الشعر التونسي بين مطرقة الرمز وسندان الغموض ـ عبدالعزيز صالحي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse14113 احتفت التجربة الشعريّة التونسيّة بتوظيف الرمز لما فيه من امتلاء وخصوبة، إذ يفتح أمام الشّاعر والقارئ معا فيضا من الإيحاءات، التي لا تنتهي إذا أحسن الشاعر استعماله على حدّ قول يونغ " هو أحسن طريقة للتعبير عن شيء لا يوجد له معادل فكريّ آخر"[1]

        وقد أضفى الرمز على العمل الشعري ثراء في أبعاد الصورة الشعرية واتجاهاتها، ولعلّ اعتماد الشعراء على الرمز في صورهم وتعابيرهم هو إدراكهم بأنّ لغة الشعر يجب أن تبتعد عن الوضوح، فكان الرمز وحده القادر على إضفاء الإيحاء والعمق على القصيدة، التي تصبح عالما من الرموز مليئا بالأفكار والدلالات الجديدة، التي يكتسبها بالرمز والتي تكمن خلف حدود النصّ الشعري، إذ "حين لا ينقلنا بعيدا عن حدود القصيدة ونصّها المباشر، لا يمكن الإدّعاء بأنّه رمز، الرمز هو ما يتيح لنا أن نتأمّل شيئا آخر وراء النصّ، فالرمز قبل كلّ شيء معنى خفيّ وإيحاء"[2].

    إنّ الشعر التونسي في اتجاهه الجديد حاول أن يستخدم الرمز وسيلة، ليفجّر من ورائه أفكارا ومقاصد، أراد الشاعر إيصالها للقارئ العربي، والتعبير عن أفكاره بصفة غير مباشرة.
     مثلما أسلفنا الذكر من خلال التعرّض لبعض العوامل والتغيّرات، التي ساهمت في دخول الرمز والكتابة الرمزية إلى المنظومة الشعرية العربية والتونسيّة خاصّة، فقد كان لهذا الأسلوب في التعبير أثر كبير في نفوس الشعراء التونسيين، إذ لم تكن تخلو أيّ قصيدة حديثة من هذا النمط التعبيري، أو هذا الأسلوب الفنّي، الذي تعرّضنا له خاصّة في التجربة الشعرية الحديثة، التي أصبحت تأخذ من سمة الرمز أداة تعبيرية، لتسافر من المكان إلى اللاّمكان ، وتتخطّى المحدود إلى اللاّمحدود.


     ومن هذا المنطلق سنأخذ تجربة كلّ من محمد الغزّي[3] وفتحي النصري[4] كأنموذجين على اعتماد سمة الرمز والرمزيّة في الشعر التونسي الحديث، وذلك باستجلاء معالم التجربة الرمزيّة عند كلّ منهما بالاعتماد على مدوّنتين : الأولى تحت عنوان "سليل الماء" لمحمّد الغزي، والثانية بعنوان " قالت اليابسة " للشاعر فتحي النصري. وسنهتدي بالتصنيف الآتي:

1-الرموز الأسطوريّة:

     وظّف الرمز الأسطوري في التجربة الشعريّة التونسية الحديثة، و أضحى الينبوع الذي يكسب العمل الشعري بعدا جماليا إيحائيّا، خاصة و أنّ الأسطورة هي "حكاية مقدّسة ذات مضمون عميق، يشفّ عن معان ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان"[5] .

       وتتضح معالم الأسطورة في الشعر العربي الحديث والشعر التونسي بشكل خاص بكونها تنمّ عن  " وعي أسطوريّ، أي إنّها إحساس تتجمّع فيه المتناقضات بما فيها من مضامين و أزمنة و أمكنة، وما إن تصل نقطة التجمّع هذه حتّى تسير في دهليز الإبداع، ولا تخرج منه إلاّ وقد اكتسبت إيقاعا جديدا في مضمونه وزمانه ومكانه"[6].
وتأثّر العديد من الشّعراء التونسيين بالأسطورة، وكثيرا ما استوطنوها قصائدهم، ولعلّ خير مثال على ذلك مل نستشفه من شعر كلّ من محمّد الغزي وفتحي النصري الذين تغنّوا في قصائدهم بثلّة من الرموز الأسطوريّة، التي استقوها من مصادر مختلفة عربيّة كانت أو غربيّة، ومن هذه الرموز نذكر:

أ‌-     الشمس:
        تعتبر الشمس ذات أهميّة بالغة في حياة الإنسان، لما لها من تأثيرات مختلفة كغيرها من مظاهر الطبيعة، إذ نظر الإنسان إلى السّماء من كلّ جانب " بعظمتها وجلالها، بشمسها وكواكبها، وكلّ ما فيها من مظاهر الطبيعة يولد الشعور بالتصاغر والضعة أمامها، فهي تحيط بنا وتسيطر على مشاعرنا، وهكذا انبثقت الأديان من هذا الشعور"[7]، وقد كان لهذا الرمز حضور لافت في قصيدة محمد الغزي التي تحمل عنوان "الشمس"، إذ يقول:

هِيَ ذِي شَمْسُ الشِّتَاءِ المُطْفَأَهْ
دَخَلَتْ حُجْرَتَنَا مَقْرُورَةً
ثُمَّ نَامَتْ بِجِوَارِ المِدْفَأَهْ[8]

     إنّ الملاحظ من حيث بناء القصيدة الشعري أنّها قامت على الابتداء بجملة اسميّة " هي ذي شمس"، ومن خصائص الجمل الاسمية الهدوء والسّكون، عكس الجمل الفعليّة التي تقوم على الحركة، فالغزي في هذا المثال اتخذ  من الأسلوب الخبري مطيّة لتبرير وجود رمزه مبثوثا في هذه القصيدة، فالشمس قد تخلّت عن مجرّتها وعن عناصرها الأساسية، التي تحاكي طابعها الأسطوري، لتصبح شخصية أساسيّة مؤثثة لواقع النصّ الشعري عند محمّد الغزي، ولتغدو رمزا معبّرا عن لا محدوديّة غيابها وعن ديمومة حضورها، ولتضحي رمزا مزدوج الدلالة، فخيوطها الأساسيّة تردّها إلى أحد العناصر التي بدونها يستحيل الكون، أمّا الشاعر فقد عمد إلى تجريدها نوعا ما من ذاك الطّابع الأسطوري، وتخلّيها عمّا يردّها إلى العناصر الطبيعيّة، ثمّ  لجأ إلى أنسنتها ، بمعنى أنّه جعل منها إنسانا يدخل، ويخرج، وينام وفي هذا دلالة رمزيّة عن شروق الشمس، ومغربها كلّ يوم، حتى و إن حُجبت في الشّتاء مثله في ذلك مثل شمس الغزي الشعريّة، التي لا مغيب  لها أبدا، فهي تدخل وتنام "دخلت حجرتنا...نامت بجوار المدفأه..".

    لقد وظّف الشاعر الشمس لدلالتين، الدلالة الأولى حينما استثمر واستغلّ طابعها الأسطوري  باعتبارها مصدرا للعلو والقدسيّة، أمّا المعنى الثاني، فهو معنى شعريّ ، وذلك  حينما اختارها كي تكون العنصر المؤثث لفضائه الشعري، فتصبح الشمس بذلك ذات معنى تتخلّص فيه من قدسيّتها ومن دفئها المعهود، إذ هي في العادة تمنح الأشياء الدفء، لتصبح في قصيدة الغزّي تتسلّل إلى الغرفة، لتنام حذو المدفأة، وكأنّها تبحث عن مصدر للحرارة والدفء، فأضحت تقوم بنفس الأعمال، التي يقوم بها الإنسان العادي، وبذلك تخلّت عن معنى الألوهية والأسطوريّة في هذه الأسطر الشعرية، لتغدو كائنا شعريا حقّق من ورائه الشاعر مراده الشعري وخوّلت له التحرك في ثنايا هده القصيدة، والتعبير عن عديد المعاني والدلالات.

     إنّ للرمز الأسطوري معالمه وخصائصه، لكن الشاعر يطوّعها لخدمة أعماله الشعريّة، ليومئ إلى عديد الأفكار التي أدرجها في هذه القصيدة، إذ وجد في ظلّ خفايا هذا الرمز"الشمس" ما يعينه على تأثيث عالمه الشعري.

ب-الريح:

     لم يتشكّل حضور الرمز الأسطوري في الشعر العربي الحديث في شكل استدعاء بعض الشخصيّات الأسطوريّة فحسب، وإنّما اتخذت بعض الظواهر الكونيّة طابعا أسطوريّا رمزيّا في العديد من القصائد، وقد كان الشعر التونسي الحديث ميّالا إلى هذه النزعة، التي اتخذت بعض الظواهر الطبيعيّة كالشمس والرعد والريح منهلا خصبا، لتأثيث عالمهم الأسطوري الخاص، وخير دليل على ذلك ما تبنّاه محمّد الغزي في قصيدته " للريح"، التي يقول فيها :

لِلرِّيحِ شُبّاكِي وَمَسْرَجَتِي وَزُخْرُفٌ بَيْتِنَا
لِلرِّيحِ صَوْتٌ أَبِي وَثَوْبُ طُفُولَتِي
وَعَرَائِسُ القَصَبِ النَّحِيلْ
لِلرّيحِ كُلُّ غَنَائِمِي
للرّيحِ أَجْرَاسُ الخُيُولْ
وَزَخَارِفُ الحِنَّاءِ فِي أيْدِي النِّسَاءْ
لِلرّيحِ مَقْبَرَةُ المُلُوكْ
وَمشَاعِلُ العُبَّادِ فَوْقَ مَآذِنِ الفَجْرِ البَعِيدْ
لِلرِّيحِ دَارَاتُ النُّجُومْ
وَمَنَازِلِ القَمَرِ القَدِيمْ[9]

     "إنّ القيمة الحقيقيّة لجزئيّات القصيدة تنبع من ترابطها وتكوينها لعبارة السطر الشعري، فالعبارة هي السياق، الذي يمنح الحرف والكلمة المعنى، ويشحن قيمها الموسيقيّة، ليبرزها، فتكرار العبارة من الملامح الجماليّة والموسيقيّة في القصيدة"[10] ، إذ يقوم التكرار هنا على ترديد كلمة "الريح" تقريبا في جلّ الأسطر الشعريّة، والتي ساهمت في إضفاء نغميّة على القصيدة، تشد الأذن قبل العين، ولم يخلو هذا التكرار من دلالة، إذ كانت هذه الكلمة " للريح" محور القصيدة، وهي الرمز الذي اعتمده الشاعر فأخرجه من معناه العادي كمظهر من مظاهر الطبيعة، لتصبح الريح ذات بعد رمزي، فهي بالنسبة للشاعر كلّ ما في الكون وما حوله، لتضحى ذات بعد إيحائي قدسيّ، يهب لها كلّ شيء " شبّاكي ومسرجتي...صوت أبي وثوب طفولتي...كلّ غنائمي".

    إنّ تغنّي الشاعر بالريح في هذه القصيدة أضفى عليها معنى التفرد، فهو يميّزها عن كلّ مظاهر الطبيعة الأخرى، وهذا التمييز هو ولادة جديدة للمعنى الذي يستمدّ من الذاكرة الأسطورية لما تحمله الريح من تغيير وخصوبة، لذلك لابدّ أن تكون حاملة لكلّ شيء، و أن يحتفي بها الغزّي في قصيدته لتأخذ ذاك البعد الألوهي، لتصبح حاملة لأفكاره، ولكلّ ما يؤثث حياته، وفي هذا إيماء  بتلك العلاقة بين الإنسان ومظاهر الطبيعة من حوله، وكيف كرّس كلّ شيء من حوله لأجلها، وذلك محاولة منه الاستمرار في ذاك البعد القدسي الملازم للريح،  لطالما استمرّ عبر عصور مختلفة، وهو ما جعل الغزي يستدعيها في هذه القصيدة، ليؤثث من خلال رمزيتها  فضاء شعريّا مليئا بالإيحاءات، وليحيل على ذاك البعد الأسطوري، فالريح تملك كلّ ما في الكون "مقبرة الملوك، مشاعل العبّاد، دارات النجوم" فكلّ ما في الوجود مرتبط بالريح، فهي مصدر كلّ شيء، وهي المؤثثة ليس فقط لهذه القصيدة، و إنّما لحياة الإنسان، فالريح هنا ليست مظهرا من مظاهر الطبيعة، بل هي رمز للحياة بكلّ ما فيها، فاتخذت بذلك بعدا أسطوريا.

   إنّ توظيف الغزي لرمز الريح في هذه القصيدة جاء حمّالا لعديد المعاني، موحيّا بعالم الشاعر من ناحية، والإنسان عامة من ناحية أخرى في تقديسه لمظاهر الطبيعة، التي كان لها دور في حياته، فعجز اللغة العادية قد تنفيه لغة الريح القدسيّة ،وبذلك وجد الغزي في رمزه لغة المستحيل الممكن، فكان له أن استنجد به، ليؤسس عالمه الشعري.

   كما اهتمّ فتحي النّصري على غرار محمد الغزي بالرمز الأسطوري، و أفرد له مساحة متميّزة في شعريّته، ومن بين هذه الرموز ارتأينا التوقف عند الرمزين التاليين:

ج- العنقاء:

       تعتبر أسطورة "العنقاء"[11] من أهم الأساطير التي اعتمدها الشاعر العربي في أعماله الشعريّة، لما توحي به من دلالات و أفكار، وقد كان لهذه الأسطورة وقعها في شعر فتحي النصري، وهي من أساطير "البعث" التي تحاكي الحياة المتجددة، إذ هذا الطائر عندما يحرق نفسه ينبعث من رماده من جديد، وبذلك تظلّ العنقاء رمز التجدد والحياة، إذ " يعيد إنتاج نفسه بنفسه"[12] ، ونجد هذا الرمز مبثوثا في ثنايا قصيدته، والتي جاءت تحت عنوان " رقصة الطائر الذبيح"، ويقول فيها:

الطَّائِرُ الذَّبِيحْ
مِنْ حُزْنِهِ الأقْمَارْ
والنَّبْعُ فِي الجِرَاحْ
ورِيشَةً فَرِيشَةً
يَنهَضُ كصَّبَاحْ[13]

       لقد أفاد فتحي النصري في تجربته الشعريّة من عديد المصادر التي استقى منها رموزه، ف "لا شكّ أنّ وراء الإبداع الأدبي موهبة مبدعة تجمع أشتات المظاهر في الوجود، وتوغل إلى أبعاد التجارب في النفس، إلّا أنّ الموهبة ذاتها تبدو قاصرة إذا لم تخصّبها الثقافة"[14]، فحاول الشاعر بذلك أن يعبّر عن تجربته الذاتيّة مستندا إلى الثقافة الأسطوريّة، التي حضرت في هذه الأسطر الشعريّة، فالطائر الذبيح هو دلالة على الموت، فقد ذبح وحزنت لأجله الأقمار، ولكنّه ينهض من جديد "ينهض كالصباح"، وفي هذا إحالة على أسطورة البعث  المتكرر، من خلال رمز الطائر الذي يبعث من جديد وهو رمز لمعنى الحياة، إذ الحياة ترتبط عند الشاعر بمعنى الرغبة، فرغم الذبح والموت والحزن والألم، فإنّه شيئا فشيئا يعيد لنفسه الحياة "ريشة فريشة"، وهو إيحاء بمعنى الأمل، فلولا وجود الأمل لما استطاع هذا الطائر النهوض، وقد ارتبط نهوضه في هذا المقطع بالصباح، الذي يحيل على معنى الانطلاق والتجدد والاستمراريّة.

    إنّ توظيف الشاعر للطائر الذبيح هو في الحقيقة إدراج لرمز العنقاء وإحالة على صورة الإنسان المتجدد الباحث عن الحياة، فمهما عذّب وجرح وذبح، فسينهض ويحاول من جديد الانطلاق، لأنّ الموت هو انتهاء للإرادة، لذلك لا بد له أن ينفث في الروح وينهض من جديد، وما علاقة العنقاء بالإنسان في شعرية فتحي النصري إلّا حب الانتصار والتغلب على الألم، ففي محاولة "البعث " يكمن معنى  الاستمرار والتجدد، فلا يمكن أن يتحقق التغيير والتجدد في هذا المقطع إلّا بأسطورة "البعث" ، ورمز العنقاء التي عبّر الشاعر من خلالها عن رفضه للواقع، والبحث عن انبعاث جديد، يجدد فيه الأمل ويكسر فيه اليأس.

    إنّ إقحام هذا الرمز الأسطوري في هذه القصيدة جاء مؤثثا لمعاني الشاعر ومقاصده الشعرية، إذ أنّ حضور هذه الأسطورة لم يكن اعتباطيا، أو من قبيل المصادفة، بل كان حضورها مقصودا، حيث  أضفى عليه الشاعر ذاك البعد الذاتي الذي أعطى للرمز معنى جديدا، وأصبح مرتبطا بتجربة الإنسان مع الحياة في واقع معيّن له خصوصيته، وهو ما فعّل ذلك التمازج بين الرمز من جهة والشاعر من جهة أخرى، قصد إثراء العمل الأدبي. وبالإضافة إلى هذا الرمز، فقد وظّف فتحي النصري العديد من الرموز الأخرى لعلّ أهمّها:

د-رمز النّار:

    تؤكّد الأساطير التقليديّة علاقة الإنسان بالنار، إذ كانت مصدر التقديس باعتبارها مرتبطة ببعض الطقوس والعبادات، لذلك ما فتئ الشعر يوظّف هذه الرموز التي "تهب القصيدة البعد الماورائي، والبعد الوجودي الفعلي والإيحائية اللاّمتناهية، وتمكين الشاعر من استعادة حالة البكارة الأولى في صلته بالحياة والكون"[15]، وقد اتّخذت  " النار" عند فتحي النصري بعدا رمزيّا من خلال قصيدة "الحريق"، التي يقول فيها:

أَمَا تَرَى الطِّفْلَ مَشْدُوهَا وَمُفْتَتِنًا
وَالغَابُ تَكْسَحُهُ نَارٌ عَلَى مَهَلِ؟
العَيْنُ تَسْبُرُ أَغْوَارَ الحَرِيقِ كَمَنْ
يَصِيدُ رُؤْيَا اقْتَفَاهَا الأُنْسُ فِي الأَزَلِ
وَالكَفُّ تَمْتَدُّ للنِّيرَانِ تَطْلُبُهَا
وَلْهَى وَلَكِنَّها تَرْتَدُّ فِي عَجَلِ
مَاذَا عَسَاهُ رَأَى فِي النَّارِ؟ سِرُّ  غَدٍ؟[16]

    إنّ حضور كلمة النار في هذه القصيدة هو حضور مميّز لأنّها الكلمة المبدعة المحوّلة لمعاني القصيدة " فاللغة هدف مؤثر، يرمي إليه الشاعر، وينتقي منها ما هو جدير بإبداع مضامينه، وبما فيه من إيحاءات تصويريّة نفسيّة، فالكلمة ترشد وتصوّر وتوحي."[17].

     افتتحت هذه القصيدة بأسلوب إنشائي قائم على الاستفهام" أما ترى الطفل مشدوها ومفتتنا والغاب تكسحه نار على مهل؟"  وقد دلّ الاستفهام عن العلاقة بين الطّفل والنار، إذ هي علاقة تحكمها الدهشة فالحيرة، هي علاقة مسكونة بهاجس حب الاكتشاف والخوف في الآن نفسه، ودليلنا على ذلك قوله " مشدوها مفتتنا.."، فيتدرّج بنا الشاعر في هذه الأسطر الشعريّة، ليبرز لنا ذلك البعد الألوهي للنار " الكف تمتدّ للنيران تطلبها"، فهو يثرى فيها الأنس " يصيد رؤيا اقتفاها الأنس في الأزل" فما توظيف الطفل إلّا إبراز لمعنى البراءة، فالطّفل يريد التعرّف على ما حوله، فهو هنا يريد التعرّف عن قرب عن النار ولغتها و سبر أغوارها، فرغم أنّها كانت تلتهم ما في الغاب، إّلا أنّه كان يناجي طيفها، ويرجوها بالرغم من قسوتها على الغاب، وينظر إليها كمن يريد اكتشاف  أسرارها، لتخرج القصيدة من معناها الضيّق في علاقة الطفل بالنار، لتصبح النار رمزا للبراءة الأولى، براءة الإنسان في التعرّف على ما حوله.

    لم يكتف  الشاعر في توظيفه لهذا الرمز بإبراز معنى الطفولة، بقدر ما كان الهدف من ذلك إبراز تلك الأسطورة، أسطورة النار التي انتقلت إلى أجيال مختلفة، لتتخطّى بذلك زمنا محدّدا، وتسافر بنا عبر حضارات و أزمنة، لأنّها تظلّ كامنة في لاوعينا، لذلك كان لابدّ للشاعر من توظيف صورة الطّفل، لأنّ الطفل شبيه بالإنسان البدائي، الذي يرى الأشياء في جوهرها دون أن يفصّل معنى الشيء، فهو يتخطّى الواقع لأجل أن يرى الأشياء على بساطتها .

    اتخذت النار بذلك بعدا أسطوريّا رمزيّا كان لها وقعا في شعريّة فتحي النصري، لتبرز تلك العلاقة بين الإنسان والأسطورة في أزمنة مختلفة، فهي حمّالة لبعد قدسيّ "سرّ غد؟"، غدت فيهما النار رمزا مؤثثا لعالم ذاك الطفل، ومن ورائه عالم فتحي النصري الشعري، فالنار في هذه الأسطر الشعريّة لم يكن استدعاؤها استدعاء بريئا محضا، بل كان توظيفها على قدر كبير من الأهميّة، فهي هاجس هذا الطفل كما هي هاجس الشاعر في كامل القصيدة، فالطفل ما هو إلّا صورة معاكسة لذلك الشاعر الطّامح إلى اكتشاف لغة النار، و يميط اللثام عمّا يحتجب من خفاياها.كما احتفى كلا الشاعرين بالعديد من الرموز الأخرى التي سنحاول تبيانها كالآتي:                

1-الرموز الدينية:

    كثيرا ما تحضر الرموز الدينية بمختلف تفريعاتها وتشقيقاتها، سواء كانت إسلامية أو يهودية أو مسيحيّة، إذ كثيرا ما يطالعنا الشاعر العربي " يعود في ظروف خاصّة إلى ثقافته الدّينيّة، ويمتح من القرآن والإنجيل والتوراة"[18] ، فللرمز الديني قدرة فائقة على التوسيع من طاقة الشاعر الإبداعية، وتمنحه دلالات ومعاني أوسع، تزيد من إيحاءات القصيدة، ف"قد يستمّد الشّاعر من التّراث الدّيني، ومن الشّعائر الدّينيّة المقدّسة كلّ ما يمكن أن يعينه في تعميق تجربته، لأنّ الدّين يحتوي على قيم أخلاقيّة عاليّة بدلالات إنسانية غنيّة"[19] ، وقد جاءت التجربة الشعرية التونسية الحديثة حفيفة بعديد الرموز التي استقيناها من تجربة محمد الغزي و فتحي النصري الشعرية، ونذكر منها :

أ‌-     الشخصيات الدينية:

    لجأ العديد من الشّعراء التونسيين إلى التراث الديني، واستقوا منه العديد من الرموز والشخصيات الدينية التي كان لها وقعها في الحاضر كما في الماضي، وقد وظّفوها في قصائدهم قصد التعبير عن مواقف مختلفة بشكل غير مباشر، و إذا تأملنا مدوّنتي محمد الغزي وفتحي النصري ارتأينا أنّ كلاهما قد سكن بواطن النص الديني، و أفردوا له جزءا مهمّا في أعمالهم من خلال استدعاء ثلّة من هذه الرموز، ولعلّ أهمّا :

-       آدم :

     تميّزت شخصية آدم بخصوصية مستمدّة من الذات و الواقع، وهي أبعاد تمثّل جدلا كبيرا في حياة الإنسانية عامة، لما تمثّله هذه الشخصيّة من اختلافات وتناقضات مرتبطة بوجود الإنسانية، وفي وقوف الإنسان بين فوهتي السعادة والقلق، وتتجاذبه عواقب الخطيئة والندم، ويصوّر عديد الشعراء عمق الصراع الإنساني، فوقفوا " أثناء ذلك أمام معاناة وجوديّة وتجربة إنسانية مؤثّرة، ورصدوا تلك المعاناة عبر الزمن "[20]

     ويعتبر محمد العزي من أهم الشعراء الذين استأنسوا بملامح هذه الشخصية، لما لمسه فيها من قواسم نفسيّة تصطدم بوجدانه، وتقارب أفكاره ممّا أكسب النص المبتدع ملامح خاصّة، تصل بين الذاتيّ والاجتماعيّ والإنساني في آن واحد، وتقارب بين الشخصيات الإنسانية عبر الأزمنة .

     ويعتبر آدم هو أوّل من عصى ربّه في الجنّة، وذلك نتيجة الغفلة والسهو، وهو ما عبّرت عنه هذه الآية من سورة "طه" " وعصى آدم ربّه"[21] ، وقد استدعى الغزي هذا الرمز في قصيدة حملت عنوان "آدم" ، إذ يقول:

مَاذَا لَوْ لَمْ يَهُمَّ الشَّجَرَةِ؟
مَاذَا لَوْ لَمْ يَقْتَطِفْ ثِمَارَهَا؟
مَاذَا لَوْ تَكُنْ خَطِئَتُهُ؟
هَلْ كُنّا سَنَرِثُ الأَرْضَ؟
هَلْ كُنَّا سَنَنْدَلِعْ كَالبَرْقِ فِي ظُلْمَتِهَا؟
هَلْ كُنّا سَنَنْحَدِرُ كَالجَوَامِيسِ مِنْ عَصْرٍ إِلَى عَصْرٍ
وَنَمْضِي كَالوُعُولِ مِنْ ضِفَّةٍ إلَى أخرَى؟
إِذَنْ فَلْنَقُلْ :
المَجْدُ لِلْخَطَّائِينَ.[22]

          قد يستخدم الشّاعر الرّمز استخداما كليّا، بحيث يصبح نواة النصّ، وينهض البناء على فذاذة النصّ وحيويّته، واتّصاله بالتّجربة المعاصرة للشّاعر[23]، تماما كما توحي هذه القصيدة، فقد اختار محمد  الغزي من أسلوب الاستفهام مطيّة لتأثيث بناء القصيدة الشعري، فقد تكرّر أسلوب الاستفهام في كثير من الأحيان، للتأكيد على الحيرة والاستغراب " ماذا.... ماذا.."، هذا في مستوى البناء، أمّا بالانتقال إلى المستوى الدلالي، فقد  استلهم الغزي في هذه القصيدة خطأ آدم في عدم امتثاله لأمر الله، وهو خطأ أدّى إلى خروجه من جنان الخلد وقد ذكر هذا الخطأ والسهو في القرآن، لذلك أعتبر آدم رمزا للغفلة، ولكنّ محمّد الغزي في هذه القصيدة وظّف هذا الرمز الديني كرمز للقوّة، إذ بنى من خطأ آدم صورة شعريّة جديدة، فأصبح له الفضل في وجود الأرض، فلولاه لما وجد الإنسان على سطحها، إذ هو رمز للحياة والاستمرار ورمز للوجود الإنساني على أرضها، فلولا هذا الخطأ لما كنّا.

        وقد تأكّد ذلك من خلال الاستفهام الذي تردد في ثنايا هذه المقطوعة، وهو و إن دلّ على شيء، فهو دلالة على الحيرة، حيرة وجوديّة من خلالها يتساءل الشاعرعن حال البشريّة إن لم يرتكب آدم هذا الخطأ، الذي جعلنا نرث الأرض، فتصبح الأرض ووجود الحياة على سطحها مرتبطة بوجود آدم.

       إنّ عودة محمد الغزي إلى هذا الرمز لم تك يوما عودة اعتباطية، وإنما كان المقصود من ورائها إنشاء قصيدة شعريّة، تمتح من أحد أهم رموز النصّ الديني القرآني وهو آدم، فهو ذاك الذي كان سبب الوجود، وبه استطاع الإنسان أن يثبّت قدميه على هذه الأرض، فمحمّد الغزي قد سافر برمزه آدم من ثنايا النص القرآني إلى وطن جديد، ألا وهو وطن القصيدة، أي الفضاء الشعري الذي به تستحيل كلّ المعجزات حقيقة، حيث خلع عنه صفة الخطيئة لتصبح الخطيئة مجدا شعريّا " المجد للخطّائين" يتغنى به الشّاعر، وتتباهى به موسيقى القصيدة، فأضحى بذلك النصّ القرآني و آدم من آكد الرموز وقعا و تأثيرا في تجربة الشّاعر.

     لقد حضر الرمز آدم في هذه القصيدة، ليعبّر عن رؤية جديدة هي في الحقيقة رؤية الشّاعر للحياة، التي هي مصدر قلق وتساؤل لطالما راوده في محاولة منه لمعرفة خفاياه، فوظّف بذلك هذا الرمز، الذي أصبح يعبّر عن عديد الدلالات، ومنها العمق الإنساني الوجودي، الذي يحكي قصّة علاقة الخالق بمخلوقه، ولغة الرفض والقبول .ومثلما أسلفنا الذكر فأنّ كلا الشاعرين قد نهلوا من مختلف النصوص الدينيّة، وخاصّة فتحي النصري الذي استفاد من الدلالات العميقة للنص المسيحي وخاصة تجربة المسيح مع المعاناة ، فكيف تجلّى ذلك؟

-       المسيح :
    يعتبر المسيح من أكثر الرموز وقعا ودلالة في القصيدة الشعرية الحديثة، وليس من قبيل المبالغة إذا قلنا أنّه من النادر أن تجد شاعرا لم يستفد من هذه الشخصية " لما ترتبط به من دلالات تنسجم مع الواقع الذي يعيشه "[24]
   ويعدّ فتحي النصري واحدا من بين هؤلاء الشعراء الذين تناغموا مع هذه الشخصية، لما يزخر به المسيح من إيحاءات، ولما يحمله من معاني مكتنزة في طيّاته، فشخصيّة المسيح باقيّة، كما يسهل إرساؤها في قالبها اللغوي المناسب، ممّا يجعل الحاضر مرتكزا على الماضي والماضي مشدودا إلى الحاضر بتجاربه الروحيّة.

    لقد أثّرت شخصيّة المسيح، وما تحمله من دلالات في تجربة فتحي النصري الرمزيّة،  وساعدته في تأسيس كيان شعري، ينهل من التاريخ، ليؤسس رمزيّته الحديثة، إذ يقول في قصيدته "رقصة الطّائر الذّبيح"، موظّفا الرمز المسيح:

الطَّائِرُ الذَّبِيحْ
يَخْطُو بِلاَ جَنَاح
يُجَرُّ كَالمَسِيحْ
رِجْلَيهِ لاَ يُبِيحْ
لِنَفْسِهِ السُّقُوطْ[25]

       جاءت هذه القصيدة ثريّة بعديد الرموز التي تتفاعل فيما بينها لتبرز تلك الصورة الشعرية التي أراد الشاعر أن يبلّغها، والتي تنهل من عالمه الخاص، ذلك العالم الذي امتزج برمز دينيّ كان له وقعه في هذه الأسطر، إذ لا يستطيع قارئ هذا النص أن يمرّ بهذا الرمز دون أن يتبيّن أهمّ مقاصده ومعانيه، فقد استفاد فتحي النصري من شخصيّة المسيح وهو ما تؤكّده لنا هذه الأسطر الشعريّة، حيث شبّه الطّائر الذّبيح بالمسيح باستخدام أداة التشبيه " كالمسيح"، فالجامع بين هذا وذاك، أي بين المشبّه والمشبه به، أي بين المسيح والطائر الذبيح هو في كونهما يشتركان في طابع المأساة.

     حاول الشّاعر في هذه الأبيات أن يصوّر مأساة المسيح، الذي صلب على يد اليهود في فترة مضت، فمأساة الطير وطريقة ذبحه وفقده للحريّة، إنّما هي صورة معاكسة لصورة المسيح، الذي صلب من قبل اليهود، وقوبلت مبادئه التي عاش من أجلها، وعان الآلام والمصاعب في سبيل نشرها بالرفض، فالطائر الذبيح إنّما هو صورة من المسيح أو الوجه الآخر للسيّد المسيح، فكلّ منهما انهزم، لذلك حضر هذا الرمز في هذه القصيدة، ليحيل على الظلم والقهر وخيبة الأمل، فهو في الآن نفسه يظلّ رمزا لقوّة الإرادة و العزم، فرغم الذبح والمعاناة يبقى شامخا يأبى السقوط "لا يبيح لنفسه السّقوط ".

   إنّ هذا الرمز الذي  اعتمد في هذه القصيدة هو في تفاعل وتمازج مع رمز الطير، الذي هو  بدوره رمز الحريّة وهو صورة للإنسان المفتقد إلى معنى الحريّة والإنسانية، وفاقدا لمعنى الانطلاق، فهو يتراءى لنا يخطو خطوات نحوها، لكنّ عصى القمع تخذله، وتجعله كالطّائر الذّبيح، وصورة المسيح الذي يصلب، لكنه يأبى الهزيمة ولا يعترف بها  ولا يريد الاستسلام، لذلك أراد الشّاعر أن يعتمد على هذا الرمز، ليبيّن مدى التضحيّة التي يقدّمها الإنسان في سبيل الوصول إلى ما يريد.

      تعددت معاني الرمز في هذه الأسطر الشعرية، لترحل بنا إلى عالم مليء بالإيحاءات، كان لرمز المسيح دور هام في مزيد تعميقها، إذ لم يكن توظيف هذا الرمز الديني إلاّ بغرض إضفاء نوع من الإيماء على القصيدة، وإبراز عديد المعاني التي أراد الشاعر إبلاغها للمتلقّي، وذلك بأسلوب غير مباشر عمل فيه الرمز الدور البارز في بيان عديد المعاني ومنها معنى التضحية، وهذه التقنية المعتمدة من قبل الشاعر هي من السمات المميزة لأعماله الأدبية والشعرية خاصّة، فالعمل الفني " يرتبط بمعاناة الإنسانية، والإبداع الفنيّ الأصيل هو الذي يضع يده على مشكلات الشعب، وهو التعبير الحقّ عن آمال الأمّة، وهو الذي يلامس أماني النفوس في عمقها، فالمبدع هو الذي ينطلق من الشعور إلى اللاّشعور الجمعي في لحظات إلهام صوفيّة"[26]، لذلك خلق توظيف فتحي النصري لهذا الرمز نوعا من التناغم مع الطير كقناع شعري، ليبيّن به عديد الرؤى والمقاصد التي استحالت اللغة العادية عاجزة عن تبليغها.

    كما احتفى فتحي النصري ومحمد الغزي بالعديد من الرموز الأخرى، التي استقوها من عدّة مصادر مختلفة، ولعلّ الحديث عن الرموز الموظفّة لدى الشاعرين يأخذنا طوعا إلى الرموز الصوفية، التي تحضر بشكل لافت في مدوّنتي الشّاعرين...فما هي الصوفية؟ وفيم تتجلّى الرموز الصوفية؟ وما هي المدارات الدلالية التي تحيط بهذه الرموز؟

ب‌-                      الرموز الصوفيّة :

      قبل الولوج إلى عالم النصوص الشعرية قصد استجلاء معالم التجربة الرمزية الصوفية عند الشاعرين كان لابد لنا من التعرض قليلا إلى بعض الجوانب التي شجّعت على دخول الرمز الصوفي إلى التجربة الشعرية التونسية، والعوامل التي جعلت الحاجة ملحة إلى الرمز الصوفي، فللرمز الصوفي أو للتجربة الصوفية بشكل عام معالمها ومعانيها الروحيّة الخاصّة بها، لذلك كانت لهذه النزعة سماتها، وهو ما نجده في شعر معظم الرمزيين الذين هربوا من الواقع و استسلموا إلى غيبوبة الأحلام [27] .

    ويعتبر الرمز الصوفي من أهمّ الرموز التي عبّرت عن عالم الصوفيّة، ذلك العالم المختلف بكلّ ما فيه من معاني روحيّة يمكن رصدها من تلك التجربة، التي أراد من خلالها الوصول إلى المطلق، لذلك استحالت اللغة العاديّة أن تجسّد تلك التجربة، ليرحل بنا الصوفي إلى لغة إيحائية تعبّر عن تلك العلاقة بينه وبين خالقه، إذ " عجز الصوفيين طوال الأزمان عن إيجاد لغة للحبّ الإلهي تستقلّ عن لغة الحب الحسّي كلّ الاستقلال، والحب الإلهي لا يغزو القلوب إلاّ بعد أن تكون قد انطبعت عليها أثار اللغة الحسية، فيمضي الشاعر إلى العالم الروحي، ومعه من عالم المادة أدواته و أخيلته التي هي عدّته في تصوير عالمه الجديد"[28]

    ويعتبر الشاعر التونسي رائدا في استلهام معالم الصوفية أو الرمز الصوفي، إذ لا يكاد يخلو الشعر التونسي الحديث من الرموز الصوفية، التي وجد فيها شعراؤنا خير معين ومنهلا عذبا وخصبا لإثراء مدلولات قصائدهم، ويعتبر شاعرينا من أهمّ شعراء العصر الحديث احتفاء بهذا الرمز، ففيم تتجلى الرموز الصوفية وما هي مدلولاتها؟

-       الخمر :

     يعتبر الخمر من أهمّ الرموز الصوفية التي اعتمدها الشاعر الصوفي في قصائده، فالخمر بالمعنى الصوفي هو ليس خمرا ماديّا يذهب العقل ويثقل الحواس، و إنّما هو حال من الدهشة التي تعتري المرء فتجعله يذهل عن كلّ شيء عدا المحبوب الذي يشدّه، والخمر عند أهل الحقّ " غيبة بوارد قويّ، وهو يعطي الطرب والالتذاذ"[29].

     و ينسب بدايات الرمز الخمري في الشعر الصوفي إلى ذي النون المصري، الذي استعمل ألفاظ الكأس والشراب مجازا في هذا المجال، وسلك الصوفيّة بعده مسلكه" فتكلّموا عن كؤوس الحبّ المترعة، وسكرهم بهذه الكؤوس وغيبتهم عن الوجود في سكرهم، ونعيمهم بمشاهدة الحبيب ولقائه، وانتهى بهم السكر إلى فنائهم في محبوبهم" [30]،  ويوظّف محمّد الغزي الخمر بشكل لافت في شعره الرمزي، وخاصّة في قصيدته " الموت"، إذ يقول :

إِنْ يَجِيءْ قَبْلَ صِيَاحِ الدِّيكِ مَوْتِي
وَ يُفَتِّحْ بَابَ بَيْتِي
سَأُنَادِيهِ تَمَهَّلْ سَيِّدِي
فَعَلَى الأَرْضِ خُمُورٌ لَمْ أَذُقْ أَطْيَبَهَا
وَذُنُوبٌ جَمّة لَمْ أَقْتَرِفْ أَجْمَلَهَا
فَاذْهَبِ اليَوْمَ وَدَعْنِي لِغَدِ[31]

     افتتحت القصيدة بأسلوب شرطي " إن يجيء قبل" ، ليدلّ على معنى الاحتمال، فاحتمال مجيء الموت قبل موعده "قبل صياح الديك" لم يقبله الشاعر، وهو ما أوصلنا إلى السبب وهو أنّ " على الأرض خمور لم أذق أطيبها"، فالشاعر في هذه الأسطر الشعريّة يناجي الموت، ويبحث عن خمور لم يذقها، فالخمرة هيّ التي تشدّه إلى الحياة، لذلك جاءت في صيغة الجمع " خمور" لتعبّر عن تلك الحاجة إلى تلذذ وتذوّق ما طاب منها، ويحيل هذا الرمز على معنى الحياة، فهو مصدر التمسّك بها ومن أجلها لا يريد الشاعر مغادرتها، فاكتسبت الخمرة بذلك دلالات جديدة، إذ أصبحت تعبّر عن أحوال وجوديّة ذاتيّة، لذلك يطالعنا الشاعر يناجي الكمال الذي لا يمكن الوصول إليه إلاّ بتذوّق أجود أنواع الخمور، فهو لا يرفض الموت إلّا بعد أن تمتلئ روحه بطيبها وتقتلعه من وحي الأشياء العاديّة، فهي تسافر بالروح بعيدا، ومهما تذوّق الشاعر منها، فإنّه لا  يزال مشدودا إليها.

   لم يكن توظيف الخمر كرمز شعري لإثراء القصيدة فحسب، و إنّما لإبراز العمق الدلالي والإحالة على تلك التجربة الصوفية مع الخمر، لذلك فإنّ محمّد الغزي في هذه الأسطر الشعريّة يتراءى لنا وكأنّه في جلسة صلح مع الموت، إذ يطلب منه أن يعيره طرفة عين، لأنّ على هذه الأرض رؤيا لم ينهل منها، وهي تلك الخمور التي لازالت تشاكل نفس الشاعر وتناجي طيفه. 

      دلت الخمور على معاني مختلفة، فهي رمز الحياة والتواصل، كما أنها تزيح الستار عن تلك المفارقة بين الموت والحياة، إذ الصوفيّ لا يريد الانتقال من مقام إلى مقام ما لم يستوف أحكامه، لذلك نجد هذا الرفض للموت هو رهين الانتشاء من جميع خمور الأرض، وهو وجه من وجوه التجربة الصوفيّة.

     لا تمثّل الخمر إلّا واحدة من بحر الرموز الصوفيّة التي يوظّفها كلا الشاعرين، إذ أنّ الباحث الرصين في ملامح التجربة الرمزية عند كلّ من فتحي النصري ومحمّد الغزي يلفي هذا الزخم الكبير، والتواجد المميز للعديد من الرموز الصوفيّة الأخرى كالرمز الطبيعي الذي يتدلى بشكل لافت خاصّة في شعر محمّد  الغزي.

-       الرمز الطبيعي: رمزيّة النجوم:

      إنّ صور الطبيعة وجمالها لم يخف عن الشعراء الصوفيين الذين أولوها اهتماما خاصّا، وأضحت معينهم في الأخذ برموزها ومظاهرها وملهمتهم في تجربتهم الصوفيّة، ورسم لوحاتهم الرمزيّة المليئة بالإيحاءات المعبّرة عن تجربتهم الخاصّة، فأنس الصوفيّ الطبيعة "وقد غدت شفرة أو شفرات يقرأ الصوفيّ فيها بضرب من الكشف لغة ذات حدّين : أحدهما حسّي فيزيائي والآخر روحي إلهي"[32].

    وقد أعتمد  الشاعر الصوفي على هذه الرموز، ليتجاوز العالم المحسوس إلى عالم خيالي مثالي، ليؤثث عالمه الشعري، ولعلّ لهذه الأفكار صداها في قصيدة محمّد الغزيّ " نجمة"، إذ يقول فيها:

خُذْ رِيشَتَكَ اللَّيْلَةَ وارْسُمْ نَجْمَتَكَ المُؤْتَلَقَهْ
واذْهَبْ لِلْنَّوْمِ
سَتَنْبُتُ لِلْنَّجْمَةِ أجْنِحَةٌ
وتُغَادِرُ فِي الفَجْرِ بَيَاضَ الوَرَقَهْ[33]

       "الشعر صوت إنسان يتكلّم مستعينا بمختلف القيم الفنيّة، ليكون صوته أنقى، فهو يستعين بالموسيقى والإيقاع والصورة والخيال، وكلّ هذه الأصوات مجتمعة تجعل لصوته هذه الفاعليّة لينقل الحقيقة الإنسانية التي يحسّها"[34] ، وتلك الفاعلية الصوتية في هذه القصيدة كانت وليدة الأسلوب المستخدم في هذه القصيدة،  حيث عمد الشاعر إلى اعتماد الأسلوب الإنشائي الطلبي من خلال التأكيد على طلبه بثلاثة أفعال جاءت في صيغة الأمر " خذ...ارسم ... اذهب..."، ومن المعلوم أنّ الأمر يفيد طلب الأمر على وجه الاستعلاء، وقد كان لهذا الأسلوب دور فاعل في تفعيل إيحاءات هذه القصيدة الرمزيّة.

       أمّا بالانتقال إلى المستوى الدّلالي، فإنّ الشاعر حدد الظرف الزماني وهو الليلة، التي كان لها وقع خاص في نفسيّته، فلكأنّ هذه الليلة مزركشة بطابع قدسي، إنّها ليلة الرسام الحالم المريد، إنّها ليلة النجمة المؤتلقة، إنها باختصار ليلة بسطت نفسها على نفسيّة الشاعر واحتلّت مرتبة الليلة المثاليّة التي اغتالت الوطن الأم أي وطن القصيدة عندما قرّرت مغادرته في الفجر" وتغادر في الفجر بياض الورقة".

     إنّ تجربة الشاعر الصّوفي مع الطبيعة ليست كأيّ تجربة شاعر آخر مع الطبيعة، إذ لها خصوصيتها ومميّزاتها، لتحيل على عالم الحلم والخيال، الذي يؤثث هذا النص الشعري، إذ كيف للنجمة أن تغادر بياض الورقة إن لم تكن تحمل ذلك البعد النفسي الروحي، فهي ليست مظهرا من مظاهر الطبيعة، وإنّما هي تجسّد  العالم الإلهي وحكمة الله في خلق الطبيعة بكلّ تفاصيلها، وقد حدد زمن رسم النجمة وهو الليل بكلّ ما يحمله من سواد، ولكنّ ستنبت لها أجنحة عند الفجر وكأنّ كلّ ما ترسمه مخيّلتك سيرى النور، لذلك ارتبط انطلاقها بالفجر وهو رمز الانطلاق والحرية والبياض، ومن هنا نتبيّن أنّ الشاعر في هذه القصيدة، وفي اعتماده على الرموز الطبيعيّة، إنّما يحيل على عالم الصوفي الخاص المليء بالإيحاءات، وما هذا التأمل في الكون إلّا شوقا إلى تلك الآفاق التي تصوّر قدرة الخالق على الإبداع.

     إنّ العلاقة بين النجوم من جهة والمعاني الروحيّة الصوفيّة من جهة أخرى بإمكانها أن تشي لنا بالعالم المثالي الذي ينشده الصوفي، ذلك العالم البعيد عن الواقع والبعيد عن المحسوس، لذلك فالصوفي مختلف في جميع أبعاده وتجاربه وبكلّ ما يحيط به، فلكلّ شيء خصوصيّة معه، فجاءت تجربته مليئة بالرموز التي تومئ بملامح تلك التجربة.

   هكذا تجلت تجربة محمد الغزي الصوفيّة من خلال الخمر ورمز الطبيعة المتمثّل في النجوم، وسنحاول الآن إخضاع مدونّة فتحي النصري إلى ميزان النقد والتمحيص قصد استجلاء الرموز الصوفية الأخرى...ففيم تتجلّى الرموز الصوفية عنده؟

-       الرمز الأنثوي:

       إنّ الناظر في شعر فتحي النصري يلفي احتفائه الكبير برمزية المرأة الصوفيّة واهتمامه بالحب الإلهي، وقد كانت فيه المرأة مثقلة بالدلالة على المحبّة الإلهية، فاجتمع بذلك الحبّ الروحي الصافي مع الحبّ الإنساني، ولم يتسنى للشاعر الصوفي التعبير عن الحبّ الروحي إلّا من خلال مجموعة من الأساليب الشعريّة التي قام بتطويعها وتطويرها والتي صقلت من تجارب الشعراء في الحب الإنساني على مدى عصور"إذ تعتبر المرأة لدى أقطاب الصوفيّة قمّة التجلي الإلهي، فهي الوسيط الأمثل للوصول إلى الجمال المطلق، لأنّ الحقّ هو الجمال الأزلي المطلق، المعشوق على الحقيقة في كلّ جميل."[35]، ويوظّف فتحي النصري المرأة في العديد من القصائد، ولعلّ أبرزها قصيدة "المشهد" ، إذ يقول:

فِي المَشْهَدِ اليَوْمِيِّ
فِي ظِلِّ الذِّي هُنَاك
فِي غَيْمَةٍ
أَوْ نَجْمَةٌ تُضِيء
أَوْ تَسْقُطُ فِي الآفَاق
فِي مَوْعِدٍ يَجِيء
وَآخر يَفُوت
فِي كُلِّ مَا يُولَدُ أَوْ يَمُوت
أرَاهَا[36]

      لكلّ نصّ مكوّناته الأساسيّة التي تنهض ببنيته، والقصيدة الحديثة تركّز إيقاعها على حركة هذه المكوّنات التي يقوم فيها النص، فيتكثّف الإيقاع متّخذا شكل التوتّر الذي يقوم داخل النصّ ككل[37]، ويكون التكرار بذلك عاملا من عوامل التكثيف الإيقاعي الذي يبدو مغذّيا له أفقيّا وعموديّا، كما جاء في هذه المقطوعة، التي عمد فيها الشاعر إلى تكرار حرف الجر "في" في جلّ الأسطر الشعريّة، وهو وإن دلّ على شيء فهو يدل على أهميّة المكان، الذي نستجلي من خلاله صورة الأنثى التي لم تفارق الشاعر، فهو يراها في مشهده اليومي، أي في كلّ ما يدور حوله، وقد خصّنا هنا ببعض ما في هذا المشهد " في ظلّي، في غيمة أو نجمة تضيء..".

   هكذا كان لسمة التكرار دور في فتح لغة القصيدة على العديد من المعاني المختلفة" وقد اهتمّ الشعر العربي الحديث بهذا العنصر الإيقاعي الذي استخدم لصالح المعنى، فإعادة كلمات معيّنة يوحي بمدى أهميّة ما تكتسبه تلك الكلمات من دلالات "[38] ، وقد جاء هذا الخطاب في النص الشعري مثقلا بعديد المعاني، فلكلّ كلمة دلالة خاصّة بها، لنتصوّر ذلك العالم المثالي، إذ الأنثى رمز للجمال والحياة بكلّ مفارقاتها " الغيمة، النجوم، يولد، نموت" لذلك فهي بالنسبة للشاعر كلّ ما في الوجود، محمّلة بالإيحاءات، معبّرة عن ما وراء المحسوس.

     إنّ هذه الصورة المثلى التي نرصدها، إنّما هي في الحقيقة صورة لإبداع الخالق في خلقه من خلال تجسيد صورة الأنثى في مظاهر كونيّة متعددة، إذ تحيل على جمال الخالق وقدرته في تسيير الكون وحكمته في الخلق، فتبرز صورة الشاعر الصوفي الذي اعتمد على رمز الأنثى، ليحيل من خلاله على صورة الإله، حيث يبرز الاحتفاء به في علاقته بخالقه الذي لا يغيب عنه، لذلك فهو حاضر في كلّ ما حوله وفي وجدانه، فتلبّس رمز الأنثى في قصيدة فتحي النصري بذاك البعد الروحي الوجداني، وأضحت ذات بعد مثالي من الصعب الوصول إليه، لذلك فالشاعر يجسّد علاقة الإنسان بخالقه، وما تلك الحياة و الموت " يولد، يموت " إلّا دلالة على تجلّي الله وقدرته على الخلق والإبداع.

     إنّ استدعاء الشاعر واحتفائه بالجوهر الأنثوي وبرمز المرأة في هذه القصيدة هو في الحقيقة يرتقي بنصّه الشعري من طبيعته الغزليّة إلى مصاف العوالم الصوفيّة المتعاليّة الربّانيّة، فالأنثى بالمعنى الصوفي ليست إلّا تلك المرأة المتّصلة بالحب الإلهي، تلك المحبّة التي امتلكت قلبه و عقله، تلك المحبّة التي يمتزج فيها الألم باللذة والحرمان بالرغبة، تلك المحبّة التي أذابت نفسه، و عطّلت حواسّه، فصار منفصلا عن عالمه متعلّقا بعوالم علويّة.

-       استلهام القرآن الكريم :

  لقد تنوّعت الرموز الصوفيّة، واختلفت من شاعر إلى لآخر، إذا كانت ذات خصوصيّة معبّرة عن الفكر الصوفي، ومن هذه الرموز نذكر الرمز القرآني، إذ وجد الشاعر في الرموز القرآنيّة خصوصيّة وخصوبة ساعدته على خلق العديد من الرموز، وقد طوّعها لتتماشى مع تجربته الصوفيّة"عن طريق التآلف بين لغة القرآن ولغة الشعر، و الانسجام بين الموضوع  الشعري ومعادله المضمون القرآني "[39]

  إنّ هذا التمازج بين القرآن والنص الشعري كان حاضرا في قصيدة فتحي النصري، والذي اتخذ من صورة مريم العذراء رمزا وفقا للمعاني الصوفيّة، وهذا ما نستجليه من قصيدته التي تحمل عنوان "الآية"، ولعلّ العنوان وحده باعتباره عتبة نصيّة تساعدنا على الولوج إلى بواطن النص الشعري، يعدّ كافيا لإبراز ذلك التمازج بين النصّ القرآني والنص الشعري، وقد جاء قي القرآن وفي سورة مريم قصّة مريم العذراء من خلال الآية "فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إلى جِذْعِ النَّخْلَةِ، قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا، وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا....فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلّاَ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا....وَهُزّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطُ عَلَيكِ رُطَبًا جَنِيًّا...."[40]

اتخذت هذه المعاني القرآنيّة معنى صوفيّا، عبّر من خلاله الشاعر عن تجربته الصوفيّة، وهو ما سنستجليه من خلال هذه الأسطر الشعريّة، إذ يقول:

 

إِمَّا أَلَمَّ بِكَ المَخَاضْ
وَأَجَاءَكَ الوَجَعُ النَّبِيلُ إِلَى البَيَاضْ
وَهَزَزْتَ جِذْعَ النَّخْلِ مُبْتَهِلَا
فَلَمْ يَقَعْ الرَّطْبْ
لاَ تَكْتَئِبْ
هَذَا أَوانُ التِّيهِ
لَمْ يُنْذِرِ أَوَانًا لِلرَّطَبْ [41]

    "قد يستمّد الشّاعر من التّراث الدّيني، ومن الشّعائر الدّينيّة المقدّسة كلّ ما يمكن أن يعينه في تعميق تجربته، لأنّ الدّين يحتوي على قيم أخلاقيّة عاليّة بدلالات إنسانية غنيّة"[42]، غير أنّ شاعرنا كغيره من شعراء العصر الحديث كثيرا ما يلجأ إلى لعبة الإخفاء والإضمار كما في هذه القصيدة، فمن آليات حضور الرمز كما حدّده النقاد إمّا تصريحا وإمّا تلميحا، والشاعر في هذه المقطوعة نحا نحو لغة الغموض الشعري، ولغة الإخفاء، حينما أخفى رمزه عنوة، وهي سمة من أكد سمات العصر الحديث .

وقد وجد الشاعر الصوفي في قصّة مريم ملاذا آمنا يعينه في مسيرة بحثه عن كلّ ما بإمكانه أن يشدّه إلى الله، فكانت هذه القصّة بمختلف أطوارها وتفاصيلها العريضة البوّابة التي ألهمت الصوفي العديد من المعاني الروحيّة، التي ينتشي بها، ويطلبها كلّما أراد التقرب إلى الذات الإلهية، لكن الرمز في هذا المثال يحضر تارة ويختفي تارة أخرى، يتراءى لنا من خلال حضور العديد من الدلالات التي تؤكده مثل الابتهال وهو الدعاء والتقرب إلى الله، فالصوفيّ وعند الابتهال يسافر من عالم الواقع إلى عالم آخر، يحسّ نفسه فيه قريبا من الله خاصّة وأنّ الدعاء والتضرع إلى الله عند الصوفيّة يكون في مكان بعيد، يتخذه للتجربة الروحيّة النفسيّة، التي تتلوّن بذلك البياض والوحدة، فهو يعيش مخاضه متّكئا على جذع النخلة بعيدا عن الواقع، ليتصور عالمه الخاص، وهذا الأسلوب الرمزي في هذه القصيدة كثيرا ما يكون مستمدّا من البيئة الصوفيّة، ممّا يزيدها إيهاما على إيهام، وما هذه الإشارات إلّا تعبيرا عن التجربة الصوفيّة، التي تمتح من العالم الروحي، وتستقي منه عديد الدلالات.

إنّ المتأمّل لهذه الأسطر الشعريّة يلفي العديد من الإشارات التي تحيلنا إلى بواطن النصّ القرآني، والعديد من الإيحاءات والرموز التي تخبرنا عن واقعة مريم، عندما أتاها المخاض إلى جذع النخلة، كما تحضر العديد من الإشارات الأخرى كتضرّعها إلى الله "الابتهال" وغيرها من الإشارات التي أحالت على الرمز دون ذكره ذكرا صريحا، وتعد هذه اللعبة، ونقصد بذلك الإخفاء والتعمية من آكد وظائف الشعر في العصر الحديث فيما أصبح يسمّى بالغموض الشعري، الذي اتخذه فتحي النصري خير وسيلة للتعبير عن رؤاه وتطلّعاته الصوفيّة.

بالإضافة إلى الرموز الصوفيّة، يزخر شعر كلّ من محمّد الغزي وفتحي النصري بالعديد من الرموز الأخرى، والتي سنحاول إجمالها وفق التمشّي الآتي، وسنستهدي أولا بالرموز التاريخيّة و الثقافيّة:

2-الرموز التاريخية والثقافيّة :

  تعتبر الرموز الثقافيّة ذات أهميّة كبيرة لدى الشاعر والقارئ معا، لأنّها تمتح من ثقافات مختلفة، لذلك كان لا بد للشاعر الذي يوظّف الرمز من ثقافة واسعة "لأنّ الرمز مرتبط ارتباطا مباشرا بالتجربة الشعوريّة التي يعانيها الشاعر، والتي تمنح الأشياء مغزى خاصّا"[43]، إذ كثيرا ما اعتمد الشاعر على ثلّة من الرموز الأدبيّة، التي كان  لها دور بارز في ثقافة عصرها، وبقيت ممتدّة عبر عصور مختلفة، بالإضافة إلى العديد من الرموز الفنيّة التي ساهمت في  تطوّر المجال الثقافي، وعملت على توسيع الأفكار وكانت ذات خصوصيّة، وقد اعتمدها الشاعر وصاغها في قصيدته بأسلوب خاص، فأضفى على القصيدة بعدا دلاليّا، جماليّا، سافر بنا عبر عصور مختلفة، ورسم لنا وجوها جديدة، لعب فيها الرمز الدور البارز، ونجد لهذه الرموز التاريخيّة والثقافيّة حضورا لافتا في تجربة محمّد الغزي وفتحي النصري الشعرية، والتي سنتبيّنها من خلال بعض القصائد.

وتعتبر الرموز التاريخيّة ذات أهميّة في التجربة الشعريّة التونسيّة من خلال استدعاء شعرائنا بعض الشخصيات الأدبيّة، وتوظيفها في النص الحديث، وذلك لما تتركه من أثر في صيرورة الحركة الأدبيّة في عصرها، و في الذاكرة الأدبيّة أيضا، ومن أهمّ الرموز التي وظّفت في الشعر التونسي الحديث، والتي أضفت على الصورة الشعريّة عديد الدلالات هي:

أ-المتنبّي :

يكاد  يجمع دارسوا الشعر الحديث كون شخصيّة المتنبي من أهمّ الرموز الأدبية التي أدرجها الشعراء في كتاباتهم الشعريّة، والاستفادة من ايضاءاتها الرمزيّة المختلفة، وقد ظهر المتنبي في القرن الرابع للهجري، وأصبح يعود إلينا بأشكال وصور جديدة، لذلك نجده حاضرا في قصائد الشعراء في عصور مختلفة، ويقول أدونيس في هذا الصدد إنّ المتنبّي "يفرز نفسه، ويعرضها عالما فسيحا من اليقين والثقة والتعالي في وجه الآخرين وضدّهم، في ثنايا شعره كلّه، يحتضن ذاته، ويناجيها، ويحاورها بنبرة من العبادة، إنّ شعره كتاب في عظمة الشخص الإنسانية، يسيّره الجدل بين النهاية والمحدوديّة: الطموح الذي لا يعرف غاية ينتهي عندها...لقد خلق المتنبّي طبيعة كاملة من الكلمات في مستوى طموحه: ترجّ، تتقدّم، تجرف، تهجم، تقهر، تتخطّى..."[44]

ويعتبر محمد الغزي واحدا من هؤلاء الشعراء الذين نظروا إلى التراث الأدبي نظرة الشاعر المريد الطامح إلى استقصاء ملامح المتنبي الرمزيّة، التي بقيت حاضرة في بيئتنا الثقافيّة، إذ يقول في قصيدته "الأسماء":

المَمَالِكُ التِي سَاختْ فِي الرِّمَالِ
مَا قَالَهُ الشُّعَرَاءُ بَعْدَ أَنْ صَمَتَتِ الآلِهَةُ
البَرَابِرَةُ الخَائِضُونَ مَاءَ الكَوْنِ الأَسْوَدَ
وَلَا دَلِيلَ أمَامَهُم غَيْرُ عَوِيلِ غَرَائِزِهِمْ
تَبَارِيحُ المُتَنَبّي فِي شَعْبِ بُوّانْ[45]

نلاحظ من خلال استجلاء معالم الرمزيّة في هذه القصيدة حضور رمز لطالما تغنّى به العديد من الشعراء، واستلهموه في كثير من قصائدهم، وهو رمز المتنبي، الذي عرف بقيمته الأدبية والشعريّة خاصّة إذ ذكر المتنبي في هذه القصيدة دون غيره من الشعراء، وهو ما يعبّر عن احتفاء الغزّي بهذا الشاعر وبيان قيمته الأدبيّة.

عرف المتنبي بأشعاره الكثيرة والمختلفة، لكنّ في هذه القصيدة يخصّه بتلك التي قالها في شعب بوّان، وجمال هذه الأرض، التي عرفت بجنانها وخصبها، وهذا يعبّر عن افتتان الغزّي بما قاله المتنبي في هذه الأرض، وهو ما يحيل على ميولات الشاعر الأدبيّة وغرضه في ذكر المتنبي، ألا و هو عشقه لهذا الشاعر وأعماله الشعريّة.

لقد حضر المتنبي كرمز أدبي، ليبرز من ورائه معاني الشوق واللهفة إلى ذلك الزمن والعصر، عصر تعالى فيه صوت المتنبي بأجمل الكلمات، لنرصد أجمل الأشعار، وهو في الآن نفسه رمز لحالة شعوريّة إنسانية وجدانيّة تنظر بنظرة مغايرة للواقع  فيها استجلاء للتراث و لرموزه، ليبقى في الذاكرة، وقد كان للمتنبي أهميّة في حياة الشاعر الأدبية وتجربته الشعريّة، لذلك نجد الرمز في هذه الأسطر الشعريّة يتحوّل من شاعر منشد لقصائد شعريّة إلى رمز أدبي استوطنه الغزيّ قصيدته، ليصبح حاملا لذاكرة الشاعر وتطلّعاته الأدبيّة، ومنه تنبثق عديد الإيحاءات و الايضاءات التي تثري تجربته الخاصّة، تجربة الغزّي مع المجال الأدبي الشعري والشخصيات الأدبيّة، التي لطالما تركت وقعا خاصّا لديه، لذلك ما انفكّت تعانق ذاكرته.

قد لا يمكن أن نفهم أيّا من الإشارات التاريخيّة دون تخيّل دور الإنسان عبر حقب زمنيّة متطاولة، فيتحوّل الماضي المتراوح بين التخطي والتقهقر إلى مصدر إلهام يحثّنا على التحرّك بخيالنا نحو المستقبل، فما هذه الشخصيات إلّا حمّالة لعديد الأفكار، التي تساهم في حاضرنا، "لأنّ الأحداث التّاريخيّة، والشّخصيّات التّاريخيّة، ليست مجرّد ظواهر كونيّة عابرة، تنتهي بانتهاء وجودها الواقعي، فإنّ لها إلى جانب ذلك دلالتها الشموليّة الباقية"[46] ، لذلك نجد في هذه الشخصيات الرمزيّة، التي يوظّفها الشاعر تلك المراوحة بين الماضي والحاضر، في محاولة للكشف عن تلك التجربة الشعريّة، ومن الرموز التاريخيّة الأخرى التي نجد لها صدى في ديوان سليل الماء نذكر:

ب-طاغور[47]:

لقد وظّف الشاعر التونسي في أعماله الشعريّة العديد من الرموز الأدبيّة التي كان لها حضورا في الماضي، وبتوظيفها في قصائد الشاعر الحديث هي إعادة إحياء لتلك الرموز لإعطائها دلالات جديدة، فأصبح " إحياء التراث من خلال الكتب وحده لا يمكن أن يكون هو العمليّة الوحيدة، إذ أنّ عمليّة الإحياء، تتطلّب استلهام التاريخ، ونفث روح الحياة في شخصياته، لحملها على تخطّي زمانها التي عاشت فيه، لتكون حضورا عظيما في حياتنا ومستقبلنا"[48] .

لقد تعامل شعراؤنا مع هذه الشخصيّة بروح جديدة تتخطّى زمنها التي عاشت فيه وتصبح طيّعة في توظيف الشاعر لها، وهو ما نجده في هذه القصيدة للشاعر التونسي محمّد الغزي عنوانها " طاغور"، والتي يقول فيها:

مَا الذِي يَرْتَجِي الشَّيْخُ مِنْ هَذِهِ الكُتُبِ الأضْرِحَهْ
هِيَ ذِي الأرضُ سِجَّادُهُ
وَنُجُومُ السَّمَوَاتِ فِي يَدِهِ مَسْبَحَهْ[49]

"إنّ ديمومة الرّمز في طاقته الإيحائيّة تنهض أوّلا  من عدم ابتذاله بمضمون محدّد، ومن كونه حامل انفعال وإحالة جماليّة، وهذا ما يجعل الحسّ الانفعالي المكثّف مهيمنا على النّصوص الشّعريّة ذات البيئة الرّمزيّة"[50]، ممّا يكسب النصّ الشّعري فاعليّة مكثّفة، تزخر بالمشاعر المتراوحة بين الماضي والحاضر، وهو ما وجده محمّد الغزي في التاريخ وفي رمزه طاغور، إذ أصبح طاغور في هذه القصيدة متجاوزا مرتبة الشاعر والفيلسوف، وأضحى موضوع الشعر بعينه، حيث هو المؤثث والصانع لشعريّة الغزّي، الذي عرف بهاجسه الفكري والصوفي، متأثّرا بتغني شّعراء الصوفيّة بالسّماء والنجوم، والأضرحة التي يتبرّكون بها، وقد كان  لاستدعاء هذا الرمز دلالات شعريّة ودينيّة: شعريّا بأن أصبح مؤثّثا ومحورا للقصيدة كاملة، وهو ما نستجليه منذ البداية من خلال عتبة النصّ، ودينيّا من خلال ذاك التناغم بين الفكر الصوفي وتجلّياته والنصّ الشعري على حدّ سواء، بل لنقل امتزاج بين الأدب من ناحيّة، والفكر الروحي الصوفي من ناحيّة أخرى.

إنّ حضور الرمز الأدبي طاغور في هذه القصيدة إنّما هو ذو بعد ديني أكثر منه أدبي، فقد أخرجه محمد الغزّي من رمزيّته كأديب وفيلسوف، ليصبح معبّرا عن اتجاه اختاره الشاعر له، وألبسه حلّة الصوفيّ، مركّزا بذلك على بعد واحد، وهو البعد الصوفي.

إنّ الصورة التي رسمها الغزي لطاغور هي صورة الشيخ الذي يجب عليه التطلّع إلى الأرض والسّماء، فهي كلّها متاحة له، فلا رجاء من هذه الكتب أمام تلك الطقوس الدينيّة والروحيّة، وإضفاء هذه السمة الرمزيّة على الشاعر "طاغور" هي سمة ترحل بدلالات النص الشعري من عالم ماديّ محسوس إلى عالم الشاعر الخيالي، حيث يوظّفه ويطوّعه حسب غاياته الشعريّة وتطلعاته الأدبية.

 لقد كان حضور طاغور في هذه الأسطر الشعريّة قناعا تخفّى وراءه الشاعر في محاولة لإبراز تجربته الصوفيّة، فالرمز الأدبي من هذه الناحيّة تخفّى، ليظهر لنا عالم الشاعر، وليتبيّن القارئ عالما آخر يترصّده من هذا الرمز، وبذاك كان طاغور بمثابة الرمز الذي تخلّى عن زمانه ليستوطنه زمن القصيدة، فيتحول تاريخه إلى مؤسس لواقع شعريّ جديد، إذ التاريخ قبل أن يتحوّل إلى رموز شعريّة، له تأثيره الذي لا ينقطع في حياتنا، أمّا إذا تحوّل إلى رموز، فتكون تلك الرّموز جزءا من النصّ الشّعري الحمّال لمعان ودلالات كثيرة.

 اقتصرنا في مستوى الرموز التاريخيّة والثقافيّة عند محمد الغزي على الرمز المتنبي والرمز طاغور، وكذا الشأن مع فتحي النصري، فقد اكتفينا بالرمزين الآتيين الهادي التركي وشهدي عطيّة، لذا سنحاول التوقف في هذا العنصر عند تجلّيات هذين الرمزين في شعريّة فتحي النصري، وما هي المدارات الدلاليّة المحيطة بهذا التوظيف..

ج-الهادي التركي[51]:

إنّ قارئ الشعر التونسي لا يستطيع أن ينكر ثراء هذه التجربة وخصوصيتها مع كلّ شاعر، إذ حاول الشاعر الحديث توظيف عناصر لها طاقات دلالية قادرة على التعبير عن تجربته الإبداعيّة و إثراء رؤيته الفنيّة، وما توظيف هذه الرموز إلّا لعلاقتها بوجدان الشاعر نابعة من الذات الجماعيّة " فالعمل الفنّي حين يومئ إلى ما يقع خارجه من نصوص و أحداث و مرويّات، فإنّها تفتح ميراثا وجدانيّا ومعرفيّا مشتركا بين الأديب والجمهور، ويوقظ الذاكرة الوجدانيّة والجماليّة للمتلقّي، ليبدأ نشاطه في استقبال العمل الأدبي  والتماهي معه"[52]، لذلك ما فتئ الشاعر التونسي يثري أشعاره برموز متنوّعة تحيل على ذلك العالم الكامن في ذات الشاعر، ولعلّ من هذه الرموز ما نجده في القصيدة التي تحمل عنوان " الهادي التركي"، والتي جاء فيها قوله:

مُكْتَهِلٌ
يُجَمِّلُ الكُهُولَهْ
بِفِضَّةٍ فِي الشَّعْرِ
وَلَثْغَةٍ فِي الثَّغْرِ
وَنُكْهَةُ الطُّفُولَهْ[53]

اتخذ فتحي النصري في هذه القصيدة من الهادي التركي رمزا شعريا تتناغم معه الكلمات وتتجانس في صورة رمزية موحية بعديد الدلالات والمعاني، فالهادي التركي هو رسّام تونسي، ابتدع في لوحاته أجمل الرسوم، لذلك أخرجه الشاعر من معناه الظّاهر ليكسبه معنى جديدا، إذ أصبح هذا الرسّام ليس فقط يجمّل اللوحات، وإنما كذلك يجمّل كهولته، فكأنّما هذه الرسوم انطبعت بشخصيته، وأضحى هذا الفنّ -فن الرسم-  قادرا على إخراج الإنسان من مرحلة الكهولة، ليعود به طفلا، فكلّ الأحلام والخواطر إنّما نجدها في أعماله الفنيّة، لتصبح عالمه، ولندرك أنّ هذا الفن هو روح الفنّان، فالهادي التركي يخرج من عالمه الضيّق كفنّان، ليصبح رمزا للحياة والأمل، فمعه تنبثق روحا جديدة مليئة بالإرادة والتوق إلى المستحيل، ذاك المستحيل الذي يقلب الكهولة طفولة، فكلّ لوحة من لوحاته توحي بمعاني الأمل و روح الحياة، وتلك الكهولة لم تكن يوما حاجزا بينه وبين صدى الإبداع ، فما هي إلا رمزا لقوّة الإرادة، إذ يجعلك تبتسم رغم تلك الكهولة " يجمّل الكهوله"...

لقد اعتمد الشاعر على هذا الرمز الثقافيّ الفنّي، ليعبّر عن الواقع الثقافي، فضلا عن ذلك الشعور الداخلي الذي يحسّه الناظر لهذه اللوحات، فالهادي التركي وفي هذه الأسطر الشعريّة هو رمز الطّفولة التي لا تنتهي، ورمز السّعادة التي لا تستطيع أن تفارقك، فهو في النهاية رمز للحياة والتواصل، وتوظيف هذا الرمز في هذه القصيدة هو إحالة على أهميّة هذا الفنّ في نفس الشاعر، لما يتميّز به من قدرة على تغيير ما في النفوس قبل العقول، فتغدو تلك اللوحات رمزا للشعور الدّاخلي الذي يتجسّد في هذه الأعمال الفنيّة، وخاصّة تلك الأعمال التي رسمت بيد الهادي التركي، لذلك خصّ الشاعر هذه القصيدة بهذا الرمز دون غيره.

لمّا كان الشعر هو رسم بالكلمات، كان فتحي النصري في حاجة ملحّة إلى رسّام و إلى فرشاة تزيّن لوحته الشعريّة، فلم يجد خيرا من الهادي التركي الذي لطالما زيّنت لوحاته الساحة الفكريّة والثقافيّة، ولمّا كان الفن جامعا للرسم والشعر حاول شاعرنا أن ينسج مقطوعته بروح الرسم بيد الرمز الهادي التركي.

د-شهدي عطيّة[54]:

للشخصيات التاريخيّة أهمية بارزة عند فتحي النصري، إذ يلجأ إلى توظيفها في قصيدته ليضفي عليها ذلك البعد الرمزي، الذي يحيل على معاناة الإنسان عبر عصور مختلفة، فضلا أنّ هذا الرمز التاريخي " يهيئ للقصيدة توّهج أداء، وزخم عطاء حين تنسكب في الذاكرة كلّ تذكارات الحدث الذّاهب، وتصبّ شجنها في بحر الحدث الآني "[55]، فتصبح هذه الشخصيّة حاضرة لتثري قصيدة الشاعر، ولتعطي بعدا إيحائيّا على دلالتها، وهو ما نجد أثره في هذه القصيدة لفتحي النصري، والتي تحمل عنوان "خسوف"، إذ يقول:

تَتَصَلّبُ فِي تُرْبَتِهَا الزَّهْرَةُ،
يُؤْتَسَرُ
فِي غَابَتِهٍ العُصْفُورُ
وَلَيْلَةُ تَمٍّ يَخْفَى القَمَرُ
مَنْ كَانَ يَظُنُّ؟
وَمَنْ كَانَ يَرَى؟[56]

إنّ ثراء المعنى في هذه الأسطر الشعريّة يحيل على التداخل بين الرمز من جهة والبعد الإيحائي من جهة أخرى، إذ "يستعين الشاعر بالرمز أثناء التعبير بالصورة، وتكمن خصوبة الرمز في تحقيق التفاعل في السّياق، إذ تتحدّد علاقات المعنى، وتتوالد، وبه يتحرّك المعنى بقدرة الإيحاء"[57] ، فتكون القصيدة بذلك حمالة لعديد المعاني التي يجدها القارئ للشعر الحديث في بعض الأحيان مستعصيّة على التفسير، وقد جاءت هذه الأسطر الشعريّة متعددة الإيحاءات، ولعلّ العنوان وحده كفيل بذلك " خسوف "، الذي يحيل على معنى الظلام، ليتدرّج بنا الشاعر في ثنايا القصيدة لنكتشف عالمها الفسيح الذي يشعّ وينذر بعديد الدلالات والمعاني منذ العنوان، إذ بث الشاعر منذ البداية وأوحي بعتبة نصيّة لا يمكن تجاهلها لفهم ملامح هذه القصيدة "في ذكرى شهدي عطيّة"، ليضفي على القصيدة سمة الخصوصيّة، والتي ستعبّر بدورها عن دلالة خاصّة تستمد خصوصيتها من النصّ الشعري.

إنّ ما يشد الانتباه في هذه القصيدة تواتر الأفعال "تتصلّب...يؤتسر...يخفى...يرى.."، والتي تدلّ على معنى الحركة، ليبيّن أنّ كلّ شيء في ذكرى شهدي عطيّة يتحرّك، فلا وجود لثبات، فكلّ الأشياء تتحوّل لتواكب هذا الحدث، فهذه التغيّرات غير عاديّة وشموليّة، إذ تشمل كلّ مظاهر الطبيعة وما يدور حولها "تتصلّب الزهرة...يؤتسر العصفور...يخفى القمر.."، أليس في هذا إحالة على معنى الحزن والفناء.

هذا ما نرصده من ظاهر القصيدة، ولكن في باطنها فهي تحمل العديد من الدلالات التي تتآلف فيما بينها لترسم لنا  ملامح الرمز الرئيسي شهدي عطيّة، خاصة عندما نلمح دلالة التضحيّة "تتصلّب" وفقدان الحريّة، فضلا عن صورة العصفور الذي يؤتسر، بالرغم من كونه كان في غابته حرّا طليقا.

إنّ شهدي عطيّة هو في الحقيقة رمز للنضال والكفاح من أجل الحريّة ومبادئ عاش من أجلها، ولكن قوبلت بالقمع، فقد اضطهد وعُذّب في وطنه مصر، وكان موته نتيجة لهذا التعذيب، فموت شهدي عطيّة لم يك عاديّا، كذلك كان لا بد لذكراه أن تكون ذات بعد مختلف يحيل على الواقع.

لقد مات شهدي عطيّة تحت التعذيب، لكن بموته لم ينته كلّ شيء، فكلّ القيم التي ناد بها والتي من أجلها سجن وعذب وصلب، لم تر النور إلى الآن، لذلك فإنّ في ذكراه لازالت كلّ الطبيعة تشكو فقد الحريّة، وكلّ الطبيعة حزنت لأجله.

لم يجد الشاعر أفضل من هذه الشخصيّة ليوظّفها كرمز شعري، ليعبّر عن ذلك الواقع الإنساني المليء بالقمع والاضطهاد المانع للحريّات، فما هذا الرمز إلّا صورة الإنسان الذي ناضل من أجل مبادئ قد آمن بها، ولكنّ هذه المبادئ تبقى أسيرة العقل، لا تستطيع أن تتغيّر أو تغيّر مهما كانت قيمة التضحية .

3-الرموز المكانيّة:

يختلف المكان في العمل الشعري اختلافا بيّنا عن واقعه المادّي الجامد، فيتحوّل إلى فاعليّة متحرّكة نابضة بالحياة خاصّة وأنّه يدرج في العمل الفنيّ ليعبّر عن ذاك البعد الإيحائي و أثره الدلالي، فالمكان الشعري " لا يعتمد على اللغة وحدها و إنّما يحكمه الخيال، الذي يشكّل المكان بواسطة اللغة على نحو يتجاوز قشرة الواقع إلى ما يناقض هذا الواقع"[58].

ويعدّ المكان في التجربة الشعريّة التونسيّة طاقة إيحائية تخرج هذا الرمز من معناه كفضاء مكاني إلى معنى رمزيّ مشعّ بالدلالة، لذلك جاءت تجربة كلّ من محمّد الغزي وفتحي النصري الشعريّة مؤثثة بهذه الرموز .

أ‌-      القيروان:

        تعتبر مدينة القيروان أهمّ المدن في التاريخ التونسي، وقد نالت اهتمام عديد الشعراء التونسيين، وكان لهذا أثره في الشعر التونسي الحديث، وهذه المدينة حاضرة في شعر محمد الغزي، ولا غرابه في ذلك ونحن نعلم تلك العلاقة بين الشاعر ومدينته، التي خلق فيها، لذلك احتفى بها وأخرجها من معناها الضيّق إلى معنى رمزيّ، ويقول الغزي في قصيدته "قبل أن تبلغ القيروان":

قَبْلَ أَنْ تَبْلُعَ القَيْرَوَانْ
سَوْفَ تَسْأَلُ سَابِلَةَ اللّيْلِ عَنْ بَابِهَا،
وَسَتَذْرِفُ أَعْوَامَكَ البَاقِيّاتِ عَلَى دَرْبِهَا
وَسَتَعْلَمُ مِنْ بَعْدُ أنْ تَهْرَمَ الرُّوحُ
أَنَّكَ لَنْ تَسْتَدِلّ إلَيْهَا السَّبِيلْ.[59]

   "في اللغة خاصيّة جماليّة، لها أثر عميق في وجدان الناس والدّور الكبير في إثارة أحاسيسهم ونقلهم إلى أجواء نفسيّة جديدة، ولها القدرة الفائقة على مخاطبة أرواحهم وعقولهم، إذ تكمن هذه الخاصيّة في الموسيقى"[60]، وقد كانت هذه النغميّة الموسيقيّة حاضرة في هذه الأسطر الشعريّة من خلال تواتر حرف السين(ستذرف، ستعلم، تسأل، سابلة...)، وهو ما زاد في جماليّة هذه القصيدة، وضاعف من درجة نغميّتها، حيث تردد صدى حرف السين في هذه الأسطر أكثر من خمس مرّات متتاليّة، كما جاءت هذه المقطوعة محفوفة بنزعة استشرافيّة، وهو ما يتأكّد لنا منذ البداية من خلال صيغة الأفعال الدّالة على زمن المستقبل "سوف تسأل، ستذرف، ستعلم."، فنتبيّن ما يريد الشاعر إبلاغه خاصّة وهو يتحدّث عن مدينته الأم القيروان، إذ تتحوّل القيروان من مدينة ذات أشكال و أسماء إلى مكان مستحيل الوصول إليه، فأنت مهما سألت عنه فإنّك قد لا تعرف طريقه بسهولة، حتّى تهرم الروح، فأصبحت القيروان رمز المستحيل فلا يستطيع أيّا كان الوصول إليه، وهنا يومئ الشاعر إلى تاريخ القيروان العظيم، واسمها في التاريخ غنيّ عن كلّ تعريف، إذ كلّ من يريد بلوغ هذه المدينة عليه أن يكون متعمّقا في تاريخها، عارفا بمكانتها باعتبارها مدينة المستحيل، ليس فقط في نفس الشاعر وإنّما كذلك من خلال ما يقوله التاريخ عنها، وتصبح كلّ السنوات لا تكفيك لمعرفة خصالها وأهميّتها، لذلك لا تستطيع أن تسلكها إلّا وفكرك وقلبك وروحك مليء بالإرادة، وأنّك سوف تهرم قبل أن تستدلّ طريقها وتدقّ بابها، وكأنّنا بالشاعر في هذه القصيدة يضع شروطا للوصول إلى هذه المدينة(تسأل سابلة الليل عن بابها، تذرف أعوامك الباقيّات).

     ومن هنا نتبيّن أنّ رمز القيروان جاء محمّلا بعديد المعاني التي أراد الشاعر أن يبثّها في فكر القارئ، و لينثر عديد الإيحاءات، من أهمّها اتخاذ القيروان رمزا معبّرا عن ذلك البعد الأسطوريّ للمدينة التي يصعب الوصول، فلكأني بالشّاعر يصوّر المستحيل بالمستحيل .

     للمكان في الشعر أهميّة خاصّة، فهو عادة ما يكون الفاعل الرئيسي في بعض القصائد كما هو الشأن في هذه القصيدة، فالقيروان بالنسبة للشاعر حينما استحالت على الإنسان العادي أن يصل إليها كانت هي الفاعل الرئيسي والمؤثث لهذه القصيدة، فالقيروان ذات الطابع الأسطوري  أضحت مع محمّد الغزي سهلة المنال حينما وجدها في جسد القصيدة، فالعجز عن الوصول إليها واقعيّا وجده الغزيّ سهلا بلغة الخيال والحلم.

ب-كنعان[61]:

         إنّ الشاعر حريص في شعريّته أن يعبّر عن حاضره بأن يعود إلى الماضي، ولا يعتبر ذلك سوى شغف منه في تقصّي أبعاد الحاضر، إذ الماضي رمز للإحساس بالوجود والتمسّك بالبقاء، والاسم الأوّل لفلسطين ونقصد بذلك كنعان هو من أهمّ التسميّات التي تعبّر عن معنى الصّمود أمام مختلف التحديّات التاريخيّة آن ذاك، ويعدّ توظيف كنعان ما هو إلاّ عود على بدء، عودة إلى الماضي لتأسيس فضاء شعريّ يمتزج بأصالة الماضي وعراقته، ويوظّف الغزي هذا الرمز التاريخي في قصيدته " الخيول"، فيقول:

خُيُولُ الَمُرَابِينِ فِي أرضِ "كَنْعَانَ"
تِلْكَ الخُيُولُ التِي أبْصَرَتْ فَوْقَ مَا تُبْصِرُ الرُّوحُ
وَاسْتَوْجَسَتْ قَبْلَنَا أنَّ بَيْتَ المِيَاهِ قَرِيبْ[62]

     "إنّ الأديب بما يمتلكه من رؤية ذاتيّة تكتسب فاعليّتها من النظرة الجماليّة، يسعى إلى توظيف ما يجده صالحا ممّا ترسّخ في نفسه وذاكرته، وما يلتمس فيه من قدرات تزجي عمله الأدبي بروح خاصّة تستوعب شيئا من خصائص مجتمعها وآفاقه"[63] ، ومحمد الغزي كان حريصا في هذه القصيدة على استيعاب كلّ المقوّمات التي من الممكن أن تخدم تجربته الشعريّة، والتاريخ بما فيه من أدلة وبراهين يعدّ مصدرا رئيسا من مصادر التي تحاكي قضيّة إثبات الهويّة، وكنعان في هذه الأسطر الشعريّة أصبحت مختلفة في جميع أبعادها، فخيول المرابين على أرضها ليست ككلّ الخيول، وهو و إن دلّ على شيء، فهو يدل على سمة الاختلاف والتفرّد في هذه الأرض، لتصبح كنعان رمزا للفروسيّة والأصالة، ونحن نعلم ما كانت تعنيه الخيول في الماضي و حتّى في الحاضر من معنى الصلابة والقوّة، هذه الخيول هي على أرض كنعان، فهي تستمد بريقها وقوّتها من تلك الأرض، لتصبح قوة الخيول من قوّة أرض كنعان والكنعانيين، لذلك هي " تبصر فوق ما تبصر الروح"، فهي تتعدى الزمان والمكان لتصبح رمزا، زد على ذلك هي صدى لما عرفه المرابون في أرض كنعان، فتلك الصلابة مستمدّة من الفرسان.

       يتحوّل المكان في هذه القصيدة إلى رمز تاريخي، يغوص من خلاله الشاعر في طيّات الذاكرة الجماعيّة، فكانت لخصوصيّة المكان أثرها في هذه الأسطر الشعريّة، ولتحمل بذلك بعدا رمزيّا وخاصّة البعد التاريخي الذي يضفي على هذا الرمز عديد الأبعاد والدلالات وليغدو ذا أهميّة ليس في الماضي فحسب، و إنّما عبر التاريخ، لذلك فالمكان يرسم لنا حاضرنا بحضوره كرمز شعريّ.

      هكّذا تشكّلت رمزيّة المكان في شعريّة الغزيّ من خلال رمز القيروان والرمز كنعان، وسنحاول في المستوى الثاني من هذا العنصر استجلاء الرموز المكانيّة في شعر فتحي النصري.

ج- القرية:

    تعتبر علاقة الشاعر بالمكان ليست مجرّد علاقات إنسانية أو اجتماعية تربطه بمن حوله داخل هذا المكان أو ذاك، بل تتجلّى لنا فيها علاقات وجوديّة، إذ لا وجود للشاعر خارج المكان ولا مكان خارج وجود الشاعر"لأنّ المكان إذا خلا من الناس يغدو خارطة فارغة، لا تبعث على الحياة والتجدد"[64]، والقريّة هنا لها بالشاعر علاقة وجوديّة جدليّة، إذ كلّ منهما يولد منه الآخر، لذلك نجد الشاعر يتغنى برمزيّتها، إذ يقول فتحي النصري في قصيدته " القرية" :

كَأنَّمَا الدِّيَارُ
آثَارُ الدِّيَارْ
كَأَنَّمَا الأَبْوَابْ
إِذْ تُفْتَحُ تَلْتَقِي السَّرَابْ[65]

        حضر رمز القرية في هذه الأسطر الشعرية حاملا عديد الدلالات، إذ أصبحت القرية ليست كما عرفت بجمالها وديارها، وإنّما ظهرت لنا في صورة خراب، فلا ديار ولا سكن، ولكنّ هذا الخراب هو في الحقيقة ليس وجها من وجوه القرية الجغرافي، وليس في عدم حضور المساكن والمتساكنين، و إنّما هو فراغ وشعور داخلي يسكن فتحي النصري تجاه هذه القرية التي هي مجرّد بناء معماري خال من كل معاني الحياة والتواصل، فهي أشباه سكن وسكّان، مليئة بالأوهام، بعيدة عن الواقع، فهي رمز للفناء، فلا حياة أمام كلّ هذه الظروف القاسية التي يعيشها الإنسان على أرضها، هذه القرية إنّما هي رمز للألم الذي تمكّن من نفوس سكّانها، ورمز للبؤس والحرمان، لذلك جاءت خالية من معاني الحياة، ليسكن محلّها الخراب والحرمان.

     تحمل القرية عديد الأبعاد منها الاستقرار والطمأنينة والخصوبة، لكنّ قرية الشاعر لها طابعها الخاصّ ولونها المميّز، فهي قرية خاويّة، يعمّها الظلام مليئة بالحزن والأسى، والشاعر في قريته المظلمة لا يرى أملا في التغيير إلى الأحسن والسير نحو الأفضل، لذلك فأنت إن فتحت الأبواب لا تجد غير السراب "إذ تفتح تلقى السّراب"، فلا معنى للحياة في هذا المكان، ولا أثر لأمل يتيح لك الاستقرار، فكيف تحيا في قرية لا وجود لها في نفوس من يسكنها.

    إنّ الشاعر في هذه المقطوعة يوظّف رمزا مكانيّا كان له أثر بليغ في تجربته الشعرية وهو "القرية"، الذي يشي بالكثير من المعاني، أراد من خلالها الشاعر الإيماء بعديد الإيحاءات، التي رصدت ذلك الجانب الحزين للقرية وذاك الشعور باليأس تجاه هذا المكان.

    ظلّ المكان في هذا المثال محافظا على معناه في حركة الإبداع الفنيّ، وهو معنى "الحيّز والحجم والخلاء"[66]،  لأنّ الإنسان، الزمن، المكان، مثلّث متشابك، ومهما حاول الإنسان الابتعاد عن المكان، فهو مغروس فيه متأصّل في أعماقه، يتأثّر به ويؤثّر فيه، لذلك نجد أنّ فتحي النصري في هذا المثال قد أصفى عليه طابعا أسطوريا خياليا، فغدت القرية ذاك السّراب المليء بالوحدة والكآبة، وهو ما يعكس الحالة النفسيّة الوجوديّة المتأزمّة التي تسود نفس الشاعر، فانعكس ذلك على المكان.


د-الغرفة :

     لقد كانت للرموز المكانية أهميّتها في الشعر التونسي الحديث، إذ لطالما وظّفها الشاعر في أعماله، ليتيح له التعرّف على عديد الإيحاءات التي يستقيها القارئ من هذه الرموز، و التي ترسم لنا بعض المشاعر والأحاسيس في مكان له وقع خاصّ في حياة الشاعر، لذلك جاء هذا الرمز في قصائده ذا بعد إيحائي مميّز، من ذلك نذكر قصيدة فتحي النصري "القطّ" التي اتخذت فيها الغرفة بعدا إيحائيّا رمزيّا، نرصده من خلال هذه الأسطر الشعريّة:

وَالغُرْفَةُ نَجْمٌ وَسَمَاءٌ
فِي بَقَايَا الليْلَةِ الأُخْرَى مِنَ الشَهْرِ الأَخِيرْ
كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ الغُرْفَةَ يَنْسَابُ بَطِيئًا
فِي حَشَا العَتْمَةِ
الحَيُّ الصِّنَاعِيُّ
جُلُودُ الجَبَلِ المُنْكَسِرَهْ[67]

     لقد حملت الغرفة عديد الأبعاد في هذه الأسطر الشعريّة، إذ رحلت بنا من عالم الغرفة العاديّ، الذي هو مكان للسكينة والراحة، لتصبح نجما وسماء، وفي ذلك إحالة على معنى الجمال والإضاءة، فهي فسيحة كالسماء وجميلة جمال النجم وإضاءته، فتحولت بذلك من المعنى الضيق إلى معنى تسوده لغة الاتساع والتحرر، الغرفة من هذا الجانب إنّما هي رمز للحياة والطمأنينة، فهي تحيل على معنى روحيّ نفسيّ، وهي إضافة إلى ذلك علامة من علامات الفرح والتواصل، لذلك كانت في هذه الأسطر الشعريّة ليست ككلّ الغرف، إذ هي عالم الشاعر الخاصّ، فيها يترسّخ معنى الحياة حتّى وإن كانت في عتمة الليل" في حشا العتمة" فإنّك ترى من خلالها كلّ شيء" الحيّ الصناعي" لذلك فأنت في الحقيقة لست في مكان مغلق ومشتت، بل في الغرفة امتداد للخارج، امتداد يكسر عزلتها وانحسارها، إذ لا يمكن أن يغيب عنك شيء و أنت بداخلها لأنّها في الأصل تنثر للمتلقي روح الأمل والحياة.

      المكان من هذه الناحية ما هو إلّا انعكاس للحالة النفسيّة التي يعيشها الشاعر، والشاعر هنا يوظّف الغرفة ليعبّر عن ذكرياته، وليرصد الحاضر من خلال الماضي، إذ هي مصدر لوقائع مختلفة حملها هذا المكان الضيّق الذي أضحى ضيقه اتساعا في فكر الشاعر، وأصبحت العزلة عنوانا للإبداع، فلا غرابة في ذلك إن كان يعبّر عن ذاك المكان الذي يلجأ إليه حين يغيب الجميع من حوله، فلا يجد أمامه إلّا هذا المكان الجغرافي بكلّ أبعاده ليحمل العديد من الدلالات النفسيّة التي لطالما أرّقت شاعرنا.

    تتضح لنا رؤية الشاعر للمكان بكونه له وجود لا تقيّده الحدود، ولا يتقيّد بتلك السّمات الماديّة الطبيعيّة، فهو ليس مجرّد موضوع شعريّ أو مجرّد ألفاظ قد تستحضر في قوالب النص الشعري، قصد الدلالة المباشرة على المادّة، وإنما وجود المكان في طيّات النص الشعري إنّما هو وجود خلاّق، يفرزه الشعور و يشكّل الخيال ملامح حضوره الجمالي في النص الشعري، وفي حضور الأمكنة على  تنوعها واختلافها تمكّن النصّ من بنية فنيّة جوهريّة، لها أثرها الفاعل في تفعيل فضاء الإبداع الشعري.
 

خاتمة

لقد حاولنا في هذا البحث أن نقف عند ظاهرة من الظواهر الأسلوبيّة التي اكتسحت المجال الأدبي والشعري خاصّة في العالم العربي، ونقصد بذلك الأسلوب الرمزي الذي تراءى لنا في العديد من القصائد في الشعر العربي، وقد نحا حذوه العديد من الشعراء من المشرق والمغرب، فكان الرمز في المشرق سباقا إلى الذيوع والانتشار أكثر من بلاد المغرب، لكن سرعان ما ساهمت العديد من التغيّرات في شتى المجالات الأدبية والسياسيّة وغيرها في اكتساح هذا الأسلوب الشعر المغاربي وخاصّة الشعر التونسي، حيث اهتمّ العديد من الشعراء التونسيين بهذا الأسلوب، وارتادوه من الأساليب القادرة على تبليغ الرؤى، ومخاطبة العديد من المواقف، دون أي قيد قد يحول دون ذلك، كما كان الرمز خير معين في إخراج أشعارهم من طابع الرتابة، وجمود اللغة العاديّة العاجزة حسب رأيهم في اكتساح و الدخول إلى ما لا يمكن الدخول إليه، والتعبير عمّا يعسر الخوض فيه باللغة العاديّة الصريحة.

   خلاصة القول، لقد كان لبحثنا هذا المعنون بالرمز في الشعر التونسي الحديث أن طرح عديد الاستنتاجات، التي لا مناص من الوقوف عندها وفق التوجّه الآتي :

أوّلا : للرمز دلالات عدّة في عديد المجالات، فقد حظي باهتمام العديد من الفلاسفة على غرار كانط  وهيغل  وأفلاطون، كما كان للتحليل النفسي أن استغلّ الرمز كي يميط اللثام عن كلّ معميات هذا المجال، حيث يقرّ فرويد بكون الرمز من الوسائل الكفيلة بنزع ذلك الحاجز النفسي الذي يعتري مجال علم النفس، وقد كان للرمز أيضا دور فعّال في تعميق الدراسات اللسانيّة، وساعد على فهم العلاقة بين الرمز والمرموز خاصّة عند العالم اللساني دي سوسير و بيرس، ثمّ أخذ الرمز يتشكّل بصورة جزئيّة، ويدخل حيّز الكتابة الشعريّة الغربيّة، خاصّة الفرنسيّة منها، ونخصّ بالذكر الشاعر الفرنسي بودلير، الذي اعتبره البعض مؤسس المدرسة الرمزيّة، وبعد ذلك بدا الرمز يظهر في المنظومة الشعريّة العربية، فاستغلّه عديد الشعراء الذين واكبوا العديد من كتابات هؤلاء الشعراء الغربيين نتيجة الترجمات التي وصلتنا آن ذاك، وبذلك استغلّ الشعراء العرب هذا الأسلوب في كتاباتهم الشعريّة، وخاصّة في كلّ من مصر ولبنان عند بشر فارس وسعيد عقل وغيرهم ممن جاء بعدهم، وتأثر بنهجهم وبكتاباتهم من قبيل محمود درويش ونازك الملائكة وبدر الشاكر السياب، ثم تسرب إشعاع الرمز شيئا فشيئا إلى الشعر المغاربي، فتأثّر به ثلّة من الشعراء الجزائريين والمغاربة وبعض الشعراء التونسيين، لعلّ أبرزهم محمّد الغزي وفتحي النصري...

ثانيا:  توقفنا في هذا البحث عند تجربة شاعرين من شعراء الأدب التونسي الحديث ألا وهما محمد الغزي وفتحي النصري، ويعتبر لكلا الشاعرين تجربة رائدة في مجال الكتابة الرمزيّة، إذ تزخر مدونة كلّ شاعر بالعديد من الرموز المستوحاة من عدّة مصادر عربيّة كانت أو غربيّة، أسطوريّة كانت أو دينيّة، ثقافيّة كانت أو تاريخيّة، ثم حاولنا إجمال مختلف هذه الرموز فتأملنا بالبحث الرصين مدوّنة لكلّ من الشاعرين، فأخضعنا مدونة محمد الغزي "سليل الماء" وفتحي النصري "قالت اليابسة" إلى ميزان النقد والتمحيص قصد استجلاء معالم التجربة الرمزيّة في الشعر التونسي الحديث. وفي استقصاء ملامح الرمز عند كلا الشاعرين نجد أنّهما تفنّنا في اختيار ما يعينهم على نسج ملامح أو معالم واقعهم الشعري، فعاد مثلا محمد الغزي إلى بحر الأساطير، وانتقى منه الشمس والريح وغيرها من الرموز الأخرى التي كان لها وقعها في تأسيس عالمه الشعري، كما وجد فتحي النصري في الرمز الأسطوري البوّابة المثلى التي جسّدت واقعه الشعري، فنهل من العنقاء والنار...و رصد من خلالهم واقعا جديدا، لتكون فيه الأسطورة والرمز الأسطوري جسد النصّ، بها يكون ودونها لا يكون.

       استعان كلّ من الشاعرين برموز أخرى، يمكن اعتبارها واحدة من بحر الرموز التي مكّنتهم من اختراق واصطناع عوالم جديدة، يكون فيها الرمز هو الفاعل الوحيد في القصيدة، فارتأينا أنّ محمد الغزي لجأ تارة إلى الرمز الثقافي التاريخي مثل المتنبي وطاغور وتارة إلى الرمز الديني مثل آدم ...كما كان له نصيب وافر من الرموز الصوفيّة مثل الرموز الطبيعيّة والخمر...ونحا نحوه فتحي النصري الذي أثّث عالمه الشعري استنادا إلى هاجس الرموز الدينيّة من قبيل المسيح والرموز الصوفيّة كالمرأة واستلهام النص القرآني، وبذلك تشكّلت معالم رمزيتهم القائمة على ثلّة من الرموز المستوحاة من التاريخ، الذي طالما كان الفاعل الرئيسي في تأسيس قصائدهم.

ثالثا: لقد كانت للتجربة الرمزية التونسية سماتها الدلالية، إذ ساهمت هذه الرموز في التعبير عن أبعاد إنسانيّة ومواضيع مختلفة، تختلف مع تجربة كلّ شاعر، إذ القصيدة الحديثة حمّالة لعديد الأبعاد الفكرية الإنسانيّة، وقد تنوّعت طريقة توظيف الرمز إمّا كان واضحا جليّا للقارئ أو كان مبثوثا في ثنايا النص حاضرا غائبا، بمعنى حاضرا من خلال عديد الإشارات الموحيّة والدالة عليه وغائبا من خلال عدم إشراكه في توليد معاني النص الشعري، وهو ما زاد في درجة إيحاء النص، وجعل من النص الشعري ينحاز إلى ما يسمى بالغموض الشعري وهي سمة من آكد سمات الرمز، يعمد إليها الشاعر بإعطاء الرمز حيزا بسيطا في ثنايا النص مما يزيد من درجة غموضه، ويجعل من معاني النص كسراب يصعب الاهتداء إليه بيسر، كما حملت هذه الرموز العديد من الدلالات الأخرى، ولعل في توظيف فتحي النصري للرمز المسيح يفتح معه الباب لمحاكاة الواقع الإنساني الأليم، الذي يمر به الإنسان العربي مثله في ذلك مثل المسيح، فما المسيح إلاّ صورة معاكسة لصورة الإنسان المعاصر الذي يشاركه فعل الصلب، فالإنسان مصلوب في زماننا مثلما صلب المسيح في فترة مضت، لكنّ الدلالة باقيّة حتى لو اختلفت الأهداف والغايات، وبذلك كانت هذه الرموز حاملة في طياتها العديد من المعاني التي أراد الشاعر أن يبلّغها للقارئ، فما معاناة المسيح وما محنة العنقاء و المتنبي إلاّ مجرّد مرتكزات أعتنقها الشاعر ليبين العديد من المعاني التي يصعب على الشاعر الخوض فيها.

 

قائمة المصادر والمراجع

 

I-المصادر:

1-النّصري (فتحي):قالت اليابسة، منشورات دار أميّة، ط1، تونس، 1994
2- الغزيّ(محمّد):سليل الماء، ط1، تونس، 2004

-IIالمراجع العربية :

1- نشاوي (نسيب) : المدارس الأدبيّة في الشعر العربي المعاصر،ديوان المطبوعات الجامعيّة، الجزائر، 1984
2- رمّاني (إبراهيم): الغموض في الشعر العربيّ الحديث، جامعة الجزائر 1987
3- حساني (أحمد): مباحث في اللسانيات، ديوان المطبوعات الجامعيّة، الجزائر، 1994
4- الأيّوبي (ياسين): مذاهب الأدب، معالم وانعكاسات: الكلاسيكيّة، الرومنطيقيّة، الواقعيّة، دار الملايين، بيروت، ط2،  1984
5- كلاب (محمّد مصطفى): الرمز ودلالته في الشعر الفلسطيني الحديث، رسالة دكتوراه، جامعة الفاتح، 2002
6-الترميز في شعر عبد الوهاب البياتي :حسين عبده عودة الحاقاني، 2006
7- صبحي (محي الدين) : الرؤيا في شعر البياتي، دار الشؤون الثقافيّة العامّة، ط 1، بغداد 1987
8- ضيف (شوقي): دراسات في الشعر العربي المعاصر، نشر مكتبة الخانجي، (د.ط)، القاهرة، مصر، (د.ت)
9-ابن منظور: لسان العرب، مادة رمز ،دار صادر، بيروت لبنان ،د.ت، ج6
10- المصحف الشريف مع أسباب النزول و فهرس المواضيع والألفاظ ، تحقيق محمّد حسين الحمصي، دار الهدى، عين مليلة، الجزائر، ص 55
11- الفراهيدي (الخليل بن أحمد ): كتاب المعنى، تحقيق عبد الحميد هنداوي، باب الرّاء، دار الكتاب العلميّة، بيروت، لبنان، ط2،
12- هلال (محمد غنيمي): الأدب المقارن ، دار العودة، (دت)، بيروت، 1999
13- كرم (أنطوان): الرمزية والأدب العربي الحديث، دار الكشّاف، بيروت 1947
14- الجندي (درويش): الرمزيّة في الأدب العربي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع،القاهرة،1958
15- دي سوسير (فردناند): محاضرات في الألسنيّة العامة، ترجمة يوسف غازي و مجد نصر ، المؤسسة الجزائريّة للطباعة، الجزائر، 1986
16- اوسن وارت ورينيه ويلك: نظريّة الأدب ، ترجمة محي الدين صبحي، مطبعة خالد الطربيشي، دمشق، 1972،
17- جودة نصر (عاطف): الرمز الشعري عند الصوفيّة، دار الاندلس للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، بيروت، 1978
20- محمد فتوح (أحمد): الرمز والرمزيّة في الشعر العربي المعاصر،ط3،دار المعارف، القاهرة، 1984
21- سعيد (سمير): مشكلات الحداثة في النقد العربي ، دار الثقافة للنشر، القاهرة، 2002، ط1
22- حشلاف (عثمان) : الرمز والدلالة في شعر المغرب العربي المعاصر،منشورات التبيين الجاحظية، الجزائر، 2003
23- بو صلاح (نسيمة): تجلّي الرمز في الشعر الجزائري المعاصر، إصدارات رابطة الإبداع الجزائري 2000
24- (الدسوقي)عمر:في الأدب الحديث، نشر دار الفكر العربي، ج1،
26-غصوب (يوسف): القفص المهجور والعوسجة الملتهبة، مطابع دار المعارف، بيروت،1936
27- ناصف (مصطفى): الصورة الأدبيّة، دار الأندلس للطباعة والنشر، ط3، 1996
28- أحمد (محمّد فتوح): الرمز والرمزيّة في الشعر العربي المعاصر،ط3،دار المعارف، القاهرة  1984
29- كرم )أنطوان(:الرّمزية والأدب العربي الحديث، دار الكشّاف، بيروت، 1947
30-العيد (يمنى):في معرفة النص، دراسات في النقد الأدبي، منشورات دار الأفاق الجديدة، ط3، بيروت، 1985
31-زيدان(محمد فهمي): المنطق الرمزي، نشأته وتطوّره، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر والتوزيع، 2003
32-كوليريدج: الخيال الرمزي والتقليد الرومنسي، ترجمة الدكتور عيسى علي العاكوب، دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1992
33-محمد أديب(إسماعيل): الشعر العربي وقضيّة الرمز، دار الوحدة للنشر والطباعة ، 1996
34- تليمة (عبد المنعم): مقدمة في نظريّة الأدب، دار الفجر للنشر والتوزيع، ط1، 1905
35- أحمد غنيم (كمال): عناصر الإبداع الفني في شعر أحمد مطر، مكتبة مدبولي، ط1، 1998
36-منصور(عزالدين): دراسات نقديّة ونماذج حول بعض قضايا الشعر المعاصر، مكتبة المعارف، ط1، (د.ت)
37-موسى (إبراهيم): آفاق الرؤية الشعريّة، دراسات في أنواع التناص في الشعر الفلسطيني، وزارة الثقافة الفلسطينيّة، الهيأة العامة للكتاب، 2005
38- محمد بن أحمد ومولاي حفيظ بابوي وبشرى عليطي: البنية الإيقاعيّة في شعر عزالدين مناصرة، إشراف علال الحجام، منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين، ط1، القدس، 1998
39- زايد(علي عشري): استدعاء الشخصيات التراثيّة، دار الفكر العربي، ط1، 1997
40-نوفل (يوسف حسن): دراسة تحليليّة إحصائية لشعر : البارودي ونزار قباني وصلاح عبد الصبور، دار الاتحاد العربي للطباعة، ط1، مصر، 1985
41- حداد (علي): بدر شاكر السياب، قراءة أخرى، (د.ط)، عمان، 2000
42- ديفيز (ب.س) : المفهوم الحديث للزمان والمكان: ترجمة السيّد عطا، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 1998
43- فرحان (اليحيى): دلالة المكان في رواية قناديل الليالي المعتّمة، 2004
44-  (صلاح) فضل: عبد الحميد إبراهيم، شاكر حسن آل سعيد: الشعر ومتغيرات المرحلة، تيّارات في نقد الشعر العربي المعاصر، ج 5، ط1، دار الشؤون الثقافيّة العامّة، العرا
45- عيد (رجاء): لغة الشعر (قراءة في الشعر العربي الحديث)، منشأة المعارف بالإسكندريّة، 1985
46- علّاق (علي جعفر): الشعر والتلقّي، ط1، دار الشروق، عمّان، 1997
47- أدونيس: مقدّمة الشعر العربي، بيروت، دار العودة، ط1، 1971
48- حلاوي (يوسف): الأسطورة في الشّعر العربي المعاصر ، دار الحداثة للطّباعة والنشر والتّوزيع،بيروت 1992
49- بن عمارة (محمد): الصوفيّة في الشعر العربي المعاصر، المفهوم والتجليات، شركة النشر والتوزيع، المدارس،ط1، المغرب، 2001
50- السواح ( فراس): الأسطورة والمعنى، دار علاء الدين، دمشق، ط8، 1997،
51- شاهين (محمّد) : الأدب والأسطورة ، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر ، بيروت ، ط 1
52- عبد المنعم الخفاجي (محمد): الأدب في التراث الصوفي، مكتبة دار غريب للنشر، القاهرة، مصر،(د.ت)
53- كعوان (محمّد) : شعريّة الرؤيا و أفقيّة التأويل ، ط1، اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر، 2003
54- فولر (أدموند) : موسوعة الأساطير، ترجمة حنّا عبود، دمشق، الأهالي للطباعة والنشر، ط1، 1997
55-حاوي (إيليا) : نماذج في النقد الأدبي وتحليل النصوص، دار الكتاب اللبناني، ط3، 1996
56- إسماعيل (عزالدين) : الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنيّة والمعنويّة، دار الثقافة بيروت، 1972
57- بن عمارة (محمد): الصوفيّة في الشعر العربي المعاصر، المفهوم والتجليات، شركة النشر والتوزيع، المدارس،ط1، المغرب، 2001
58- الهاشمي (طه): تاريخ الأديان وفلسفتها، دار مكتبة الحياة، بيروت لبنان، 1963
59- عبد الصبور (صلاح): تجربتي في الشعر، مجلّة فصول، م2، عدد 01، 1981
60- جودة نصر (عاطف): الرمز الشعري عند الصوفيّة، دار الأندلس، بيروت، ط 1، 1978
61- إسماعيل أدهم و إبراهيم ناجي: توفيق الحكيم، دار سعد، مصر، 1945
62- الشّابي (أبو القاسم) : الديوان، بيروت، 1952
63- الجرجاني : ( التعريفات)، دار الفكر بيروت، ط1، 1998
64- حسّان (عبد الحكيم): التصوّف في الشعر العربي: نشأته وتطوّره  حتى القرن الثالث هجري،
65- يونغ (كارل غوستاف) : علم النفس والشعر، الموقف الأدبي، ج1،ع1-3، 1971
66- مبارك (زكي): التصوّف الإسلامي في الأدب والأخلاق، ج 9، (د.ط)، المكتبة العصريّة للطباعة والنشر، صيدا، لبنان، (د.ت)
67- سليمان (خالد) : ظاهرة الغموض في الشعر الحرّ، مجلّة فصول المجلّد السابع ، عدد 403، 1987
68- الجيوسي (سلمى خضراء) : الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، ط2، بيروت، أكتوبر 2007
69- إبراهيم(رضوان)  : التعريف بالأدب التونسي، الدّار العربيّ للكتاب، ليبيا تونس،1977
70- حمدان (أميّة) : الرمزيّة والرومنتيكيّة في الشعر اللبناني، وزارة الثقافة، دار الرشد، بغداد، 1981
72-يحيى(دريد) : الغموض الشعري في القصيدة العربيّة الجديدة،دار الذاكرة، ط 1،1991

III- المجلات:

-مجلّة المكشوف، مجلّد 1937
-مجلّة المقتطف، فيفري 1937
-مجلّة المكشوف: عدد خاص لغصوب، مجلد 1937

IV- المراجع الأجنبيّة :

1-    F. De Saussure : cours de linguistique générale, Payot, Paris,1978
2-    -Bouvier Emil : initiation a la littérature  d’aujourd’hui, la renaissance du livre . Originale  from . the university of Michigan 1928
3-    Encyclopedia Americana, 1966

4-    Emmanuel kant :critique de la raison pure, traduit par jules barni, paris, germer-Bailliére, libraire éditeurs 1869
5-    Baudelaire : les fleures du mal imprimé en France par FIRMIN-DIDOT S.A, dépôt légal; 1er trimestre 1981

[1] -مصطفى ناصف: الصورة الأدبيّة، دار الأندلس للطباعة والنّشر والتوزيع، د.ت، ص 171
[2] -مصطفى السعدني، البنيات الأسلوبيّة في لغة الشعر العربي الحديث،منشأة المعارف بالإسكندرية، 1987، ص 71
[3] -محمّد الغزي: شاعر و كاتب وناقد تونسي ولد بالقيروان في 24 فيفري 1949، صدر له كتاب الماء، كناب الجمر، وله عدة دواوين شعرية منها: سليل الماء، ثمّة ضوء آخر .....
[4] -فتحي النصري: أستاذ في كلية العلوم الإنسانيّة في منوبة، متحصّل على شهادة الدكتوراه في اللغة والآداب العربية، صدرت له ثلاثة مجاميع شعرية: قالت اليابسة، أصوات المنزل، سيرة الهباء
[5] -فراس السواح: الأسطورة والمعنى، دار علاء الدين، دمشق، ط8، 1997، ص 14
[6] - محمّد شاهين : الأدب والأسطورة ، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر ، بيروت ، ط 1 ، 1966، ص 88
[7] -طه الهاشمي: تاريخ الأديان وفلسفتها، دار مكتبة الحياة، بيروت لبنان، 1963،ص 73
[8] -محمّد الغزي: سليل الماء، مختارات شعريّة، الشركة التونسيّة للنشر وتنميّة فنون الرسم، ط1، تونس 2004، ص 50
[9] -محمد الغزي: سليل الماء، ص 59
[10] -كمال أحمد غنيم: عناصر الإبداع الفنيّ في شعر أحمد مطر، ص 298
[11] - العنقاء طائر بديع يشبه النّسر ريشه أحمر مذهّب ، مقدّس لإله الشّمس في القطر المصريّ ، يظهر للبشر كلّ خمس مائة سنة، ويقطن في بلاد العرب، إذا أشرف أجله على الانتهاء، يضع بيضة في عشّه ويموت، وسرعان ما تفقس البيضة عنقاء جديدة، وإذا ما وصلت إلى سنّ البلوغ حملت أباها الفاني في العشّ إلى هيليوبوليس في القطر المصريّ، ووضعته فوق مذبحة آله الشمس وحرقته ذبيحة، ومن رماده تحيا من جديد، ويتجدّد شبابها لتعيش مرّة أخرى"، أمين سلامة: معجم الإعلام في الأساطير اليونانيّة والرومانيّة ، دار الفكر العربي ، مصر 1955، ط1 ، ص239
[12] -أدموند فولر، موسوعة الأساطير، ترجمة حنّا عبود، دمشق، الأهالي للطباعة والنشر، ط1، 1997، ص 178
[13] -فتحي النصري: قالت اليابسة، قالت اليابسة، منشورات دار أميّة للدراسات والطبع والنشر والتوزيع، تونس، ص 28
[14] -إيليا حاوي: نماذج في النقد الأدبي وتحليل النصوص، دار الكتاب اللبناني، ط3، 1996، ص 103
[15] -إيليا الحاوي: في النقد الأدبي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1986، ص 77
[16] -فتحي النصري: قالت اليابسة، ص 41
[17] -عزالدين منصور: دراسات نقديّة ونماذج حول بعض قضايا الشعر المعاصر، ص 63
[18] - محمّد علي اليوسفي : أبجدية الحجارة ، مؤسّسة بيسان ، 1988، ص 43
[19] - يوسف حلاوي : الأسطورة في الشّعر العربي المعاصر ، دار الحداثة للطّباعة والنشر والتّوزيع،بيروت 1992 ، ص34
[20] - إبراهيم موسى : أفاق الرؤية الشعرية ، دراسات في أنواع التناص في الشعر الفلسطيني المعاصر، ص 89
[21] -سورة طه: الآية، 11
[22] -محمّد الغزي : سليل الماء، مختارات شعريّة، الشركة التونسيّة للنشر وتنميّة فنون الرسم، ط1، تونس 2004، ص 32
[23] - أحمد الدوسري:أمل دنقل شاعر على خطوط النّار، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، ط 2،بيروت 2004، ص 355
[24] -خالد سليمان: ظاهرة الغموض في الشعر الحرّ، مجلّة فصول المجلّد السابع ، عدد 403، 1987، ص 72
[25] -فتحي النصري: قالت اليابسة، منشورات دار أميّة للدراسات والطبع والنشر والتوزيع، تونس، ص27
[26] -كارل غوستاف يونغ: علم النفس والشعر، الموقف الأدبي، ج1،ع1-3، 1971، ص 41
[27] -يقول سعيد عقل"بلى شعرت أنّ سكن الظنّ أكثر واقعيّة من سكن الحياة"، عن مقالة حلوة الحلوات أميرة الأخيلة، في جريدة النهار، العدد الممتاز لسنة 1951، ص 15
[28] - زكي مبارك: التصوّف الإسلامي في الأدب والأخلاق، ج 9، (د.ط)، المكتبة العصريّة للطباعة والنشر، صيدا، لبنان، (د.ت)، ص 17
[29] -الجرجاني :( التعريفات)، دار الفكر بيروت، ط1، 1998، ص 86
[30] -عبد الحكيم حسّان: التصوّف في الشعر العربي: نشأته وتطوّره  حتى القرن الثالث هجري، ص 299
[31] -محمّد الغزّي: سليل الماء، مختارات شعريّة، ص 17
[32] -عاطف جودة نصر: الرمز الشعري عند الصوفيّة، دار الأندلس، بيروت، ط 1، 1978، ص 290
[33] -محمّد الغزي : سليل الماء، ص 24
[34] -صلاح عبد الصبور: تجربتي في الشعر، مجلّة فصول، م2، عدد 01، 1981، ص 16
[35] -محمّد كعوان: شعريّة الرؤيا و أفقيّة التأويل ، ط1، اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر، 2003، ص 7
[36] -فتحي النصري: قالت اليابسة، ص 47
[37] -انظر يمنى العيد: في معرفة النص، دراسات في النقد الأدبي، ص 101
[38] -محمد بن أحمد ومولاي حفيظ بابوي و بشرى عليطي: البنية الإيقاعيّة في عزالدين مناصرة، ص 23
[39] -محمد بن عمارة : الصوفيّة في الشعر العربي المعاصر، المفهوم والتجليات، شركة النشر والتوزيع، المدارس،ط1، المغرب، 2001، ص 155
[40]-سورة مريم : الآية 23: القرآن الكريم، دار السلام للطباعة، ص 305
[41] - فتحي النصري: قالت اليابسة، ص 100
[42] - يوسف حلاوي : الأسطورة في الشّعر العربي المعاصر ، دار الحداثة للطّباعة والنشر والتّوزيع،بيروت 1992 ، ص34
[43] -عزالدين اسماعيل : الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنيّة والمعنويّة، دار الثقافة بيروت، 1972، ص 198
[44] - أدونيس: مقدّمة الشعر العربي، بيروت، دار العودة، ط1، 1971، ص 55-56
[45] -محمد الغزي : سليل الماء، ص 63
[46] -علي عشري زايد:استدعاء الشخصيات التراثيّة، ص 120
[47] -طاغور: شاعر وفيلسوف هندي، ولد سنة 1861، من أهم مؤلفاته: ديوان قربان الأغاني باللغة الانكليزية سنة 1912، أنظر مقدّمة الديوان ترجمة خليفة محمد التلّيسي، الدار العربية للكتاب ص 1989
[48] -حوار مع عبد الوهاب البياتي في مجلّة الأقلام العراقيّة، السنة السابعة، عدد 11، ص 87، نقلا عن علي عشري زايد ص 58
[49] -محمّد الغزي: سليل الماء، ص 38
[50] - سعد الدين كليب: جماليّة الرمز الفني في الشعر الحديث،الوحدة ،1991 ، ص 39
[51] -الهادي التركي : هو عميد الرسامين في تونس،انطلق في عرض أعماله وهو في سن العشرين، كان يردد أنّ لكلّ فنّان طبعه الخاص ولا يمكن لأيّ كان أن يكون نسخة فنان آخر، أنظر إبراهيم العزابي، جريدة الصحافة، 2011
[52] -علي جعفر علّاق: الشعر والتلقّي، ط1، دار الشروق، عمّان، 1997، ص 83
[53] -فتحي النصري: قالت اليابسة، ص 21
[54] -شهدي عطيّة: ولد في مدينة الإسكندريّة سنة 1911، انخرط في الحركة الطلابية التي شكّلت منطلقا هاما للحركة الوطنيّة المصريّة في ثلاثينات القرن الماضي، نشر العديد من المقالات داعيا إلى تأسيس حزب شيوعي، ناد بالعديد من المبادئ وتمّ اعتقاله في أكثر من مرّة إلى أن قتل تحت التعذيب في سجن أبو زعبل سنة 1960
[55] -رجاء عيد: لغة الشعر (قراءة في الشعر العربي الحديث)، منشأة المعارف بالإسكندريّة، 1985، 229
[56] -فتحي النصري: قالت اليابسة، ص 79
[57] -يوسف حسن نوقل الورتاني: الصورة الشعريّة واستيحاء الألوان، ص 22
[58] -صلاح فضل، عبد الحميد إبراهيم، شاكر حسن آل سعيد: الشعر ومتغيرات المرحلة، تيّارات في نقد الشعر العربي المعاصر، ج 5، ط1، دار الشؤون الثقافيّة العامّة، العراق، ص 114
[59] -محمد الغزي: سليل الماء، ص81
[60] -كمال أحمد غنيم: عناصر الإبداع الفنّي في شعر أحمد مطر، ص 265
[61] - كنعان: سميت فلسطين أرض كنعان نسبة إلى الكنعانيين الذين خرجوا من شبه الجزيرة العربيّة على شكل موجات في فترات متباعدة(أنظر محمد سلامة النحال، فلسطين: أرض وتاريخ، ص 27
[62] -محمد الغزي : سليل الماء، ص78
[63] -علي الحداد: بدر شاكر السياب ، قراءة أخرى، ص 108
[64] -اليحيى فرحان: دلالة المكان في رواية قناديل الليالي المعتّمة، 2004، ص 112
[65] - فتحي النصري: قالت اليابسة، ص 44
[66] -ب.س ديفيز: المفهوم الحديث للزمان والمكان: ترجمة السيّد عطا، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 1998، ص 11
[67] -فتحي النصري: قالت اليابسة، ص 74