نحو الإمساك بالريح ـ د.المصطفى سلام

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 anfasse28105   صدر للشاعر المغربي فتح الله بوعزة ديوان شعري بعنوان :" قاب كأسين من ريحه " [1] يتألف من سبع و عشرين قصيدة ، و مصاحبا بلوحتين أو ثلاث للفنان التشكيلي عبد العزيز عباسي . و تكشف القراءة المتأنية لهذا الديوان تمركزه إلى نواة دلالية تقترن بالريح، كما يمكن لقراءات أخرى أن تقطف من حقل هذا الديوان ثمارا دلالية أشكالا و ألوانا. فكيف تنتظم الريح بعض قصائد الديوان ؟

1 – الريح في العتبات  :                                                                                    
   إذا كانت دراسات النقد القديم لم تحفل بالعتبات ، فإن القراءة الحديثة تؤسس مشروع تحليلها و تأويلها انطلاقا من العتبات ، أي من مختلف العناصر الموازية للنص مثل العنوان و لوحة الغلاف  و غيرهما ... حيث تجدر هذه العلامات آثارا دلالية أو بصمات للمعنى، و هي في كليتها جزء من الكون الدلالي للنص[2]

أ – العنوان:                                                                                                
         يعد العنوان عنصرا موازيا للنص ، له  أهميته في سيرورة القراءة و تأويل النص[3] ، من خلال بنيته المعجمية و التركيبية ثم الدلالية ، وذلك ما يضمن استقلاله النسبي عن النص ، لكنه في العمق ينشد إلى النص من خلال تسميته و تعيينه و خلق آفاق توقع عند القارئ .

         يتناص عنوان الديوان :" قاب كأسين من ريحه " مع الآية الكريمة :(  قاب قوسين أو أدنى ...) و قاب قوسين أي قدر قوسين أو طولهما ، و القاب ما بين المقبض و السية  ، و القاب هنا القدر[4] . و الكأس مؤنثة و هي الزجاجة ما دام فيها شراب أو خمر، و إذا لم يكن فيها فهي قدح. و الريح نسيم الهواء . يقال كان لفلان ريح أي نصرة و قوة و بأس، و الريح الأثر، و يجد الباحث في معجم الريح حضورا غنيا لها في الشعر و القرآن و الحديث و الأمثال...  لقد جعل العنوان الكأس أداة لقياس البعد الحاجز بين الذات و ما تصبو إليه . و لما كانت الكأس صغيرة من حيث الحجم و فاتنة من حيث الشكل و المظهر و نمطية من حيث الوظيفة و مفيدة من حيث المحتوى ( ماء، عسل، لبن، حليب، خمر ، دواء ، عطر ... أو قاتلة ( سم ) فالبعيد يظهر و يختفي، يغيب و يحضر، إنه يراوح مكانه كالطيف بفعل الريح التي تصل و تفصل ، تفك و تعقد ، تدني وتبعد ...


ب- لوحة الغلاف :                                                                                          
          تعد لوحة الغلاف من العناصر المصاحبة للنص، تلقي بظلالها على عالمه، حيث توجه القارئ أو تضلله، لكن في الغالب تعد علامة دالة في مسار القراءة ثم التأويل إذ لا شيء اعتباطي في الأدب. لوحة الغلاف هنا دليل مركب من نول و امرأة : النول خشبة الحائك التي يلف عليها الثوب أو المنسج . و النول حاضر من خلال مستلزمات النسج: الخشبة و القصب و الخيوط و الألوان ... بينما المرأة حاضرة من خلال: الحذاء أو المداس، اليدان، القلادة أو ما يوضع في الجيد من حلي ثم اللحاف أو طرحة الرأس ... و ما تبقى من الجسد غائب . و من إيحاءات هذا الدليل أي اللوحة :

1 – الغياب: غياب أجزاء أو مكونات أساسية في جسد المرأة مثل الوجه و الأرجل و الوسط... ثم غياب صاحبة النول، حيث لا يمكن أن يوجد هذا العنصر إلا رفقة المرأة.

2 – التوحد : أو الاندماج حيث اندمج النول مع المرأة و عوض ما  غاب من جسدها فشكلا وحدة : امرأة في نول أو نول في امرأة و تاريخيا هما غير منفصلين ، إذ شكل النول تقنية و مجالا لعمل المرأة في البيت ، عبره أنتجت منتوجات ذات قيمة و وظيفة مثل (الزربية و الحايك و السجادات .). في منتجاتها تضع أحلامها عبر الرسوم و الخطوط و الأشكال الهندسية.. ونفس الأمر مع ظاهرة الوشم[5].

3 – الوضعية: يقتضي النول و المرأة وضعية معينة من خلال الارتكاز إلى دعامة أو سند مادي، و نلاحظ أن النول / المرأة في وضعية اهتزاز و ارتجاج، و إن كان النول مسنودا إلى حائط خلفي غير أنه يظهر منزوعا أو مخلوعا. و المرأة وضعيتها بينهما حيث تعبر و تنظر إلى العالم عبر وساطة النول أو منتوجاتها . و لعل السبب في تغيير هذه الوضعية هو الريح لأن المرأة / النول مدفوعان في اتجاه ما مبتعدين عن مكانهما. ربما الريح رمز للتغيير الذي أصاب واقع المرأة التقليدية و دنياها و عصفت بمنتوجاتها و غيرت رؤيتها للوجود فحملتها من عالم البساطة و العفوية إلى عوالم لم تستقر بعد المرأة العربية على وضع معين. 4 - التشاكل : تتشاكل هذه الصورة أو اللوحة من خلال مكوناتها مع القصيدة : المرأة تنتج المجاز و الاستعارة و الرمز من خلال اشتغالها بالنول عبر الألوان و الخطوط و الأشكال ... إن ما تنتجه هو عبور و مجاز إلى عالم ثان، ونفس الأمر في القصيدة فهي مرسومة و مطرزة ومنمقة و مرصعة بالمجازات و الاستعارات و التشبيهات... أي بالتخييل . القصيدة نابعة من داخل الذات  أي من خيالها و روحها و أحلامها ومنتوج المرأة أي ما حاكته نابع من إحساسها و ألمها و غبطتها ، من فرحها و معاناتها .. إن الوجدان مقيم في القصيدة و في ما ينتج عبر النول.

5 – الاحتفاء: حفلت اللوحة بعنصرين: موطن الإحساس أو بؤرة الوجدان وجسره إلى التحقق: القلب و اليد. و العلاقة وطيدة بينهما؛ فاليد مطيعة و خادمة و منفذة لما في القلب، اليد تكتب و ترسم و تلون و تربط و تعقد ... إنها أداة إظهار  متخيل المرأة إلى الوجود . ونفس الأمر عند الشاعر حيث القصيدة تكتب و ترسم و تبنى باليد.

2 – نحو امتلاك الريح:                                                                                  

       تشكل الريح إحدى الثيمات أو الموضوعات الأساسية في الأدب العربي : شعرا و نثرا، إذ يجد القارئ لها حضورا متميزا و تجليات متنوعة . وقد حفل بها الشعراء قديما و حديثا وذلك لقيمتها الرمزية و الإيحائية. كما أن الريح وظفت في القرآن توظيفات بمعنيين مختلفين :البشرى و الرحمة و السقي أو الأذى و العذاب . كما يكشف هذا الاستثمار على غنى و ثراء معجم الريح: العاصف ، الداريات ، اللواحق ، السموم ...[6]  و بالعودة إلى الديوان ، نلاحظ احتفاء الشاعر بالريح مما ميز نصوصه ، بدءا من العنوان : قاب كأسين من ريحه . و القارئ لبعض نصوص الديوان يدرك أن الريح شكلت رحما أو نواة توالدت عنها أطياف دلالية انتظمت كالتالي:

1 – طيف الهباء :                                                                                                                    

    في مطلع قصيدة ( مطر عالق بنواصينا )  فشلت الذات في رسم شكل للغواية و الفتنة ، بغاية الإمساك بها أو تأطيرها ، كي لا تنفلت منها ، لأنها ممتعة رغم التحذيرات الصادرة من بعض الخطابات و التي رمزت لها بالتفاحة و الأفعى جاء في النص :

في البدء
بدا لي أن أرسم شكلا للغواية
تفاحة ، مثلا ، يتعقبها فرسان أشداء ..

   و يتابع قائلا :

فكرت في أن أرسم شيئا آخر
نهرا من لبن ، مثلا
تمتد على ضفتيه أرائك من ضوء
و نوايا مقرونة بالبهاء ....[7]

     الشاعر هنا لم يرسم غير الهباء أي التراب الذي تذروه الريح فتراه على وجوه الناس و جلودهم و ثيابهم. إنه شبيه الدخان   الساطع في الهواء . لقد تطاير الرسم تمردا و عصيانا و انفلاتا من التطويق و الحصر، وهذا ديدن الغواية و الفتنة في التجربة الإنسانية . و في قصيدة ( كأني ذئب يشحذ أوصاله ) ينكشف وضع مأساوي عاشته الذات جراء أزمتها أو تشظيها إلى شظايا تتطاير مثل الهباء، يقول الشاعر :

أول نصفي هباء عال هار
و ماء يتوق إلى نسله[8]  .

    هذا الوضع بين هشاشة الذات و اندحارها معنويا وماديا  بسبب قوة الخصم أو شدة المأساة " هباء عال هار " لقد فقدت الذات ما يشدها إلى أصل و يحافظ على توازنها .                                                                            

2 – طيف الخواء:                                                                                                                     

    في نص (مساء خلفي ) يصور الشاعر وضعية تأمل و تمعن ، حيث الذات تتأمل في نفسها ، في ماضيها و حاضرها ، في وجودها و مصيرها ، ما انفصل عنها وما اتصل بها ، ما ضاع منها وما انتهى إليها . إن الإحساس المهيمن في هذه الوضعية هو الحصار:                                                                                                                 

خلف الحائط حائط                                                  
خلف الحائطين غبار كثيف                                        
خواء سحيق                                                       
يليه خواء آخر قيد التشكل                                       
هل أخطأت الطريق إلى مرقدي ....[9]       

    لقد شعرت الذات المتأملة بأنها لا وزن لها ، بل هي في وزن  ذرة غبار في الخلاء . الحيطان مضاعفة أمام الذات ، و الخلاء السحيق يرمز إلى التلاشي و التيه والضلال ، حيث لا وجود لعلامات أو إشارات ، لأن التيه في الخلاء أشد عذابا و أقسى محنة من التيه في الأرض . و تتابع الذات تصوير مأساتها من خلال تخيلها أطيافا و صورا ل:                                          

صبايا يتوكأن على نهر جار                                      
يتسللن إلى شأن آخر
    خلف المشتى وتفاحة آدم                                      
يرقصن على طرف من خواء ...[10]

  لقد غدا الخواء عمادا و سندا لضلال و أطياف ، لأشباح و مسوخ ، تتراءى للذات كصبايا يرقصن تعميقا لمأساته ، و تشبه هذه الحالة نوعا من الهذيان أو التوهم أو حلم اليقظة ، حيث الانقطاع الكلي عن الواقع و بناء واقع بديل و مغاير .

3 – طيف الغبار :

      في نص" طوبى لمن يصهل أولا " يصبح الغبار الأفق الذي تنظر إليه الذات وهو يوحي بالجدب و الموت ، و يتجسد من خلال المشهد التالي :

طفلان يهيلان الغمام على نخلة
تشبه امرأة
بجناحين من عهن و غبار[11]

       يصبح الغبار من مكونات كيان المرأة ، لقد تحولت النخلة امرأة ، و المرأة غدت طائرا بجناحين : جناح من عهن و آخر من غبار ، تعميقا للغرائبية و هي احتمال ممكن من احتمالات أخرى يستطيع الشعر أن يؤسسها . هذه المرأة بهذه المواصفات هي موضوع متنازع حوله، وتدار الحرب بشأنها أملا في الفوز و الغنيمة أو الامتلاك. و الفائز من يصهل أولا إعلانا للحرب و تحريضا عليها و إنذارا بحنكته و شدة مراسه ، ربما تخويفا لخصمه أو لشجاعة منه ، فغدت ديدنه في مثل هذه الوضعيات ... الفوز أو الخيبة ، الانكسار أو الانتصار، لا يحددهما في النهاية رصيد المغامرة أو المبادرة أو الشجاعة ، بل الأمر لمن ارتضته المرأة فارسا لها ، و لمن بوسعه أن يمسك الغبار و يقهر الريح ، و لا غرابة في أن تتماثل المرأة مع الريح أو الغبار أو الحرب في مثل هذه الاحتمالات .....

4 – طيف الدخان :

        من المعتاد أن الدخان ينجم عن الاحتراق ، فتتحول المواد المحروقة إلى دخان كالح أسود ، يملأ الجو بالريح ويحجب الرؤية . و في نص " كأني ذئب يشحذ أوصاله " تتخذ الذات بعد تلاشيها و تشظيها شكل الدخان الذي يتحول إلى امرأة تتملى سوالفها :
نصفي الآخر دخان يتملى سوالفه[12]

حيث في تشخيصها لوضعيتها وقفت على الانفصال أو الانشطار إلى نصفين . و الانشقاق هو جوهر هذه الذات ،حيث الإحساس بالعدمية و التفكك ، هذا الجوهر يطوقه الغموض و الالتباس و التلاشي . و في قصيدة "مساء خلفي " لا يتراءى للذات سوى الغبار و الخواء و الفراغ دون سند أو ركيزة :

دخان أثري يدحرج أنسابه خلف الكأس
هل أخطأت الطريق إلى مرقدي [13]

    و في المقطع الخامس من قصيدة " يفرش لي آخر سهو في حدائقه "يصبح الدخان و الظل من طقوس الجنازة أو الموت:  

الغراب المبهم ضيفي
يرتب آخر سهو للموتى
........
يفرك فروة رأسي
و الحروف التي في دمي
بقليل من الظل و الدخان [14]

    بهذا التصوير يرسم الشاعر مشهدا من مشاهد موته : حلول الغراب مبعوث الموت ضيفا عند الشاعر ليرتب مراسيم الرحلة إلى عالم الآخرة ، مسخرا في ذلك الظل و الدخان حيث يفرك الغراب فروة الرأس لينقيها و يطرح ما علق بها من أفكار وأوهام و أحلام ، ربما هي ذنوبه و آثامه . و نفس الأمر مع لغته التي لم ينبس بها بعد حيث ما تبقى من حروف أو كلمات هو خبث ونثانة . هكذا تتطهر الذات بالظل و الدخان استعدادا للعبور .

5 – طيف الريح:

 تشكل الريح نواة دلالية انتظمت الكون الدلالي للديوان, يقول الشاعر: 

رأيت يدي الأخرى تتدحرج في طمي
النهر القديم، هناك جوار أبي، حيث الأرض
تخلو من الأرض ، و الريح من عنفوان الريح و
ينأى الوقت عن الوقت ...[15]

     تعبر الذات و هي و هي تتأمل موتها ، و تؤدي طقوس غيابها عن الوجود ، حيث بدأ الجسد يفقد الحرارة و الحركة و يعمه الشلل و التخثر ... هذا الطقس لم يقتصر على الشاعر وحده، بل عم الفضاء: أرضا و ريحا و زمنا إظهارا للتضامن معه و مواساته أو احتفاء بالوداع الأخير له و إما كون الموت علامة من علامات الآخرة و هو موت شمولي. و الذات وهي تعاني آلام الصراع الناجم عن التوتر و الإفراط في الانفعال و الوقوع بين مخالب الغضب و الضعف ؛ لأسباب أو ظروف معينة تفرضها صروف الدهر و إكراهات الحياة : العمل ، الخلاف الفكري ، المواقع الاجتماعية ، تتوهم أنها تقبض على الريح :( الريح التي في يدي )15. و دلالة هذا القبض إما القوة و بالتالي الانتصار أو الضعف و القصور وبالتالي الخيبة. في حالة الانتصار تشبه الذات الآلهة و خاصة أرباب الريح في الميثولوجيا و الدين مثل نبي الله سليمان الذي سخرت له الريح فكانت جندا من جنوده . هذا الامتلاك تجسد في كون: الريح التي في يدي ترمح في الزحام [16] الريح تحارب مصوبة الرماح إلى الخصوم : خصوم الذات ، و في المقابل مبعدة رماحهم ، غير أن هذا التفوق لم يكتب للشاعر نصرا مظفرا و لم يدون هزيمة الخصوم في مرويات التاريخ . و في قصيدة "رجل معتق " يصور الشاعر مشهدا مركبا من جملة من العناصر أهمها : رجل معتق و حانة ، حيث يرابط في ركن من أركانها مؤديا فيها بعض  طقوس الشعر و الخمر و الريح  هي الآمرة بتهييء فضاء اللهو و اللعب و الحريصة على إتمام الطقس و إنهائه...يقول الشاعر :

في الكلام الفاصل بين مدينتين
ناولته الريح معطفا
و طرفة أرض، و أوتاد الخليل
قالت له : ثبت المكان من حولنا
أريد أن ألهو قليلا [17].

      و في قصيدة" تناظر " يعرض الشاعر مشاهد للحرائق الناتجة عن إضرام النار، ليس بالضرورة أن تضرم في ما هو مادي قابل للاحتراق، بل قد تضرم في العواطف و المشاعر، وما أقسى احتراق الوجدان و الفكر.... و الحرائق كناية عن المساجلات التي خاض الشاعر غمارها و ركب أهوالها، قاصدا أو مكرها.... لقد واجه ذلك لعبا و حوارا و رسما و صراخا و كتابة، أعزلا و مؤيدا... و من سمات الحرائق الامتداد و التوسع في جميع الجهات رغبة في الانتهاء و الإنهاء. إذ الأكيد أن الحريق هو الفعل الذي يسعى حثيثا نحو نهايته، و كأن وجوده في نهايته بعد أن يصير ما حرق رمادا و دخانا تدروه الريح... في هذا النص الشعري ناظر الشاعر بينه وبين الحرائق حيث جعلها تشبه الخيول في جريها و إغارتها بعدما تباغتها الدعوات و جعل لنفسه شهوة الريح في الإسراع و الإنذار ، في السبق و البشارة ، في القهر و الرحمة ، في الوداعة و العنفوان :

للحرائق سهو الخيول تباغتها الدعوات
و لي شهوة الريح ينتابني ..[18]

       هكذا نلاحظ أن الريح شكلت النواة التي انبثقت عنها باقي المحاور الدلالية، إنها بمثابة الثريا التي تسطع في مملكة المعنى، و تحدد تضاريس الدلالة من خلال مسميات ثانية للريح: الخواء، الهباء، الغبار... لقد عكست هذه الأطياف  دلالات الانفلات و التلاشي و اللاارتكاز ، حيث مثلت نصوص الديوان أو بعضها وضعية الذات التي يحكمها التشظي و الاندثار ؛ لأنها فقدت أو ابتعدت عما يحفظ كيانها و يسعفها على النهوض ، بغض النظر عن طبيعة تلك الدعامات هل هي مادية أم فكرية معنوية ، دينية فلسفية ، لأن الإحساس بالقوة في الوجود متعدد المصدر " المال ، الثروة ، العمل ، القيمة الاجتماعية ، الفكر ، لانتماء السياسي أو الديني ..." و نصوص الديوان عرضت هذا الإحساس و بينته من خلال استثمار متخيل الريح و رمزيته ، وهو استثمار له بعدان : من جهة أولى يوضح وضعية الذات المتسمة بالضعف و الارتجاج أو الاهتزاز و غياب التماسك ، ومن جهة ثانية ، تطمح الذات لو كانت تملك ما للريح من قوة على المقاومة و التغيير و التدمير و النفع و الأذى أو الرحمة و العذاب . لقد صورت النصوص في بعض مقاطعها معاني القلق و الاضطراب و التوتر التي انتابت الذات في حروبها المجازية ضد خصوم مفترضين / واقعيين : في الفكر و القيم و العمل و الموت و المرض و الإبداع ... وإذا كان القلق إحساسا بالانكسار أو الانهزام فهو أيضا إحساس بالانتصار و الغلبة من خلال فعل الكتابة، أي كتابته و تدوينه شعريا خوفا عليه من المحو.

      قبل أن نختم هذه القراءة ، نلاحظ أن نصوص الديوان و خاصة التي انتظمت حول الريح و جعلت منه مكونا شعريا تنشد إليه باقي العناصر الأخرى تتشاكل مع لوحة الغلاف و العنوان ، إذ المرأة حاضرة في النصوص بصور متباينة تعكس وضعية الذات من خلال علاقتها بها ، أي بالانفصال أو الاتصال ، الفقدان أو الامتلاك ، الاكتمال أو النقصان  ... وهذه ثيمة أخرى يمكن الاشتغال عليها . كما أن الريح تتماثل مع المرأة ضمن الموسوعة الثقافية الخاصة بها ، وشعر الغزل أو تجربة العشق حافلة بهذا ، كما أن المرأة التقليدية العربية عامة و المغربية خاصة في تحولاتها ارتبطت برياح التغيير و التحولات السوسيو اقتصادية و الفكرية التي ميزت المجتمع العربي و دفعت بمنتوجات هذه المرأة إلى الذاكرة الشعبية و المتاحف السياحية .
 

[1]  - فتح الله بوعزة : قاب كأسين من ريحه ،شعر ، ط1 ، 2010 .
[2] - يمكن العودة إلى : Girard Genette :seuils ; seuil . 1987
[3] - يمكن أيضا الرجوع إلى :Hoek –leo.H : La marque du titre . Mouton piblisher.la Haye .Paris 1981
[4]  - أنظر المواد : ( كأس – قوب – ريح – نول ) في لسان العرب  .
[5] - يمكن العودة إلى بعض أعمال الباحث المغربي الدكتور عبد الكبير الخطيبي في هذا المجال .
[6] - تضمن  القرآن و الحديث توظيفات متباينة للريح مما أغنى معجمها ... ونفس الأمر نلاحظه في الشعر و الأمثال و الميثولوجيا و ذلك لكون الريح تشكل أحد العناصر الكونية الأربعة إلى جانب : الماء و التراب و النار .
[7] - الديوان : ص 4
[8] - الديوان : ص 7
[9] - الديوان : ص 12
[10] - الديوان : ص 13
[11]  - الديوان : ص 23
[12] - الديوان : ص 7
[13]  - الديوان : ص 14
[14]  - الديوان : ص 18
[15] - الديوان : ص 15
[16] - الديوان: ص 30
[17] - الديوان :ص 43
[18] - الديوان : ص 74