الحمار العربي ـ محمد شودان

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse02023مدخل
تأتي هذه المقالة في سياق عام تمثله هذه الوضعية الحضارية المتسمة بالجهل والتمترس في أدنى دركات الحضيض الحضاري، والتفاوت الطبقي، بالإضافة إلى انتشار الفكر الخبزي وطغيان الفن الرديئ وغيرها من السمات التي تلون عالم الإنسان المنتسب إلى هذا الكيان المسمى (عربي/إسلامي)، والحقيقة أن الإرهاصات الأولى للمقالة بدأت في المدرج (أ) بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس التابعة لجامعة محمد بن عبد الله بفاس سنة 2006. يومها كان الدكتور محمد الكنوني يحاضرنا في الشعر العربي الحديث، وكان أن قاطع كلام الأستاذ صوت طالب خرج بين الحشد فسأله: يا أستاذ، ألا تكتب شعرا إلى جانب النقد؟. فاجأنا صمت الأستاذ، فظننا لبرهة أن سؤال الطالب ربما أحرجه، لكن الجواب انساب بنبرة هادئة وحادة كالماء الدافئ: " لقد قلنا الشعر لما كان الشعر شعرا، أما وقد صار الشعر شعيرا فقد تركناه للحمير.

مذاك والفكرة تصول في ذهني وتجول، وقد بات السؤال جادا: "هل أنا حمار؟ ولأدفع الشبهة عن نفسي أسرعت بإحراق الدفتر الذي كنت أخط عليه بعض الكلام الذي كنت أصنفه شعرا، ولكن السؤال لم يختف أبدا، بل سرعان ما تحول إلى: هل نحن حمير؟ وعلى إثره انطلقت باحثا عن الصور التي رسمت الحمار في وعي ولا وعي الثقافة العربية، وأثناء بحثي وجدت لصورة هذا الكائن  تحولات شديدة الانعطاف عبر مختلف مراحل تطور حضارتنا، وكلها تمثل في العمق تحولات الإنسان العربي، ومن هنا جاء عنوان المقالة: الحمار العربي، وقد كان من المفترض/الممكن أن يكون عنوانها أحد السؤالين السابقين.
ما قبل الإسلام، أيها الحمار الكريم ما أجملك !
لقد عاش الإنسان العربي قبل الإسلام مرحلة من الازدهار الثقافي ما أحوجنا إلى بعثها وإحياء روحها، ويظهر اهتمام الحضارة العربية قبل الإسلام بالثقافة في عنايتها بالشعر والشعراء، ذلك أن الشعر قد شكل ـ آنذاك ـ محور الثقافة ومركز ثقلها. ونظرا لمركزية الشعر في تلك الثقافة الشفهية فإني سأتتبع مكانة الحمار من خلال الشعر نفسه، ولأني أبتغي الاختصار والإيجاز والوضوح فإني سأقتصر على نموذجين لكبار الشعراء هما زهير بن أبي سلمى والحطيئة.
يقول زهير في وصف الصيد:
 وغيث  من   الوسمي   حو   تلاعه   ***   أجابت   روابيه    النجا    وهواطله    
هبطت   بممسود   النواشر   سابح   ***   ممر   أسيل   الخد    نهد    مراكله    
تميم     فلوناه     فأكمل     صنعه   ***   فتم     وعزته      يداه      وكاهله    
أمين   شظاه   لم   يخرق   صفاقه   ***   بمنقبة     ولم     تقطع     أباجله    
إذا  ما  غدونا  نبتغي  الصيد   مرة   ***   متى    نره    فإننا    لا     نخاتله    
فبينا  نبغي   الصيد   جاء   غلامنا   ***   يدب   ويخفي   شخصه    ويضائله    
فقال:     شياه     راتعات     بقفرة   ***   بمستأسد   القريان   حو    مسائله
ثلاث   كأقواس   السراء    ومسحل   ***   قد اخضر من  لس  الغمير  جحافله
وقد   خرم   الطراد   عنه   جحاشه   ***   فلم   يبق   إلا    نفسه    وحلائله
ويقول الحطيئة:
وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ***   ببيداءَ لَم يَعرِف بِها ســــــاكــــِنٌ رَسما
أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحــــشَةٌ   ***    يَرى البُؤسَ فــــيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى
وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً إِزاءهـــــــا***  ثَلاثَةُ أَشبـــــــاحٍ تَخالُهُــــــمُ بَهمـــــــــا
حفـاة عراة ما اغتذوا خبـز مـــــــلة   ***    ولا عرفوا للبر مذ خلقـوا طعمـــــــا
رَأى شَبَحاً وَسطَ الظَلامِ فــــــــَراعَهُ***  فَلَمّا بَدا ضَيفاً تَشمَّرَ وَاِهتَمّــــــــــــــــا
فقال هيا رباه ضيف ولا قــــــــــرى  *** بحقك لا تحرمه تالليلة اللحمـــــــــــا
وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيــــــــــــــــــــرَةٍ***   أَيا أَبَتِ اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعمــــــــا
وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَــــــــــــلَّ الَّذي طَرا   ***يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّــــــــــــا
فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أَجحَمَ بُرهَــــــــــــــــةً***     وَإِن هُوَ لَم يَذبَح فَتاهُ فَقَد هَمّـــــــــا
فَبَينا هُما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَــــــــــةٌ***       قَدِ اِنتَظَمَت مِن خَلفِ مِسحَلِها نَظما
عِطاشاً تُريدُ الماءَ فَاِنسابَ نَحوَهـــــــا***   عَلى أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظـــــــــــما
فَأَمهَلَها حَتّى تَرَوَّت عِطاشُـــــــــــــها***   فَأَرسَلَ فيها مِن كِنانَتِهِ سَهمــــــــــا
فَخَرَّت نَحوصٌ ذاتُ جَحشٍ سَمــــــينَةٌ ***   قَدِ اِكتَنَزَت لَحماً وَقَد طُبِّقَت شَحما
يجمع نقاد الشعر العربي أن الشعر الجاهلي قد اتصف بالصفاء وأن الوصف كان بسيطا بساطة البيئة التي نشأ فيها، وإن أردنا تصنيف الحيوانات التي أثثت الشعر القديم (الوصف) فسنجدها بالأساس صحراوية البيئة، وما هي إلا رحل(ناقة، فرس) أو طريدة (حمر وحشية، غزلان، بقر الوحش)... أو من المفترسات(الذئب، الضبع، الأسد) ولأن موضوع المقالة يهم الحمار، دون فصل حمار الوحش عن الحمار المستأنس بالبشر، فقد اخترت هذين المقطعين.
يصور المقطع الأول مشهدا ينعم بالحياة، إذ ها هي السماء ترسل غيثا يعيد للأرض خضرتها، ومن داخل هذا المنظر البهيج ينبثق الحمار في صورة الخصوبة، حمار اخضرت جحافله من كثرة ما اجتر من العشب العميم، حمار يجر ثلاث أثن كأقواس السراء، وها نحن نرى البهجة والتفاؤل الذي بعثه المنظر، وتضيف صورة الحمار دلائل الخيرات والزيادة في العطاء لما يخبرنا راصد الصيد أن الحمار قد فصل جحاشه وانفرد بإناثه لأجل تخصيبها ما يدل على الكثرة والوفرة. وليس هذا فحسب فالحمار هنا قد ذكره الشاعر في معرض مدحه لحصن، وما رأينا الممدوح يغضب لوجود هذا الحيوان ولم يشعر بمنقصة ولا مزاحمة، بل ربما أفرحه، لأن البشر والفرحة هي السمات التي طغت على ما تلي المقطع من أبيات.
إن هذه الصورة لتحفل بمظاهر الحياة والعطاء بأبهى الحلل، وإذن فصورة الحمار هنا تقترن بالنعم والخيرات والنماء، ولأن الشاعر لسان قومه، فإن هذه الصورة الشعرية تختزل نظرة المجتمع القبلي الما قبل إسلامي للحمار قرين النعمة.
وما إن ننتقل إلى القصيدة الثانية حتى يظهر الحمار في صورة منقذ، كائن يرتقي إلى مرتبة القدسية، إنه الأضحية التي تفدي روح أعز الناس (الابن) وذلك لما يأتي الحمار بعد أن يقترح الولد على أبيه ذبحه حفاظا على عرض العائلة، إنه يقترب من الكبش الذي افتدي به إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. ولنعرف قيمة الحمار كما يصورها الشاعر(ضمير ثقافة مجتمعه) يضعنا الحطيئة في مشهد متأزم: أسرة جائعة، وحياة قاسية، ويلوح شبح ضيف. ومع ظهور الضيف تزداد الأوضاع تأزما فيقترح الابن ذبحه وإطعام لحمه للضيف درءا لذم الضيف إياهم، ولربما هم الرجل بذلك، وفي هذه الحالة من التأزم يظهر الحمار كالفجر المنبلج وسط الظلام، هل رأيت؟ إنه ليس أي حيوان، إن ظهوره قد خلق عدة أشياء أهما نشر السعادة، وما كان أحوج الجميع إليه !إنه المنقذ الذي سيلبي حاجات مادية(إشباع) ومعنوية(كرامة).
يجب فقط أن نلفت الانتباه هنا إلى ذلك الخُلق الإنساني السامي الذي ميز الرجل، الذي نصنفه (جهلا) على أنه جاهلي، فهو لم ينقض على الحمير بمجرد أن رصدها، بل تركها إلى أن روت ظمأها رغم ظمئه إلى دمها كما نقل الشاعر.
وعموما فإن العرب قديما لم تحتقر الحمار أبدا، بل إنها سمت أبناءها باسمه كالصحابيين الجليلين حياض بن حمار، وسهل بن حمار، ومالك بن حمار وهو سيد من أسياد فزازة وغيرهم كثير. بل إن آخر خليفة أموي كان يدعى مروان الحمار.

متى أهين الحمار؟
وهكذا اتضح لنا من خلال هذه الفسحة الشعرية أن الثقافة العربية قبل الإسلام لم تهن الحمار أبدا، بل بوأت هذا الحيوان الوديع مكانة محترمة. فمن أذل الحمار وأنزله إلى أدنى دركات الغباء؟
الحق أن ما أتيت عليه في ما تقدم كان هو الطاغي فقط، وهذا لا يعني أن الحمار قد تربع على عرش ذهبي في فترة قبل الإسلام، فهناك أبيات تحمل معاني الذل والاحتقار في الظاهر منها ما قاله المتلمس الضبعي:
إن الهوان حمار القوم يعرفه***** والحر ينكره والرسلة الأجد
ثم يقول بعد بيتين:
ولا يقيم على خسف يسام به***** إلا الأدلان العير والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ***** وذا يجش فما يرثي له أحد
والحقيقة (للتنبيه) أن هذه الأبيات تحمل معاني مضمرة تحفظ للحمار مكانة محترمة، فما هو إلا صبور أولا، ومعلوم أن "أصبر من حمار" قد استعملتها العرب في المدح، ثم إنه قد جاء قرين الوتد الذي يمثل الاستقرار. وإذن فإنه يرتقي إلى رمزية لم يفطن الشراح إليها.
ما إن نأتي إلى فترة الإسلام وخاصة ما تلاها إلى عصرنا، حتى نجد الحمار وقد صار رمزا للغباء والبلادة، ولأن هذه الفترة الطويلة قد عرفت فيها الحضارة العربية الإسلامية تمددا جغرافيا وتنوعا في مواردها الثقافية فسنسلم بصعوبة تتبع صورة الحمار بدءا وقبل كل شيء، ولكن هذا لم يعجزنا ويوهننا كليا، ولتنوع موارد الثقافة العربية الإسلامية سأعتمد في بحثي هذا ـ إن اجتمعت له صفات البحث ـ على ثلاثة مصادر ثقافية: القرآن والشعر والمثل السائر.
إن أول ما بدأت به هو جرد الآيات القرآنية التي ذكر فيها الحمار وهي كالتالي:
1" فانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس " سورة البقرة آية 259
2 ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها و غرابيب سود " سورة فاطر آية 27
3 والخيل و البغال و الحمير لتركبوها وزينة " سورة النحل آية 8
4 "" كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة " سورة المدثر آية 50
5 واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير " سورة لقمان آية 19
6 مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا " سورة الجمعة آية 5
لا أجد في نفسي حاجة إلى استحضار أسباب نزول الآيات والقصص التي وردت فيها، وذلك دفعا للإطالة من جهة، ولأني أفترض أنها معلومة من جهة أخرى. وبتتبع الآيات يتضح جليا أن الحمار قد ورد ذكره في صيغ وسياقات مختلفة، وإنه في الآيات الثلاث الأوائل يرد كآية من آيات الله الدالة عليه، وهو ما يدخله فيما يسميه ابن رشد بدليل العناية، إذ إن الحمار قد سخره الله لخدمة الإنسان، وهذا من بين ما يرفع من قيمته، ولكن هذه المكانة ستتزعزع مع الآية في النموذج الرابع، حيث جاءت الحمير مشبها بها لرسم صورة دنيئة عن الكفار، ذلك أن الله شبه نفورهم من الحق بنفور الحمر الوحشية من الأسود كما جاء في شرح ابن العباس، أما الآية الخامسة فقد فتحت النار على الحمار، ذلك أن الله استقبح صوت نهيقه، لتأتي الآية السادسة فتستلهم صورة الحمار للدلالة على الغباء وعدم القدرة على الانتفاع مما يشقى من أجله، إنه ذلك الذي يحمل من الكتب ثقلها دون منفعة، وقد جاء لتشبيه حال أحبار اليهود الذين حملوا الكتاب ولم يولوه حقه. إن هذا الإقران بين الحمار واليهود سيجد صداه فيما بعد، وسيصير الحمار واليهودي وجهان لعملة الذل في سوق الثقافة العربية، وسنأتي على ذكر هذا مع قصيدة في الهجاء للبحتري.
إن هذه الصورة التي بدأت تلاحق الحمار كاللعنة ستزداد التصاقا مع حديثين نبويين: الأول يجعل للحمار القدرة على رؤية الشيطان (إذا سمعتم أصوات الديكة فسلوا الله من فضله فإنها رأت ملكا وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا)، والثاني يجمعه مع الكلب والمرأة في ما يقطع الصلاة، لما قال عليه السلام: إذا قامَ أحدُكم يُصلِّي، فإنه يستُرُه إذا كان بين يدَيه مثلُ آخِرَةِ الرَّحلِ. فإذا لم يكُنْ بين يدَيه مثلُ آخِرَةِ الرَّحلِ، فإنَّه يَقطَعُ صلاتَه الحمارُ، والمرأةُ، والكلبُ الأسوَدُ. وإذن فإن هذه الآيات والأحاديث شكلت (في رأيي) الإرهاصات الأولى لاحتقار الحمار في الثقافة العربية اللاحقة.
أثناء تنقلي بين دفات الشعر العربي القديم وقفت على مرحلة ازدهر فيها الهجاء الأسود اللاذع، والحديث هنا عن شعر النقائض، خاصة الأهاجي التي دارت بين الفرزدق وجرير والأخطل، وقد وجد هؤلاء الشعراء في الحمار رمزا للبلادة والضعف وقلة الشأن، ومن بين الأبيات التي جاءت في هذا الصدد نذكر:
هجا عمرو بن لجأ جريرا فقال
1 فلو أن يربوعا على الخيل خاطروا  ولكنما أجروا حمارا مقيدا
وقال الأخطل شاتما:
فما قادوا الجياد ولا أفتلوها    ولا ركبوا مخسية الركاب
على إثر الحمير موكفيها   جنائبهم حوالي الكلاب
وقال الفرزدق في المعنى نفسه:
ألا إن اللئام بنو كليب    شرار الناس من حضر وباد
قبيلة تقاعس في المخازي    على أطناب مكربة العماد
بأرباق الحمير مقودوها     ولا يدرون ما قود الجياد
وها نحن نرى أن الحمار صار دليلا على الضعة والضعف والهوان، ولتكتمل الدائرة على الحمار سيأتي زمن يصير فيه لقبا لكل رجل شككوا في حسن سلوكه، وقوام شخصه، فصار اسمه مضافا إلى كل من رمي بالاعتزال أو التشيع ك حمار العزيز، وحمار القراء، وحمار العطار، و...
 ورغم أن هذا الحيوان الصبور الذي ساند الإنسان في بناء الحضارة قد وجد ـ استثناء ـ عالما بقدر الجاحظ الذي أقام له وزنا ودرسه بشكل علمي في كتاب الحيوان، إلا أن سمة الذل والهوان هي التي ظلت ملازمة له ويرد ذلك كثيرا في الشعر فبالإضافة إلى الاخطل والفرزدق وجرير، قال البحتري في الهجاء
1    نفقت  نفوق  الحمار  الذكر   ***   وبان   ضراطك   منا   فمر
  2    يقول   الطبيب   به   فالج   ***   فقلت  كذبت   ولكن   قصر
  3    وقد   يتوقع   موت   الحما   ***   ر إلا  ببعض  منايا  الحمر
  4    فقدنا     يهودي     قطربل   ***   وما  فقدناه  بإحدى   الكبر
  5    عليج  يدين   بأن   لا   إلـ   ***   ـه وأن لا قضاء وأن لا  قدر
  6    وشتامة    لصحاب    النبيـ   ***   ـي يزجر  عنهم  فما  ينزجر
  7    إذا   جحد   الله   والمرسليـ   ***   ـن فكيف  نعاتبه  في  عمر
  8    وساور  دجلة   لولا   الحيا   ***   ء  ليقطع   جريتها   بالبدر
  9    فأين   الخليفة   عما   أعد   ***   وعما   أفاد   وعما    ادخر
  10    أيترك  ما   كان   مستخفيا   ***   فكيف بترك  الذي  قد  ظهر
  11    له  خلف  مثل  غرز  الجرا   ***   د بعيدون من كل أمر  يسر
  12    أيعقوب  أختار  أم   صالحا   ***   وما فيهما  من  خيار  لحر
  13    وكنت  وكانا  كما  قيل   للـ   ***   ـعبادي  أي   حماريك   شر
  14    على  أن   أدناهما   سنخة   ***   صغيرهما الفاحش  المحتقر
  15    هل ابن القماشية اليوم  لي   ***   مقيم على الذنب  أم  يعتذر
  16    وهل   يذكرن   سرى   أمه   ***   بليل  ودلجتها  في   السحر
  17    وهل   يعلمن   بأني   امرؤ   ***   على  ما   يسوؤهم   مقتدر
  18    عصابة  سوء  تمادى   بها   ***   ضراط الحمير وخضم  البقر
  19    وما  ساءني  أنهم  أصبحوا   ***   من الخزي في دار شر وعر
  20    وإن   ابن   عزرة   مستعبر   ***   يبكى  على  خلل  قد   دثر
  21    فأهون  علي  بتلك   الدمو   ***   ع ترقرق في الخد أو تنحدر
  22    لعل  أبا  الصقر  يجلو  بنا   ***   ظلام  الخطوب  بيوم   أغر
  23    فتى   رفعت    بيته    وائل   ***   إلى حيث ترقى النجوم الزهر
إن هذه القصيدة لتلخص الصورة الاحتقارية التي شكلتها الثقافة العربية عن الحمار، هذه الصورة تتعمق أكثر في الذاكرة الشعبية مع النوادر والأمثال السائرة ومنها "حمار الشيخ والعقبة " حيث تكال كل أنواع السخرية السوداء لهذا الحيوان المحتقر، وبالإضافة الى حمار الشيخ نجد الحمار العاشر، واصل الحكاية أن رجلا كان يعدّ حميره العشرة لكنه لا يجد الا تسعة منها، وذلك لأنه كان راكبا العاشر، ومن هنا نصل إلى أن الثقافة العربية قد ربطت الحمار بكل ما له صلة بالغباء والبلادة.
إن الحمار إذن قد غدا رمزا للغباء في الثقافة الخاصة والشعبية(اصمت يا حمار، ما بك لا تفهم كالحمار، حمار ولا أنت...)، وسيحضر الحمار بثقل أكثر في قصص جحا، وفي النكت الساخرة. أما النكت فقد احتفت بغباء الحمار، الذي صار صورة رديفة لكل شخص يراد احتقاره والنيل منه، كالسياسي الفاشل، والحاكم المكروه، والتلميذ الكسول...في حين أن حمار جحا قد اتخذ ملامح عدة سنأتي عليها.
حمار جحا نحن، نحن حمار جحا
جحا شخصية شعبية طريفة، تعود أوائل المحكيات التي يتربع على بطولتها إلى العصر الأموي، والحقيقة أن وجود جحا كشخصية حقيقية من لحم ودم أمر مشكوك فيه،  خاصة وأنه ما إن تحاول معرفة جحا الحقيقي حتى تجد منه عددا لا محصورا، وربما وجدت جحا خاصا بكل ثقافة اختلطت بالثقافة العربية، وحتى إن كان له وجود فإنه سيكون ندا لهارون الرشيد في حكايات ألف ليلة وليلة، وإننا نعلم أنه في فترة الحكم الأموي والعباسي قد ازدهرت الحكايات الشعبية، والسير، والمسامرات، وما إليها من أنماط الحكي القديم، فكثر نحل القصص العجيبة، وخلق الشخصيات الفريدة، منها ما يعود إلى عالم الإنسان كجحا وعلي بابا وغيرهما، ومنها ما يدل على عالم الما ورائيات كالغول، والزوابع، والتوابع... وجميعنا ـ على سبيل المثال ـ يعلم أن قصصا نسبت إلى قيس ليلى والزير سالم وغيرهم من الشخصيات، وهي قصص منحولة ما لها إلى الحقيقة من سبيل، وإن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين قد حسم في بعض الأمور المتعلقة بالشعراء. ولأنه لا يهمنا في معرض هذا البحث النبش في شخصية جحا جرحا وتعديلا، وإذ ينحصر همنا في رصد صورة الحمار في الثقافة العربية، فسأبحث عن رمزيات حمار جحا ودلالاته. لا بد قبل الإسهاب من الاعتراف بأن رمزية هذه الشخصية على فكاهتها لتحمل دلالات عميقة جدا سنطرحها للنقاش فيما بعد، وعموما فإن مدار البحث يحوم حول السؤال: متى ارتدى الحمار ثوب الذل في الثقافة العربية؟ وكيف؟.
 لقد أثارتني قصص الحمار مع جحا، وربما أمكننا اختصار الطريق فنقول بكل ارتياح: إنه بمجرد أن نعرف أن حكايات جحا تدور حول البلادة والسذاجة، وأنها صممت خصيصا لتزرع البسمة البلهاء الناتجة عن حكاية كوميدية، فإن الحمار يبدو رمزا لهذه الصفات الذميمة قاطبة، وقد أثارتني هنا كلمة كوميدي أو هزلي، وأريد أن ألمح إلى أنه حتى لما ترجم العرب كتاب "فن الشعر" لأرسطو فقد قابلوا الكوميديا بالهجاء والتراجيديا بالمدح، ويكفينا هذا أن نعرف أن الثقافة العربية لا تضحك إلا استهجانا، وهنا يقف الحمار ضحية على قربان الحضارة، ولأن شخصية جحا (من لحم ودم) قد امحت من الوجود الواقعي الإمبريقي، فإن الحمار بقي ليؤدي ثمن المرافقة.
لو تسنى لنا أن نفي الحمار حقه لوقفنا على عتبة تاريخ الحضارة الإنسانية متفحصين، ذلك أنه هو الذي قد ساعد في بناء الحضارة لما كان استخدام هذه الدابة تقدما في آليات العمل وأدواته(الحضارات القديمة: البابلية المصرية...)، والشواهد على ذلك كثيرة لو أردنا فحصها، وربما يكفينا أن الله تعالى وقف على هذا ليذكر الناس بنعمة الحمار، فأكد وهو يجمعه بأبناء فصيلته (البخل والحصان) على أنه وسيلة للركوب وأداة للزينة وحمل الأثقال، ومساعدة الناس. ثم يكفيك أن تتخلص من أنانيتك واندهش معي بجمال الجحش الصغير ! بل وما أروع عين الحمار السوداء الحوراء ! . ولكن الثقافة العربية قد تنكرت لكثير من الحيوانات التي رافقت الإنسان يوما وأخذت بيده، ولنعرف ذلك أكثر نورد حيوانا مظلوما آخر: إنه رفيق الإنسان وحافظ أسراره، الكلب. الكلب الذي جاء في الشعر الجاهلي قرينا للضيف والكرم والصيد" نغشى فلا تهر كلابنا" إن هذا الحيوان سيلحقه الإسلام باللائحة السوداء التي احتل الحمار دركها السفلي. لقد صار الكلب قرين الشيطان كما في الحديث الذي ذكرنا من قبل، وسيأتي الشاعر علي بن الجهم الأعرابي ليمدح الخليفة فيقول:
أنت كالكلب في الوفاء...وكالتيس في قراع الخطوب
لكن الأمير ابن الحاضرة البغدادية ستأخذه الأنفة ويزج به في السجن، ونقول: إنما هذا الحكم بالسجن كفر الثقافة العربية بجميل هذه الحيوانات،
فلنعد إلى حكاية حمار جحا، تقول الحكاية أن "جحا قد دخل على أمير الكوفة يوما ومعه حماره، فدارت أحداث الحكاية لترسم البسمة على محيا القارئ ـ السطحي ـ ، حيث سيطلب الأمير من جحا تعليم الحمار فن القراءة، ويقبل جحا، فيطلب مالا وفيرا ومن الوقت عشر سنين، خاط جحا دفترا من جلد نثر بين أوراقه حبات شعير وهكذا علم حماره كيف يقلب أوراق الدفتر ليحصل على الشعير، ومع الوقت اكتسب الحمار ذلك السلوك، فقدمه للأمير، وصار الحمار أمام الملأ يعيد سلوكه المكتسب، هنا تأتي اللحظة الحاسمة لما ينطق جحا بكل سذاجة/ذكاء مجيبا الأمير الذي أنكر عليه الأمر: " هكذا تقرأ الحمير".  
إننا ـ نحن نتاج هذه الثقافة ـ لم نستطع تلقف رسالة جحا، ووقفنا عند حدود الضحك والإعجاب بشخصية جحا، ولكن عمق هذه الشخصية ثوري في الباطن، فقد أريد لها وبها كسر بنية الثقافة العربية الجديدة، وذلك بهدم البنى المتحجرة ومحو الفوارق والحواجز، الأمر الذي يرمز له  دخول جحا على أمير الكوفة(على جلال شأنه) بحماره، وربما أمكننا استجلاء الهدف المضمر من خلال استهداف الحكاية مدينة الكوفة، التي شكلت مركزية الثقافة واللغة العربيتين، وقطبهما الثاني إلى جانب البصرة، وهذه الأحداث برمزيتها تقع في وضعية تناص مع قصة امرئ القيس وحادث دخوله على قيصر الروم، وأصل الحكاية أن حجاب القيصر لما عرفوا أن امرأ القيس بأنفته وهمته العربية سيرفض السجود بين يدي القيصر، وهذا ما كان سيكسر (بالنسبة لهم) واحدة من أهم بروتوكولات الدخول عليه، ولإرغامه على السجود بين يديه أدخلوه من باب قصير صغير كمنفذ الجحر، لكن الأمير الشاعر دخل مقدما رجليه فكانت نعاله أول ما باشر به القيصر. ومهما كانت نسبة القصة إلى الواقع وصدقها، فقد كانت معروفة. إن حادثة دخول جحا بحماره على الأمير إذن تعكس رغبة واضع القصة في كسر هيبة الأمير(ثورة سياسية) والدعوة إلى استعادة روح لمجتمع العربي القديمة (ثورة اجتماعية).  
 لو وقفنا على رمزية الحكاية من منظورات أخرى لوجدناها تلخص نظريات في السلوك والتربية ونظام الحكم، ولوجدنا فيها نقدا عميقا للثقافة المتحضرة. أظننا لن نكون إلا صائبين حين نقول بجزم: إن واضع قصة جحا والحمار قد سبق بافلوف وكلبه(بوعيٍ وقصدٍ أو بدونهما)، لقد علم حماره سلوكا ناتجا عن علاقة مثير/استجابة: وجود الشعير بين أوراق الكتاب أثار عند الحمار استجابة سلوكية تتمثل في تقليب الأوراق (شبيه فعل القراءة). لقد عبرت الحكاية عن مبدأ حتى لو لم تسمه صراحة، إذ ها هو الحمار يكنز في غبائه الظاهر نظرية على قدرها العلمي المعرفي، ولا أدري كم ستكون المصادفة صادمة، لأنه بعد أزيد من عشرة قرون سيستعان بحيوان منبوذ كالحمار(الكلب) لإثباتها، وفي الشرق(روسياـ الاتحاد السوفييتي حينها).
إن أهم ما أثارني في الحكاية إنما هو: هذه الرمزية والكثافة التي احتضنها الحمار بليونة شخصيته، وإليك كيف ذلك: الحمار هنا أريد له أن يتعلم، ونحن ندفع أبناءنا للمدرسة من أجل التعلم، وفي كلتا الحالتين يتم تعليم القراءة، (الحمار والطفل)، وحتى لما نقف عند الزمن المحدد فسنجده في القصة عشر سنوات، وهو الزمن الذي يقضيه المتعلم في التعليم الأساسي حتى يتقن القراءة الكتابة، وقد تمكنه هذه الفترة من التعلم حتى من ولوج سوق الشغل.
ومن زاوية أخرى مجددا، فلنفحص الحكاية من منظور الغاية، لماذا نتعلم/نقرأ؟، إن القراءة واجب إنساني وديني: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) (نقرأ لنفهم الحياة والعالم)،(نقرأ لنعرف حقوقنا وندرك واجباتنا)، ولكن يبقى السؤال المحوري الذي يحاصر غايتنا من القراءة نحن بالذات: لم نقرأ نحن أبناء الدول المنتمية إلى الحضارة العربية الإسلامية؟ وهنا نجد أننا  قد زغنا عن الهدف الإنساني المنشود، وهذا الزيغ يلخصه الحمار/نحن بطريقة كوميدية، ( وما الكوميديا إلا وسيلة لمعالجة الظواهر التي يتخبط فيها عامة القوم بطريقة هزلية). إن الله لما دعانا إلى القراءة فالغاية عنده عز وجل أن نعرف، نعرف الله، نعرف واجبنا، القيم، الحياة، الخلق(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق...)... ولكن المتعلم العربي (أغلب الأحوال) إنما يدرس ليحصل على وظيفة ويؤمن مستقبله المادي لا أكثر، هل ترى من فرق بينه وبين حمار الحكاية ، الحمار الذي يمارس فعل القراءة(تقليب الأوراق) ليحصل على الشعير؟ بإمكاننا الآن وصف المدرسة التقليدية بكونها تعمل على تخريج الحمير، الذين لا همَّ لهم إلا الحصول على العمل/الشعير. إن هذه الحكاية، على ما أثارته فينا من ضحك، لتستفزنا وتضحك الناس فينا، وربما صرنا نحن  صاحب الحمير الذي نسي عدّ حماره الذي يركبه، ـ وهنا أيضا يحضر الحمارـ إذ إننا نعدد أسباب تخلفنا، ونبحث عن مَنْفَذٍ يؤدي إلى مدارج الرقي الحضاري، ونسينا الحمار العاشر/الثقافة، هذا ويجب الإلحاح قبل الختم على ألا تكون ثقافتنا محصورة في الكتب التي تزين البيوت، تلك الكتب التي نسجت العناكب عليها.
اليوم أدركت أن كلام الأستاذ كان رمزيا وموحيا، لقد كان الشعر دالا على الثقافة برمتها، وكنا نحن (بذرة المثقفين) الحمير، الذين لا نرى في الوردة إلا مادة يمكن أكلها، ولا نرى في الشعر والثقافة والتعلم والدراسة جميعا إلا وسيلة تبلغنا غايتنا الخبزية/الحصول على وظيفة. و لأن قيمة الإنسان (فردا أو جماعة) بقيمة الكتاب في المجتمع ذاته، يمكن الجزم بأنه لن تقوم للعرب قائمة إلا إذا اهتمت الحكومات والمثقفون بتثقيف استعجالي للأفراد بدءا، على أمل رسم خارطة ثقافية كبرى على المدى البعيد، خارطة تعمل الحكومات المتعاقبة فيها على وإحقاق الشعر حقه، وترقية المستوى الثقافي لجمهور الناس، وتعليمهم أسس التذوق الفني لا الخبزي، هذا ويجب الإلحاح في الختام على ألا تكون ثقافتنا شكلية ومحصورة في الكتب التي تزين البيوت، تلك الكتب التي نسجت العناكب عليها.