قراءة في قصة اليقظة لجميلة طلباوي ـ نصيرة مصابحية

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse07085الأسرار الأكثر عمقا تسكن الأشياء الطبيعية الأكثر بساطة.. فيورباخ
يتموضع البوح في هذه القصة  غافيا على شرفات الرمز متمنعا  يراوغ القارئ بليونة مخملية عاكسا قدرة الكاتبة اللامتناهية على تطويع الحرف ،   فقد اعتمدت لغة شفافة تنوء عن البساطة  تلامس مضاجع الحلم الفوضوي بيراع الحقيقة  حيث يقدم هذا المحكي نبضات هاربة من الذاكرة فتزاوج بذلك المتخيل مع الواقعي مااسفر عن  صورة فنية تجريدية ،تربك المتلقي وترغمه على الانخراط في عالمها ،والملاحظ هنا ان لغة الكاتبة لاتميل الى الشرح والتعليل والتفسير بقدر ماتعتمد على  ومضات اخبارية مقتضبة كما انها تعتمد على رسم المكان وتسليط الضوء على نفسية الشخصية الرئيسية التي اضحت بهلعها  جزءا من الديكور العام  للقصة ،فيتحول السرد من خطه الافقي المستقيم الى ارتجاجات نفسية تصور حالة اغتراب تلك الشخصية وضياعها بين المنطق الديني والعرف الاجتماعي الذي يرفض عودة الموتى وبين واقعها الذي تقاسمته مع الاشباح الساخطة ، ومايزيد من عمق القصة ان الشخصية الرئيسية التي تتناسل  حولها الاحداث بلا اسم وبلا ملامح  فقد تعرفنا عليها من خلال  الوصف للمكان ولمشاعرها المتناقضة الخوف من الموتى ورفض تصديق وجودهم والايمان بهم في نفس الوقت هذا التناقض الشعوري  جعل القارئ لا يهتم بتفاصيل الشخصية الحميمة بقدر ما يهتم بمصيرها ، يمثل السي قدور هيكل  القصة حيث تسير كل لاحداث لتصب في بوتقة انتفاضه ورفضه المطلق للتسليم في بيت جده .

نجد الكاتبة وقد وظفت بعضا من الاسماء التي تحيلنا الى الماضي العريق فقد برعت في توظيفها واختيارها  ،حيث مارست الاسماء اشعاعا لغويا  دعم معنى القصة وزاد بريقها ،  فقدور من القدر والمكتوب  اسم تراثي  جزائري مشهور وقد سبقته بالسي التي تحمل دلالة الاحترام والمكانة الراقية ، فهي احالة على منزلة السي قدور ومكانته الاجتماعية ، هذا السي قدور الذي كان يحارب من اجل منزل جده  فقد وقف في وجه السلطات المعنية ورفض  الخضوع لها  "تبّا لهذا المدعو السي قدور لا يكف عن القتال من أجل وصية جدّه، لولاها لما بقيت متأخرا إلى هذا الوقت، ولما بقيت رهينة حالات الجنون التي تحدث للموتى الراقدين في المقبرة المجاورة لبيتي، لا أحد يصدّق بأنّهم يصرخون ليلا ويقذفون زجاج نوافذ بيتي بالحجارة "1 يتصاعد توتر الكاتبة من الوهلة الاولى لوصفها لسي قدور حيث يأتي الوصف بصيغة التقزز والسخط والخوف فلولا السي قدور لما عادت الشخصية الى بيتها متاخرة ،يتصاعد مد السخط والخوف عند عودة الشخصية الى بيتها فقد ركزت الكاتبة على تصوير المكان بطريقة فوتوغرافية متورمة تجعل القارئ ينساب تلقائيا في تصوره ، خصوصا وانها ربطت بين منزلها والاموات الذين يسكنون مقبرة قريبة منها ، فالمكان هنا  يمارس سلطته الشعورية على الشخصية فيباغت سكينتها ويقلق راحتها ،ووتعمدت الكاتبة تسليط الضوء على المكان وتصويره بطريقة مخفية حتى تخلص الى وضع القارئ والشخصية في جو من الارتباك والتساؤل ،فالشخصية رهينة الاموات الذين يعبثون بمنزلها ويرشقونها بالحجارة " ........ولما بقيت رهينة حالات الجنون التي تحدث للموتى الراقدين في المقبرة المجاورة لبيتي، لا أحد يصدّق بأنّهم يصرخون ليلا ويقذفون زجاج نوافذ بيتي بالحجارة، وبأنّني أصلّح الزجاج آلاف المرات في السنة. سبقت لي محاولة استبدال الزجاج بالخشب، فلم يرحمني الأموات وقذفوا أخشابي بالحمم و كادت النيران تلتهم بيتي، لا أحد يصدّق حكايتي، حتى السي قدور الذي يحرّكه جده من قبره لا يصدّق بأنّ الأموات يمارسون عليك قهرا مثل الأحياء تماما......." 2 هذه الصورة فتحت باب التساؤل امام قارئها ايعقل ان الاموات يعودون؟ ايعقل ان الكاتبة تعاني من لحظة انفلات شعوري وهيستيريا من الموتى ؟يتبدى السؤال على مقصلة الشك يراوغ  المنطق والمعقول ،لينفلت يقين القارئ بعد الغوص في القراءة والتمعن في رموز النص ان الموتى فعلا يعودون  ، يأتي رمز العنقاء ليدعم موقف الكاتبة من الموتى فالعنقاء اسطورة البعث اسطورة الحياة بعد الموت اسطورة الانبعاث من رماد خامد , هذه الاسطورة تمارس غواية المعنى تراقص الاسئلة بتمعن تناجي حتمية الموت والعودة حتمية الرحيل الابدي ،فالموتى لا ترحل فقط تبلى اجسادها لتبقى افعالها قائمة في عالم الاحياء ،يتمفصل المعنى الذي تريده  الكاتبة من خلال فعل التناقض ،"وضعت نظارتي، شرعت في مراجعة الأوراق ،وأنا منكب على السطور أدقق في قراءتها أحسست بجسمي يهتز، المقعد الخشبي هو الآخر بدأ يهتز، ظننت بادئ الأمر بأنّني أتوهم، لكنّ الأوراق تطايرت بفعل الاهتزاز، كنت متيقنا بأنّ ما يحدث ليس بفعل الزلزال، خاصة و أنّ ظلالا بدأت ترتسم أمامي، نزعت نظارتي، استدرت يمينا و شمالا أبحث عن مصدرها ، فإذا بأيد تحمل مخطوطا كالذي يحتفظ به السي قدور ...أيد تشبه الأيدي التي ترشق زجاج نوافذ بيتي ليلا و تنغص عليّ عيشتي، و بحركة خاطفة تداخلت الأيدي و تشابكت، ثمّ استقامت أمامي عنقاء تفرد جناحيها و تنفض عنهما الرماد..جحظت عيناي، النار تستعر في عينيها..منقارها يقذف الحمم، تداخلت الصورة أمامي بين العنقاء و بين صورة تحفظها ذاكرتي للبطلة لالة فاطمة نسومر، باغتني صوتها، أسقطني من التاريخ، كان صوتا لم أسمع له مثيلا.. لا أخفيكم أنّه سكب الهلع في قلبي...ردّدت الجدران صداه ......." 3 مواربة معنوية تجادل  العقل والوعي لتستقر في جوف المعقول ،هناك من يغيب بجسده ليبقى خالدا بين اصداء الذكرى يناوئ الزمن بعنفوان المجد ،هذا البقاء الاسطوري يشحذ ذاكرة النسيان لتنتفض  ، تدعم الكاتبة موقفها باسم تاريخي اسم تهتز له عروش المجد لالة فاطمة نسومر المراة الحديدية التي ذادت عن وطنها وحملت السلاح في اعالي قمم جرجرة،  تداخل التاريخي بالاسطوري لينحت قصة شعب كافح من اجل حريته شعب ضحى بالنفيس من اجل ابناءه ،فالمراة هنا تحمل دلالة كثير الحرية الام الوطن .......وبالتالي يطالعنا المعنى كبتول متمعنة تهز خلخالها بحياء مفرط ، فقضية الكاتبة قضية وطنية قضية انتماء قضية شعب وامة ،هذه الامة التي باعت امجادها وفرطت في انتسابها هذه  الامة التي طالها لانقسام الشتات ،كما انها تعالج قضية وطن على مشارف الهاوية ، وطن باعوه في مناقصات علنية  ،هذا الوطن الذي طاله التقشف الشعوري واصبح مجرد حييز مكاني قابل للبيع والسمسرة ، لهذا حاولت الكاتبة ان ترسم وضعية وطنها وضعية امتها العربية الاسلامية ،فكانت لالة نسومر عنقاء تفرد جناحيها على ذاكرة خضبها النسيان قهرا ، حاولت ان  تقول ان الماضي لا يموت وان الموتى يعودون فعلا ، فالجزائر امانة تركها الشهداء بايدينا والواجب حمايتها من الغدر والخيانة والاعداء ""أنا جنّتك و نارك، أنا أرضك و سماؤك، لا مفر لك من لوز عيني، من شهد تاريخي، من لجين القمر الذي يضيء عتمة ليلك أيها الكائن الترابي" ثمّ فجأة التصق ذراعها المرمري بعنقي و فاحت روائح الزعتر و الحبق و الأعشاب البرية ، تكلّست ذراعي و لم أعد أجد لجسدي حراكا والصوت النابض في سمعي لا ينقطع:"..أترك للأوراق متسعا في نوافذ بيتك، تكف أحجاري عن رشقك و تكف نيراني عن لسعك...4"هذا صوت الضمير المنبثق من قلب مؤمن بجزائر حرة بامة ملتحمة متحدة بواقع افضل ،لكن الاحلام لا تدوم طويلا فقد استيقظت الشخصية على صوت السي قدور '" أسبلتُ ذراعين فاترين كجندي خسر معركة، و أنا لا أدري إن كنت في حالة نوم أم يقظة، مددت يدي لكوب ماء أطفئ به لهيبا بداخلي، فتراءى لي وجهها لوحة نورانية طفت على صفحة الماء...من ذهولي لم أنتبه إلا وأنا أسقط من سريري أرضا ،و قد استفقت على صراخ السي قدور يناديني بصوته الأجش و يطرق بابي بعنف"5، هذا السي قدور الوحيد الذي امن بقضية انتسابه وكنز جده هو الوحيدالذي حاول ان يحافظ على ماتبقى من ارث عائلته ،وتختم الكاتبة قصتها بموقف لسي قدور الطارق الزاجر الذي يريد ان يدافع عن حقه ، ولا يريد ان يبيع انتماءه .

المصدر:
قصة جميلة طلباوي :اليقظة ،مجلة اصوات الشمال

نصيرة مصابحية جامعة محمد الشريف مساعدية سوق اهراس