذين ، والنصابين ، والمهرجين الذين (( يعدون الناس بالحصول على القمر )) ، ويبهرون الأشخاص الساذَجين والبلهاء  ، وأحيانا قد يخلقون شهية عارمة للتصديق والإيمان عند متلقيهم النبهاء ( 4 )  .
    يَضُمُّ هذا الصنف جماعة الغوغائيين والدهماويين الذين يوهمون الناس المتعطشين للعدالة الاجتماعية ، والرخاء ، والسعادة التامة بالسراب الخادع ، والعصر الذهبي . قد يعد الشخص الغوغائي الناس بكل شيء جميل ورائق ، ولا يحرم نفسه من هذه المتعة بما أن وعوده لا ترتبط بأجل مسمى ، كما أنه يظل يمني الناس دون كلل أو ملل بالأرض الموعودة التي يستطيع كل شخص أن يحصل فيها على الثروة ووسائل الترفيه ، وما يشتهيه من ملذات ورغبات .
   نَجِدُ عددا من الموهوبين الذين لا تجرفهم هذه الخدع الغليظة الزهوقة لأنهم يستخفون بكل من ينهج هذا السبيل ، لكن مع الأسف ينخدع بعض الأشخاص البسطاء بهذا الوهم الذي يمارسه بعض الخطباء المتصنعين .
    تَكْمُنُ المهمة الأساسية للمتكلم المُقْنِعِ النزيه في التقليل من قيمة أضغاث الأحلام التي يتشبث بها أرباب العقول الساذجة ، ويحافظون عليها مهما كلف الأمر لخلق إثارة عارمة ترتبط بالاتجاه المزمع تنفيذه .
  يُمْكِنُ لهذا المتكلم أن يقدم في هذه الحال التي تتعلق (( بإفراغ دماغ المخاطب )) وعودا وضمانات جديدة ، كما يجب عليه أن يقوم باستبدال وعود بأخرى في حال توفر الترجي أو الأمل المستند إلى أحلام متنوعة ترتكز على الحقيقة والعقل النَّيِّرِ .
   عندما تعِدُ أحدَ الأشخاص بشيء معين ، فإنه يجب عليك أن تفكر في المخاطب الذي سيقوِّمُ أقوالك ويمنحها المكانة التي تستحقها ، كما يجب عليك أن تقاوم كل الإغراءات التي تكتنفها المبالغة أثناء وقوع بعض الأحداث السعيدة لأنها قد تبدو في الظاهر كحقيقة تتحرك طبقا للممكن والمعقول .
  يَسْتَمْتِعُ بهذا الاعتدال مخاطبوك النبهاء ، فتزداد قيمتك لأن الشخص المستقبل سيذعن بعض فترة من الوقت لنشوة وهمية . قد تفرض الحقيقة نفسها في لحظة معينة ينيرها العقل بسراجه الوهاج ، إذْ تتمُّ مراوغة المخاطب في هذه اللحظة ، فتتقبل نفسه هذا الأمر بمرارة ليصبح مثل شخص عربيد يحس برخاوة ورطوبة في فمه ، وهو صائم .
   لِكَيْ لا يتمَّ اتهام المتكلم بأنه قد أراق شراب الوعود الزائفة ، فإنه يجب عليه التصدي لخيال المخاطب والتغلب عليه بتقديم (( أحلام )) متنوعة .
   مِنَ المناسبِ منهجيًّا تقديمُ اقتراحاتٍ وعروض تخضع لشروط معينة ؛ أي إبراز الجهود ، والدراسات ، والتضحيات التي تجعل من السعادة الموعودة ثمارا قطوفها دانية بناء على عدة حوارات وأقوال اتصالية متنوعة :
   _  سيدي ، أنا أعدُكَ بأن سيارتك ستشتغل بشكل جيد إذا اعتنيتَ بها بطريقة لائقة .
   _   أؤكد لك بأنك ستفوز بهذه القضية إذا برهنت على صفات العامل المجدِّ والمبادرة الطيبة .
   _  يمكنني أن أقول أننا نستطيع إدارةَ مؤسسةٍ تكون ناجحةً إذا وافقتَ على التقليل من أنانيتك .
    لاَ يَجِبُ تقديم هذه الوعود الدقيقة بصيغة جنائزية أو كتحذير من عقاب ماحقٍ ، كما أنه يجب على المتكلم أن يتخذ سلوكا مناقضا يبرز التزامه وفرحه الذي يحثُّ على الاندفاع نحو الغد الصَّبُوح . يمكن لعينيه أن تتسعا في هذه اللحظة لتشكلا (( نظرة سعادة )) ، فتستديران إلى الأعلى ؛ أي ترتفعان نحو السماء الواسعة لفسح المجال لظهور بياض بصري رَحْبٍ فوق الجفن الأسفل . يدلُّ هذا التعبير على التأمل الاستشرافي  futurologyالمشرق . قد تميل الرأس وربما الجسد كله إلى الأمام للإتيان بحركات استهلالية ، كما أنَّ اليدين قد تقومان بحركات متأنية وحكيمة لترجمة ابتسامة مشرقة تدل على النصر والنجاح.
    إِنَّهُ لأمرٌ جيدٌ أن يتمَّ التركيز على عملية التعبير من خلال صيغ يترجمها القول التالي :
_  سيدي ، كنْ متيقنًا يجب أن تعوِّلَ عليَّ دون تردد أو ريب . أنا لن أتخلى عن ذلك .
   لَكِنْ لا يجب الإفراط في استعمال هذه التصريحات المتكررة لأنها تخلق الانطباع بأن الأمر هو مجرد تملُّقٍ وزيفٍ .
    قَدْ يؤدي القيام بإيماءات وحركات هدفها الترجي أو التمني الذي ينشر العدوى بين جوانح المتكلم المقنع الذي لا يحدد نوعية الوعود التي يقدمها للملأ لأنه قد يقول لك من خلال نظرة عين متواطئة مغلفة بالرقة واللطف:
_  سيدي العزيز ، ثِقْ بي واعتمد علي . إنني أعد لك مفاجأة سعيدة . سترى صدق قولي . لا يمكنني أن أقول سوى هذا . هذه مضاربة مالية مدهشة ! موقف بديع ! ستهلُّ علينا أيام مشرقة باليُمْنِ والبركة ... صَهٍ ، لا تُفْشِ السر بين الناس ...!
   قَدْ لا يتوصل الطرفان المتحاوران إلى قرار حاسم وفاصل ، وأحيانا يلتزمان الصمت لكننا نقتنع بأن شيئا رائعا وسعيدا يتم تجهيزه في الخفاء ، وهو ما يجعلنا نتق بهما. 
علاقة الخطاب الدعائي بسمات الشخص الوسيط
     قَدْ لا تكون الحاجة ملحة لضمان نجاح نموذج مثالي يدفع ببعض الأشخاص لكي يصبحوا وسطاء ، فيتطوعون مجانا للدعاية لمذهب سياسي ، اجتماعي ، أخلاقي ، عقلي ، ديني ...
     تَقُومُ الأحزاب ، والمؤسسات الدينية ، والمجتمعات التي تجعل نصب عيونها إصلاح بعض التقاليد والإدارات بربط الصلات الوشيجة بين مناضليها لترويج القول الحسن .
مَا طَبِيعَةُ نشاط الشخص الوسيط في مجال الدعاية التجارية ؟
   إِنَّ الفكرة الأولى التي تراود عقله تتمثل في مقاومة المذهب الذي يناقض مذهبه . لا ريب أنه يملك فكرة واحدة يكون هدفها إبداء اللامبالاة  ، وهو ما يجعل المتكلم المُقْنِع يوظف جل طاقاته لنقد ، وإقصاء ، وتوبيخ ، وإهانة الخصم . من المؤكد أن هذا التصرف يكون نافعا في بعض المواقف لكن يجب انتقاء حَيِّزٍ ملائم داخل عقل المخاطب العربي ، وجعله حلبة صراع تدور فيها منازلة النموذج _ الإسوة  alosop modelالذي يسيطر على أفكاره ، والإجهاز عليه بالضربة القاضية ، وتقويضه ، واستبداله بالحقيقة الصارخة .
       قَدْ يتمُّ استعمال نوع من السخرية أثناء ممارسة هذا العمل الخاص بالتقويض ، وهو ما يجعل أغلب الناس يتحاشون الوقوع في أي موقف من شأنه أن يثير الضحك أو السخرية التي تهدف إلى جعل هؤلاء الناس يحسون بأنهم مثيرون للضحك والازدراء خاصة عندما يؤمنون بأفكار عبثية ، مستنزفة ، عتيقة ، خاطئة ، فظة ...الخ .
    تُمَثِّلُ السخرية ( 5 ) سلوكا سهل الاستغلال لأنه يتعلق بانتقاء أحد التفاصيل التي يمكن انتقادها من خلال المذهب المحارب مع الإفراط في تضخيم خصائصه ، وجعله محط استخفاف ونعته بالتفاهة ، حيث يسمح هذا السلوك بإبراز أنواع من النقاش التي يرى فيها المتكلم المُقْنِعُ نفسه ضعيفة جدا . تتميز إثارة الضحك أو خلق الابتسامة بتحللها من ضرورة إصدار البراهين الدامغة ، وهو ما يجعل (( الضحك )) أو المزاح يحتلُّ مكانة مهمة ضمن أقوال وعروض الأشخاص الوسطاء في مجال الدعاية والإشهار.
  لاَ يُعَدُّ توظيف السخرية سلوكا بريئا لأنَّ المخاطب يمكنه الضحك من أقوال المتكلم المُقْنِعِ بالاعتماد على طرائف ومستملحات ترتبط ببعض المذاهب والعقائد ، لكنه يلاحظ في قرارة نفسه أن محاوره لا يعالج أفكاره السيكو بلاغية بشكل عميق فيتهمه بالسطحية ، وعدم التحليل المنطقي الرصين الجاد . إنه يعتقد أن أي تفصيل يعرض بشأن تحليل رأيه قابل للنقد ، وهو ما يوافق عليه بكل أريحية تجعله يردف قائلا :
     _  إنَّ الكمال لله ، فكلُّ الأمور تحوي بين جوانحها بعض النواقص والنقائص . على العموم يبقى مذهبي القديم ملائما.
   تُوظَّفُ السخريةُ عند الرغبة في نبذ مبالغة مفرطة ، (( وتصغير حجم وقيمة  )) خصم واثق من نفسه بشكل متعالٍ فيما يخص حدثا معينا ، حيث تصبح الأفكار في هذه الحال هي الهدف الأساسي ، ويقل التركيز على شخصية المخاطب ؛ لأن أي إنسان لا ينسى أبدا الشخص الذي جعله محط سخرية ومهزلة أمام الناس .
     يُمْكِنُ لنبرة الاستنكار condemnation tone والإدانة أن توظف في حال دحض آراء الخصم ، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بإزهاق باطل مطبق . ليس هناك شيء أكثر عدوى وتفشيا من غضب يؤججه جور كبير قد لحق بشخص بريء .
  يَجِبُ على المتكلم أن يأخذ حذره من هذا الموضوع ، فلا يغلظ في القول عندما يلاحظ سوء تصرف الخصم ، لأنه قد يمنحه من حيث لا يدري قوة مهمة لا يستحقها ، كما أنه قد يولد في نفسه شعورا يعارض سلوكه السيكو بلاغي ، ويكون منبعه الخشية . 
   وَنَتِيجَةً لما سلف ، فإنَّ المخاطب الذي نشرح له الحذر المتجلي عند عدة خصوم سياسيين أو منافسين آخرين يمكن أن يدور بخلده القول التالي:
    _  إنه شخص من الأقوياء  !
    يَدْفَعُهُ هذا السلوك السيكو بلاغي ( الخطابي ) للإذعان والتشيع لمنطق القوة لأنه ليس بطلا ، بل شخصا وسطا يخاف توالي الضربات المباغتة ، ويحب الانضمام إلى (( طبقة أهل القيادة ، والريادة )) والصفوة .
    إِنَّ آلام واعتراضات المتكلم لا تبرز أنه الأقوى والأوحد بالفعل .
   لِمَسْحِ هذه الأفكار المحرَّفة أو المربكة من ذهن المخاطب يمكن للمتكلم أن يوضح له بشكل طبيعي أن مذهبه مفعمٌ بالأخطاء ، والتناقضات ، والافتراءات .
     لكن هنا أيضا يجب على هذا المتكلم أن يجتنب أن يكون ثقيلا ومزعجا لأن دحضه للأفكار السيكو خطابية سيظهر بالنسبة لعدة أناس على شكل درس مرهق يدفعهم للتراجع أمام كل مجهود يبذل من أجل الفهم والإدراك . لا يجب على المتكلم  أن طلب من شخص يملك عقلا سطحيا وغبيا فصولا مرتبة في المنطق .
    قَدْ يصطدم بناء وسائل الإقناع الحجاجي المشكلة للخطاب الدعائي المعاصر بالدحض والرفض ، فيصبح عقيما وأجوفا لأنه لا يمكن بناء قناعة أو حجاج معينة عن طريق النفي والاعتراض ، بل من خلال التصريحات والتقارير الدامغة والقوية .
  يُفْتَرَضُ عند الشروع في بناء وسائل الإقناع في أي خطاب دعائي عربي معاصر اجتناب التقويض والنسف ، وارتياد مجال البناء والتعمير   dynamism ، كما يجب على المتكلم المُقْنِع أن يقوم بعرض أفكار جديدة تمنحه قيمة جيدة ، ويعوض الأفكار التي تتم محاربتها . لذلك فإن خطة المهاجمة هي في الأصل عبارة عن عمل منقول من ميدان المعركة والبنى التحتية إلى ميدان الأفكار والبنى الفوقية .
   يَتَعَلَّقُ الأمر هنا بعرض حقائق ومعتقدات دقيقة وفعالة تسيطر على خيال المتلقي العربي . يتطلب الأمر من المتكلم تقديم أفكاره ، وصوره ، وبراهينه بخطوات ثابتة لا تقاوم ، حيث تكون شبيهة بخطوات جيش مِقْدامٍ ينتشي بنصره.
   لاَ بُدَّ أن يظهر لمحاوره أنه إنسانٌ متواضع ، واسع النظر يقدم آراءه بكل خطوطها العريضة لأن الدقة والرقة وطريقة حلق الشعر بشكل غريب لن تجعل منه شخصا متميز الملامح ، يجيد استعمال وسائل الإقناع الحجاجي argumentative المشكلة لخطابه الدعائي بمهارة فائقة ، كما أن أي بتر أو تشتيت للأفكار سيجعل عقل مخاطبه يسلك سبلا متخالفة ومتعارضة .
  يَجِبُ عليه أن يكون يقظا إزاء محاوره لأنه في أمسِّ الحاجة لاكتشاف ما يجول في عقله ، حيث إن جوهر الأفكار يتنوع من شخص لآخر نظرا لاختلاف العقول والأمزجة . إذا كان هذا المتكلم (( يختصر ويختزل )) الأمور أثناء حواره مع بعض مخاطبيه الأذكياء ، فإنهم سيعدونه شخصا متعصبا متزمتا فظا أو ربما يرون فيه (( شخصا شجاعا )) نبيها لكنه غير دقيق في إصابة الهدف .      
   يَتَطَلَّبُ الأمر هنا ألاَّ يكونْ المتكلم أبلهًا أو ساذجًا مهما كلف الأمر لأن بعض الوسطاء في مجال الدعاية يسفِّهون المذهب الذين ينتمون إليه بإصرارهم الثقيل وسذاجة بعض البراهين التي يعرضونها ، وهو ما يجعل سلوكهم يُسْفِرُ عن بعض المخاطر والمزالق ، فطورا يقومون بسلوك أطفال يبكون بشدة ويرددون :
     _   يجب عليك أن تتق بي وترضيني بكل الوسائل .
  وطورا يستندون إلى ضمانات ساذجة تجعل شخصياتهم ذات طابع كوميدي ساخر .
     نُصَادِفُ في حياتنا اليومية كثيرا من وسطاء الدعاية والإشهار المنحرفين الذين لا يمكننا رسم صور دقيقة لشخصياتهم .
   تَدُورُ بأذهان بعض الناس أفكار متنوعة تخص هؤلاء الوسطاء من قبيل :
      _  هؤلاء قومٌ من الحمقى والساذَجين الذين يراوغون أنفسهم ، وهم لا يشعرون . يظنون أن من واجبهم خداع الآخرين والإطاحة بهم .
    يَطْرُقُ اليساريون ، والخجولون ، والحمقى الأبواب لشرح مذاهبهم ، وخلق جو منفرج يساعدهم على بيع بضاعتهم البالية الممنوعة .
  نَجِدُ قومًا آخرين يختالون فخورين ويتبجَّحُون بحصافة أفكارهم ويتحدثون باقتضاب واحتراس ، مما يولد رغبة جامحة في معارضتها . تقوم مجموعة أخرى مهذارة باللغو واللغط ، حيث تلوك الكلام الممجوج والمعاف بشكل لانهائي وتكرر الأقوال نفسها كل مرة . يتم التنصل منها بكلام من هذا القبيل :
    _  أنا سأفكر بكل تأكيد في الأمر لاحقا ، أما الآن فأنا مستعجل .
     هُنَاكَ مجموعة أخرى تمارس بعض الحذلقة والادعاء ، إذ أنها قد تجهز عليك بضربة قاضية مستغلة في ذلك آراءك الحاسمة ، كما نجد مجموعة أخرى تحاول بكل سذاجة إدهاش الآخرين ، وتقديم المسودات التي يسيل منها كلام كثير وأفكار متناقضة تفصل القول في أمور مستنفرة لاعتمادها على محاورة شخص متبجح يفرط في الجدية. لا يملُّ بعض المهووسين من الاستنفار والمواجهة المستمرة بغية إبهار المتكلم المُقْنِعِ ، فلا يرتاح له بال إلى أن يتم الإلقاء بهم إلى الخارج . نصادف أيضا في هذا المجال بعض الشباب الحمقى الساذَجين والرجال الذين اشتعلت رؤوسهم شيبا وبلغ الكبر منهم عتيا والنسوة اللبيبات المحنكات ، حيث يتحول الجميع إلى وسطاء للدعاية ، فينجزون أقوالا سطحية تجرح الأفئدة . لا نستطيع إحصاء عدد الأشخاص الغلاظ الذين يظنون أنفسهم أنهم (( يناضلون من أجل قضية عادلة )) أو (( يقدمون خدمات جليلة لحزب معين )) ، (( جاعلين نصب أعينهم نموذجا مثاليا ساميا )) ، وهم يظنون أنهم يخدمون بهذا العمل الحزب الخصم دون وعي .
   يَخْتَلِطُ علينا الأمر في بعض الأحيان ، خاصة عندما نجد أناسا يتسلون بخفة وعفوية ، ويلعبون دور وسطاء الدعاية دون أن يتوفروا على أية طاقة أو خبرة في هذا المجال .
     يَجِبُ على المتكلم أن يحذرْ من الانضمام إلى هذه الشرذمة من المهرجين الذين يدعون الحرية ، ويثيرون الضحك ، ويتبجحون بكل أنانية وادعاء مقيت كما يجب عليه أن ينشد نقدا عقليا مقتدرا قبل أن يندم على انضمامه إلى مجال الدعاية التجارية المتردية ، فلا بد من الاستعداد بشكل جدي لهذه المهمة .
     يَتَطَلَّبُ الأمر منه أن يسعى أثناء عمله كوسيط تجاري إلى مقاومة كل المغريات القوية الخاصة بالعمل الدهمائي والتحايل على الأدمغة ، حيث يكون من السهل جدا إثارة أنواع من الغضب ، والوعود المدهشة ، واستغلال الأحكام الجاهزة عند المخاطب ، وإذكاء الحزازات ، والضغائن ، واستعمال العنف ، وتزييف التاريخ ، والحقيقة ، كما يمكن أيضا فرض آراء منحرفة يقدمها كل ذي عقل غرير يتباهى بتأثيره وسحره الوهمي . يثير سلوك بعض السفسطائيين آيات من التأييد والإطراء ، ويخدعون (( الناخبين )) بالأكاذيب ، والميول ، والهوس المفرط ، والرغبات المنحرفة ...
  يَظُنُّ بعضُ النَّاسِ الأصلاف أن هذه الممارسات التي تتنوع فصولها ومعطياتها عند الشخص الوصولي لا تحقق أي نجاح ، إذ يواجه كل شخص غوغائي يتحايل على عقول الناس خصما عنيدا في هذا المجال ينافسه ، ويصليه نارا حامية ، ويلحق به هزيمة نكراء . لا تتوقف المزايدات في مجال الوعود والعهود ، مما يدفع المتكلم العربي المُقْنِعِ كثير الوساوس إلى تقديم وعود تكون عبارة عن أضغاث أحلام فقط ، وهذا ما قد يغضب بعض الناس الذين تقع مراوغتهم في هذا المجال.
   إِذَا كان المتكلم وسيطا تجاريا ، فإنه يجب عليه أن يبقى محافظا على طابعه الهادئ الرصين المتحلي بالإخلاص ، والأخلاق ، والعقل النير لأن ضمان هذا العمل واعتماده يحتاج وقتا كافيا للتحقق لكنه يعمر بعد ذلك طويلا .
قوة الشعارات والأمثال .
  قَدْ نصادف شخصين عربيين يتحاوران ، فيقدم أحدهما براهين ضعيفة وعقيمة يسودها التشتت والخراب الشامل ، وهو ما سيجعله يعترف بخسارته خلال هذه (( المبارزة )) المنطقية .
   يُصَرِّحُ هذا الشخص الخاسر بشكل حاسم :
       _  يا سيدي المبجل ، أنت لا تبرز لي هنا سوى بعض الاستثناءات الشاذة التي لا يقاس عليها ولا حكم لها بتاتا  .
  يَحْتَارُ الشخص المتكلم في أمر هذا المخاطب لفترة من الوقت ، فلا يجد جوابا جيدا يناسب هذا الموقف ( 6 ) .
  تَشِيعُ في هذا المجال مجموعة كبيرة من الحكم ، والأمثال ، والأقوال السائرة ، والعبارات الدينية المسكوكة ، والشعارات البراقة التداولية التي قد تبهر وتسكت أحد المتحاورين لفترة من الوقت:
   _     ((    النتيجة من نفس العمل )) .
   _     ((    ما فات مات )) .
   _     ((    دموع التماسيح )) .
   _      ((   اللص لا يتوب )) .
   _     ((    هذا الشبل من ذاك الأسد )) .
   _     ((    الكرامة فوق كل اعتبار )) .
   _      ((   السماء لا تمطر ذهبا ))
     _    ((    حبل الكذب قصير )) .
     _    ((    وافق شن طبقة )) .
     _    ((    قيمة الإنسان تساوي قيمة الأرض كلها )) .
     _     ((   لا توقظ القط الذي ينام )) .
     _     ((   العامل السيئ يملك أدوات فاسدة )) .
     _     ((   خاوية على عروشها )) .
     _     ((   جنت على نفسها براقش )) .
     _      ((  عند الامتحان يعز المرء أو يهان ))
     _      ((   لو تعلقت أذهان بني آدم بالثريا لوصلتها ))
   يَجِدُ المتكلم المُقْنِعِ والمخاطب نفسيهما منقادين أحيانا لممارسة هذا السلوك البلاغي الحواري .
   مَا اْلأُسُسُ التي تستند إليها قوة هذه الأقوال ، والحكم ، والأمثال ؟
    يَظْهَرُ في بداية الأمر أن قوتها ترتبط بجيل معين ، كما يجب ألا ننسى أنها كانت في القديم تمثل (( لغة الآلهة )) و (( صوت الحكمة )) ، حيث كان الإغريق يكثرون من التمحيص في الحكم والأمثال ، وتحفيظها للناشئة ، وكتابتها على جدران المعالم الأثرية ، وعلامات الطرق ، وأمام المحاكم . تملك الأقوال قيمة برهان أو دليل دامغ لأنها تلخِّصُ مسار التجربة الإنسانية.
   يَضُمُّ المجتمع المعاصر بعض (( العقول )) التي تخضع لقوة وتأثير الأمثال القديمة ، الأمر الذي قد يساعد المتكلم على بلبلة وتشويش فكر متلقيه الذي يشعر فجأة أنه قد تمت محاصرته ببراهين مكثفة نابعة من هذه الأمثال المتوارثة عبر العصور .

المراجع
1     _   يَضُمُّ هذا المشروع أيضا مكونا ثانيا هو : المكون السوسيو بلاغي rhetorical  sociological component الذي يملك سمات خاصة . سنعالجه في أعمال لاحقة تطبيقية . يفكر الإنسان من خلال خطابات ( نصوص ) مترابطة تجعل النسق السيكو بلاغي والنسق الفكري عنده متلازمين كملازمة الروح للجسد أو الثوب للبدن ، فلا يمكن أن نعيش من دون نصوص خالية من مكونيها الاثنين : السيكو والسوسيو خطابي ، فهما يعششان بدواخلنا ويقومان بهزنا ونقوم بهزِّهما بشكل متبادل .
    يربط المفهوم السيكو خطابي ( البلاغي )   psycho_ discursive  بين اللغة والفكر ويدمج بين السلوك واللغة ضمن المواقف التي تمتزج فيها الذات بالموضوع بشكل متبادل ولا أسبقية لأحدهما على الآخر ، فهما متلازمان ملازمة الروح للجسد والثوب للبدن . فالفرد يحيا ويفكر من خلال اللغة ، سواء أكانت منطوقة أم مكتوبة أم رموزا سيميائية.
2   _  إبراهيم بن صالح الحميدان ، أساليب المناظرة في دعوة النصارى إلى الإسلام ، جامعة الإمام سعود ، ص 134 ، الرياض 1987 .
3  _  Perelman ( ch ) traite de l,argumentation . 3,ed .Universite de bruxelles
L,empire rhetorique .vrin.paris 1977
Poetique ,n .5. ( rhetorique et philosophie ) ed. Seuil . paris 1971.
4  _  صابر الحباشة ، التداولية والحجاج ، مداخل ونصوص ، ط 1 ، دار صفحات للدراسات والنشر ، 2007  .
 5_  تتطلب الدراسة البلاغية الحجاجية لقضية السخرية مقاربات خطابية رائدة وعميقة من حيث الأبعاد التركيبية والتداولية ، والتعامل الاستشرافي غير المستلب مع التقنيات الحجاجية على مستوى الاتصال والانفصال والاستدلال وغيرها من الموضوعات المنطقية وشبه المنطقية . تتعدد هذه النماذج في الأعمال الفكرية العربية القديمة والحديثة ( أعمال الجاحظ ، مقامات بديع الزمان الهمداني ، المويلحي ، المازني ، البرامج التلفزيونية المغربية : كوميديا ، رشيد شو ، ظاهرة الثنائي الهزلي ، مسرح الحي ، أعمال عادل إمام ، أحمد حلمي ، دريد لحام ، ياسر العظمة ، حسين عبد الرضى ، داوود حسين ، حسن البلاي ، طارق العلي ، ناصر القصبي ...) . تتنوع المقاربات الحجاجية والمتون لكن وجهة النظر هي التي تحدد موضوع الدراسة ومنهجيته الملائمة ولغته الواصفة . نجد ذلك واضحا من خلال عدة موضوعات ( التقنيات الحجاجية الاتصالية والانفصالية في نوادر جحا ، أبي نواس ، أشعب ،  النكت والأحجيات المغربية ، الدور الحجاجي للتوابع النحوية عند ابن مالك ، ابن هشام ، الزجاجي ...علاقة السخرية بالحجاج في المسرح العربي ، الوظيفة الحجاجية لأسلوب النفي في مسرحية الحراز للطيب الصدِّيقي ، علاقة الاقتضاء بالحجاج في أرجوزة الأجرومية ، وسائل الإقناع في المسلسلات التلفزيونية المغربية : نموذج رمانة وبرطال ، عبد الرحمان المجدوب ، وجع التراب ...) .  
  لقد طرحنا باكورة هذا المشروع بالمغرب على صفحات جريدة العلم الثقافي ، والاتحاد الاشتراكي ، وأنوال وغيرها ، وكان عدد من المثقفين الأنداد ورفاق الدرب شهداء على هذه المناظرات والحوارات ساعتئذ . انظر جريدة العلم الثقافي ، السبت 9 يناير 1985 العدد 728 السنة 15 . وانظر أيضا  في هذا الصدد بعض أعمالنا المتخصصة بمجلة ( العربي ) بدولة الكويت ، ومجلة ( الرافد ) بحكومة الشارقة ، ومجلة ( نزوى ) بسلطنة عمان ، ومجلة ( علامات ) بالمملكة العربية السعودية ، وصحيفة اتحاد كتاب العرب بدمشق ( الأسبوع الأدبي ) والمجلتين المتخصصتين بهذا الاتحاد ( الموقف الأدبي ، التراث العربي ) ، ومجلة ( طنجة الأدبية ) بالمملكة المغربية ، وبعض المجلات والصحف الليبية ، والمواقع الالكترونية المتنوعة .
6 _  يشكر الباحث أستاذه جون ديفين روج ، ويعترف بأياديه البيضاء أيام الدراسة ، وتأثيره الواضح على مشروعه العلمي من خلال عمله الموسوم ب  :dictionnaire de l’art de persuader  ,editions .j. oliven . paris ,1944.