قصيدة السّوناتا بين الأنا البودليريّة والذّات الدرويشيّة ـ عبد العزيز صالحي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse28111إن تطوّر المنظومة الشّعرية العربيّة والفلسطينيّة خاصة نتيجة لتعقيد الموضوعات وانفتاح بوابة الشّعر على العديد من الواجهات خاصّة بعد اتّفاق أوسلو سنة 1993 فرض على القصيدة العربيّة والفلسطينيّة خاصّة أشكالا مختلفة  بداية بالقصيدة الشّاملة مع حسين البرغوثي تحديدا والقصيدة الومضة أو التوقيعيّة مع عزا لدين مناصرة مرورا بالقصيدة المدوّرة مع احمد حسين و محمود درويش و صولا إلى نمط جديد أصبح يعرف باسم القصيدة السّوناتا، و ربّما كان هذا التواتر و التّتابع و التنوّع في أشكال القصيدة العربيّة  كان تمهيدا لظهور هذا الضرب من فنون القول الشّعري و هو ما يتجلّى خاصّة مع محمود درويش في ديوانه "سرير الغريبة" .
            و تجدر الإشارة إلى أنّ هذا النمط لم يكن وليد الشّعرية العربيّة بل هو شكل مستحدث ومستقى من المنظومة الشّعرية الغربيّة وبالتحديد ايطاليا مطلع القرن الثّالث عشر مع جياكو دي لينتو ودانيتي اللذين يعدان أول من ابتدعا هذا النّوع واهتمّا بتطويعه وكيفية تطويره، و سرعان ما تسلّل هذا اللّون الجديد إلى سائر أنحاء أوروبا ليحطّ الرّحال في فرنسا و خاصّة مع شارل بود لير الذي البس ديوانه" أزهار الشر" حلّة هذا الشكل الجديد ، فقد عمد الشّاعر في ديوانه المذكور تمرير هذا اللّون الفنّي للتعبير عن العديد من القضايا، ولم تنحصر جذور القصيدة السّوناتا داخل أسوار الشّعرية الغربيّة، إذ سرعان ما تفطّن درويش وهو احد أعلام الشعرية العربيّة إلى هذا الضّرب الإبداعي في الكتابة الشّعرية و أناط ديوانه" "سرير الغريبة" في بعض من قصائده بهذا الجانب الإيقاعي و البلاغي المخصوص الذي ضبط له العديد من القواعد والموازين التي ترسّخه و تشكّله وربّما كان في استلهام بودلير لهذا اللّون محاولة منه لخلق فضاء إبداعي تكون فيه الذّات الإنسانيّة في حلّ من كلّ أغلال الواقع  فكانت سوناتاته تناشد التحرّر أينما ولّت وجهها وكذا الشّأن عند درويش لكنّنا سنبحث في ثنايا هذا التحليل عن خاصيّة كل سوناتا وذلك قد لا يتمّ إلاّ بعقد دراسة مقارنيّه لكلا السوناتاتين الدرويشيّة والبود ليريّة و ذلك بهدف الوقوف عند خصائص كل سوناتا شكلا و مضمونا.    

I. تعريف السّوناتا :                                       
        تعدّ السّوناتا ضربا من ضروب القول الشّعري الذي اكتسح السّاحة الأدبيّة الغربيّة منذ القرن الثّالث عشر و سرعان ما افتكّ هذا اللّون لنفسه مكانا مرموقا عندما استوطن الشّعرية العربّية ، و قد ضبط لهذا الّلون الفنّي العديد من القواعد والقوانين ألتي نطلق بفضلها على القصيدة اسم سوناتا إذ السوناتا كما حدّدها محمود درويش في كتابه المختلف الحقيقي  استنادا إلى مقال صبحي حديدي تحت عنوان '' ماذا يفعل العاشق من دونه منفى '' إذ يقول في تعريف السوناتا '' هي قصيدة تتكون من أربعة عشر سطرا تلتزم هندسة تقفية محددة على مثال )4-4-3-3(. وقد نشأت في ايطاليا مطلع القرن الثالث عشر و كانت أول شكل شعري غنائي يكتب لا ليؤدى أو يلحن بل لكي يقرأ قراءة صامتة وبذالك فإنّها أوّل شكل غنائي يخاطب الوعي الذاتيّ أو يتناول الذاّت في حالة الصّراع "  .
       ومن هذا التّعريف نخلص إلى أن السّوناتا هو ذلك الإيقاع المخصوص الذّي تتولّد منه نظرة و رؤية ذاتيّة ووعي ذاتي يعبّر عن ذات إنسانيّة تعيش صراعا أيّا كان ذاك الصّراع ، وتلتزم بنية محدّدة وهيكلا مخصوصا قوامه أربعة عشر سطرا، و يعد جياكو دي لينتو أوّل من ابتكر هذا الجنس المخصوص في الكتابة الشّعريّة ، و سرعان ما تفاعل هذا الشّكل مع دانيتي وفرانسيسكو تيرارك ، فضلا عن ذلك أن القصيدة السّوناتا تعد من أهمّ القوالب الموسيقيّة التي تستخدم في التّأليف الموسيقي الغربيّ، و ممّا جاء في كتاب كورت زاكس  بعنوان ''تراث الموسيقى العالميّة'' و الذي اهتمّ بترجمته سماحة الخولي قوله '' أن السّوناتا تعني قطعة موسيقيّة  مخصّصة للعزف من أيّ آلة موسيقيّة كما تعني أيضا قالبا موسيقيّا كلاسيكيّا لتميّزها عن المغنّاة''  ، ولكلمة سوناتا  في الحقيقة معنى أصلي تولّدت عنه العديد من المعاني الأخرى، إذ تدلّ هذه الكلمة فيما تدل على فعل العزف في اللّغة الايطاليّة مقابل الكانتاتا التّي هي من فعل الغناء ، و تدريجيّا أصبح للسونيت هيكلا و شكلا خاصّا بها من خلال جملة الضّوابط الإيقاعيّة  ومن خلال تحديد ملامح هذا اللّون المستحدث بشكل دقيق ، ونادرا ما نجد شاعرا في تلك الفترة  لم يستخدم هيكل السوناتا في القول الشّعري  و من رواد هذا الشّكل على غرار مولّديها الأصلين نذكر بود لير من فرنسا ودرويش من فلسطين  وفيما يذكره الناقد صبحي حديدي للاستدلال على انبثاق هذا اللّون في كتابة الشّعر  تشكلّه على أنقاض الإمبراطوريّة الرومانيّة  و يقول معلّقا على جملة الضّوابط و الموازين التي أطّرت هذا الضّرب وسيّجته  فيقول ''ليس من المصادفة إن الشّكل يتألّف من أربعة عشر بيتا ينقسم إلى مقطع ثماني وضعيّته  توتر ذات شحنة عاطفيّة دافقة و مقطع سداسي يهدئ الشّحنة ويخفّف التوتّر ''  .
        وبالتّالي فانّ قصيدة السّوناتا قد خلعت ثوب القصيدة التقليديّة الخاضعة لبحر معيّن و احتذت بتفعيلة خاصّة وشكل خاصّ و لون معيّن ، فلم نعد إزاءها إزاء قصيدة ذات صدر و عجز بل أصبحنا نحاكي قصيدة خاضعة لميزان معين قوامه أربعة عشر بيتا مقسّم بإتّقان.
          و في هذا الإطار يشير النّاقد حسن خضر في مقال له في كتاب المختلف الحقيقي لمحمود درويش متحدّثا عن حركة السّوناتا قائلا'' أن حركة السّوناتا تتكوّن أصلا من ثلاث مراتب أو درجات تتمثّل الأولى بالتمهيد أو البيان التفسيري الذي يتكوّن من نغمتين في حالة تضاد وتتمثّل الثّانية تطويرا لجزء من المادّة النغميّة الأولى بأشكال مختلفة إلى جانب تقطيع المادّة النّغمية إلى عناصر تكوّنها. و في الدرجة الثّالثة تظهر نغمات الدرجة الأولى لكن السّوناتا لا تعتبر كاملة إلاّ إذا حقّقت نوعا من المصالحة بإلغاء التّضاد الأول'' ، هكذا إذن تتجلى ماهية السّوناتا بكونها ضرب من ضروب القول الشّعري المستحدث و الذي خضع لجملة من الضوابط،  التي تسيرها.                                                         
II. الخصائص الشعرية في سوناتا بودلير :               
1-الإيقاع :          
       تتواتر العديد من العناصر في تشكيل هيكل قصيدة السّوناتا و لعلّ الإيقاع أبرزها باعتباره احد العناصر الفعّالة في صنع نغميّة القصيدة و يعدّ إيقاع السّوناتا مثلما أسلفنا الذكر بكونه مزيجا من التناسق الصوتي بين أربعة عشر بيتا مكونين من تشكيل ثماني و سداسي ولهذا التقسيم بعدا نغميّا مميّزا فضلا عن كونه يكسب القصيدة تناسقا و تجانسا بين الأصوات التي تتردّد في ثنايا البيت الشعري الواحد.
      إنّ الناظر في ديوان" أزهار الشر" لبودلير والذي أناطه الشّاعر بهذا الشّكل يلحظ أن سوناتاته تكاد تحاكي في بعض من جوانبها سوناتا الثالث عشر، غير انه اختطّ لنفسه سوناتا تتنوّع فيها القوافي، يتباعد فيها الروي و يمكن الاستدلال على ذلك بقصيدة

"correspondance'' :

La nature est un temple où de vivants piliers
Laissent parfois sortir de confuses paroles           =  4
L’homme y passe à travers de forets de symboles
Qui l’observent avec de regards familiers

Comme de longs échos qui de loin se confondent
Dans une ténébreuse et profonde unité                 =  4
Vaste comme la nuit et comme la clorte
Les parfums les couleurs et le sens se répondent
    

Il est des parfums frais comme des chaires d’enfant
Dou comme les haut bois, verts comme les prairies  =  3
Et d’autre, corrompus, riches et triomphants


Ayant, l’expansion des choses infinies
Comme l’ambre, la muse, le benjoin et l’encens       =  3  
Qui chantant les transports de l’esprit et des sens 


       إن الناضر في قصيدة بودلير هذه ألفى أنها تحاكي في جانب منها الشّكل العام للسّوناتا وخاصّة من حيث شكل القصيدة العام ،أو البنية المتعارف عليها  فقد خضعت هذه المنحوتة إلى الميزان الذي حدّد ماهية السّوناتا بكونها مكوّنة من أربعة عشر بيتا، ملتزمة بنظام تقطيع مضبوط سلفا ألا وهو ( 4-4-3-3)   محافظا بذلك على الهيكل العام لهذا الشّكل، غير أن الباحث الرّصين عن خصائص الشّعرية في هذه المقطوعة يلحظ ظاهرة التنويع في الرويّ و القافية فالمتأمّل في الأربع اسطر الأولى ألفى أنها تخضع لنظام التقفية المتداخلة وفي الأربع الأسطر الثانية القافية المترادفة.                                     
       إن الحضور المكثف لجملة هذه العناصر من الرويّ و القافية مرورا بالتفعيلة ساهم مساهمة فعالة في تأسيس شعريّة السّوناتا البودليريّة ، وخلق فضاء تتزاوج فيه العناصر بهدف تأسيس إيقاع القصيدة. وقد احتذى بود لير في قصيدته ''l’ennmi'' حذو سوناتته الأولى  إذ يقول :


Ma jeunesse ne fut qu’un ténébreux orage
Traversé ca et la par de brillants soleils                          =    4
Le tonnerre et la pluie ont fait un tel ravage
Qu’il reste en mon jardin bien peu de fruits vermeils

Voila que j’ai touché l’automne des idées
Et qu’il faut employer la pelle et les râteaux                 =    4
Pour rassembler a neuf les terres inondées
Où l’eau creuse des trous grands comme des tombeaux

Et qui sait si les fleures nouvelles que je rêve
Trouveront dans ce sol  lavé comme une grève                =  3
Le mystique aliment qui ferait leur vigueur ?


O douleur ! ô douleur ! le Temps mange la vie
Et l’obscur ennemi qui nous ronge le cœur                        =  3
Du sang que nous perdons croît et ce fortifie !



          إن المتأمل لهذه القصيدة يلحظ  أن بود لير قد أخضعها للقواعد التي ضبطت لهذا اللّون في القول الشّعري على الأقلّ من حيث الشكل العامّ، لكنّنا إذا أمعنّا النّظر في محاولة استقصاء اثر الشعرية في المقطوعة أمكن لنا القول إنّ بود لير و إن حافظ على السّوناتا من حيث الشكل ،إلا انه عمد إلى تقنية التلاعب و التنويع في الروي فلم يعد نظم السّوناتا حكرا على روي معين مثلما هو جلي في هذه المقطوعة التي من السمات المميزة لشاعريّتها هي سمة التنويع في الروي والقافية كما إن من السّمة المميّزة لسوناتات بودلير أنها عادة ما يخضعها لتفعيلة ما يسمى"l’alexandrin''.
        هكذا إذن يتأسّس الإيقاع في سوناتا بودلير بالاعتماد على جملة من الضّوابط الإيقاعية التي تساهم أيّما مساهمة في إثراء البعد النغمي في القصيدة، بدءا بالتنويع في الروي وإحداث  تناسق صوتي بين مختلف القوافي و الإرواء المستخدمة في ثنايا القصيد.                             
و قد لا تتجلّى شعريّة السّوناتا عند بودلير إذا اقتصرنا على الجانب الإيقاعيّ و إن كان لهذا الأخير من وقع في تأسيس هذه الشّعريّة ،غير انه إذا أردنا أن نغوص في محاولة البحث عن أشكال أخرى تأسّس هذه الشّعرية لابدّ لنا من البحث في ثنايا الصّورة الشّعريّة التي حفيت بها سوناتات بودلير.                               
2-الصّورة الشّعريّة و مداراتها الدلاليّة:                                                                                                      
          يعد اهتمام الدّارسين لفضاء الصّورة الشعريّة لما للأخيرة من قدرة على مزيد إثراء المعنى الشعري و مزيد تعميقه إذ يقر جون لوي جوبار في كتابه ''الشعرية''  إذ يشير إلى إن الصورة تتوق أن تصبح علامة الشعر المعاصر المميزة و النص لا يعرف بكونه نصا شعريا إلا بدرجة قوة الصورة فيه. و تتأكد أهمية الصورة الشعرية من خلال الشعارات التي رفعها رواد الحداثة الرومنطيقية من خلال صوت أوجست ولهام شليخل بقوله ''إن الشعر تفكير بالصورة''. فتصبح عندئذ الصورة ركيزة الشعر، بل هي الواسطة الوثيقة بين الشعر و الجمال ولعل بود لير وهو احد أعلام المدرسة الرمزية قد أدرك بان الصورة الشعرية لطالما ظلت أسيرة الإطار البلاغي الضيق الذي قيدها و قيد طموحها الفني.
         فالمتأمل في ديوان'' أزهار الشر'' يلحظ هذه الثّورة التي أحدثها بود لير  في فضاء الصّورة الشّعرية من خلال الصّور الإيحائيّة و الرّموز الحافلة بالمعاني الخفيّة ،و أصبحت الرؤى التي تتأمّل الصّورة هي رؤى أكسبت الصّور بعدا رمزيّا ثوريّا و أضحت إزاءه أداة خلق فني متحرّر من كل القيود إذ يقول بود لير في قصيدته ''correspondance'' :

La nature est un temple où de vivants piliers
Laissant parfois sortir de confuses paroles
L’homme y passe a travers des forêts de symboles
Qui l’observent avec des regards familiers 

      إنّ المتأمّل لهذه الصّورة وخاصّة في قوله''الطبيعة هي المعبد'' يلحظ أن بودلير يشبّه في هذه الصّورة الطبيعة بالمعبد لما يكتسي هذا المكان من بعد رمزي قدسي، فلكان الطّبيعة هي القارّة المفقودة التي يبحث عنها بود لير ليمارس بعده التعبدي و القدسي ألا وهو الحريّة و البحث عن الذات الإنسانيّة التي ضاعت تحت براثين ألام الواقع ،و لكان تلك العبادات و الطّقوس التي يحويها هذا المعبد تتزاوج مع بحثه المستمر عن فضاء جديد يسكنه و مكان يلوذ إليه بالفرار خوفا من سطوة أل''هو'' فوجد ضالّته في الطبيعة هي المكان المقدّس الذي يفرّ إليه كلّما أراد الالتقاء مع ذاته، و أضحت الطّبيعة في خضمّ ذلك فضاء التحرّر الذي يمارس فيه بود لير فعل التحرّر دون التقيّد بأغلال الواقع، فلكان بود لير أراد بهذه الصّورة أن يلبسها بعدا رمزيّا يخاطب الذاّت الشّاعرة و يحاكي تأمّلاتها، وصارت جل سوناتاته تعبّر من خلال صورها عن تمزّق ذاتي بين رغبات الشّاعر الحسيّة و إيمانه الروحي يقول في هذا الإطار هنري لومتير في تقديمه لهذا الديوان إذ يقول بإن التمزّق الذي يعانيه بود لير بين رغباته الحسيّة التي عذبته و بين الإيمان الروحي هي سمة عصره الكاثوليكي لتفشّي سر هذه الأفكار التي سيطرت على روحه والتي تضمنتها قصائده و الواضحة في كل لغة و صور و رموز شعره.       
      لقد مثّلت قصيدة ''التراسلات'' من خلال ما تزخر به من صور شعريّة البوابة التي أسّست شعريّة بود لير، و التي تشرح النهج الذي سلكته الحركة الرمزية التي ساهمت أيما إسهام في نجاح ثورته على التقاليد المألوفة التي عملت على كبح جماح الحريّة الشّعريّة ،وذلك لتسخير كل رموز الطّبيعة باعتبارها الفضاء الشاسع الذي يخلو من أي سلطة قادرة على تكبيله.
          كما عمد بودلير في العديد من سوناتاته إلى التركيز على ألوان الطبيعة خاصّة اللّون الأسود لما لهذا اللّون من دلالة رمزيّة بالغة، وربّما يمثل هذا اللّون بمثابة الوجهين لعملة واحدة بالموازاة  مع حالته النفسية وهو الذي ينعت نفسه ''الشاعر الرجيم'' . فلم يعد اللّون الأسود ذلك اللّون العادي، بل صار محملا بالدلالات، دلالات عن الحالة الاجتماعية و النفسيّة و العاطفيّة التي رافقت حياة الشاعر منذ فترة الصّبا إلى وفاته، إذ يقول في قصيدته ''العدو'' والمقطوعة مأخوذة من ترجمة حنا الطيار لديوان''أزهارا لشر''.           
                                        

شبابي لم يكن سوى زوبعة قاتمة
اخترقته هنا و هنالك الشموس اللامعة
فقد عبث المطر و الرعد ببستاني فلم يبقى فيه
إلا القليل من الثمار الذهبية

       إن أهم ما نلاحظه استدعاء بودلير لواقع الانكسار و الذي عبر عنه بالزوبعة القاتمة، فقد شبّه فترة الشّباب بالزوبعة القاتمة كناية منه عن فترة التشظّي و الحرمان التي رافقت صباه، ولما لهذا اللّون من حضور مكثف في مدونته. و يكتسي هذا اللون معنى إيحائي مخصوص خاصة و إن الشاعر وظفه للتعبير عن حالة نفسية واكبت حياة الشاعر و بالتحديد في فترة الشباب، و في ذلك إحالة على فترة الانكسار و الظلمة التي رافقت شباب الشاعر، و بالتالي صار هذا اللون لونا محملا بالأسرار و الذكريات الحزينة و لربما صار هذا اللون السمة المميزة لشعرية بود لير خاصة إذا علمنا إن بعض قصائده إن لم نقل جلها تحاكي هذا اللون للدلالة على لحظات الضياع و التردي التي رافقت حياته.
        هكذا إذن تشكّلت الصّور الشعريّة في سوناتات بود لير صورا تخاطب الرمز و الإيحاء، وتتخذ منها مطية لتمرير العديد من القضايا المرتبطة بتأملات الشاعر وبحثه المستمر عن وطن يأوي إليه بكل إحزانه و ماسيه، و ربّما وجد موطنه في فضاء القصيدة فارتحل في أرجائها بحثا عن وعي فني جديد يطلق فيه العنان لكي يرسم و يبدع دون إي قيد من قيود الواقع التي طالما رافقته في شتى المجالات.                             
III-الخصائص الشعرية في سوناتا درويش:                       
1-الإيقاع :                                                               
              يعود اهتمام الدّارسين للإيقاع في النصّ العربيّ المعاصر إلى أهميّة الإيقاع وقدرته الفنيّة في تطويع القصيدة و إكسابها حلّة نغمية مميزة لذلك اجمع العديد على أهميّة الإيقاع واعتباره من الآليّات الفنيّة المنتجة والمولّدة للشعر و يعد درويش باعتباره احد الشعراء الذين احتذوا بإيقاع واعتبره من علامات الشعر المعاصر المميزة وخاصّة في ديوانه "سرير الغريبة" فقد البس محمود درويش هذا الديوان ثوبا جديدا جمع فيه بين البعد الثقافي و البعد الغنائي.                                             
          فالمتأمل في ديوان "سرير الغريبة" يلقى احتفاء كبيرا بالمستوى الإيقاعي من خلال الحفاوة العالية بالوزن والقافية فهو لا يهتم بمجرّد الإبقاء على التفعيلة، و إنما يحتفي بالمادة الموسيقيّة ككل حتى العناوين إذ هنالك ستّ قصائد تحمل عنوان سوناتا، وقد سماها بالمفردة الأجنبية الغريبة وفي اختار درويش هذا دلالة كبيرة ،لان السّوناتا هي مجرّد إيقاع موسيقي فقط وليست أغنيّة أو نشيدا محمّلا بالكلمات والمعاني أو بلغة أخرى هو مجرّد عزف منفرد بالتّعبير الموسيقي الجديد. فالنّاظر في مدوّنة درويش ألفى أنّها تحاكي في جانب منها السّوناتا في هيكلها التقليدي من خلال التقيّد بعدد الأبيات الأربعة عشر والتقطيع المعتاد في الشّكل القديم وخير مثال على ذلك هذه السّوناتا إذ يقول:                 
أحبُّ من الليل أوَّلهُ، عندما تأتيان معا          
يداً بيد، ورويداً رويداً تضماَّنني مقطعاً مقطعا   
تطيران بي، فوق. يا صاحبيَّ أقيما ولا تسرعا     
وناما على جانبيَّ كمثل جناحي سنونوَّة متعبهْ     

حريرُكما ساخنٌ. وعلى الناي أن يتأنَّى قليلا        
ويصقُلَ سوناتةً، عندما تقعان عليَّ غموضاً جميلا     
كمعنى على أهْبةِ العريِ، لا يستطيعُ الو صولا        
ولا الانتظارَ الطويلَ أمام الكلام، فيختارني عَتَبهْ       

أحبُّ من الشعر عفويةَ النثر والصورة الخافيةْ         
بلا قمرٍ للبلاغة: حين تسيرين حافيةَ تترُكُ القافية    
جِماعَ الكلام، وينكسرُ والوزنُ في دروة التجربةْ       

قليلٌ من الليل قربك يكفي لأخرج من بابلي        
إلى جوهري _ آخري. لا حديقةَ لي داخلي         
وكلُّكِ أنتِ. وما فاض منك "أنا" الحرةُ الطيبةْ 

       تتجلي شاعرية هذه القصيدة بكونها منحوتة موسيقية حزينة يتخفى وراءها جرح وألم كبير، و إذا تأملنا دلالة هذه القصيدة والمعنى الذي تفيده نلاحظ إن دلالتها تكاد تكون محدودة أو مجرد كلام عادي، لكن هذه المقطوعة هي تجلي موسيقي وإيقاعي مخصوص، وقد لا يكتفي درويش في هذا الديوان بالاحتفاء بالتفعيلة كموسيقى عامة تساهم في بلورة طابع موسيقي لديوانه، بل سعى جاهدا إلى البحث عن أدوات أخرى غير التفعيلة كالقافية وهذا من الأشياء التي بحث فيها درويش و نجح فيها، وما توصل إليه لا يتأتى من مجرد التنويع في القوافي و إنّما لجأ درويش إلى ما يسمّى بالقافية الداخليّة فالقافية كما ألفناها لا تقع إلاّ في نهاية كلّ مقطع، لكنّ درويش عمد في سوناتاته إلى دمج القافية داخل السطر الشعري محاولة منه لمحو نهاية السّطر الشّعري، لانّ مزاوجة القوافي داخل المقاطع الشّعرية يكسر من حدّة أواخر الأبيات و من هنا يتولّد إيقاع جديد و موسيقى جديدة تتماها فيها المقاطع الشّعرية .            
         ومثلما بحث درويش عن إكساب قصائده بعدا إيقاعيا مميّزا و ذلك من خلال جمعه بين ضوابط السّوناتا في شكلها القديم و بين موازين اختطها بنفسه بحثا عن سبل جديدة لتطوير القصيدة، فقد بحث عن هذا الإيقاع في بعض من سوناتاته بعيدا عن الهيكل العام للسّوناتا الأم ،فنجده في بعض القصائد لا يلتزم إلاّ بعدد الأسطر الأربعة عشر لكنّه حاول تطويع ذلك وفق نظرة إبداعيّة جديدة إذ يقول :  
        

                        أمسُّك مسَّ الكمان الوحيد ضواحي المكان البعيد
                         على مهلٍ يطلب النهرُ حصته من رذاذ المطرْ           = 4
                         ويدنو، رويداً رويداً غدٌ عابرٌ في القصيد  
                         فأحملُ ارض البعيد وتحملني في طريق السفرْ       

                           على فرسٍ من خصالك تنسجُ روحي
                           سماء طبيعية من ظلالك، شرنقةً شرنقةْ            = 4
                           أنا ابن فعالك في الأرض، وابنُ جروحي
                          وقد أشعلت وحدها جلَّنارَ بساتينك المغلقة

                           من الياسمين يسيل دمُ الليل أبيضَ عطركِ
                           ضعفي وسرُّكِ، يتبعني مثل لدغة أفعى. وشعركِ     = 4
                           خيمةُ ريحٍ خريفية اللون. أمشي أنا والكلامْ
                           إلى آخر الكلمات التي قالها بدويٌّ لزوجي حمام

                           أجسُّكِ جسَّ الكمان حريرَ الزمان البعيدْ
                          وينبت حولي وحولك عشبُ مكانٍ قديمٍ _ جديدْ    = 2

    إن النّاظر الرّصين في هذه السوناتا التي شكّلها درويش يلحظ مدى التجديد الذي أجراه في ثنايا القصيدة ،بل لنقل الثورة التي أحدثها على شكل السوناتا المتعارف عليه، وذلك بالانتقال من نظام  (4-4-3-3) إلى نظام (4-4-4-2) مثلما لاحظنا في هذه السّوناتا ،فضلا عن ذلك فقد عمد إلى لعبة التنويع في القوافي و قد فسر الناقد صبحي حديدي هذه الثّورة بكونها ضربا من ضروب النّضج الفنيّ و الوعي الذّاتي، فدرويش و إن كان قد التزم بعدد اسطر السّوناتا التقليديّة من ناحيّة، فانّه من ناحيّة أخرى غض النظر عن إنهاء السطر الشّعري بقافية منضوية في التّصميم المختار لهندسة القوافي أو أن يسكن القافيّة المطلوبة في ثنايا السّطر الشّعري و ليس في أخره، أو من خلال كسر وجيزة انقسام الجزء السداسي إلى مقطعين ثلاثيين أو اقتراح صيغ أخرى مثل سوناتا رقم 2 إذ يقول:

لعلَّكِ حين تديرن ظلَّكِ للنهر لا تطلبين                   
من النهر غيرَ الغموض. هناكَ خريفٌ قليلْ                   
يرشُّ على ذكر الأيّلِ الماءَ من غيمةٍ شاردةْ                 
هناك، على ما تركتِ لنا من فتاتِ الرحيلْ

          و ما نستشفه من ذلك إن درويش استطاع في ديوانه ''سرير الغريبة'' إن يحقق طموحه الشعري الكامن في التطوير الشكلي للهيكل القديم ، و أن يحقق بفضل ذلك المبتغى الإنساني في التعبير عن تراجيديا الشعب الفلسطيني، إذ كثيرا ما عهدناه يزاوج بين الغنائية والدراما أو حالة الانكسار و التردي في الواقع الفلسطيني و ربما تتجاوز سوناتاته هذه الأبعاد لتضحي بمثابة الروح التي تنفتح كما تنفتح سوناتات بيتهوفن حيث يقول درويش:                                                           
                                                            
وتحتاج أنشودتي للتنفس: لا الشعرُ شعرٌ                   
ولا النثرُ نثرٌ. حلمت بأنكِ آخرُ ما قالهُ                            
ليَ اللـهُ حين رأيتكما في المنام، فكان الكلامُ

        هكذا يحدّد أحمد بالحاج اية وارهام في كتابه ''انساق التوازن الصوتي عند درويش'' فيقول ''إن سوناتات درويش تفتح الذات على سماء ين = سماء الشعر و سماء موسيقى بيتهوفن المتجددة''                       
        إنّ شّعرية السّوناتا الدرويشيّة قد لا تكمن في الخضوع للضّوابط العروضيّة القديمة بقدر ما تكمن في محاولته أن يخلق من خلال تعامله مع تفعيلات العروض جماليّات جديدة ، و قد استطاع بفضل براعته أن ينسج خيوطا من التّواصل الإبداعي مع الظّواهر الشّعرية القديمة و نحتها على نحو جديد في إطار من التّراكيب الحديثة، إذ عادة ما يستعين بالمحسنات البديعية بشكل ملحوظ فصارت ظواهر الجناس والطّباق و التقفيّة المتقاربة والتكرار من السّمات المميزة إذ يشير في إحدى مقابلاته الصحافية بكونه يستمع إلى الموسيقى لكي يأخذ منها أفكار لان الموسيقى لا تقول لك بالكلمات ما هي موضوعاتها و ما هي طريقتها فأنت تأول و تترجم من خلال تفاعلك معها.  كما يفيد انه كثيرا ما يستفيد من الموسيقى و يستخدمها ليس فقط للتقوية أو تخفيض النبرة أو الإيقاع بل من اجل تحويلها إلى كلمات تعينه على أن ترجمة الموسيقى إلى لغة.  
         على هذا الأساس إذن تواترت العديد من العناصر في تأسيس إيقاع سوناتا درويش، بدءا بالوزن والتفعيلة و التّلاعب بنظام القوافي وصولا إلى الثّورة الإبداعية على الأشكال الشعرية القديمة. فقد أراد درويش من خلال المزاوجة بين القديم و الجديد أن يختط لنفسه سوناتا جديدة تجمع بين التراث و الحداثة : تراث الغربيين المتمثل في شكل القصيدة العام والحداثة المتمثلة في خضوع السوناتا للرؤية الحداثوية الخاضعة لتأملات درويش الطامحة للخلق والإبداع  ;إبداع تفكير شعري خلاق يزاوج الإبداع بالإبداع ،فإذا كانت سوناتا ''الثالث عشر'' تعد إبداعا في ظلّ اجترار الهياكل الشّعرية القديمة، فانّ سوناتا درويش تعد إبداعا مضعّفا نتيجة للرؤية الحالمة المتطلّعة إلى أفق شعري جديد.                                                 
2-الصّور الشّعرية ومداراتها الدلاليّة :                                   
        إن دراسة شعر درويش  في مراحله المتطّورة يلاحظ بكونه نصّ ثابت في مراجعه وصوره إلى حدود أواخر السبعينات رغم سعي درويش إلى تطوير بعض المواضيع وتجريب العديد من الأساليب الفنيّة، وسرعان ما أدرك درويش عبثيّة هذا الدور الذي ارتبط بموت الشّعر و مواضيعه نتيجة الخلط الذي وقع فيه القارئ بين ما هو جماليّ و ما هو سياسيّ، اذ يقول مخاطبا قراءه" أنقذونا من هذا الحبّ القاسي" .
         من هذا المنطلق حاول درويش تطوير شعره فوجد ضالته في فضاء الصّورة الشعريّة التي أصبحت تنحوا منحى غريبا خاصة في دواوينه الأخيرة ،ونخص بالذكر ديوان" سرير الغريبة"  الذي لم تعد الصورة الشعرية مجرد أداة تحاكي حقائق الواقع وترصدها، بل صارت تفتح المجال للبحث المستمر عن سبل جديدة تتعدد فيها دلالات الصّورة الشّعرية و تتشابك فيما بينها، فيصبح القارئ إزاء صور غامضة صعبة المنال متعدّدة المعاني، و اخذ درويش بذلك يختط لنفسه لغة خاصّة من حيث التراكيب ولغة مكثّفة محمّلة بالرّموز و الأساطير إذ يقول في سوناتا رقم 2 :                   
أنا من رأى غدهُ إذْ رآكِ. أنا من رأى                      
     أناجيلَ يكتبها الوثنيُّ الأخيرُ على سفح جلعادَ            
      قبل البلاد القديمة أو بعدها. وأنا الغيمةُ العائدةْ           
         إلى تينةٍ تحملُ اسمي، كما يحمل السيفُ وجهَ القتيلْ

        ما نلحظه من هذه الصّورة أن درويش قد حمّلها بالأثر الأسطوريّ التوراتيّ و أساطير المعتقدات التوراتيّة و الاتّكاء على الحكاية التوراتيّة ، و تكمن أهمية هذا التوظيف للرّموز التوراتيّة في كون الرمز يمثّل صورة حسيّة موّلدة المعنى و يكشف هذا التوظيف والاستدعاء للأسطورة وتبويبها في صور استعاريّة عن قيمة الوظيفة الدلاليّة والجماليّة التي تحققها الأسطورة في سياق النصّ الشّعري سواء أكان هذا الاستدعاء في جزء من القصيدة أو كلّها. وأهميّة الأسطورة تنبع من حضورها في الثّقافة الجمعيّة، ومن كونها تمثّل انعكاسا للاّشعور الجمعيّ مما يجعل استدعاءها يستدعي معها فضاءها التخيّلي والوجداني ودلالتها الرمزيّة الموحيّة، فاستدعاء الأسطورة وكثافتها الرمزيّة في تجربة درويش ينبع من طبيعة الرؤية التي تقدّمها هذه التجربة على المستويين الفكري والجمالي.                                                                                                                      
           و يحفل ديوان" سرير الغريبة" بحضور مكثّف للأسطورة في ديوان خصصه الشاعر بأكمله في غرض الحبّ، و مغزاه أن ما تروج له سلطة العدو بكون العربي هو رجل عنف وتطرف ما هو إلا زيف و كذب، و ربما في الاستدعاء المكثّف للأسطورة تستحيل معه الذات الإنسانيّة لدرويش ذاتا أزليّة لا يمكن لها أن تموت.                                  
          ومن يقرأ شعر درويش، و خاصّة في مراحله الأخيرة ،و تحديدا في ديوان" سرير الغريبة " يرى أن درويش قد أسكنه العديد من الصّور الشّعرية التي أصبح فيها القارئ مشوّش الذّهن إزاء تركيبها و دلالتها لما للشّاعر من قدرة هائلة على إبداع أنماط أخرى من الدّلالات عن طريق الانحراف بالألفاظ من معانيها المباشرة .
       فقد حمّلت الصور في سوناتاته بمعاني عديدة من خلال معرفة معجميّة دون الاعتماد على السياق الذي تجيء فيه اللفظة ضمن البناء الكليّ للقصيدة ،فيصبح القارئ آنذاك في حاجة إلى وسيط يدركه المعنى ، و ربما وجد القارئ ضالّته في فتح طاقته الخيالية كي يرصد دلالات هذه الصّور، إذ يقول في سوناتا عدد 4 :        

على فرسٍ من خصالك تنسجُ روحي           
سماء طبيعية من ظلالك، شرنقةً شرنقةْ      
أنا ابن فعالك في الأرض، وابنُ جروحي          
وقد أشعلت وحدها جلَّنارَ بساتينك المغلقة
 
         إن ابرز خاصيّة في هذه الصّورة الشّعريّة أنها أصبحت تتأسّس على مبدأ فني أساسي هو منح خاصية الانفتاح على البحث المستمر، وعلى طلب مناطق فنية جديدة بوسعها أن تقدر معها المعاني الشعرية على التجدد والرحيل ، وتكمن شعرية هذه الأسطر الشعرية في كون تجربة درويش الشّعريّة الأولى كانت تحمل في طيّاتها للقارئ ألفاظا سهلة المبتغى وصورا حسية منوطة بآلام الشّعب الفلسطيني وصور الواقع الفلسطينيّ ، في حين حملت هذه الأسطر الشّعرية واقعا جديدا مفاده ضرورة الرّحيل بالمعنى قصد تحصيله و تحصيل مبتغاه.                                   
           لقد وجد الخطاب الشّعري في سوناتا درويش من الصّورة الشّعرية افقأ و سبيلا إلى الانفلات والتحرّر من أجل إعادة بناء المعنى باليات فنية جديدة ، و أصبحت بذلك الصورة تفتك لنفسها الحرية افتكاكا في ممارسة المخيال الشّعري تدريجيا، وهي محاولة في تجريب خيال جديد ، وقد تجلت هذه الحركة عند درويش في عديد السيّاقات التي بدأت الصّورة تطلع فيها في حلّة غريبة غير مألوفة بعد أن كان بصدد متابعة ضرب من الصّور المألوفة واضحي الشّعر من خلال هذا التطور ينزاح إلى لغة جديدة واصفة هي لغة الشعر على الشعر، فأصبح الخطاب الشعري يمارس تحويل الموجودات والموصوفات أشكالا مختلفة من صنيع الخيال والمجاز إذ يقول في سوناتا 6 :                                                         
صنوبرةٌ في يمينك. صفصافةُ في شمالك. هذا             
هو الصيفِ: إحدى غزالاتك المائةِ استسلمت للندى       
ونامت على كتفي، قرب إحدى جهاتك، ماذا                
لو انتبه الذئبُ، واحترقتْ غابةٌ في المدى

           بدت ومضات محمود درويش على سوناتاته في هذا الديوان واضحة بشكل جلي فوجد ملاذه في فضاء الصّورة الشّعرية ، فلم يعد الشّعر مجرد نقل الصّورة بكلمات مفهومة ، بل ينتقل درويش ويغتال ذلك الطابع الرتيب الذي تشكّلت فيه الصّورة قديما، وأعطى الضّوء الأحمر لإنشاء خطاب شعريّ جديد قوامه اللّعب بالألفاظ والرّغبة في التحّرر من سلطة الواقع و ماسيه.            
          و نخلص إلى القول بانّ الشّاعر أصبح ينحت لنفسه لغة خاصّة من حيث التّراكيب، لغة مكثفّة محمّلة بالرّموز و الأساطير، فتتحوّل بذلك لغته إلى مجموعة من الصّور والتّعابير غير المفهومة، وتحوّلت لغته من لغة العاطفة التي اتّسمت بالوضوح والبساطة إلى لغة الغموض والتّعقيد، وانتقل بذلك الشّاعر من تقنية البساطة إلى تقنية التّركيب والتّلاعب بالصّور مما ساهم في مزيد إثراء الصّورة الشّعرية ، وفتح المعنى الواحد على دلالات متعدّدة ومختلفة.
  -نقاط الائتلاف والاختلاف:                                     
         إنّ الناضر في مدونتي درويش "سرير الغريبة" و بود لير "أزهار الشر" باعتبارهما من مستلهمي قصيدة السوناتا يألف أنّها تتزاوج فيما بينها أحيانا وتتباعد أحيانا أخرى شكلا ومضمونا.                               
1-نقاط الائتلاف :                                                          
          إنّ الباحث الرصين في نقاط الاشتراك بين هذين الشّاعرين يلحظ تمسّكهما ببنية السّوناتا العام ، أو لنقل ببنية السّوناتا الأمّ كما ألفناها مع دانيتي وجياكو دي لينتو فسوناتات درويش الستّ تخضع لهذا الشّكل العامّ على الأقلّ من حيث عدد الأسطر الشّعريّة،  فجلّ سوناتاته تتشكّل من أربعة عشر سطرا و نذكر منها سوناتا رقم 1و2و3 وكذا الشّأن بالنّسبة إلى بود لير، فقد أخضع هذا الشّاعر سوناتاته لهذا الكمّ المحدّد من الأسطر الشّعريّة و نذكر منها قصيدة  "correspondence" و "l’ennemi" و "spleen"،     فقد عمد بود لير أن تكون سوناتاته من حيث الأسطر الشّعرية  مماهاة لسوناتا القرن الثاّلث عشر، و مما يستوقفنا كذلك عند محاولتنا الإلمام بظاهرة الاشتراك بين كلا الشّاعرين أنّهم احتذوا في جانب كبير بنظام توزيع الأسطر الشّعرية الخاصّ بالسّوناتا و قوامه مقطع ثماني و مقطع سداسي، وهو ما نلحظه في ديوان "سرير الغريبة" من خلال سوناتا رقم 1:                     
    

إذا كنتِ آخر ما قاله اللـه لي، فليكن                 
نزولك نونُ أل "أنا" في المثنّى. وطوبى لنا          
وقد نوّر اللوزُ بعدَ خطى العابرين، هنا                 
على ضفتيك، ورفّ عليك القطا واليمامُ              

بقرن الغزال طعنتِ السماء، فسال الكلامُ          
ندى في عروق الطبيعة. ما اسم ألقصيده         
أمام ثنائية الخلقِ والحق، بين السماء البعيدة     
وأرْزِ سريركِ، حين يحنُّ دمٌ لدمٍ، ويئنّ الرخامُ؟


ستحتاج أسطورةٌ للتشمس حولك. هذا الزحامُ    
إلهاتُ مصرَ وسومرَ تحت النخيل يغيرّن أثوابهنَّ     
وأسماءَ أيامهن، ويكملن رحلاتهنَّ إلى آخر القافية...

وتحتاج أنشودتي للتنفس: لا الشعرُ شعرٌ     
ولا النثرُ نثرٌ. حلمت بأنكِ آخرُ ما قالهُ            
ليَ اللـهُ حين رأيتكما في المنام، فكان الكلامُ.

وهي نفس الظّاهرة التي ألفناها مع سوناتا بود لير "التراسلات"  :                         

La nature est un temple où de vivants piliers
Laissent parfois sortir de confuses paroles     
      L’homme y passe à travers de forets de symboles
 Qui l’observent avec de regards familiers      


   Comme de longs échos qui de loin se confondent
    Dans une ténébreuse et profonde unité             
  Vaste comme la nuit et comme la Corte            
   Les parfums les couleurs et le sens se répondent
    
    
   Il est des parfums frais comme des chaires d’enfant
  Dou comme les haut bois, verts comme les prairies
Et d’autre, corrompus, riches et triomphants       


Ayant, l’expansion des choses infinies                
          Comme l’ambre, la muse, le benjoin et l’encens            
               Qui chantant les transports de l’esprit et des sens           
 
            فقد اعتمد بود لير ذات التقنيّة المتوخّاة في الشّكل القديم، هذا بالإضافة إلى ضرب أخر من ضروب الاشتراك إلا وهو عدم تمسّكهما بقافية موحّدة ، فقد عمد كلّ شاعر إلى تقنية التّلاعب بالقوافي كما يستدل على ذلك بقصيدة "التراسلات" و سوناتات درويش الستّ.                            
         وربما يصير هذا الاشتراك أوضح وأجل خاصّة في المعنى وكيفيّة تركيب الصّور الشّعريّة فلغة الشّاعرين تكاد تكون واحدة ،لغة متباعدة ،تتجانس فيها الصّور الشّعريّة المنوطة بالرّموز والألفاظ الغريبة والغير مفهومة ممّا يجعل القارئ مشوّش الذّهن ويحتاج إزاءها إلى وسيط كي يفهم دلالات القصيدة.                                                        
           إنّ ما نخلص إليه أن سوناتا القرن الثّالث عشر وجدت ضالّتها في ديوان بود لير "أزهار الشر" وديوان "سرير الغريبة" لدرويش حتىّ وان كان هذا الوجود متباعد الدلالات والمعاني فكلا الشّاعرين  ظلاّ في وجه من وجوهها مقيّد بها إلى حدّ ما.                                                
2-نقاط الاختلاف:                                                        
            إنّ وفي محاولتنا تتبّع نقاط الاختلاف الّتي تبرز في مدونتي درويش وبود لير تستوقفنا العديد من الظّواهر التي تتباعد فيها المدوّنتان وخاصّة في سوناتاتهم فبود لير قد حاكى سوناتاته على الطريقة التقليديّة المألوفة وان أضفى بعض التغيرات، إلاّ أن ذلك لم يخل بنظام القصيدة ككل، غير أن درويش صحيح أنّه وجد نفسه إزاء السوناتا الأم بجملة القواعد والقوانين التي ضبطت لها، لكنه أراد أن يختط لنفسه مكانة متميّزة في هذا اللّون الجديد إذ أن التزامه بالسّوناتا الايطاليّة لم يكن التزاما كليّا، فقد أخضعها إلى جملة من التحويرات فدرويش وإن حافظ على عدد أسطر السّوناتا القديمة إلاّ انّه لم يتقيّد بنظام المقطع الثماني والسداسي ومثال ذلك قوله:
                                                                
                       لعلَّكِ حين تدرين ظلَّكِ للنهر لا تطلبين                  
                       من النهر غيرَ الغموض. هناكَ خريفٌ قليلْ               
                       يرشُّ على ذكر الأيّلِ الماءَ من غيمةٍ شاردةْ           
                       هناك، على ما تركتِ لنا من فتاتِ الرحيلْ

                      غموضُك دربُ الحليب. غبارُ كواكبَ لا اسم لها        
                      وليلٌ غموضُكِ في لؤلؤ لا يضيءُ سوى الماء،          
                      أما الكلامُ فمن شأنه أن يضيء بمفردةٍ واحدةْ        
                     "أحبكِ" ليلَ المهاجر بين معلَّقتين وصفيْ نخيلْ       

                      أنا من رأى غدهُ إذْ رآكِ. أنا من رأى                     
                      أناجيلَ يكتبها الوثنيُّ الأخيرُ على سفح جلعادَ       
                      قبل البلاد القديمة أو بعدها. وأنا الغيمةُ العائدةْ      
                      إلى تينةٍ تحملُ اسمي، كما يحمل السيفُ وجهَ القتيل

                       لعلّكِ حين تُديرين ظلَّك لي، تمنحين المجاز           
                      وقائعَ معنىً لما سوف يحدث عمَّا قليلْ...               

           ما نلاحظه في هذه السّوناتا هو أنّ درويش ظلّ محافظا فيها على عدد الأسطر التي ضبطت في الشّكل التقليديّ للسّوناتا، غير انّه ثار فيها على نظام توزيع الأسطر الشّعرية من نظام (4-4-3-3) إلى نظام( 4-4-4-2) وبالتّالي احدث نقلة نوعيّة في تجديد الكتابة الشّعرية من خلال هذا اللّون الشعريّ، وربّما صارت سمة التغيير والتّلاعب والتحوير من السّمات المميّزة لسوناتاته على نقيض سوناتا بود لير الذي ظل متمسكا في جل قصائده بشكل (4-4-3-3) و هو ما يتجلّى في قصيدة "العدو".             
            ومما يستوقفنا أيضا عند تقصي مظاهر الاختلاف في مدونتي الشاعرين
عندما ننتقل إلى الحديث عن دلالات القصيد ، فهذا وظّف المعنى في خدمة المدرسة الرمزيّة وصار الشّعر رموزا تتوارى أحيانا وتتجلّى أحيانا أخرى للتّعبير عن سيرة ذاتيّة يكتنفها الغموض والحيرة الذاتيّة ، فصار شعره يخاطب فترات الصبا و الشباب و يحكي واقع الانكسار الذاتيّ الذي عاشه بود لير، على خلاف درويش الذي ارتقى في "سرير الغريبة" عموما من لغة السّواعد والنّضال و خطابات التّحريض و سرد وقائع الفلسطينيين المريرة إلى لغة منوطة بالرموز و تحاكي التّاريخ والأسطورة ، لغة أخرى تطلب الفرار من أغلال الواقع لتناشد الخيال الشعري الذي كمّمه القارئ العربيّ.  فقد اعتبر الشّاعر أن قصيدته لم تك يوما تناشد القضيّة وحدها، بل ناشدت تطوير الشّعر أيضا فصارت معاني القصيدة تنحو منحى مجازيّا استعاريّا مليئا بالتناقضات ، بل لنقل أصبح الشّعر يفتك لنفسه وطنا ضاع على ارض الواقع فوجده في كنف القصيد.                                                                    
           ارتحلت السّوناتا من وطن إلى وطن تناشد الأمانة شكلا و مضمونا وسرعان ما وجدت ضاّلتها عندما وقفت على عتبات المنظومة الشّعريّة الفرنسيّة. ولعل بودلير خير مثال على ذلك باعتباره احد مستلهمي هذا اللّون من فنون القول الشعري، فقد تمسّك بودلير تقريبا من حيث هندسة القصيدة ومن حيث بنية السّوناتا العامة و القوانين الأساسية التي ضبطت في الشكل القديم، غير أن السّوناتا عندما اختارت العالم العربيّ كي تستوطنه جوبهت بثورة إبداعيّة مغزاها البحث المستمّر عن سبل لتطوير بني القصيدة ، وطلب مناطق فنية جديدة تتوارى فيها لغة الوضوح وتكرار الموجود تاركة المجال لذات إنسانية جديدة تطلب الشعر بلغة جديدة قوامه الشّعر للشّعر، ومصدرها محمود درويش الذي أراد أن يرسم سوناتا جديدة تجمع بين زوجين من الأهداف إلا وهما جعل الماضي مطية لبلوغ المستقبل أو من خلال التخفي وراء ستار الثالث عشر بهدف خلق لون جديد تتماهى فيه السّوناتا في شكلها التقليدي مع النظرة التأمليّة الثوريّة لدرويش.                                                              

     الهوامش:

      بالفرنسية :                              
Baudelaire (Charles): “les Fleures du mal”, imprimé en France par FIRMIN-DIDOT S.A, dépôt légal; 1er trimestre 1981

      بالعربية :
درويش (محمود) : "سرير الغريبة" ،الطبعة الثانية، رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت 2001
أية وارهام ( احمد بالحاج)  : "انساق التوازن الصوتي عند درويش" ،الطبعة الاولى 2010 مطبعة وليلى        
زاكس   ( كورت)   : كتاب "تراث الموسيقى العالمية" ترجمة سماحة الخولي ،دار النهضة العربية 1964
درويش (محمود) : كتاب "المختلف الحقيقي"،مقال حسن خضر،سرير الغريبة، دار الشروق عمان 1999
درويش (محمود) : كتاب "المختلف الحقيقي"، مقال صبحي حديدي، دار الشروق عمان 1999
الطيار(حنا) : دار الفرابي، ط 1، بيروت،1983