الإبداع الشعري و سؤال الإدراك الأسطوري والمعرفي ... !! ـ عمر الدريسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse14086سُئل ذات مرة الشاعر محمود درويش، فأجاب بكل تلقائية، "نحن، حتى الآن، نحاول بكل الأشكال الشعرية الجديدة أن نقول سطراً واحداً للمتنبي. كيف؟ كل تجاربي الشعرية من أربع سنوات حتى اليوم (1982-1986)، كتبت حوالي المائة قصيدة، ثم انتبهت إلى أن المتنبي قال: (على قلق كأن الريح تحتي)"... !!؟  والشاعر، هو من يبني مجدا، ويترك خيرا، ويستظل تحت ظل كل الشعراء من جلجاميش حتى آخر يوم من سنوات عمره، فالموت حقيقة تُعلن نهاية سجال الحياة، والحب حُلم وغاية يلهث وراءه الإنسان، لأنّه بُرهان ودليل على البقاء والخلود، سواء علم بذلك أم لم يعلم، ومهما تطلب منه ذلك من تعب ومن صراع، يؤكد درويش ذلك بقوله "سنكتب من أجل ألّا نموت، سنكتب من أجل أحلامنا" ... !!

إذا أجاز القارئ معي، اعتبار الشعر، آلية معرفية وتنويرية، فكرية، إبداعية، خيالية (لا علاقة لها بالأوهام)، فنية، سامية في عُمقها، خالدة في قيمها، كونية إنسانية في أبعادها، فهي ليست وليدة عصر من العصور؛ كان من الأنوار و ما قبلها  أو من الحداثة وما بعد الحداثة،  بل هي قديمة قدم الإنسان، قِدَم  صراع  الأفكار، صراع النور والجهل، صراع التحكم والتحرر، صراع فرض الهيمنة ونضال المساواة، صراع الغنى والفقر، صراع القِنِّ والمُقَنِّن، صراع العبد والسيد، صراع الواقف والمنحني، صراع الآمر والمأمور، صراع القاهر والراكع،  صراع وصراع...  لكنه سجال وجودي وفكري طبعا، لحاملي الأفكار، التّواقين للإنعتاق والحرية حتما، الباحثين عن الحقيقة، وليس للواقفين والراكعين والجامدين مثل الأحجار الجُلمود في الوجود، أمام الممكن والموجود... !؟


فسؤال الإبداع وُلد حتميا منذ  القدم، خاصة منذ "انتقال الإنسان من التعبير الدلالي إلى التعبير اللغوي"، أي منذ امتلاك القدرة اللغوية للتعبير عن سؤال الوجع وأنين الألم، لماذا نتألم؟ هل فعلا ننبذ الألم و نمقته؟ أم الألم قنطرة لشيء ما؟ ما هي الدوافع التي كانت وراء شعر الشعراء في العصور السابقة؟ أحقاً لم تحظ عشتار بما تُريد، ولم يحظ قيس بلقاء ليلى، وكذا جميل ببثينة وروميو بجولييت، وبودلير بميكائيل برزان،  ولوركا بماريا  ونزار بالكاظمية، ودرويش بمُرهبته..؟ ألم يكونوا جميعاً يتلذذون الحُرقة وراء هذا الألم الذي سببته لهم تلك المعاناة، معاناة تتأوه شوقا وتحترق عشقا، للحب وللحياة، أي للبقاء، وإن اختلفت الأسباب والظروف والبيئات المحيطة.. !!؟

 والسؤال حقا، كان  جليا، منذ ظهور الملاحم، عن ماهية الحياة وفظاعة خلاص الموت، والألم اللذيذ للحب، وإلا بقي البشر كائنا في الطبيعة، مثله،  مثل باقي الكائنات الأخرى، يقتات عليها وتقتات منه، هو واحد بلا ميزة – التعبير والتفكير- في وجوده منها، وهي الكل بكل الميزات عليه.. !!

معظم العلماء النافذين في بناء الحضارة الإنسانية، ابتداء  بالحضارة البابلية و عهد حمو رابي، والحضارة الإغريقية، فترة  أرسطو، وسقراط ، وأبيقور،  ونيوتن .. والحضارة العربية فترة، المعري، المتنبي، ابن سينا، ابن رشد، ابن طفيل وابن خلدون...،  والغربية، فترة الأنوار،   مع سبينوزا وبلزاك وبروست وشوبان،  وفولتير وبودلير...، وانشطار العديد من المفاهيم والنظريات والتخصصات العلمية، وحتى العصر الحديث أمثال  أينشتاين Einstein، هينزبيرغ Heisenberg، شونجو Changeux...، لم يقوموا سوى بالتأكيد على الطابع الهام والحاسم للبناء المعرفي في فهم بعض الظواهر الوجودية المتعلقة أولا بالطبيعة، وتعقد الدماغ وشبكية التفكير، المُعقدة  للمشكلات الصحية والحائرة أمام الألم، وسؤال المسافة الزمنية للحياة، وانقضاض الموت المُفاجئ الموجع للوجود ، وكل مسائل العالم المتوازية في الحياة، وسؤال بداية العالم  ونهايته... !!

أسئلة، وحيرة كثيرة وكبيرة، تبتغي عبقرية مبدعة عظيمة ولا ريب، كان مشيل فوكو Michel Foucault، يكرر عبارة  أثناء محاضراته في "كوليج دو فرانس  Collège de France"، وهو يبتسم ابتسامة العبقري الساهب في العمق، "طوّروا غرابتكم الذاتية أيها الأصدقاء..!"، أحقا  للمبدع جنون...؟!

طبعا، فيليب برينو الطبيب النفساني والعالم الأنتروبولوجي، وعلم النفس الحديث يُجيب، أن الإبداع لا يأتي من الشخص المألوف والطبيعي بين الناس وفي المجتمع، إنه إنتاج شخص، لا يحب المألوف، ولا ينضبط للمجتمع. "غذّوا جنونكم الخاص، ولا تخجلوا منه"، كونوا من أنتم، حتى ولو كره الكارهون..لا تُبالوا بالقيل والقال وأحكام المجتمع المُمتثل، الضيق الصغير، فإذا ما خضعتم له في كلّ شاردة وواردة، فإنّكم لن تُبدعوا شيئا.. !!

ولا شك أنه منذ انفراط الربط المشيمي بين "الصورة والدلالة" أو "الشيء والمفردة"، في الصراع الملحمي بين"غلغاميش" و"إنكيدو"، واعلان انتهاء البراءة الأولى "الطبيعة"، وتدشين لحظة الفصل، ليقظة العقل،  بإحساس "انكيدو" حسب الشاعر العراقي فوزي كريم المفتون بـ ملحمة غلغاميش، نقلا عن الباحثة زيبان وبُحوث أخرى  بالإنجليزية، مهتمة بهذه الملحمة، المأخوذة مباشرة من الألواح السومرية، إنكيدو هذا، منافس وصديق غلغاميش فيما بعد، الذي  "عرف الحبل السري ما بين الأشياء وما بين الكلمة قد انقطع، ما بين اللحن وبين الوتر، توارى، ولذا اكتشف الحكمة تصحبة كالظل، لكن لا تصحبه الغزلان". والغزلان دليل عن الطبيعة مما يعني أن اللغة ومنذ هذه اللحظة أصبحت كتعبير عن دلالة الصورة، مما أدى إلى انطفاء الطبيعة،  حسب نفس الشاعر... !!
 
ومن آثار ذلك ظهرت أول قصيدة حب، في بلاد ما بين النهرين، كتبت على ألواح في العصر السومري، حيث كانت تقرأ عروس الملك "سوهوسن"، قصيدة الحب في حفلة الزفاف، وتكرر فيها الكلمات: "يا عريساً يحبه قلبي // ويا جميلاً ويا عسل النحل // ويا أسداً يحبه قلبي...".
 
ومن تم باتت اللغة مُحترف الشاعر، واطلاعه على قواعدها النحوية والإملائية، إن جاز التعبير، وتَمَكُّنه منها واحتواء جُلّها باستيعاب معجمها، جُـلّه وأحسنه -على الأقلِّ-، هو من أساسيات لمعان الذات الشاعرة في بنائها المعرفي، بحيث لا اكتمال لصنعة نظمه، مهما كابر المُكابرون، إلا بالتّمكن بخبايا وآليات تجويد اللغة...!!

الخطاب  الشعري هنا، لا تسعه قراءة واحدة، وهو يتمطط، حسب زاد  وأسلحة القارئ المعرفية،  وهو أن مقامات الكلام في الشعر، كما حدد النُقّاد والمتذوقون للكلام السامي،  ثلاثة مستويات: المستوى الحسي، وهو نوع من الخطاب العادي الذي يعكس صور الأشياء كما هي في واقعها الرتيب. ثم المستوى الاستعاري، وهو نوع من الخطاب الذي يتفاعل مع الأشياء في الواقع الخارجي تفاعلا مجازيا. ثم المستوى الأسطوري، وهو نوع من الخطاب الذي يتجاوز الحس والعقل، ويتحرك كما يتحرك الحلم، من غير أن يستند بناؤه إلى حد من الحدود. إننا مع هذا المستوى الثالث من الخطاب، لا نطرح التساؤل عن العلاقات الممكنة وغير الممكنة و إنما نتتبع الصورة وهي تنمو شيئا فشيئا، من غير أن تعتمد على الموازنات والمقارنات والتشبيهات والاستعارات بين الأشياء.

وإذا ما أجيز هذا الاعتبار، بالإضافة إلى أنه إحساس وتأمل وخيال وإبداع، فإن الشعر في ماهيته هو بناء معرفي، تأويل للطبيعة والوجود، ومحاولة محاكاتها، مما يؤكد ذلك، ما جاءت به، الحضارة البابلية وملحمة غلغامش، حسب الإنجليزي جورج سميث الذي استطاع أن يقرأ ملحمة غلغاميش، وهو مقيم أول مدينة بأسوارها وهي مدينة "أوروك"، وكل ما يفهم من ذلك كان بحس بدائي، وتبعا لذلك يضيف الشاعر فوزي كريم، فـ "معظم الظواهر الملحمية والثقافية للإنسانية، بالرغم من آلاف السنين التي خلقت أعرافا جديدة، تعود في جذورها إلى هناك... ورواية غلغاميش  الأسطورية هذه، ملغومة حد الإشباع بالدلالات الرمزية"، توضح تعلق البشر  وصراعه المحموم بدافع الغرائز الإنسانية في البقاء والخلود... !!

ما يفسر ذلك أيضا، قراءة هوركهايمر  و أدرنو  وهم أهم أضلاع مدرسة فرانكفورت النقدية، جاء "أوليس" في ملحمة هومروس الإغريقية، رمزا لقيم التنوير والإنسان الأداتي الذي يبحث عن تحقيق ذاته، من خلال التحكم في الأشياء والظواهر المحيطة به.. ولهذا كانت المعرفة التي سمحت له بالإستمرار في الحياة تستمد جوهرها من التجربة الميدانية التي يكتسبها من محبته وترحاله.. فمن امتلك المعرفة ينجح في حفظ بقائه ويواجه الأخطار القاتلة التي تقويه..". وجاء ابن رشد في الفلسفة العربية الإسلامية، إذ يعتبر الشعر والفلسفة كالهواء والماء، إلا أن الفلسفة الحديثة مع  هايديغر M.Heidegger، في كتابه "L'expérience de la pensée"، يقول: " إن الخاصية الجوهرية للفكر، باعتبارها عملا فنيا للشاعر، ما تزال محتجبة"... !!

ختاما، وبالرجوع إلى أفلاطون، حيث ثبوت العلاقة القوية في الفلسفة، بين ما هو خيالي إبداعي، وما هو عقلي معرفي، مرورا بالعصر الوسيط، وعصر التنوير "الذي نصب العقل أداة لممارسة النقد والإنتاج المعرفة... وتحرير العالم من سحره لصالح المعرفة العلمية..."،إلا أنه مع ظهور فلسفة نيتشه وادعاء البعض بانتهاء النسق، الذي يبدو واضحا عند  ميشيل فوكو، الذي يقول "لا يمكن أن نكتب أدبا في غياب الفلسفة، لأن هذه الأخيرة تعلمنا التفكير داخل النسق"، غير أن  هايديغر باحتفائه الكثير بالشعر، وبتجربة الشاعر هولدرين، يُبدد كل الشكوك في الترابط الحاسم بين الخيال (الإبداع)  والعقل (المعرفة)،  وبين القول الشعري والقول الفلسفي... !!