مملكة الإسلام من خلال الأدب الجغرافي العربي ـ عبد الحق بلقيدوم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse24027مقدمة:
    احتلت الحضارة الإسلامية(*) مكانة مرموقة بين الحضارات العديدة التي عرفتها البشرية، تبوأتها بما أسهمت به على مدى تاريخها الطويل في تطوير الفكر والعلوم والآداب، وكل النشاطات الإنسانية التي أدت إلى تحسين حياة الإنسان. ومثَّل هذا الإسهام نصيبا وافرا وأساسيا في تراث الإنسانية، كان إشعاعه في بيئته العربية الإسلامية، وامتد تأثيره إلى غيرها من البيئات الأخرى(1).
    لم تبلغ هذه الحضارة ما بلغته من المجد إلا بمجيء الإسلام، بمبعث النبي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) سنة (622م) في قلب الصحراء العربية(2)؛ إذ لم يكن للعرب قبل هذا الحدث ذكر ذو شأن في التاريخ، أو موطئ قدم بين الأمم المتحضرة آنذاك؛ من حيث القوة والنفوذ كالروم والفرس، أو من حيث الفكر والعلوم كاليونان والهنود، بل كانوا بدوًا رُحَّلا، يتتبعون منازل المطر ومنابت الكلأ لرعي مواشيهم وسقايتها. أما أهل القرى منهم كأهل مكة، فكان مَبْلغ مجدهم تجارة يزجونها شمالا إلى الشام، أو جنوبا إلى اليمن، في رحلتَيْ الشتاء والصيف(3) التقليديتين. أما ملوكهم فكانوا أتباعا لأقوى الدول في ذلكم العصر؛ فولاء أهل الحيرة من المناذرة للفرس، وولاء أهل الشام من الغساسنة للروم(4).
     فلما بعث الله محمدًا (صلى الله عليه وسلم) بدين الإسلام، اعتنقه الناس وتـحلَّــــوا بتعاليمه، فبث فـــيهم روحا جديدة، روح الأخوة في الإسلام(5)، التي ترقى فوق أخوة النسب؛ قال الله تعالى:﴿ وَاعْتَصِمُوا بِـحَبْلِ اللهِ جَـمِيعًا وَلَا تَفَرّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُـنْـتُـمْ أَعْـدَاءً فَـأَلَّـفَ بَـيْـنَ قُـلُـوبِـكُـمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْـوَانَـا وَكُـنْـتُـمْ عَـلَى شَـفَـا حُـفْـرَةٍ مِـنَ الـنَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونْ﴾(6).

    اتسعت مساحة البلاد المفتوحة من قِبل المسلمين في ظــرف قـياسي، بالنـظــر إلى قوة الفكرة الجديدة التي اعتنقوها، وطبيعتها الحَاثَّة على نشرها بين الناس: "وإلى الذين يعجبون من قدرة الإسلام-التي توصف بأنها خارقة-على التوسع في خلال هذه الفترة القصيرة ذلك المدى، أن يذكروا أثر عملية البناء التي أجراها (محمد) الرسول، بتعاليم (القرآن) لهذه الجماعة الصغيرة من أتباعه"(7)؛ وبذلك سيطر مفهوم جديد للحياة، يحمل طابع التوحيد لله، والإيمان بدعوته، والاندفاع في صدق لنشرها في آفاق الأرض، وبذل النفس والتضحية بالروح في سبيل هذه الرسالة.
    ومع اتـسـاع بـلاد المسلمين بفعل الفتوحات، واعتناق غير العرب للإسلام، لـم يشعـر المسلـمـون الـعـرب بـفـرق بـيـنهـم وبين الـمسلمين الجدد؛ بل على العكس من ذلك صاروا يشعرون أنهم إخوة لهم في الدين، يقوم بذمتهم أدناهم وهم يَدٌ على من سواهم؛ كما يقول الفقهاء المسلمون. وبعد أن وضعت مسيرة الفتوح أوزارها، إثر وصول الإسلام أقصى ما أمكنه الوصول إليه من الأصقاع، وأصبح من العسير التقدم أكثر في البلاد المجهولة، خشية التشرذم وخسارة ما تم اكتسابه من أراض، جاء دور الانصهار؛ إذ امتزج الداخلون الجدد في الإسلام مع العرب داخل الدولة الإسلامية، فتطورت العلوم وكثر طُلاَّبها، وأسهم المسلمون من الأعاجم (غير العرب) بنصيب وافر في هذه الحركية العلمية.
    وفي هذا الصدد يقول ابن خلدون: "من الغريب الواقع أن حَمَلَة العلم في الملـة الإسلامــيـــة أكثرهم العجم، وليس في العرب حـملة علم، لا في العلوم الشرعية ولا فـي الـعـلــوم الـعـــقـلـيـة، إلا فـي الــقــلـيـل الــنـادر... مـع أن الـــمـلـة عــربـيـة وصــاحــب شريعتها عربي. والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة، لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة"(8)، فانتشرت العلوم وكثرت، وأسهم كل جنس بما لديه من العلوم والمعارف والتجارب، حتى ازدهرت هذه الحضارة وأشرقت، بما مزجته من تعاليم الإسلام وخبرات الشعوب الداخلة فيه؛ إذ إن الحضارة الإسلامية "موسوعية ينضوي تحت لوائها مختلف العلوم والمعارف، وإن كان جوهرها العقيدة ولحمتها وسداتها العلوم العقلية والفنون التشكيلية"(9).
    تشكَّل بفعل هذه العوامل التي سلف ذكرها شعور عام ومشترك لدى غالبية الـمسلـمـيـن، فـي كــــل الأقــطــار، إزاء انــتــمــائــهــم إلــى كــــيــان واحــــد، يــتــقــاســمــــون فـــيـــه نفس الـصــــفـات، تجلى هــــذا في الإيــــمــان الــواضـح الـــقـــوي "الــمشـتــرك بـــيــــن جــمـــيــع الـــمسـلــمــيــن فـي الـــقــــرون الـوسطى، مـهـمـا كــان أصلهم بانتمائهم إلى حضارة عربية تعكس مشيئة الخالق"(10)، ويجمعهم فيها نفس المصير، وإن اختلفوا في الأعراق واللغات، وحتى في المذاهب والأفكار. ونشأت هذه الحضارة ضمن ما عُرِف لدى العلماء المسلمين-خاصة الجغرافيين منهم-باسم "مملكة الإسلام"، أو كما يسميها المستشرقون: "الإمبراطورية الإسلامية". ويشترط المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل توافر ثلاثة شروط حتى يمكن تسمية دولة ما بالإمبراطورية: "إقليم أو دولة متسعة إلى حد كاف، خاضعة لسلطة مركزية واحدة، هذه السلطة تتجسد بدورها، غالبا في رجل أو في أسرة مالكة"(11).

1-مملكة الإسلام (الإمبراطورية الإسلامية):
    فإذا أخذنا بكلام المستشرق أندريه ميكيل، من حيث شروط تسمية أية دولة باسم "إمبراطورية"، والمتمثلة في: إقليم متسع، وسلطة مركزية واحدة، ورجل ينفرد بتلك السلطة وينتمي إلى أسرة مالكة؛ فإنه يتبين لنا بوضوح أنها قد توافرت في الدولة الإسلامية في قرونها الأولى، وخاصة القرون الستة منها. ويمكن الجزم بدون أدنى تردد أن الخلافة الأموية (41ه-132ه) قد شكلت أكثر الحالات تجسيدا للإمبراطورية الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي؛ إذ امتد إقليمها من المحيط الأطلسي غربا (الأندلس) إلى مشارف الصين شرقا، واستقرت بها سلطة مركزية، اتخذت من دمشق عاصمة الشام مركزا لحكمها، وتولى حكمها خليفة ينتمي إلى عائلة بني أمية، الذين استأثروا بالحكم وقَلَبوه مُلْكًا عَضُوضًا، بعد الخلافة الراشدة، فتوارثوه فيما بينهم داخل العائلة الواحدة بجميع فروعها (أبناء وإخوة وأبناء عمومة)؛ فَتَسَمَّت الدولة باسمهم.
    ويختلف الأمر بعض الشيء مع الدولة العباسية (133ه-656ه)، من حيث قضية وحدة السلطة؛ إذ انفصل إقليم الأندلس عن حكم العباسيين في أول دولتهم، وقامت فيه دولة أموية سنة (139ه)، بقيادة عبد الرحمان الداخل (صقر قريش)، على مثال أُمِّها التي سقطت بدمشق على أيدي العباسيين. كما نشأت دولة العبيديين (الفاطميين) في المغرب أولا ثم استقرت في مصر أخيرا. فاستقلال الأندلس عن سلطة الدولة العباسية، وظهور الدولة الفاطمية حَدَّ قليلا من مفهوم السلطة الواحدة، لكنه لم يُقَوِّض في الواقع مفهوم الإمبراطورية من حيث شروطها الثلاثة التي مازالت قائمة، لكن بصورة جديدة.
    تجلت السلطة المركزية في الدولة العباسية في أول أمرها، كنظيرتها في الدولة الأموية: سلطة مُرَكَّزة بيد الخليفة، غير أن هذا الواقع سرعان ما تغير، وأخذت هذه السلطة تتضاءل شيئا فشيئا في الجانب التنفيذي؛ إذ بدأت تظهر في شكل تحالف بين السلطة المركزية وأقاليم أصبحت مستقلة، ومحكومة في الواقع بعائلات مالكة يتسمى حاكمها باسم: "الملك"، مع الاعتراف بالسلطة المركزية ببغداد ممثلة في الخليفة، ثم أخذت سلطة الخليفة في التضاؤل شيئا فشيئا، حتى لم يَبْقَ له من أمر الملك غير الاسم والدعاء له في المنابر، ويبلغ الأمر حد أن يرى الخليفة في بغداد سلطته ترفض في أقاليم يظهر فيها "خلفاء ومنافسون مثل قرطبة والقاهرة في الفترة الثانية للخلافة العباسية (1055م-1258م)"(12)، ولـم يَسْلم هذا الشيء القليل من شكل "السلطة المـركزية" من التضييق، حتى اختفى بـمقتل آخر خليفة عباسي(**) على يد هولاكو زعيم المغول(13)، في هجمته الوحشية على بغداد سنة 656ه. 
    وبعيدا عن الجدل السياسي الذي شب إثر مقتل الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، وما تلاه من فتنة بين المسلمين حول: من أحق بالخلافة، وما انجر عنه بالتالي من انقسام الجماعة الإسلامية سياسيا وفكريا إلى عدة تيارات (خوارج، وشيعة، وسنة)، وانفراد كل منها برأي في نظرية الإمامة، ومن أحق بها؛ فإن الحقيقة أن استئثار بني أمية بالخلافة أول الأمر، وصياغـة صفـة الحـكم فـي شكـل نظام ملكي، قد وجد له مبررا ومسوِّغا لدى علماء المسلمين-خاصة من أهل السنة-في ذلك الوقت، ارتكز أساسا على مبدأ الحفاظ على وحدة الجماعة، الذي يتكئ في فلسفته على موقف الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، عندما تنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه)؛ حقنا لدماء المسلمين فيما سمي بعام الجماعة (41ه) (14).
    فمفهوم الخلافة، إذن، لدى فقهاء "أهل السنة"، لم يرتبط منطقيا بمبدأ الشورى؛ إنما ارتبط في الواقع بـحفظ بيضة الإسلام ووحدة الجماعة(15)، وبالتالي بوحدة الأقــالـيـم الـتي فـتحهـا الإسـلام. وأدت الـواقـعـيـة الـتي تــعــامـل بـهـا فــقـهـاء أهــل الــسنــة مـع مــفــهــوم الـخـلافــة،
وارتكازهم على مبدأ وحدة الـجماعة واحترام شرع الله، إلى براغماتية من قِبَلِ الحكام فـي جـميع مراحل تاريخ الحكم في تلك الفترة، وعليه صار مقبولا ظهور حكام آخرين يتمتعون بسلطات في أقاليمهم، توازي سلطة الخليفة، طالما أنهم لم يشُقُّوا عصا الطاعة؛ فمادام احترام الشرع مؤكدا على كل المستويــــات "مـن خلال من يـقومون بالإشراف على تطبيقه فإنه يفترض إذن أن يوجد إلى جانب الخليفة الشرعي والواحد وفي إطار جامعة إسلامية سلاطين وممالك صغيرة فرض التاريخ وجودها"(16).    
    وخلاصة الأمر، أن "مملكة الإسلام" تجسدت في تطبيق شرع الله على الأرض؛ فسلطة الحاكم أو الإمام مستمدة من سلطة الشرع الذي يحرص على تنفيذه، وهو ما يستمد منه شرعيته لدى جماعة المسلمين، وما السلطة في حقيقة الأمر إلا سلطة الله سبحانه وتعالى، وبهذا يصبح الدين والدولة وجهان لعملة واحدة؛ "والمصطلحان اللذان يطلقان هنا يرسلنا أحدهما وهو (الإمام) في اتجاه الجماعة، ويرسلنا الآخر (الخليفة) في اتجاه مجرد منفذ لأوامر (الله) أو خليفة (النبي)"(17).
    ولئن كان هذا هو تاريخ السلطة في أكبر دولتين مَثَّلَتَا فكرة الإمبراطورية الإسلامية (الدولة الأموية والدولة العباسية)، فإن هذه السلطة قد ارتبطت ارتباطا عميقا بالدين؛ أقصد بالإسلام، وارتبطت بصفة عملية بتطبيقات الإسلام في الواقع أكـثـر مـن ارتـبــاطـهـا بــفـكـرتـه الـنـظـريـة(18)، وبـمـعــنى آخــر: ارتـبـطـت بـحـيـاة المسلمين الـيـومـيـة في مجمل أقطار هذه الإمبراطورية.
    فإذا أردنا رصد أشكال تجسيد هذه الإمبراطورية الإسلامــية، أو مــملكة الإســـلام-كـمـا جــــرت عــادة عــلمــاء الـمسلـمين قــــديـمـا في تـسميتهـا-فـمـن الصعب جــدا تتبع تفاصيلهــــا في هذا الكم الهائل من الرصيد الفكري والديني والأدبي والعلمي، الذي شكل حضارة الإسلام عبر تاريـخه الطويل، ومع هذا يكفينا أن نرصد صورة "مـملكة الإسلام" من خلال واقع الحياة اليومية لمسلمي ذلك الزمن، الذين كانوا يعيشون داخل هذه المملكة: كيف تصوروا هذه المملكة في أفكارهم وشعورهم؟ وكيف تجسد هذا التصور في واقع حياتهم ومؤلفاتهم.
    وفي هذا السياق، لا يمكننا إيجاد جواب أقرب إلى الحقيقة، أكثر من الاقتراب من إنتاج أولئك المسلمين في حياتهم الثقافية، وخاصة الطبقة المتوسطة منهم، التي تشكل طبقة من المتعلمين والمثقفين غير الـمتخصصين. وربـما أقرب إنتاج أدبـي يتيح لنا الوصول إلى مبتغانا هو "الأدب الجغرافي"؛ طالـما أنه يقدم على الأقل فكر الطبقة الـمتوسطة "سواء من خلال مؤلفيه أو من خلال الـجمهور الذي كان يكتب له هذا الأدب ومن ناحية أخرى، فإن هذا الأدب كان يهتم بالحديث عن المسائل الواقعية: شبكة الطرق، ألوان الإنتاج، والحياة اليومية"(19).

1-1-مملكة الإسلام من خلال الأدب الجغرافي العربي:
    قبل الحديث عن "مملكة الإسلام"، وجب علينا أولا توضيح مفهوم "الأدب الجغرافي"، ودون التفصيل كثيرا في ماهية وحدود هذا الأدب-إذ أتينا على ذلك في مقالة سابقة(20) -فإنه يمكننا أن نقول: إن الأدب الجغرافي هو ذلك الأدب الذي ارتبط موضوعه بالجغرافيا ارتباطا حيويا؛ إذ تعلقت نصوصه بوصف الأرض والإنسان، وارتبط منهجه بالتالي بالترحال للمشاهدة الشخصية (رأي العين). وقــد تـــفرع الأدب الجغرافي إلى أنماط كثيرة، لكن أهم أنماطه على الإطلاق ثلاثة: نمط "أدب المسالك والممالك"، ونمط "عجائب البلدان (وصف الكون)"؛ وهو النمط الذي يطلِق عليه المستشرق الروسي كراتشكوفسكي اسم: "الكوزموغرافيا"، وأخيرا نمط "أدب الرحلات".
    تنقسم "مملكة الإسلام" فـي الواقع إلـى أقاليم، على رأس كل إقليم حاكم يعيِّنه الخليـــفـــة ويحكم باسمه، ويتكفل "نظام البريد" الــــذي اعتمده الخلفاء الـمسلمون، بإيصال الرسائل بين مركز الخلافة وبين الأقاليم المتباعدة داخل المملكة، كما يتـكـفَّـل بنقـل الـمعلومـات مـن خلال شـبكة واسعـة تضاهي في سعتها الشبكة التي تجمعها. وشكَّل نظام البريد الجهاز العصبي الحساس في جسد مملكة الإسلام. ويضطلع الخليفة في مملكة الإسلام-إضافة إلى حماية شرع الله وتنفيذه-بمهمة الـسـهـر عـلـى ضـمـان حـقـوق رعـيـتـه، وتـوفـيـر احـتياجاتهم الـمـادية والمعنوية (الأمن والحرية)، وبصفة عامة فإن له الحق وعليه الواجب "في الإشراف على كل ما يتصل بحياة الرعية اقتصاديا وقانونيا وإداريا"(21).
    وبغَضِّ النظر عن الاختلاف بين الدولة الأموية والدولة العباسية، في قضية وحدة الأقاليم أو استقلالها النسبي عن مركز الحكم، داخل مملكة الإسلام؛ فإن سياسة الحكم فيها التي ارتكزت على شريعة الإسلام، ضمنت حماية أكيدة لغير المسلمين من الذمِّيين المقيمين داخلها، في ممارسة شعائرهم وحفظ أموالهم والدفاع عنهم، نظير أن يدفعوا الجزية؛ التي تمثلت في مبلغ من المال يدفع سنويا إلى الدولة، فتشكلت داخل هذا البناء الهائل لمملكة الإسلام فسيفساء من الأجناس والأديان واللغات والثقافات احتفظت بأنماط حضارتها وأشكال ثقافاتها.
    وبُغية معرفة خريطة امتداد هذه الفسيفساء، يمكننا التعرف عليها من خلال صفة "مملكة الإسلام"، كما يصورها المقدسي: "اعلم أن مملكة الإسلام حرسها الله تعالى ليست بمستوية فيمكن أن توصف بتربيع أو طول أو عرض، إنما هي متشعبة يعرف ذلك مَن تَأمَّلَ مطالع الشمس ومغاربها، ودَوَّخَ البلدان وعَرَفَ المسالك ومَسَحَ الأقاليم بالفراسخ. وسنجتهد في تـقــريب الــوصـف وتصويره لــذوي العقول والأفهام إن شــاء الله تعالـى. الشمس تغرب في حافة بلد المغرب ويرونها تغيب في بحر الروم. وإقليم مصر يأخذ من البحر الرومي طولا إلى بلاد النوب، ويقع بين بـحر القلزم وتخوم المغرب. ويمتد المغرب من تـخوم مصر إلـى البحر المحيط، مثل الشريطة، يضغطه من قِبَل الشمال بحر الروم ومن قِبَل الجنوب بـلـدان الــســـودان. ويـــمـــد إقــلــيــم الــشــام مــن تــخـوم مـصـر نـحـو الـشـمـال إلــى بــلـد الــروم، فـيـقـع بـيـن بـحـر الـروم وبـاديـة الـعـرب. ويتصل البادية وبعض الشام بجزيرة العرب، ويدور على الجزيرة بحر الصين إلى عبادان من أرض مصر. ويتصل أرض العراق بالبادية وبعض الجزيرة. ويتصل بتخوم العراق الشمالية إقليم أقور فيمتد إلى بلد الروم وقد تَقوَّسَ عليه الفرات من نحو الغرب، ووقع خلف الفرات بقية البادية وطرف من الشام، فهذه أقاليم العرب. ووقعت خوزستان والجبال على تخوم العراق الشرقية وطائفة من الجبال، وإقليم الرحاب على تخوم أقور الشرقية. ووقعت فارس وكرمان والسند خلف خوزستان على صف واحد، البحر جنوبيّها والمفازة وخراسان شماليّها. وتاخمت السند وخراسان من قبل الشرق بلدان الكفر، وتاخمت الرحاب بلد الروم من قبل الغرب والشمال. ووقع إقليم الديلم بين الرحاب والجبال والمفازة وخراسان. فهذه مملكة الإسلام فتدبرها وفيها تفتُّل وتعرُّج لمن شقها من شرقها إلى غربها. ألا ترى إنك إذا أخذت من البحر المحيط إلى مصر كنت على الاستواء ثم تميل يسيرا إلى العراق ثم تنفتل في أقاليم الأعاجم وخراسان مائلة إلى جهة الشمال، أولا ترى أن الشمس تطلع يمين بخارا من نحو أسبيجاب"(22).
    إذا التفتنا إلى صفة مملكة الإسلام كما يصورها المقدسي، أدركنا ما اشتملت عليه هذه الأقاليم من الجبال والسهول والأنـهار والوديــــان والصحَارى والشواطئ والواحات والكهوف، فإذا رَدَدْنا هذه البيئات إلى الأجناس التي سكنتها، أمكننا بسهولة رؤية هذا التنوع الخصب في أنماط الحضارة داخل مملكة الإسلام، وأمكننا بالتالي، إدراك ذلك الشغف الذي تَمكَّن من نفوس مسلمي تلك الأزمان، الذي كان يحفزهم على الرحلة بين الأقطار والأقاليم، عبر أرجاء الإمبراطورية الإسلامية؛ مثلما نلمس ذلك في حديث كراتشكوفسكي عــــن الــرحــالــة أبــي دُلـــــَف الـــيَنْــبــُعــي الــــخَـــزْرَجــي (ت390ه): "ويــــبـــدو أنـــــــه أحـــــــد الأدبـــــــــاء الـعديدين الـذيـن مـكنتهم وحـدة الحـضـارة الإسلامية في ذلك العصر من القيام برحلات عريضة"(23).

1-1-1-مملكة الإسلام في نمط المسالك والممالك:
     من المسلَّم به أن النظرية اليونانية للجغرافيا، وخاصة نظرية بَطْلَمْيُوس القَلْوَذي(24)، كانت الأكثر تأثيرا على الأدب الجغرافي العربي، سيَّما في بداياته الأولى مع الجغرافيا الرياضية، تجلى ذلك في اعتناقه نظرية الأقاليم السبعة(25)، التي تقسِّم العالم ابتداءً من خط الاستواء إلى سبعة أقاليم متوازية من الشمال إلى الجنوب. غير أن الأمور سرعان ما انزاحت نحو الرؤية الفارسية للجغرافيا(26)؛ التي كانت قائمة على توزيع أقسام الأرض حسب الجغرافيا السياسية للتجمعات البشرية: "الصين والهند وبلاد الأتراك وإيران وبلاد العرب وأفريقيا وبيزنطة"(27).   
    اندفعت أولى أنماط الأدب الجغرافي العربي-أقصد هنا نمط "صورة الأرض"(28) -وفق هذه الرؤية الجديدة إلى وصف المعمور من الأرض، الذي تشكلت فيه التجمعات البشرية المذكورة آنفا، "وهكذا، ولد في العقود الأولى من القرن العاشر ذلك اللون من الأدب الذي كان من عادة بلاشير فيما بعد أن يسميه (جغرافية المسالك والممالك) وهذا النوع      كــان يعتمد على تقديـم رسوم لـمختلف أقاليم بــــلاد الإسلام مع تعليق مـختصر على هذه الخرائط"(29).
    اهتـم نــمــط الـمسالك والـممالك بـوصـف أقـالـيــم بــــــلاد الإسلام وصفا إداريا، ووصف الطرق الرابطة بينها، كما اعتمد على رسم خرائط لهذه الأقاليم وإضافة تعاليق عليها، ثـم تضاءلت مساحة هذه الـخرائط والتعاليق داخل كتب هذا النمط شيئا فشيئا، مفسحة المجال في ذلك للوصف الذي ركَّز على مدن هذه الأقاليم وقصباتها وكورها، حتى سميت الجغرافيا العربية بسبب ذلك بجغرافية المدن(30).
    وكان من روَّاد هذا النمط: أبو القاسم عُبَيْد الله بن عبد الله المعروف بابن خُرَّدَاذَبَهْ (ت272ه)، وأبو زيد البلخي (ت322ه)، وأبو القاسم بن حَوْقَل (توفي بعد عام367ه)، وأبو إسحاق الإصْطَخْري (توفي بعد عام 340ه)، وأهمهم فيما يخص قضية مملكة الإسلام: محمد بن أحمد المقدسي؛ الذي اكتمل في كتابه "أحسن التقاسيم فـي معرفة الأقاليم" مفـهوم مـملـكة الإسـلام، الذي قدمنا فقرة من تعريفه لها آنفا.
     إن تتبع تـطــوُّر مصطلح "مـملـكة الإسـلام"، سواء في مؤلفات الجغرافيين أو في مؤلفات العلماء قبل القرن الرابع الهجري، يمكننا من إدراك ملاحظة مهمة؛ ذلك أن المصطلح الذي كان شائعا هو "دار الإسلام"(31)، والـمقصود بـــه الأقاليم التي كانت تـخضع لحكم الإسلام، وتقع تحت سلطة الخليفة، في مقابل مصطلح "دار الحرب"، الذي يعني الأقاليم التي كانت تحت سلطة غير المسلمين، وهم غالبا ما كانوا أعداء للمسلمين محاربين لهم. ثم ظهر قُبيْل القرن الرابع الهجري مصطلح "المملكة"، في صورة الحديث عن مـملكتين(32): مـملكة العرب ومـملكة العجم، وذلك للتفريق بين الصقعَيْن الإسلاميَّيْن شرقــا وغربــا، الــذَيْــن يشكل الــعــراق الخط الفاصل بينهما.
    ومن الواضح أن هـذا الـمفهوم قـد وُرث عـن الـدولــة الأمـويــة التي كـانت ذات صـبغــة عـربــيـــــــة خالصة، وكـان هــنــاك تفريق بيِّن فــيـهـا بين العرب وغيرهم من الأجناس، الذين أطلق عليهم اسم "العجم"(33)، وهو مصطلح ينضح باحتقار غير العرب، أو على الأقل بالتعالي عليهم، تلك النظرة التي كانت نتيجتها فيما بعد، ظهور حركة "الشعوبية"، كردة فعل من غير العرب على التفرقة التي طالتهم في المجتمعات العربية. لكن مصطلح "دار الإسلام" أخذ مع الجغرافيين الإداريين-كما يحلو للمستشرق أندريه ميكيل أن يسميهم-مفهوما سياسيا يجمع داخل أرضه "الشقيقَيْن المتنازعَيْن، العرب والفرس، المتورطَيْن في جدل طويل حول القومية الثقافية التي تمثلت في الشعوبية"(34).
    يشير ميكيل إلى أنه حوالي سنة 316ه-320ه استقر مع أبي الفرج قدامة بن جعفر (ت328ه) في كتابه "الخراج وصناعة الكتابة" مذهب جديد، عمل على إنهاء جدل الشعوبية القديم، وساهم بالتالي في إرساء مفهوم أوسع لدار الإسلام، مبني على تنوع الثقافات "يرافق تفرد دين القرآن، وأولوية اللغة العربية، لأن الإسلام والتعبير عنه بالعربية يؤسسان جـماعة الـمــؤمنين"(35). ويــبـدو أن هـذا الــمفهـوم الـجديـد لدار الإسلام لـدى هـؤلاء الجغرافيين الإداريين(36) أفرز فيما بعد مصطلحا جامعا للمصطلحَيْن التقليديَّيْن (مملكة العرب ومملكة العجم)؛ أقصد مصطلح "مملكة الإسلام"، وقد أفرد قدامة الباب السادس من كتابه المذكور للحديث عن دار الإسلام، أطلق عليه اسم "في مملكة الإسلام، وأعمالها وارتفاعها"، يقول: "وكذلك سائر النواحي لابد لها من قصبة يشار منها إلى نواحيها. فنقول إن قـصـبـة مـملكة الإســلام بـلــد الـعــراق، وهــذا مع أنــه موجود هكذا فـي الوقت، فــقد كانت الــفرس تـجريــــه عـلــيـه وتسميـه (دل إيرانشهر)"(37)، كما يدعم مــذهبــه بطريقة أخــــرى كذلك، يؤكد فيها المعنى السياسي المطلق لمصطلح "الإسلام" الذي يعادل عنده "المملكة"؛ فيقول في الباب السابع من نفس الكتاب: "الأمم والأجيال المخالفة للإسلام مكتنفة له من جميع أطرافه ونهايات أعماله، منهم المتقارب من دار مملكته ومنهم المتباعد عنها"(38).
    ومهما يكن من أمر؛ فإن مصطلح "مملكة" قد ارتبط في النسق المعرفي للجغرافيين المسلمين بالدين وما اتصل به من سياسة؛ وفي هذا يقول ابن حوقل في كتابه "صورة الأرض": "ولم أذكر بلدان السودان في المغرب والبجة والزنج ومن في أعراضهم من الأمم، لأن انتظام الممالك بالديانات والآداب والحكم وتقويم العمارات بالسياسة المستقيمة، وهؤلاء مهملون في هذه الخصال ولا حظ لهم في شيء من ذلك فيستحقوا به إفراد ممالكهم بما ذكرت به سائر الممالك"(39).
    أما مصطلح "مملكة الإسلام"؛ فإن ابن حوقل يقدمه في بداية كتابه بنفس معنى مصطلح "دار الإسلام"، الذي يسميه: "بلاد الإسلام"، وفي هذا دلالة على ما شرحناه سابقا عن التطور السياسي للمصطلح؛ يـــقــول فـي مقدمة كتابه: "وقد عملت له كتابـي هذا بصفة أشكال الأرض، ومقدارها في الطول والعرض، وأقاليم البلدان ومحل الغامر منها والعمران، من جميع بلاد الإسلام، بتفصيل مدنها وتقسيم ما تفرد بالأعمال المجموعة إليها"(40)، ولكنه سرعان ما يأتي على ذكر بلاد الإسلام باسم "مملكة الإسلام"؛ فيقول عــنــد حديــثــه عن مـمالك الأرض: "...ويتصلون بـمصر والشام من طريق بـحر القلزم؛ فهذه الـممالك  الـمعروفة. ولـما زادت مملكة الإسلام بـما اجتمع إليها من طرائف هــذه الـمذكورة شرفت وعظمت"(41).
    وكما كان الـحال مع المقدسي في شرحه لـحدود مملكة الإسلام، فــإن ابن حوقل (الذي يسبق المقدسي زمنيا) كـان قـد فـعـل الشيء نفسه، إذ وضـح حـدودهـا، ولكن بشيء من الاقتضاب؛ يقول:"فأما مملكة الإسلام فإن شرقيّها أرض الهند وبحر فارس، وغربيّها مملكة السودان السكان على البحر المحيط المتصلين ببراري أودغست وصحاريها تجاه أوليل، وشماليّها بلاد الروم وما يتصل بها من الأرض واللان والران والسرير والخزر والروس والبلغار والصقالبة وطائفة من الترك، ومن شماليّها بعض مملكة الصين وما اتصل بها من بلاد الأتراك، وجنوبيّها بحر فارس"(42).

1-1-2-مملكة الإسلام في نمط عجائب البلدان (وصف الكون):
    لقد كان علم الفلك المهاد الأول الذي نشأ فيه نمط "وصف الكون"، وكان تأثير نظرية بطلميوس اليوناني؛ التي تنص على تقسيم الأرض إلى سبعة أقاليم، شديدا على هذا النمط "وهو نمط لم يُعيَّن بدقة، يجمع بين معطيات الفلك التطبيقي وبين علم الأقاليم"(43)، وهو وإن تعلق بعلم الفلك، إلا أنه استطاع أن يخرج عن حيز أفكاره النظرية، وفضَّل نتيجة لـذلـك منـهـج المشاهدة التجريبية، الـمتعلقة بـالتـعـرف على هـذه الأقـاليم، على سطح المعمور من الأرض عن طريق الترحال.
    فالعلماء المسلمون الذين اهتموا بنمط "وصف الكون"، في بداياته الأولى، كان همهم حل المشاكل الدينية التي عنَّت للجماعــة الإسلامـيـة، التي انتشرت فـي كل أقاليم مـملكة الإســلام؛ كــتحــديــد اتــجــاه الــقـبــلــة(44)، وقـيــاس طــول الـنـهــار لـتـحـديــد أوقـات الصلاة(45)، وبداية الـصـوم، وغـيـر ذلـك. إلـى جـانـب مــا سبـق اهـتـم هــذا الـنـمـط بـالطبيعة وما احتوته من جبال وأودية وأنـهار وصحَارى وبـحـار وغـابـات، ولم يكن اعتناؤه بـها إلا بـما تشكله من مكونات أقاليم مملكة الإسلام.
    ومهما يكن من أمر، فإن نمط "وصف الكون" سرعان ما خلع عنه عباءة الجغرافيا الرياضية، وانضم بالتالي إلى أنماط الجغرافيا الوصفية، واتخذ له اسما جديدا هو: نمط "عجائب البلدان". فتركز اهتمام هذا النمط على العجيب كرؤية للعالم؛ إذ إن العجيب هو النقيض الحتمي للمألوف والعادي، ويعرِّفه "القزويني" بأنه: "الحيرة تعرض للإنسان لقصوره عن معـرفـة سبب الشيء أو عـن معـرفـة كيفية تأثيـره فـيه"(46)، ثـم يـؤكد أن العجيب يتطــور ليصبح غريبا؛ إذ إن الغريب: " كل أمر عجيب قليل الوقوع مخالف للعادات المعهودة والمشاهدات المألوفة"(47).
    والأكيد أن مؤلفي نمط "عجائب البلدان" لم يوردوا العجيب في مؤلفاتهم بصفته ضربا من الخيال أو التسلية الأدبية، بل على العكس من ذلك، فإن ما أوردوه إنما يؤكدون أنه حق وواقع، وفي هذا السياق يقول أبو حامد الغرناطي (ت565ه) في كتابه "تحفة الألباب ونخبة الإعجاب"، بـعـد أن مــهَّــد لـحديثه بتفاوت مـراتـب العقلاء: "وبقدر هذا التفاوت يقع الإنكار لأكثر الحقائق من أكثر الناس، لنقصان العقل، لأن الذي يعرف الجائز والمستحيل يعلم أن كل مقدور بالإضافة إلى قدرة الله تعالى قليل، فالعاقل إذا سمع عجبا جائزا استحسنه، ولم يكذب قائله ولا هجَّنه، والجاهل إذا سمع ما لم يشاهد قطع بتكذيب وتزييف نـاقـلـه، وذلـك لـقـلـة بضاعة عـقـلـه، وضـيـق بـاع فـضـلـه"(48)، وإلى هـذا الرأي يـميل ابن خلدون؛ إذ أورد فصلا في مقدمته، يقول فيه: "وهذا كثيرا ما يعتري الناس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عن قصد الإغراب كما قدمناه أول الكتاب. فليرجع الإنسان إلى أصوله، وليكن مهيمنا على نفسه، ومميزا بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فـطـرتـه. فـمـا دخل فـي نطاق الإمكان قبله، وما خرج عنه رفضه"(49)؛ وذلك تعليقا منه عمَّا بلغه من أخبار وردت من المغرب، حينما تناجى الناس بتكذيب الروايات العجيبة التي كان يرويها الرحالة ابن بطوطة عن الهند(50)، وعمَّا شاهده في رحلته.
    وما يهمنا من أمر هذا الحديث عن العجيب(51)، أن نمط عجائب البلدان تمكن من رسم حدود مملكة الإسلام من خلال تنميط العالم-إن صح التعبير-داخل هذه المملكة وخارجها؛ فمملكة الإسلام-طالما أنها تطبق شرع الله في الأرض-تتجسد فيها معاني الألفة والخير والجمال والحق واليقين، أما ما هو خارج مملكة الإسلام فهو ضلال ومبهم ووحشي وعجيب إلى درجة التدنيس. فالعجيب إذن هو كل ما خالف الحقيقة المطلقة المتواجدة داخل مملكة الإسلام، وهذا ما أشار إليه أندريه ميكيل في حديثه عن وظيفة العجيب إذ يـــقـول: "ونـبـدي مـلاحظة أخيـرة عــلى وظـيـفـة الـعـجـيـب. فـقـد قـلــنـا مـن قـبـل إن نـوعـا مـن التطهير الذاتي يتم فيه، مادامت المعادلة: غريب-مألوف تفترض مسبقا تجانس دار الإسلام وتحافظ عليه، فتبعد الاهتمام بالشاذ وغير العادي والإثم إلى ما وراء حدودها"(52).
    من أجل ذلك؛ فإن مؤلفي نمط "عجائب البلدان" استهدفوا فـي مؤلفاتهم تقصي العجائب في البلدان التي هي خارج محيط مملكة الإسلام، وفي غالب الأحيان في البلدان التي تتاخـمها، بــــل إن بعضهم يحصر العجيب في مناطق مخصوصة من العالم؛ مثال ذلك ما أورده بزرك بن شهريار الناخذاه الرامهرمزي (توفي بعد 340ه)؛ إذ يقول: "وبعد فإن الله تبارك اسمه وجل ثناؤه خلق العجايب عشرة أجزاء؛ فجعل تسعة منها في ركن المشرق وجزءا في ثلاثة أركان الأرض التي هي المغرب والشمال والجنوب، ثم جعل في الصين والهند ثمانية أجــزاء منها وجــزءا فـي بـاقي المشرق"(53)، وذلك فـي كتابه: "عجائب الهند بره وبحره".

     وقد انعكس ذلك سواء في عناوين مؤلفاتهم، مثل كتاب عمر بن الوردي (ت861ه)، الذي عنوانه: "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" أو في مواضيع هذه المؤلفات؛ مثلما نجده لدى الغرناطي في "تحفة الألباب"، الذي يتحدث عن البحار التي ليست من بحار مملكة الإسلام، كبحر الظلمات(54)؛ الذي يسميه البحر الأسود "وإنما يعرف بالبحر الأسود لأن ماءه في رؤية العين كالحبر، فإذا أخذ منه الإنسان في يده فهو أبيض صاف، إلا أنه أمرُّ من الصبر مالح شديد الملوحة... وكذلك في بحر الهند خليج أحمر كالدم، وبحر أصفر كالذهب، وخليج أبيض كاللبن، وخليج أزرق كالنيل"(55). 
    وحتى حيوانات هذا البحر فهي غاية في العجب، وليس في مملكة الإسلام لها شبيه، وحديث الغرناطي عنها لا يخامره شك أو ريب؛ فهو يحدِّث عما رأته عيناه؛ يقول: "ولقد كنت في مـجمع البحرين فـي سفينة فخرجت سمكة مـن البحر مثل الـجبل العظيم فصاحت صيحة لم أسمع قط أوحش منها ولا أهول ولا أقوى منها فكاد أن ينخلع قلبي وسقطت على وجهي أنا وغيري، وألقت نفسها في البحر واضطرب البحر علينا وعظمت أمواجه وخفنا الغرق حتى نجانا الله عز وجل، وسمعت الملاحين يقولون: هذه السمكة تعرف بالبغل"(56).
    لا يغفل مؤلفو نمط "عجائب البلدان"-رغم تركيزهم على الإتيان بالعجائب-ذكر حدود مملكة الإسلام؛ مثلما نجد ذلك في قول ابن الوردي: "وأما مملكة الإسلام: فإن طولها من حد فرغانة حتى تقطع خراسان والجبال والعراق وديار العرب إلى سواحل اليمن فهو نحو خمسة أشهر، وعرضها من بلاد الروم حتى تقطع الشام والجزيرة والعراق وفارس وكرمان إلى أرض المنصورة على شاطئ بحر فارس نحو أربعة أشهر. وإنما تركت في ذكر طول مملكة الإسلام حد المغرب إلى الأندلس لأنه مثـل الكم في الثوب، وليس فـي شرقيِّ الـمغرب ولا فـي غربيِّه إسلام، لأنك إذا جاوزت شرقي أرض المغرب كان جنوبي المغرب بلاد السودان وشماله بحر الروم ثم أرض الروم"(57).

1-1-3-مملكة الإسلام في نمط أدب الرحلات: 
    يشكل "أدب الرحلات" واحدا من أهم أنماط "الأدب الجغرافي العربي"، وهو من أنماطه القليلة التي صمدت في وجه الزوال، وبقيت مستمرة في النثر الفني العربي إلى اليوم. ويعود الظهور الأول لهذا النمط إلى القرن الثالث الهجري، في صورة قصص رحلات تحمل أخبار ومعلومات، تولى جمعها بعض الأسرى، والتجار، ومبعوثي الخلفاء إلى الأقاليم المختلفة. ثم تطورت هذه القصص مع البحارة والملاحين؛ إذ حفلت بأخبار البلدان القاصية، وامتلأت بالتالي بالأساطير والعجائب، حتى شكلت نمطا خاصا سمي بنمط "قصص الرحلات البحرية". وكان القرن الرابع الهجري عصر التطور بالنسبة لنمط "الرحلة"، حيث أخذت معالمها (من ناحية التأليف) في التبلور والنضج، وبدأت تأخذ قيمتها الأدبية وأسلوبها السلس ولغتها الحية الـمُصوِّرة (58).
    أما النضج الحقيقي لنمط "أدب الرحلة"؛ فقد كان في القرن الخامس الهجري، مع   الفقيه محمد بن العربي (468ه-543ه)، ثم بلغ الذروة مع خلفِه ابن جبير (614ه). وفي هذا يرى كراتشكوفسكي أن الرحلات تمثل انطباعات من سنوات التجوال، وتمثل أحيانا قصة ممتازة يسجل فيها صاحبها كل ما رآه أو ما هو جدير بالاهتمام. ومن المهم التذكير، في هذا المقام، أن هذا الحديث لا يتناول كل من ارتحل عن دياره(59)، بل يتناول أولئك الذين أصدروا كتبا على شكل رحلات(60). وما يهمنا من أمر هذا النمط في الواقع، هـو اهـتـمـامـه بـقـضـيـة مملكة الإسلام، وكيف تجلى تعبير الرحالة عنها، سواء في أحاديثهم أو فـي طريقة تجوالهم داخل أقاليمها، أو في أقاليم الممالك الأخرى.
   إن الملاحظة التي يوردها كراتشكوفسكي بخصوص وحدة الحضارة الإسلامية(61)؛ في سياق حديثه عن الرحالة أبي دُلف، من شأنها أن تضيء طبيعة علاقة المسلمين الأوائل بالرحلات. فمن المعلوم أن السفر أو الترحال يعد حالة من الاغتراب، ويتمثل ذلك على ثلاثة مستويات: اغتراب في الزمان والمكان والمراتب الاجتماعية، ويرى ميكيل أن أسفار العرب قد حققت الاغتراب بشروطه الثلاثة التي ذكرناها؛ لأنها "تجري في أراضي غريبة عن دار الإسلام، وبالتالي في مجتمعات وأنماط حياة تنتمي إلى عصور أخرى"(62).
    ففي القرن الرابع الهجري تحديدا، ونتيجة للرحلات العديدة التي حدثت، كُتبت مؤلفات عديدة عن العالم خارج "مملكة الإسلام"، كما لو أن الشعور بالوحدة الداخلية التي لا تتجزأ قد نقل الفضول وحب الاطلاع إلى حدود المملكة؛ "فأمضت دار الإسلام ثلاثة قرون، من منتصف القرن السابع الميلادي حتى منتصف القرن العاشر الميلادي، لكي تكتشف تنوع البشر تحت شعار وحدة رسالتها"(63).
    فانطلق الرحالة إلى أقاصي الأرض، وشعور بالاعتزاز والتفوق يملؤهم، لمشاهدة الأمم التي لم تلتحق برسالة الحق والإيمان التي شيدت مملكة الإسلام؛ وهؤلاء الرحالة يقسمهم أبو علي أحمد بن عمر بن رسته(***) في كتابه "الأعلاق النفيسة" إلى أربعة أقسام: السابلة والتجار، وهم كُثُر ونشيطون، ثم أصحاب البـريد، وهم أشخـاص مكلفون رسـميـا بتقصي الأخبار فـي الـبـلـدان الـغـريـبـة، أو بـنـقـل رسالــة الإيمان الحق إليها، ثم الحجاج والدعاة، وأخيرا كل من يسافر لغرض الاستمتاع والسياحة، وهم الذين يسميهم ابن رسته "الآخرون"(64).
    وواضح من تقسيم ابن رسته للرحالة في القرن الثالث الهجري، أنه ركز على الذين كان لهم أثر في حماية المملكة، أو السفارة لها، أو الذين نشَّطوا بتجارتهم الحركة الاقتصادية بها، أو الذين تولوا نشر تعاليم الحق والإيمان التي بنيت عليها والتعريف بها خارجها. وعلى هذا، خرج من المملكة كثير من الرحالة، في صفة من ذكرنا؛ إذ خرج من الأندلس يحي الغَزَال البكري (ت250ه) إلى بلاد الشَّمال، بأمر من أمير قرطبة لذلك الـعهد عبد الرحمان الثاني، لـعـقـد صلح مع ملك (النورمان)(65)، كما خرج من سِيراف سليمان التاجر، الذي سافر إلى الصين والهند بغرض التجارة، وترك وصفا حيًّا للسواحل والجزر والموانئ المختلفة والمدن وسكانها والمحاصيل والمنتجات وسلع التجارة(66).
    وفي القرن الرابع الهجري، ظهرت رحلتان تعبِّران عن قوة مملكة الإسلام، أولاهما هي رحلة ابن فضلان إلى بلغار الفولغا للتمكين للدين الإسلامي في مملكتهم؛ وذلك بطلب من ملكهم(67)، والأخرى قام بها رحالة جوَّال هو: أبو دلف مسعر بن المهلهل الخزرجي الينبعي الذي دفعه-كما قلنا آنفا-الشعور بوحدة المملكة وقوتها إلى الاطلاع على غيرها من الممالك، فكانت وجهته إلى الصين والهند وغيرها من بلدان الشرق، وخلَّف لنا رسالة في وصفها. ويبدو وعي أبي دلف بوحدة مملكة الإسلام من خلال استعماله لفظ "الإسلام" كمصطلح سيـاسي؛ مـثـلـمـا رأيـنــا مـن تــطــــوره مــن قــبــل، يــقــول: "فــأول قــبــيــلــة وصــلـــنـا إلـيهـا بعد أن جاوزنا خراسان وما وراء النهر من مدن الإسلام قبيلة تعرف بالخركاه"(68). 
    بــقــي أن نـشيـر إلـى شيء مهم، ذلك أنــــه إضافة إلـى مؤلفي نـمط "أدب الرحلات"، فإن بعض مؤلفي نـمـط "أدب المسالك والممالك" قد جمع في مؤلفاته بينه وبين نمط "أدب الرحلات" في توليفة عجيبة، ويبرز في هذا المقدسي كمثال أصيل في هذا الشأن، فيسوق فقرة طريفة في كتابه سنوردها كاملة، لما فيها من دلائل على تجشم الرحالة الصعاب لأجل معاينة أقاليم مملكة الإسلام على الـحقيقة، يقول المقدسي: "ثـم إنه لـم يبق شيء مـما يلحق المسافرين إلا وقـد أخذت منه نصيبا غير الكدية وركوب الكبيرة، فقد تفقهت وتأدبت، وتزهدت وتعبدت، وفقَّهت وأدَّبت. وخطبت على المنابر، وأذنت على المنائر، وأممت في المساجد وذكَّرت في الجوامع، واختلفت إلى المدارس. ودعوت في المحافل، وتكلمت في المجالس. وأكلت مع الصوفية الهرائس، ومع الخانقائيين الثرائد، ومع النواتي العصائد. وطُردت في الليالي من المساجد، وسحت في البراري، وتهت في الصحاري. وصدقت في الورع زمانا، وأكلت الحرام عيانا. وصحبت عباد جبل لبنان، وخالطت حينا السلطان. وملكت العبيد، وحملت على رأسي بالزبيل. وأشرفت مرارا على الغرق، وقطع على قوافلنا الطرق، وخدمت القضاة والكبراء، وخاطبت السلاطين والوزراء. وصاحبت في الطرق الفساق، وبعت البضائع في الأسواق. وسجنت في الحبوس، وأخذت على أني جاسوس، وعانيت حرب الروم في الشواني وضرب النواقيس في الليالي. وجلدت المصاحف بالكرى، واشتريت الماء بالغلا، وركبت الكنائس والخيول، ومشيت في السمائم والثلوج، ونزلت في عرصة الملوك بين الأجلة، وسكنت بين الجهال في محلة الحاكة. وكم نلت العز والرفعة، ودبر في قتلي غير مرة. وحججت وجاورت، وغزوت ورابطت. وشربت بمكة من السياقة السويق، وأكلت الـخبز والـجلبان بالسيق. ومـن ضيـاف إبراهيم الـخليل، وجـميز عسقلان السبيل. وكسيت خلع الملوك وأمروا لي بالصلات. وعريت وافتقرت مرات، وكاتبني السادات، ووبخني الأشراف. وعرضت عليَّ الأوقاف، وخضعت للأخلاف. ورميت بالبدع، واتهمت بالطمع. وأقامني الأمراء والقضاة أمينا، ودخلت في الوصايا وجعلت وكيلا. وامتحنت الطرارين، ورأيت دول العيارين. واتبعني الأرذلون، وعاندني الحاسدون، وسعي بي إلى السلاطين. ودخلت حمامات طبرية، والقلاع الفارسية. ورأيت يوم الفوارة، وعيد بربارة، وبئر بضاعة، وقصر يعقوب وضياعه. ومثل هذا كثير ذكرنا هذا القدر ليعلم الناظر في كتابنا أنا لم نصنفه جزافا، ولا رتبناه مجازا، ويميزه من غيره"(69).
    ومجمل القول، فإن إدراك موضوع وحدة وانسجام مملكة الإسلام لم يقتصر على رحالة العصور الذهبية، حينما كانت مملكة الإسلام قائمة، بل استمر ذلك الإحساس بالوحدة، والشعور بامتداد المملكة حتى بعد زوالها. فبعد الهجمة المغولية على بغداد قصبة مملكة الإسلام، وزوالها نتيجة لذلك، نجد الرحالة ابن بطوطة يتجاوز في رحلاته التمزق السياسي في الأقاليم السياسية، وينتقل بينها بحثا عن بلد يمكن أن يجد فيه الإسلام متماسكا، أو بالأحرى يجد تجمعا إسلاميا من بقايا "مملكة الإسلام" كما هي ماثلة في وجدانه، لذلك نجده يقول: "في كل مرة رأيت فيها مسلمين أحسست أنني ألتقي بأهلي وبأقاربي الأدنين"(70).    

1-2-وحدة الشعور داخل مملكة الإسلام:
    إن وجود مملكة الإسلام في حياة المسلمين الأوائل لم يكن وجودا ماديا متمثلا في السلطة الحاكمة، ووظائف الدولة، وجيوشها، ودواوينها، فحسب؛ بل كان وجودا معنويا، تمثَّل في الارتباط الشعوري بهذه المملكة، كدليل على إرادة الله في الأرض، ورضاه عن هؤلاء المسلمين، بالتمكين لهم في الأرض، نظير إيمانهم به وتطبيقهم لشريعته؛ وذلك مـصـداقـا لـقـول الله تـعـالـى:﴿ وَلَـقَـدْ كَـتـَـبْـنَـا فـِي الـزَّبُـورِ مِـنْ بَـعْـدِ الـذِّكْـرِ أَنَّ الأَرْضَ يَـرِثُـهَـا عِـبَـادِي الصَّالـِحـُون﴾(71).
    لكن هذا الارتباط الشعوري بالمملكة تجاوز تحديدات الفقهاء لأرض الإسلام، وصار متعلقا أكثر بالناس الذين يحتلون هذه الأرض، ويملكون جميع أقاليمها؛ إذ إن الانتقال من استخدام مصطلح "دار الإسلام" إلى مصطلح "مملكة الإسلام" هو "دلالة على تـحــول حــدث، انـتـقـال غـيــر مـلـمـوس مـن تـصور نظري وفقهي إلـى إدراك انتقل إلـى الشعور الجماعي"(72).
    إن استعمال كلمة "الإسلام" مفردة أو في صورة مصطلح مع كلمة أخرى (دار الإسلام، أرض الإسلام، بلاد الإسلام، مملكة الإسلام)، قد شكل مفهوما سياسيا أشمل من المفهوم الفقهي المحصور في معنى الديانة؛ ومعناه باختصار: امتداد سلطة الشعوب التي تدين بالإسلام على الأرض. وهذا المعنى-حتى وإن ركَّز على التلاحم الإقليمي والعقيدي-لا يعني بأي حال من الأحوال إقصاء أية عقيدة أخرى، أو اضطهاد معتنقيها، فمملكة الإسلام بهذا الشكل-وهو ما يعلن عنه في كل مرة مؤلفو الأدب الجغرافي العربي-تجمع في نسيجها ممثلين لديانات سماوية (المسيحية واليهودية)، وكذلك بعضا من أشتات الديانات الشرقية القديمة، جنبا إلى جنب مع الديانة الأساسية؛ ألا وهي الإسلام، لكن ما يفهم من كلمة الإسلام هنا، هــو معنى الأغلبية، مــن ناحية، ومن ناحية أخرى، فــإنــه نتيجــة لتلك الأغلبية يؤثِّر الإسلام في هيكل الحياة للمجموع كله(73).
    وهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام، فيما يتعلق بالحديث عن "مملكة الإسلام" فـي مؤلفات "الأدب الجغرافي العربي"؛ إذ إنه في الوقت الذي نضجت وتبلورت فيه نظرية "المملكة" لدى الجغرافيين المسلمين، وخاصة مع المقدسي، كانت المملكة في واقع الحال قد اضمحلت وزالت منذ ما يقرب من قرنين من الزمن، وفـي هـذا يشير ميكيل إلـى أن هـذه حقيقة لا شك فيها، لكنها لا ينبغي أن تنهي النقاش، لأنه بقي إلى جانب الوحدة التاريخية "والتي كانت قد انتهت في حالتنا تلك، بقيت الوحدة التي يُدعى إليها والتي يُحلم بها، بل ما هو أكثر من ذلك، التي تعيش داخل الشعور الجماعي، ويحافظ عليها من خلاله حتى على المستوى السياسي، كهدف يُؤمل دائما تحقيقه"(74). 
    ومهما يكن من أمر؛ فإن مملكة الإسلام، في أبسط معانيها وتجلياتـها، كانت تعني لدى مؤلفي الأدب الجغرافي العربي، ذلك الانسجام الديني بين أي إقليمين متباعدين داخل هذه المملكة، وفقا لـمعايير ومصطلحات مشتركة ومعترف بها، كما تعني أن يحس المسلم بأنه في وطنه، مهما كان الإقليم الذي يتواجد فيه بعيدا عن محل سكنه، وتعني كــذلك ذلك "التأثر الشعوري أمام ضريح وليٍّ ولد في أرض فلسطين ودفن على بعد آلاف الكيلومترات من نقطة مولده"(75)، أو كما عبَّر عن ذلك عزرا حداد، محقق رحلة بن يونة التطيلي، في شرحه لإحساس المسلمين داخل مملكة الإسلام بوحدة المصير؛ إذ يقول: "فكان المسلم، حيثما تنقل داخل حدود هذه المملكة، يجد نفسه بين إخوان له، يُظلُّه ما يظلهم من دين ويسري عليه ما يسري عليهم من شرع وعرف وعادات. وأينما ألقى عصا الترحال من أصبهان وبغداد شرقا والقاهرة وغرناطة غربا، وجد الجامع الذي يؤدي فيه فريضة الصلاة. والرباط الموقوف على إيوائه وإطعامه إذا جاع، والمدرسة التي يتلقى فيها علوم الدين والدنيا، والمارستان الذي يعالجه إذا ألم به مرض"(76).

خاتمة:
    وخلاصة القول، أن العالَم الذي رسمه الجغرافيون المسلمون لمملكة الإسلام في مؤلفاتهم، عالم متنوع ورحب، ويمكن القول بأنه يَعرِف هويَّته بإشعاع نور الإسلام، وبه وحده "والبرهان شعور دار الإسلام الحاد بما ليس فيها، وبـحدودها على الـخريطة"(77)، وبهذا تتحدد مملكة الإسلام داخل الحيز الجغرافي من خلال تنوعها الخاص وتميزها عن غيرها، ومن خلال حدودها، حيث تعرف جيدا أين تبدأ وأين تنتهي، وتتحدد هوِيَّتها حضاريا بالانتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية(78).

هوامش:
(*) – نقصد بالحضارة الإسلامية كل الثقافات التي تكونت في الإمبراطورية الإسلامية، والتي شكلت اللغة العربية بشكل شبه تام لغة الثقافة فيها؛ ينظر: شاكر خصباك: الجغرافيا عند العرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1986، ص15.
(1) – إغناطيوس يوليانوفيتش كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة صلاح الديـن عـثمان هـاشم، دار الغرب الإسلامي، تونس، ط2، 2008، ص19.
(2) – قادة جليد: الإنسان وفاعليته في التاريخ، جريدة "الخبر" اليومية، العدد: 8103، بتاريخ: السبت 26 مارس 2016.
(3) – ينظر: سورة قريش.
(4) – أحمد أمين: فجر الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ط11، 1975، ص17، 18.
(5) – عبد العزيز سليمان نوار: الشعوب الإسلامية (الأتراك العثمانيون، الفرس، مسلمو الهند)، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1973، ص9.
(6) – سورة آل عمران، الآية 103.
(7) – أنور الجندي: الإسلام وحركة التاريخ؛ رؤيا جديدة في فلسفة تاريخ الإسلام، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط8، 1986، ص13. وينظر كذلك: محمد حسين هيكل: الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدسة، دار الهلال، القاهرة، ص12.
(08) – عبد الرحمان بن محمد بن خلدون: مقدمة ابن خلدون، اعتناء ودراسة: أحمد الزعبي، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ص619.
(09) – أحمد رمضان أحمد: الرحلة والرحالة المسلمون، دار البيان العربي للطباعة والنشر والتوزيع، جدة، ص05.
(10) – أندريه ميكيل: جغرافية دار الإسلام البشرية؛ حتى منتصف القرن الحادي عشر، الجزء الأول، القسم الأول، ترجمة: إبراهيم خوري، إشبيلية للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 1983، ص96.
(11) – أندريه ميكيل: إمبراطورية الإسلام وتجسيدها الشعوري في الأدب الجغرافي، من كتاب: الاستشراق الفرنسي والأدب العربي، أحمد درويش، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2004، ص90.
(12) – المرجع نفسه، ص92.  وينظر: عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1983، ص 24.
(13) – محمد شاملة: الإسلام في الفكر الأوربي، دار التراث العربي، القاهرة، ط1، 1980، ص129.
(14) – أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق وتعليق: سعيد محمد اللحام، ج3، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2005، ص10. وينظر: أمين القضاة: الخلفاء الراشدون؛ أعمال وأحداث، دار الآفاق، الجزائر، ص102.
(15) – ينظر: هاملتون جيب: دراسات في حضارة الإسلام، تحرير: ستانفورد شو ووليم بولك، ترجمة: إحسان عباس ومحمد يوسف نجم ومحمود زايد، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1979، ص212. 
(**) هو الخليفة أبو أحمد عبد الله المستعصم بالله.
(16) – أندريه ميكيل: المرجع السابق، ص97. وينظر: أبوزيد شلبي: تاريخ الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، مكتبة وهبة، القاهرة، 2012، ص160.
(17) – أندريه ميكيل: المرجع نفسه، ص98.
(18) – إذ إن التطبيقات الفعلية لنظرية الحكم في تاريخ الدول الإسلامية المتعاقبة المرتكزة على نظام "الملك" خالفت في الواقع دعوة الإسلام في فكرة الحكم الناصة صراحة على مبدأ "الشورى".
(19) – المرجع السابق، ص112.
(20) – ينظر: عبد الحق بلقيدوم: الأدب الجغرافي العربي؛ المفهوم، الأنماط والتطور، مجلة أنفاس الإلكترونية: www.anfasse.org ، بتاريخ: 10 فيفري 2017.
(21) – أندريه ميكيل: المرجع السابق، ص107.
(22) – محمد بن أحمد المقدسي: رحلة المقدسي؛ أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، تحرير وتقديم: شاكر لعيبي، دار السويدي للنشر والتوزيع، أبو ظبي، ط3، 2003، ص84،83.
(23) – كراتشكوفسكي: المرجع السابق، ص204.
(24) – عن شخصية "بطلميوس" ينظر: أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الحمودي الحسني الإدريسي: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، (مجموعة من المحققين)، المجلد الأول، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2002، ص5، وكذلك: جورج غريب: أدب الرحلة؛ تاريخه وأعلامه، دار الثقافة، بيروت، ط1، 1966، ص26.
(25) – عن نظرية الأقاليم السبعة ينظر: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزهري: كتاب الجعرافية، اعتناء وتحقيق: محمد حاج صادق، مكتبة الثقافة الدينية، بور سعيد (مصر)، ص10.
(26) – كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، ط7، 1977، ص265.
(27) – أندريه ميكيل: المرجع السابق، ص113.
(28) – أندريه ميكيل: جغرافية دار الإسلام البشرية، الجزء الأول، القسم الأول، م س، ص165.
(29) – أندريه ميكيل: المرجع نفسه، ص113.
(30) – كارل بروكلمان: المرجع السابق، ص265. وينظر: عبد العال عبد المنعم الشامي: جغرافية المدن عند العرب، مجلة عالم الفكر، المجلد 9 العدد 01، أفريل، ماي، جوان 1978، الكويت، ص123.
(31) – سعد زغلول عبد الحميد: الحياة الدينية في المدينة الإسلامية، مجلة عالم الفكر، عدد أفريل، ماي، جوان، 1980، الكويت، ص31.
(32) – أندريه ميكيل: المرجع السابق، ص114.
(33) – محمد أبو ربيع: في تاريخ الأدب العربي القديم، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان، 1990، ص119.
(34) – أندريه ميكيل: جغرافية دار الإسلام البشرية؛ حتى منتصف القرن الحادي عشر، الجزء الثاني، القسم الثاني، ترجمة: إبراهيم خوري، إشبيلية للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 1985، ص310. وينظر: المرجع نفسه، الجزء الرابع، القسم الأول، دمشق، 1995، ص95.
(35) – أندريه ميكيل: المرجع نفسه، الجزء الثاني، القسم الثاني، دمشق، 1985، ص310.
(36) – أندريه ميكيل: المرجع نفسه، الجزء الأول، القسم الأول، م س، ص177.
(37) – أبو الفرج قدامة بن جعفر: الخراج وصناعة الكتابة، شرح وتحقيق: محمد حسين الزبيدي، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1981، ص159.
(38) – المصدر نفسه، ص185.
(39) – أبو القاسم محمد بن علي بن حوقل: صورة الأرض، دار مكتبة الحياة للطباعة والنشر، بيروت، 1992، ص19.
(40) – المصدر نفسه، ص10.
(41) – المصدر نفسه، ص19.
(42) – المصدر نفسه، ص20.
(43) – أندريه ميكيل: جغرافية دار الإسلام البشرية، الجزء الأول، القسم الأول، م س، ص108.
(44) – كراتشكوفسكي: المرجع السابق، ص22.
(45) – محمود عبد الوهاب: الإسلام وأثره في نهضة الشعوب، مكتبة دار الفضيلة، دبي، ط2، 1987، ص41.
(46) – زكريا بن محمد بن محمود القزويني: عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات، (دون تحقيق)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط1، 2000، ص10.
(47) – المصدر نفسه، ص10. لمزيد من التوسع في موضوع العجيب والغريب ينظر:
Tzvetan Todorov : Introduction à la littérature fantastique, Paris, France, éd Seuil, 1970, p 28.          وكذلك: شعيب حليفي: شعرية الرواية الفانتاستيكية، دار الحرف للنشر والتوزيع، القنيطرة (المغرب)، ط2، 2007، ص49.
(48) – أبو حامد محمد بن عبد الرحيم الأندلسي الغرناطي: تحفة الألباب ونخبة الإعجاب، تحقيق: علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 2003، ص15.
(49) – عبد الرحمان بن خلدون: المصدر السابق، ص214.
(50) – ينظر: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تحقيق: محمد عبد الرحيم، مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، بيروت، ص299.
(51) – كارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، ترجمة: عبد الحليم النجار، السيد يعقوب بكر، رمضان عبد التواب، القسم الثاني: 3-4، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993، ص639.
(52) – أندريه ميكيل: جغرافية دار الإسلام البشرية، الجزء الثاني، القسم الثاني، م س، ص261.
(53) – بزرك بن شهريار الرامهرمزي: عجائب الهند بره وبحره، تحقيق: ليت بيتر أنتوني واندر، دار ومكتبة بيبليون، بيروت، ط1، 2009، ص3.
(54) – مولاي بالحميسي: البحر والعرب في التاريخ والأدب، منشورات الجزائر عاصمة الثقافة العربية، الجزائر، 2007، ص55.
(55) – أبو حامد الغرناطي: المصدر السابق، ص68.
(56) – المصدر نفسه، ص69.
(57) – سراج الدين أبو حفص عمر بن الوردي: خريدة العجائب وفريدة الغرائب، تصحيح وتعليق: محمود فاخوري، دار الشرق العربي، بيروت/حلب، 1991، ص18.
(58) – كراتشكوفسكي: المرجع السابق، ص202.
(59) -لطيف زيتوني: السيميولوجيا وأدب الرحلات، مجلة عالم الفكر، المجلد 24، العدد 03 جانفي، مارس 1996، ص258.
(60) -أبو العيد دودو: الجزائر في مؤلفات الرحالين الألمان: 1830/1855، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1989، ص06.
(61) – كراتشكوفسكي: المرجع السابق، ص204.
(62) – أندريه ميكيل: جغرافية دار الإسلام البشرية، الجزء الأول، القسم الأول، م س، ص208.
(63) – المرجع نفسه، ص209.
(64) – المرجع نفسه، ص209. 
(***) – لا يُعرف تاريخ ميلاد أو وفاة لابن رسته، لكن المأثور عنه أنه حج بيت الله الحرام عام 290ه.
(65) – عبد الرحمان حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ومقتطفات من آثارهم، دار الفكر، دمشق، ط2، 1995، ص168.
(66) –التاجر سليمان: عجائب الدنيا وقياس الأرض، تحقيق: سيف شاهين المريخي، مركز زايد للتراث والتاريخ، العين (الإمارات العربية المتحدة)، ط1، 2005، ص16.
(67) – أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد: رسالة ابن فضلان في وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة، تحقيق: سامي الدهان، مطبوعات المجمع العلمي العربي، دمشق، 1959، ص67.
(68) – أبو دلف مسعر بن المهلهل الخزرجي: الرسالة الأولى، تحقيق: مريزن سعيد مريزن العسيري، مركز إحياء التراث الإسلامي، مكة، 1995، ص40.
(69) – المقدسي: أحسن التقاسيم، م س، ص68، 69، 70.
(70) – أندريه ميكيل: إمبراطورية الإسلام، م س، ص119.
(71) – سورة الأنبياء، الآية 105.
(72) – أندريه ميكيل: إمبراطورية الإسلام، م س، ص115.
(73) – المرجع نفسه، ص115.
(74) – المرجع نفسه، ص120.
(75) – المرجع نفسه، ص118.
(76) – الرابي بنيامين بن يونة التطيلي النباري الأندلسي: رحلة بنيامين التطيلي، ترجمها عن النص العبري وعلق على حواشيها وكتب ملاحقها: عزرا حداد، دراسة وتقديم: عبد الرحمان عبد الله الشيخ، إصدارات المجمع الثقافي، أبو ظبي، ط1، 2002، ص122. وينظر: أبو العباس أحمد بن قنفذ القسنطيني: أنس الفقير وعز الحقير، اعتنى بنشره وتصحيحه: محمد الفاسي وأدولف فور، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط، 1965، ص02.
(77) – أندريه ميكيل: جغرافية دار الإسلام البشرية، الجزء الثاني، القسم الثاني، م س، ص315.
(78) – محمد عابد الجابري: الهوِيَّة العربية؛ من صحيفة النبي إلى تفكك الخلافة العباسية، موقع: www.aljabriabed.net، بتاريخ: 22 ماي 2007

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟