القارئ وإنتاج المعنى في الشعر القديم : حدود التأويل البلاغي ـ محمد العمري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse02047أ ـ المنطلقات النظرية:
أ.1-القواسم الممكنة:
لا يخفي عنوان هذا المقال نية الانتماء إلى هموم جمالية التلقي الحديثة. بل يكاد يحدد أحد مناحيها الأكثر شهرة وتميزا. سنحاول الاستفادة من المفهوم العام للقراءة ثم من تطبيقات الاتجاه النصي التأويلي، الذي صاغ فولفغانغ إيزر مبادئه العامة(1)، مستثمرين المناسب من كل ذلك في قراءة الشعر العربي القديم، من جهة، ومساءلة الخطاب الوصفي الدائر حوله، أي البلاغة، من جهة أخرى: ما مدى اهتمام هذه البلاغة بالقارئ بمفهومه النصي، وما الدور الذي أنيط به في تفعيل النص الشعري؟ وذلك كله في حدود ما تناله الطاقة وتسمح به المناسبة انطلاقا من مبدأ منهاجي عام ما زال اقتناعنا به يتأكد وهو اعتبار النص منطلقا والمرسل والمتلقي، وكل ما يتصل بهما، امتدادا. وسيكون المحاور الأول من التراث العربي في هذه المناسبة هو عبد القاهر الجرجاني.
إذا كان تعامل جمالية التلقي مع الشعر القديم لا يثير إشكالا مبدئيا من الوجهة المنهاجية (وقد يثيره عند التطبيق لاختلاف الاجتهادات)، فإن البحث عن دعم بلاغي لهذا التناول قد يثير الاعتراض مبدئيا ومن أول وهلة، خاصة إذا نظرنا إلى جمالية التلقي من خلال أدبيات النشوء، باعتبارها ثورة على نمط التأويل الكلاسيكي)، وسيزيد الأمر تعقيدا إذا قايضنا الكلاسيكي الغربي بالقديم العربي(2).
لذلك سيكون من المفيد التأكيد على التعامل مع المبادئ العامة والتحليلات التطبيقية الملموسة وغض الطرف عن الظرفية التاريخية الخاصة بجمالية التلقي الألمانية والخلفيات الفلسفية التي تحكم فرعا منها دون آخر. فبدون هذا الإجراء قد يعد من التقول الحديث عن جمالية للتلقي في البلاغة القديمة. بل قد يتعذر أيضا الحديث عن جمالية حديثة موحدة. فمما ينبغي الاعتبار به، في هذا السياق اقتناع دارسين محدثين مطلعين بأن التوجهات الحالية في جمالية التلقي لا تقبل الانضواء تحت اسم واحد، موحد ومشترك إلا بغض النظر عن بعض المفاهيم الأساسية التي يفترض أنها مشتركة بينها.

لاحظ إلرود إبش مثلا أن من الأحسن مرحليا عدم التدقيق في المفهوم المركزي للنظرية، أي مفهوم المتلقي نفسه. فقال: "إن ما يستعيده العلم الأدبي، اليوم، تحت اسم التلقي بعيد عن أن يطابق أساساإبستمولوجيا واحدا ومتماهيا… على أنه إذا كان من غير المستبعد العثور على عنصر ما للالتقاء يسمح بالحديث، مع ذلك، عن "علم للتلقي" فيما يخص جميع هذه الطرائق المختلفة، فإنني أقترح أن نقبل موقتا أن تتولى جميع الطرائق التي تنسب لنظرية التلقي فتح حقل يكون موضوعه متصلا، في آن، بالنصوص الأدبية وبقارئ النصوص. غير أنه من الملائم، الآن، أن نترك معنى "القارئ" مفتوحا: ذلك أن إعطاء معنى أحادي لهذا المصطلح سيفاقم الطابع الإشكالي للموضوع الذي يمكن لتلك الطرائق المختلفة أن تجعله مشتركا"(3). أضف إلى ذلك الانتقادات الكثيرة التي واجهتها كل نظرية على حدة.
بهذه الروح نتعامل مع هذه النظرية إذا صح -بعد هذا- أن نعمم الصفة.
برغم كل هذه الاحتياطات والتحفظات فإننا نجد أنسا كبيرا وارتياحا لحديث رائد الاتجاه النصي التأويلي إيزر عن "النص المخيل" أو "النص الأدبي" عامة، بل نكاد نشعر أحيانا بأنه يعيد طرح الأسئلة نفسها التي طرحها بلاغيون عرب قدامى في سياق تاريخي مخالف، ومع ذلك تبدو متجاوزة للسياقات ومرتبطة بآليات لغوية وفنية مسافرة مع الإنسان في معاناته مع الكون واللغة مهما اختلفت الصيغ وتبدلت الصور. ونحن لا نرهب، مع هذا الموقف، النعوت القيمية، بل القدحية مثل التقعيدية والمعيارية والجمالية الفلسفية المثالية أو المتافيزيقية لأن الفضاء العربي الإسلامي الذي ترعرعت فيه البلاغة العربية شيء آخر. وهذه قضية لا يسمح المقام بالتوسع فيها، أو استقصاء أوجهها.
فمن المبادئ التي أصر إيزر على تأكيدها في أصل النظرية مبدآن أساسيان أولهما: أن الدلالة الشعرية لا تتصور خارج المركب. قال:
"مادامت الدلالة لا تنجلي من خلال الكلمات، وما دام مسلسل القراءة لا يمكن أن يتصور في مطابقة العلامات اللسانية المعزولة فإن المجموعات الشكلية (أو المشكلة) هي التي تجعل فهم النص ممكنا"(4). وثانيهما: الفصل بين الرسالة كغرض والرسالة كمعنى شعري، وقد أبدى في هذا الشأن وأعاد بمثل قوله:
"إن عدم فقدان القدرة على التواصل ظاهرة صحية في النصوص الأدبية. فكثير من النصوص تستطيع أن تتكلم وإن ماتت رسائلها ولم يعد لمعناها أية أهمية"(5).
ومن المعلوم أن هذين المبدأين يمثلان سياج بلاغة عبد القاهر الجرجاني: 1) لا بلاغة إلا في المركب، 2) ليس المحتوى أو الغرض على أهميته مكونا نوعيا للكلام البليغ، ومن ثم لا يمكن البحث عن معنى النص من خلاله. وهما معا لا يهتمان بالجانب الصوتي الإيقاعي لسببين مختلفين.
أ.2-اشتغال النص:
موضوع جمالية التلقي هو اشتغال النصوص المخيلة، أي النصوص الأدبية. فـ"ما دام النص الأدبي لا يستطيع أن يعمل -كما يقول إيزر- قبل أن يقرأ فمن المستحيل وصف أثره دون تحليل عملية القراءة"(6). فمهمة المحلل هي وصف العملية التحويلية التي تجري حال لقاء النص، كخطاطة لإمكانيات كامنة، بالقارئ مزودا هو الآخر بكفاءته ومرجعياته الخاصة. ففي هذا اللقاء بين طرفي العملية "يصدر عن النص تأثير لا يمكن أن يدرس، لا من خلال النص وحده ولا من سلوك القارئ وحده. فالنص فعل كامن تحينه أو تحققه عملية القراءة في كل لحظة" (نفسه).
وبعبارة أخرى فإن "النصوص تمثل، على اختلاف أنماطها طرفا (أو قطبا) واحدا من أطراف العلاقة التي تنعقد أثناء عملية التواصل. فالذخائر (المعطيات) والاستراتيجيات تكتفي من النص برسم خطوطه العامة وإقامة هيكل قواه الكامنة. والقارئ هو وحده الذي يستطيع تحقيق كوامن النص وتحيينها في وقائع، ولذلك فإن بنية النص وعملية القراءة يتكاملان في تحقيق التواصل؛ يتحقق التواصل عندما يرتبط النص بوعي القارئ"(7).
برغم الحديث الانقلابي، لم يفت إيزر أن يشير إلى ظهور الشعور بضرورة إشراك القارئ، في الثقافة الغربية من وقت قديم نسبيا كما في قول لورانس ستيرن (القرن الثامن عشر): "إن أي مؤلف واع بالحدود التي تفرضها اللياقة والذوق السليم لن يتجرأ على تخمين كل شيء (أو لن يفكر في قول كل شيء)، فالاعتراف الصادق بفطنة الآخرين مقرونا بالاحترام يقتضي هنا أن تشطر الإجاصة لكي تترك للقارئ شيئا يتخيله بعدك"(8).
فقد علق على هذا الكلام بقوله: "فالكاتب والقارئ يقتسمان بالتساوي لعبة الخيال. ولن يكون لهذه اللعبة محل إذا ما ادعى النص أنه أكثر من قاعدة للعب"(9).
ونحن نستأذنه، من جهتنا، ما دام الباب مفتوحا في العودة بهذا الإشكال إلى أقدم من ذلك بقرون إلى القرن العاشر الميلادي/الرابع الهجري وما بعده. وقبل ذلك لا بد أن نتسائل -مع استحضار قولة ستيرن السالفة واستشهاد إيزر بها- ما الذي تركه الشاعر الكلاسيكي للقارئ ليتخيله؟ وإلى أي حد اهتم البلاغي القديم بهذا الحيز، ومدى توفيقه في كشفه؟ وهل المشاركة الوحيدة الممكنة للقارئ هي كشف غموض النص؟ أم إعادة بنائه وتحقيقه؟ هذا ما نتناوله في الفقرة الموالية.
وقبل ذلك نشير إلى أن تأكيد دور القارئ على حساب النص أو إضرارا به كثيرا ما ارتبط بالمراحل الأولى من تأسيس النظريات أي مراحل البحث عن موقع أو موطئ قدم، أما حين تضع حرب المواقع أوزارها، ويأمن كل على وجوده الشرعي وتبدأ المفاوضات الواقعية لتحديد الحصص المستحقة لكل طرف فإن جمالية التلقي تكف عن محاباة المؤول وردود أفعاله وتعيد الاعتبار للنص الذي يصير شريكا يلتبس أثره بدور المتلقي في عملية تفاعل يصعب فيها التمييز بينهما إن لم يتعذر. وفي هذا الأفق تعطى للنص مزية التوجيه "بشكل مسبق" نحو "نمط" القراءة المناسب له، لـ"يحرر قوى الأثر الكامنة" حسب عبارة مقدم الترجمة الفرنسية لكتاب فعل القراءة(10).
أ.3-الشعر العربي القديم وحدود التأويل(11):
إن أي قارئ مثلي حصر اهتمامه لزمن طويل في قضايا الشعر العربي الكلاسيكي (القديم) ليتساءل عن موقع هذا الشعر من الأدب كلما قرأ حديث الدارسين المحدثين عن انفتاح النص وتعدد المعاني، وقابلية التأويل اللامتناهي وما إلى ذلك من العبارات والاستعارات التي تضع نصب عينها نصوصا محددة من الإبداع الحديث في مجال السرد خاصة.
ولعل هذا التصور الحديث نفسه لجمالية النص هو الذي حذا ببعض الدارسين إلى ربط الأدب الحق بالحركة الرومانسية وما بعدها، وإحالة ما دونه على الخطابة. غير أن المرء -مع إيمانه بتطور الفنون اللغوية نحو مزيد من الوعي بالذات والاستقلال عن الحقول المعرفية والتعبيرية المجاورة- لا يستطيع أن ينصب نفسه مفتيا يستأنف الحكم في قضية حسمتها الأجيال التي تلقت الإنتاجات الكلاسيكية باعتبارها أدبا شعرا كان أم نثرا فنيا(12).
إن مُنَظِّر الظاهرة الأدبية وجمالية التلقي على وجه التحديد حين ينطلق من عينة محددة غير ممثلة لكل صور التعبير الجمالي المعتبر أدبا عند المتلقين عبر الأجيال يكون كمن يخفي شيئا ثم يتسلى بالبحث عنه والانتشاء باكتشافه. لذلك لا بد لكل بحث في الجمالية،جدير بهذا الاسم أن يكون تاريخيا بقدر ما هو وظيفي.
لا نريد أن نصل من خلال هذه الاحتياطات إلى التشكيك في قيمة مبدأ انفتاح النص في حد ذاته، ولكن المطروح بالنسبة إلينا هو التشكيك في مدى جدوى تعميم الفهم (الطليعي) السائد لهذا المفهوم الذي يجد مجاله الأرحب في الأدب الأكثر رمزية وغموضا، ويغض الطرف عن غيره، خاصة حين يصرف نظره إلى المضامين والمغازي. وإلا فقد بحثنا عن إمكانيات تعدد القراءة حتى في التمفصل الدلالي والتقطيع النظمي واعتبرناه صورة من صور انفتاح النص القديم وقابليته للتأويلات المتعددة كما سيأتي(13).
فتأويلية المغازي والمعاني الكلية الخفية تصطدم بتصريحية الأدب الكلاسيكي حيث يقصد إلى أعيان الأشياء ولا يترك للمؤول في هذا الاتجاه غير حيز ضيق ينحصر في بضع صور استعارية.
فلا بد إذن من مناقشة مفهوم التأويل داخل الإشكالية الأدبية لا خارجها، وتنقيته من الرواسب اللاهوتية المتعلقة بالنص المطلق الذي ندعى إلى التطابق معه لا إلى التفاعل.
ـ في هذا الإطار ولمزيد من تعميق الإشكالية نتساءل مع إيزر:
ـ ما الذي يبحث عنه الناقد (المؤول)، أو ينبغي أن يبحث عنه؟
1 - هل يبحث عن معنى خفي وراء العبارة أو الصورة الأدبية، معنى أخفاه المؤلف عن طريق الإلغاز (سواء في صور النص البلاغية أو في بنيته ككل). هذا التصور يعزوه إيزر إلى القرن التاسع عشر ويربطه بمفهوم للأدب يجعله مطلقا وذا طبيعة كونية في طرح الأسئلة العميقة في الوجود الإنساني، وربما ادعى حتى الإجابة عنها، وهو ما دعاه إبش "جمالية متافيزيقية" في حاشية سابقة(14).
وقد يعتبر توجه البحث إلى المعنى الكامن في النص أقدم من القرن التاسع عشر، فنحن نجد في الشروح القديمة عبارات دالة مثل "يعني.." "يريد.." الخ يعقبها أحيانا اجتهاد لإرجاع المعاني إلى مراجعها الواقعية. ولكن هذه العبارات قد تكون خادعة حتى حين ورودها عند أكثر البلاغيين مقصدية، ولذلك وجب الاحتياط والحذر. سيأتي مزيد توضيح لهذا الأمر مع عبد القاهر الجرجاني.
لقد انتقد إيزر اتجاه البحث عن معنى خفي محدد، وهو جدير بذلك النقد. لكونه ينطوي على اعتقاد الناقد (أو غروره أحيانا) بإمكان حصر النص والاستغناء عنه بالخلاصة النقدية التي تدعي أنها زبدته ومغزاه.
ونحن ننتقده -زيادة على ذلك- من زاوية أنه لن يجد إلا مهمة بسيطة وجزئية ينجزها لصالح الشعر الكلاسيكي الذي يضع ذلك المعنى وذلك المغزى على الأبواب إلا ما ندر (كما تقدم).
2 - أم إن الأمر لا يتعلق بمعنى خفي موجود سلفا في النص، بل بمعنى ينتج عبر القراءة. فالمؤول يلتقي مع النص عبر أسئلته الخاصة مستحضرا، في الوقت نفسه، أسئلة غيره التي ألقيت على النص عبر تاريخ تلقيه، وحين ينتهي من عمله لا يكون النص قد اعتصر وصار جثة هامدة تغني عنه لغة الناقد الواصفة بل يكون مجاله قد زاد اتساعا وقدرة على استيعاب الأسئلة. ومعنى ذلك أن أي تأويل جديد ما هو إلا حلقة في مسلسل تشكل أدبية النص. لقد ثبت أن النصوص الأدبية حتى التي تتناول الكون تناولا تقريريا لا تموت لمجرد أنها مباشرة وتقريرية بل تحتفظ بوجودها عبر الأجيال.
لذلك وجب، في نظر إيزر، إعادة النظر في مفهوم النص الأدبي الذي اعتبر منذ القديم نصا محاكيا تخييليا لكي يستوعب كل النصوص الكلاسيكية وفي هذا الإطار تدخل عودة إيزر لقراءة مفهوم الخيال (أو التخييل) في عمل له لاحق(15) جاء فيه:
"النص الأدبي تشكل تخييلي أو صيغة مخيلة ونقصد بذلك على وجه العموم، أنه يفتقر إلى صفات الواقعية الضرورية. إن النص الأدبي لا ينضب معينه، لمجرد أنه نص تقريري عن عالم موضوعي معطى تجريبيا، إن قصده التمثيلي قد يكون بالأحرى في استهداف ما لم يعط"(16).
ومن المتوقع أن تؤدي هذه الاجتهادات إلى إعادة النظر في مفهوم المقام الشعري وحدود التداخل الممكنة وبينه وبين المقام الخطابي الإقناعي، هذه الإشكالية التي أرقت الفلاسفة العرب في قراءتهم لأرجانون أرسطو.
بعد هذا لا بد من التساؤل عن مشروعية تشغيل تأويل المعنى لا كإجراء مطلق ولكن كإجراء جزئي داخل عملية القراءة. يبدو أن هذا أمر لا يمكن الاستغناء عنه. فالمرحلة المكوكية بين ظاهر المعنى وباطنه سواء ادعي تحديد ذلك الباطن في وجه واحد (كما في البناء الكلاسيكي) أو بقي مترددا حائرا أمام عدة وجوه (البناء الحداثي) إنما هي مكون شعري يوضع في المحيط البناء العام. ولذلك ينبغي أن يتجاوز التعامل مع النص الكلاسيكي (أو النص الشعبي أيضا) تأويل المعاني والمقاصد إلى المكونات النصية من جهة، وشروط القراءة من جهة ثانية(17).
مع الذي تقدم، هناك صعوبات عملية تطبيقية. فبرغم تعميم المبادئ فإن مجال التطبيق عند إيزر هو النص السردي، والنص السردي نص تمثيلي أو محاك على وجه العموم، أو هو كذلك، على الأقل، في الأمثلة التطبيقية المعتمدة عنده. وهذا أمر لا يخفيه الباحث، بل يبرره تبريرا بيداغوجيا قائلا: "إن الاعتماد شبه الكلي على النصوص السردية في تفسير مسلسل تحول النص أثناء القراءة وبفعلها، راجع إلى أن هذه النصوص تسمح بتمييز المشكل في أجلى صوره"(18).
لكل ذلك فإن تطبيق هذه النظرية على الشعر عامة والشعر العربي القديم خاصة يقتضي النظر في مبادئها العامة، ثم التمييز بين المجالات المعتمدة. بل يلزم الدارس الاحتياط من الأحكام التي يصدرها رواد جمالية التلقي في صراعهم من أجل تنحية ما يسمونه "الشكل التقليدي للتأويل الذي يعتمد على الكشف عن المعنى الخفي(19)"، كما تقدم. إذ ينصرف حديثهم إلى النقد في القرن التاسع عشر، وإلى النقد الكلاسيكي على وجه التحديد، حيث يستحضرون تصورا جماليا شموليا ذا خلفية مسيحية. "فمن المعروف -حسب ف.إيزر- أن هيجل يرى أن الفن وصل إلى نهايته. ولا يخفى على أحد، أن ما كان يعنيه هو أنه لم يعد ممكنا رؤية الفن كمظهر مميز للحقيقة، ليس هناك اليوم عمل فني يرجع الروح إلى ذاتها، ويغرقها في تأمل ذاتها كما كان يفعل شيلنج Schelling، وحتى العالم المسيحي لا يمكنه أن يفهم الفن إلا في السياق الشامل للإيمان"(20).
ب - مقترحات أولية لقراءة الشعر العربي:
بناء على الخصوصيات التي حاولنا استكشافها آنفا نتوقف الآن عند مجموعة من المداخل المناسبة لقراءة النص الأدبي القديم وما يناسبها أو يؤيدها من اجتهادات بلاغية كما بلورها عبد القاهر الجرجاني، أو وضع أسسها دون أن يقتحمها مباشرة لإكراه ما.
ب.1-بناء المعنى: انبعاث القارئ في طلب المعنى.
ب.1.1-تمهيد: الغرض والمعنى الشعري:
حين يتحدث -في أدبيات التأسيس لجمالية التلقي- عن المعنى الذي يخفيه الكاتب ويسعى الناقد لاكتشافه، وباكتشافه يتعرض العمل الأدبي لخسارة جسيمة، إن لم يقتل نهائيا كما سبق، وحين يتحدث عن النص الوثيقة، وعن المعنى الجاهز سلفا، وعن التأويل الكلي، وغير ذلك من العيوب التي تشوب التأويلية القديمة، يحس بلاغي مثل عبد القاهر الجرجاني أنه غير معني بتاتا، لا بسبب انتمائه للمذهب الوسطي الذي نعرج عليه لاحقا وحسب ولكن أيضا لأن مثل هذا الحديث عن الغرض والمغزى ليس موضع تفاوت بين الأبيناء في تصوره: وبذلك فهو لا يدخل ضمن هموم البلاغة. لذلك فليس هذا ما يعنيه البلاغي حين يتحدث عن الغوص في بحار المعاني لاستخراج كوامنها. المعنى الذي يهم البلاغي يظل لصيقا بالنص لا يزايله، وهو يأتي بعد المعنى الغرض. بل لا يعدو الغرض أن يكون سياقا أو مقاما وقرينة تطلق المسلسل ثم لا تتحكم فيه. ولتقريب ما نشير إليه نتأمل مع عبد القاهر هذا المثال:
"كثير الرماد"
إن المدح ليس هو نهاية مسلسل القراءة في هذا النص، بحيث يؤدي الانتباه إليه إلى نفض اليد من النص أو احتراقه كما يقال. بل المدح هو بداية المسلسل الشعري. المدح هو الذي يخبرنا بأن المعنى ليس في ظاهر اللفظ.
المعنى الذي يسمح للنص بالاستمرار في العيش وشغل القراء جيلا بعد جيل باستراتيجيات مختلفة إلى حدود السخرية من المعنى نفسه كامن في رحلة الذهن عبر المفارقة: المقام يشكك في معنى ظاهر اللفظ فينتقل الذهن إلى المعنى الثاني (إحراق الحطب)، فلا يشفي غليله، ولا يرفع التعارض بين ظاهر اللفظ والمقام فتستمر الرحلة نحو معنى ثالث (إطعام الطعام) فإلى رابع (الكرم)، ومن خلال الذخيرة تكتمل الحلقة فنصل إلى ما بدأنا به، أي المدح، لتبدأ رحلة أخرى في حواشي المسار العام: لماذا المدح؟ فليس المدح إذن هو المعنى الشعري لـ"كثير الرماد"، بل المعنى الشعري هو هذا المسلسل الذي يطلب النص من القارئ المرور به واستحضاره اعتمادا على كفاءته وذخيرته، أو بعبارة معلوماتية اعتمادا على البرنامج الذي يشغله. وهو معنى لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد. فهناك إذن ذهاب وإياب من المدح إلى الصورة ومن الصورة إلى المدح.
وهذه الآلية نفسها هي آلية الاستعارة، فالمعنى فيها مفيد بلاغيا ما دامت يد المعير ممسكة بالمعار؛ لم تتخل عنه للمستعير. أو ما دام المعنى الثاني مستندا للمعنى الأول لم ينفصل عنه(21).
بهذا يتبين أن الانتقال من حديث جمالية التلقي عن المعنى والفهم، في الأعمال السردية، إلى التعبير عن المقاصد وما يخفيه السارد بشتى الحيل ثم يكتشفه الناقد (اعتمادا على المعاني اللغوية للكلمات في مجالين مختلفين) يؤدي لا محالة إلى الخلط. فالتصور الذي يجعل العمل الأدبي يموت عند كشف مخبوئه يصدق في أحسن الأحوال على القصص من النمط البوليسي المكرور كما يصدق على الألغاز العارية أو المغسولة حسب تعبير القدماء. ولذلك يكتفى بمشاهدة الفيلم الذي من هذا القبيل مرة واحدة، كما يكتفى بحل اللغز مرة واحدة.
إن الشعر الغنائي صناعة في الألفاظ صوتا ودلالة ابتداء من أصغر وحدة جملية إلى أطول القصائد، ولذلك ما انفك الحديث عن المعنى الشعري يستدعي مفهوم الصورة ولفظها. والفرق بين الشاعر وصانع الألغاز هو أن صانع الألغاز يحاول إخفاء معنى معروف لديه سلفا، في حين أن الشاعر يبذل جهدا للاقتراب من معنى ممكن، لا يدري أين سيوصل مسلسله، لو استمر إلى نهايته، إذا كانت له نهاية أصلا. ثم يأتي القارئ يحاول، في البداية، السير في الطريق نفسه مع ترك أكثر ما يمكن من المعالم خلفه عله يتمكن من وصف الطريق، أو العودة بسلام، ولكن هيهات فحتى الشاعر ليس في وسعه أن يسير مرة أخرى في نفس الطريق، ولذلك فقد لا يعدو ما يصفه القارئ أن يكون طريقا جديدا أو ضياعا. وهل يمكن أن يعود جرير إلى الحالة نفسها التي أنتج فيها قصيدته في هجاء الراعي النميري عاريا يزحف أمام نور خافت؟ إنها لحظة ولت إلى الأبد، لحظة نابت عنها اللغة وحملت بصماتها ولا شاهد عليها سوى عجوز مخرفة، لا يهتم أحد بما تحكي(22). النص هو بصمات لحظة شعرية أفلتت يسعى القارئ جاهدا لإعادة تمثلها وتمثيلها. لذلك يجب الارتياب في عدد كبير من المصطلحات والنعوت مثل القصد والمعنى منفصلا عن العبارة.
يقول عبد القاهر الجرجاني:
"لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيت من الشعر، أو فصل من النثر، فتؤديه بعينه، وعلى خاصيته وصفته بعبارة أخرى؛ حتى يكون المفهوم من هذه هو المفهوم من تلك، لا يخالفه في صفة ولا وجه ولا أمر من الأمور. ولا يغرنك قول الناس: "قد أتى بالمعنى بعينه، وأخذ معنى كلامه فأداه على وجهه"، فإنه تسامح منهم، والمراد أنه أدى الغرض(23)". فقد ألف الناس مثلا أن يساووا بين معنى قوله تعالى: "ولكم في القصاص حياة" (سورة البقرة، 179). وقولهم: "قتل البعض إحياء للجميع"، يقولون: "إنهما عبارتان معبرهما واحد". وليس هذا القول قولا يمكن الأخذ بظاهره، أو يقع لعاقل شك أن ليس المفهوم من أحد الكلامين المفهوم من الآخر"(24). وعموما فإن تغير النظر يستتبع تغير المعنى(25).
فالمعاني البلاغية هي المعاني التصويرية التي تدرك بالحدس وبالنظر العقلي (أي الذهني). ويبرر استعمال الصورة كون المعرفة تتم عن طريق الأشكال فيقاس الذهني على الحسي، وقد استعملت الصورة في وصف العبارة الشعرية بشكل عفوي قبل عصر الجرجاني، كما قال.
"واعلم أن قولنا: "الصورة"، إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا، فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة، فكان تبين إنسان من إنسان وفرس من فرس، بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك، وكذلك كان الأمر في المصنوعات، فكان تبين خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه وبين الآخر بينونة في عقولنا وفرقا عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا: "للمعنى في هذا صورة غير صورته في تلك". وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيء نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء، ويكفيك قول الحاجظ: "وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير"(26).
وحين نتتبع وصف الجرجاني لبناء الصور نفهم أن قصد الشاعر وإرادته لا ينصرفان دائما إلى المعنى المجرد أو الغرض بل ينصرفان إلى المعنى المبني عليه غيره. فما الذي أراده الشاعر بقوله:
سلبن ظباء ذي نفر طلاهــا، ونجل الأعين البقر الصـــــوارا
هل نقول إنه يمدح، أم نقول إنه يصور إعجابه، أن نقول إنه يصور الجمال؟ هذه أشياء ممكنة ولكنها تدخل في الفلسفة العامة للتمثيل. الذي أراده الشاعر في مستوى البناء وهو يقرأ موضوعه كما سيقرأ الناس شعره، الغرض هو التشبيه! فأنت "تعلم، إذا نظرت، أنه يريد أن يقول: إن عيونها كعيون الظباء في الحسن والهيئة وفترة النظر". فـ"أوهم أن ثم سرقة، وأن العيون منقولة إليها من الظباء"(27). والغرض، في نهاية المطاف، هو التعجيب:
أورد الجرجاني قول البحتري:
طلعت لهم وقت الشروق فعاينــوا سنا الشمس من أفق ووجهك من أفق
وما عاينوا شمسين قبلهما التقــى ضياؤهما وفقا من الغرب والشــــــرق
ثم علق بقوله قال:
"معلوم أن القصد أن يخرج السامعين إلى التعجب لرؤية ما لم يروه قط، ولم تجر العادة به، ولن يتم للتعجب معناه، الذي عناه الذي عناه، ولا تظهر صورته على وضعها الخاص حتى يجترئ على الدعوى جراءة من لا يتوقف ولا يخشى إنكار منكر، ولا يحفل بتكذيب الظاهر له، ويسوم النفس -شاءت أم أبت- تصور شمس ثابتة طلعت من حيث تغرب الشمس…"(28).
ب.2.1-مجال التفاعل بين النص والقارئ: أو المجال البلاغي:
تقع منطقة إمكانيات القراءة بالنسبة لعبد القاهر الجرجاني بين قطبين: القطب الأول هو قطب الكلام الواضح المنعوت باللطافة لبناء بعضه على بعض بناء غير ظاهر للعيان ولا متاح للجميع. (وما دون ذلك خارج حدود الأدب لا يوجد مبرر لبذل الجهد فيه)، والقطب الآخر هو قطب الغموض الدال المجزي أو المتضمن ما يبرر بذل الجهد. (ودونه الغموض غير الدال الذي يكد القارئ بدون طائل، لأنه لا يتيح له أدنى مشاركة، إما لانغلاقه الميئس أو لعدم إجرائية مسببات غموضه أصلا، لكونه ناتجا عن خلل في التركيب)(29). فالوقوع خارج هذين القطبين يحيد القارئ أو يضعه خارج اللعبة، كما يقول إيزر. إذ إن المتعة تبدأ بالمشاركة فـ"هناك حدود لإنتاجية (القراءة) قد تخرق بجعل الأمور شديدة الوضوح أو غير دقيقة بالقدر المطلوب، فيكون الملل والإرهاق علامة على الحدود السيكولوجية التي تجعلنا خارج اللعبة"(30).
إن القارئ السلبي بالنسبة للجراجاني مجرد راوية، بل هو أشبه بالدفتر(31):
فإن يقل: إنى رويت فكالدفـــــ ـــــتر جهلا بكل ما اعتقده
 
مجال التأويل
(أو المجال البلاغي)
الوضوح الغموض
الوضوح المبني المفيد الغموض
غير المبني غير المفيد
خارج التأويل
أي (خارج البلاغة)
فحيث تنعدم القراءة ينعدم "العمل الأدبي"؛ إذ العمل نتاج تفاعل القارئ والنص.
ب.1.2.1-قطب الوضوح:
البناء: النص والقرائن.
إن وضوح مقاصد المعاني لا يعفي، في نظر الجرجاني، من بناء المعنى الشعري، يقول: "هذا، وليس إذا كان الكلام في غاية البيان وعلى أبلغ ما يكون من الوضوح أغناك ذاك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفا، فإن المعاني الشريفة اللطيفة لا بد فيها من بناء ثان على أول، ورد تال إلى سابق. أفلست تحتاج في الوقوف على الغرض من قوله: "كالبدر أفرط في العلو" إلى أن تعرف البيت الأول فتتصور حقيقة المراد منه ووجه المجاز في كونه دائيا شاسعا وترقم ذلك في قلبك ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى وترد البصر من هذه إلى تلك، وتنظر إليه كيف شرط في العلوم الإفراط ليشاكل قوله "شاسع" لأن الشسوع هو الشديد من البعد ثم قابله بما لا يشاكله من مراعاة التناهي في القرب فقال "جد قريب". فهذا هو الذي أردت بالحاجة إلى الفكر، وبأن المعنى لا يحصل لك إلا بعد انبعاث منك في طلبه واجتهاد في نيله"(32).
توضيــح:
من الأبعاد التي فقدتها البلاغة بعد عبد القاهر الجرجاني التفاعل بين "مغزى" الخطاب وبين بنيته اللغوية، وليس ذلك في مستوى ما قنن ضمن ملاءمة الخطاب للمقاصد، بل فيما يمكن إدخاله في باب القرائن والمؤشرات. فالمعاني تستكمل ويتبين وجه التأويل فيها بالنظر فيما قبلها وما بعدها. وفي هذا السياق يرد "القصد" أحيانا، وهو لا يعني هنا أكثر من المسار العام للمعنى حسب السياق الداخلي للنص، فـ"القصد" هو ما يدل عليه النص في انسجامه العام حسب اجتهاد قارئ أو مجموعة قراء. وبذلك لا يكون أكثر مما أمكن المؤول بناءه حسب كفاءته محاولا تحقيق انسجام بين "مغزى" النص، أي مساره الدلالي وبين البناء اللغوي. فقول مزرد، مثلا:
فما رقد الولدان حتى رأيته على البكر يمريه بساق وحافر
يستفز القارئ بوجود مفارقة بين "مغزى" المدح بالشدة في مجال الفروسية، وبين استعمال "الحافر" للإنسان، وهو للحيوان أصلا! أصحاب الضرورة -وهم أصلا نحاة- "قالوا: إنه أراد أن يقول: بساق وقدم، فلما لم تطاوعه القافية وضع الحافر موضع القدم"(33)، وقولهم هذا قابل للتأييد بالمغزى المستفاد من قوله بعده:
فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا بهذا المحيا من محي وزائر
فهذا الامتداد يبعد مظنة "قصد الزراية عليه". أي سخرية. لا يستبعد الجرجاني أن يدل البيت في هذه الحدود اللسانية والسياقية على شيء مما ذكر، فـ: "ليس يبعد أن يكون فيه شوب مما مضى". ولكنه يفضل أن يستأنف القراءة ويعيد بناء المعنى اعتمادا على بنية النص كله أو أكثره. فلا يبعد في نظره "أن يكون الذي أفضى به إلى ذكر الحافر: قصده أن يصفه بسوء الحال في مسيره، وتقاذف نواحي الأرض به، وأن يبالغ في ذكره بشدة الحرص على تحريك بكره، واستفراغ مجهوده في نفسه. ويؤنس بذلك أن تنظر إلى قوله قبله [مباشرة]:
وأشعث مسترخي العلابي طوحـت به الأرض من باد عريض وحاضر
فأبصر ناري، وهي شقراء أوقــدت بعلياء نشز للعيون النواظـــــــــر
قال الجرجاني مقلصا المسافة بين هذا الوصف وبين استعمال الحافر، أو مؤنسا "الحافر" حسب لفظه: "فإذا جعله أشعث مسترخي العلابي فقد قرب المسافة بينه وبين أن يجعل قدمه حافرا ليعطيه من الصلابة وشدة الوقع على جنب البكر حظا وافرا"(34).
ب.2.2.1-قطب الغموض:
إن مهمة القارئ تكبر مع تعقد العلاقات حتى نكون أمام نصوص أو صور تقتضي الانتقال من مستوى إلى مستوى ثان وثالث حسب كفاءة القارئ المؤول قبل الوصول إلى منطقة المكونات أو جهات النظر. من أبرز أمثلة ذلك عنده تخريج أو تأويل قوله تعالى في بني إسرائيل: "مثل الذين حملوا التوراث ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا". قال:
"بيان ذلك أنه احتيج أن يراعى من الحمار فعل مخصوص وهو الحمل وأن يكون المحمول شيئا مخصوصا وهو الأسفار التي فيها أمارات تدل على العلوم، وأن يثلث ذلك بجهل الحمار ما فيها حتى يحصل الشبه المقصود. ثم إنه لا يحصل من كل واحد من هذه الأمور على الانفراد ولا يتصور أن يقال إنه تشبيه بعد تشبيه من غير أن يقف الأول على الثاني ويدخل الثاني في الأول، لأن الشبه لا يتعلق بالحمل حتى يكون من الحمار، ثم لا يتعلق أيضا بحمل الحمار حتى يكون المحمول الأسفار، ثم لا يتعلق بهذا كله حتى يقترن به جهل الحمار بالأسفار المحمولة على ظهره، فما لم يجعله كالخيط الممدود ولم يمزج حتى يكون القياس قياس أشياء يبالغ في مزاجها حتى تتحد وتخرج عن أن تعرف صورة كل واحد منها على الانفراد بل تبطل صورها المفردة التي كانت قبل المزاج وتحدث صورة خاصة غير اللواتي عهدت ويحصل مذاقها حتى لو فرضت حصولها لك من تلك الأشياء من غير امتزاج فرضت مالا -لم يتم المقصود ولم تحصل النتيجة المطلوبة وهي الذم بالشقاء في شيء يتعلق به غرض جليل وفائدة شريفة مع حرمان ذلك الغرض وعدم الوصول إلى تلك الفائدة واستصحاب ما يتضمن المنافع والنعم الخطيرة من غير أن يكون ذلك الاستصحاب سببا إلى نيل شيء من تلك المنافع والنعم"(35).
يحتاج القارئ إلى عمليات رقن ومحو ذهني منتقلا من المحصل إلى المتوقع في حوار بين العناصر والتراكيب مستفزا بالمفارقات. إذ تكمن المفارقة النصية هنا في تحصيل السبب وإضاعة المسبب. ويتم المزج عن طريق إبطال صورة المفرد وتعويضها بالمزيج. ولكن هل الإبطال ممكن أصلا، أم إنه أمر غير إرادي؟ يذكر هذا المسلسل بمفهوم وجهة النظر المتنقلة داخل النص عند إيزر كما يذكر بجماع الرؤى، أو تقاطع العناصر.
وعموما فإن موقف الجرجاني في تحديد منطقة التفاعل -وقد برر بلاغيا بجدوى الجهد المبذول في العمل المبني بين القطبين المحددين لتخوم منطقة التأويل -ينسجم مذهبيا مع الموقف السني بين غلاة المؤولين وغلاة الظاهريين بل يستهدي به. يقول بصدد موقف الفرق الدينية من المجاز: "فمن مغرور مغرى بنفيه (أي المجاز) دفعة؛ والبراءة منه جملة، يشمئز من ذكره، وينبو عن اسمه، يرى أن لزوم الظواهر فرض لازم، وضرب الخيام حولها حتم واجب، وآخر يغلو فيه ويفرط، ويتجاوز حده ويخبط، فيعدل عن الظاهر والمعنى عليه، ويسوم نفسه التعمق في التأويل، ولا سبب يدعو إليه"(36).
ب.3.1-عملية التبين: الجزء والكل؟
اكتست قضية التبين (التمثل، الاستيعاب، الإدراك، الفهم) بعض الالتباس في أعمال البلاغيين ومنظري جمالية التلقي. لا نريد أن نعود هنا إلى مفهوم "التعرف" في بلاغة أرسطو ولا إلى تأويله في البلاغة العربية مع الفلاسفة إلى "استدلال" بالنظر في أدواته(37). الذي يلائم، في نطاق ضيق، ما نحن فيه هو طبيعة العملية: هل يتم إدراك "الموضوع" دفعة واحدة وبشكل شمولي، أم يتم جزئيا وبشكل بنائي؟ إن النزوع الفلسفي المغري يصب في القول بالإدراك الشمولي، ولكن العملية الجمالية البنائية تفترض أن يكون الإدراك قابلا للوصف التدريجي، والوصف التدريجي يقتضي السير في خطوات، وهذه الخطوات حتى وإن كانت بيداغوجية تعطي الانطباع، بل قد تقدم حجة على التبين جزئي تدريجي. إن الأمر أشبه بتبطيءالشريط وتنقيل الصور نقطة نقطة.
يمكن أن نلاحظ شيئا من هذا التردد، إن جاز لنا أن نسميه كذلك، في كلام إيزر. فمن المفاهيم الأساسية في عملية "فهم النص" عنده ما سماه "تحول وجهة النظر"(38). يستند هذا المفهوم إلى كون النص المخيل، أي النص الأدبي، لا يدرك مرة واحدة ومن الخارج، كما هو الحال بالنسبة للأشياء الجاهزة تجريبيا، بل يستكشف تدريجيا من الداخل: "لا نستطيع الإحاطة بالنص دفعة واحدة، بخلاف ما يحدث عند تبيننا لموضوع ما، فحتى وإن لم نتبينه إلا في جملته، في الوهلة الأولى، فإنه يكون شاخصا أمامنا بحذافيره. ومن هذه الزاوية يتميز النص عن الموضوع المتبين. "وهذا المسار الذي يتخذه القارئ، باعتباره جهة نظر متحركة داخل حقل الفهم هو الذي يؤمن (أو يضمن) خصوصية الموضوع الجمالي في النص المخيل"(39). إن الارتماء في النص سيستتبع، لا محالة، التلون بألوانه.
وفي كلام عبد القاهر الجرجاني تكامل بين البعد الفلسفي (الإدراك الشمولي) والوصف الجمالي القائم على إعادة تشكيل المتبين، بالنسبة للقارئ عامة مبدعا وواصفا. يفرق بين نوعين من المعرفة، أو بالأحرى لحظتين منها: "اعلم أن معرفة الشيء من طريق الجملة غير معرفته من طريق التفصيل"(40).
فالمعرفة الإجمالية عامة تشمل الغريب والمبتذل، فـ"الجملة أبدا أسبق إلى النفوس من التفصيل"(41). "وإذا كانت هذه العبرة ثابتة في المشاهدة، وما يجري مجراها مما تناله الحاسة، فالأمر في القلب كذلك: تجد الجملة أبدا هي التي تسبق إلى الأوهام، وتقع في الخاطر أولا، وتجد التفاصيل مغمورة فيما بينها، وتراها لا تحضر إلا بعد إعمال التفصيل، وكلما كان أوغل في التفصيل كانت الحاجة إلى التوقف والتذكر أكثر، والفقر إلى التأمل والتمهل أشد"(42).
هذا التبين الشمولي كاف بالنسبة للمبتذل المألوف البسيط التركيب(43)، في حين يتطلب الغريب المركب قراءة ثانية، قراءة تفصيلية: من الجزء إلى الكل. وهذه القراءة بناء جديد قائم على الانتقاء. "وبإدراك التفصيل يقع التفاضل، بين راء وراء، وسامع وسامع، وهكذا. فأما الجمل أي المجملات فتستوي فيها الأقدام، ثم تعلم أنك في إدراك تفصيل ما تراه وتسمعه أو تذوقه كمن ينتقي الشيء من بين جملة، وكمن يميز الشيء مما قد اختلط به، فإنك حين لا يهمك التفصيل كمن يأخذ الشيء جزافا وجرفا"(44).
فالقراءة الخاصة، أي قراءة النص، أي المزية البلاغية قراءة انتقائية، تختار موادها وتبني تصورها.
من المفاهيم القرائية المفترض إثمارها في قراءة النص الشعري القديم مفهوم "موقع القارئ". وذلك بالنظر إلى أنه فحص، في جمالية، إيزر على مستوى الجملة، وتوالي الجمل. فبالاستناد إلى علم النفس اللساني(45) وإلى مفهوم التوقع في ظاهراتية هوسرل(46) انتهى إيزر إلى أن النقلات القرائية داخل النص تمثل لحظات يتفاعل فيها المحصل مع المتوقع، حيث يوجد المتلقي عند تقاطعهما. يتكشف هذا المسلسل القرائي عن واقعة أساسية وهي تحول جهة النظر داخل النص لتنفتح بذلك آفاقه الداخلية.
ب.2-الأداء أو المعالم الإنشادية وتوالد المعاني:
ب.1.2-معالم:
إذا كان تلقي العمل السردي ينظر إلى بناء الحدث ومكوناته الاجتماعية والدلالية وغيرها ليتحدث عن مستويات تبنين النص من خلال القراءة فإن من الطبيعي أن ينصرف البحث حين يتعلق الأمر بالشعر العربي، وبالشعر القديم خاصة، إلى عملية التأويل الإنشادي أو الأداء في المقام الأول، (وإلى المكونات الاستعارية والمجازية في المقام الثاني). إن مما يريحني اليوم في مسعاي لتأمل الشعر العربي والبلاغة العربية من زاوية عملية التلقي أني وصلت إلى كثير من النتائج، التي سأعرض بعضها هنا -فيما يخص الأداء- وأحيل على أكثرها، انطلاقا من المؤشرات النصية في عمل ذي طابع بنيوي. لقد أحسست حين إنجاز كتاب تحليل الخطاب الشعري: البنية الصوتية في إطار بنيوي لساني على العموم أن لا كمال لتلك الدراسة بدون الخوض في القضايا القرائية، فاستعنت بمفاهيم علم القراءات، ممهدا بحاشية توجيهية تحصن المنطلق البنائي، جاء فيها: "وقد تثار في هذا الفصل قضية القراءة والإنشاد، وسنعرض لبعض قضايا الوقف وأثر المقاصد فيه، غير أننا نعتبر المشكل مشكل تأويل للنص، ونحن إنما نرصد المعطيات اللغوية والمؤشرات النصية التي تسمح بتعدد القراءة. ولا نود أن نصل إلى الجزم بقراءة واحدة، ولا تزكية أية قراءة حتى ولو كانت قراءة المؤلف نفسه. وقد عرض ياكبسون لهذه المعضلة فقال: "إن وصف الأبيات كما نطقت في الواقع" أمر قليل الأهمية بالنسبة للتحليل التزامني والتاريخي، سواء بالنسبة للشعر نفسه أو بالنسبة لإنشاده في الماضي والحاضر، والأمر بسيط وواضح،"إذ "توجد إنشادات متعددة ممكنة للقصيدة الواحدة يختلف بعضها عن بعض من جهات عدة، إن الإنشاد حدث، أما القصيدة نفسها فيجب أن تكون بوجه أو بآخر شيئا يدوم بمجرد ما يتفق على القول بأن لها وجودا خاصا"(47)".
إن البعد القرائي الذي حاولنا وقتها إخراجه من المركز إلى الامتداد هو الذي نحاول اليوم تجريبيا تمتيعه بدور أكبر من خلال مفهوم موقع القارئ كما فهمناه أو كما أردنا أن نفهمه مع إيزر أو بعيدا عنه، وهذا مع تأكيدنا الدائم على أن منطلق البحث هو النص.
ب.2.2-تمفصل النص وإمكانيات القراءة (في الإيقاع):
يعتبر التنظيم الفضائي للشعر الحديث مجالا خصبا واسعا لإبراز الإمكانيات التي يتيحها النص الشعري للقراءة والتحقق. فبالإضافة إلى الرجوع الحر إلى السطر بحسب ما يراه الشاعر من مؤشرات هادية حينا ومضللة حينا، هناك علامات الترقيم والتنسيق على البياض. فهذه كلها مؤشرات إضافية بالنظر إلى ما يشترك فيه النص الجديد مع النص الشعري القديم من موازنات صوتية، وإن كان من المفترض أن يكون حضورها في الشعر القديم أقوى. ولذلك يعتبر التضمين من أهم مكونات القصيدة الحديثة. أما في الشعر القديم فإن فعاليته تتحقق داخل البيت.
"فالبيت وحدة قائمة الذات، ولا يخامرني شك في أن اختيار هذا الاسم "بيت" كان ناتجا عن شعور بهذه الوحدة والاستقلال داخل مجموع البيوت أي داخل الحي. ففي البيت كل أسباب الحياة: تولدها وحفظها ونهايتها. والبيت حدود مع الآخرين. وللبيتين معا (بيت الوبر وبيت الشعر) أسباب وأوتاد وعروض..الخ. داخل البيت تجري كل الحوارات البناءة بين الدلالة والنظم. ويبدو أن انتقال هذا الحوار إلى الخارج في الشعر الحر ناتج عن تلاشي مفهوم البيت ليحل محله مفهوم القصيدة والمقطوعة والمقطع. وكنا رأينا ابن طباطبا يحاول تجاوز سلطة البيت لصالح سلطة القصيدة، غير أن موقفه ذلك لم يوقف التيار العام، تيار الاستقلال. إن البيت وحدة دلالية وإيقاعية منفصلة. يمكن الاستئناس هنا بما ذهب إليه أصحاب الموشحات من وضع قفل للبيت وحصره حين نزع، بفعل عوامل جديدة، إلى توسيع حدوده، فكان أن تكونت القصائد (الموشحات) من أبيات لكل منها قفله الذي يفصله عن غيره من الأبيات.
إن فتح الأبيات، إذن، في الشعر القديم ليس سلوكا طبيعيا، فهي إما أن تفتح لضرورة كما ذكر ابن رشيق، ضرورة السرد، وإما تفتح تحديا وثورة كما هو الحال في الافتقار والبتر.
ونظرا للطابع الخطابي المذكور فإن العنصرين، عنصر النثرية وعنصر النظم يعملان، في الشعر القديم، لا باعتبار أحدهما نفيا للآخر، بل باعتباره محركا لقوى التعارض فيه. فليس من الممكن في الشعر القديم مقابلة الجملة بالنظم مقابلة تناف، بل المقابلة مقابلة تعارض واستحضار. إنه يعطي إمكانيات هائلة لانفتاح النص وتعدديته. فالنص الشعري الجيد الذي يستثمر المعطيين استثمارا جيدا يقبل التأويل المتعدد كما سيتوضح من تحليل بيت أبي تمام (بيض الصفائح.. الخ). فالانزياح ليس انزياحا عن قاعدة اللغة، بل هو انزياح عما يقتضيه عنصر آخر من عناصر البناء. ومن هنا يكتسي حديث يوري لوتمان عن المنسق والمخلخل أهمية كبيرة، إذا ما عمم ليشمل كل صور الاختلاف بين مقومين أو مادتين شعريتين تلعب إحداهما دور المعارضة بالنسبة للأخرى. ومن ثم فإن العنصرين يعملان معا حضورا وغيابا. فتغليب التقطيع الفونيمي الحافظ لدلالة الكلمات أو الوحدات المعجمية يغيب التقطيع المقطعي، ولكنه لا يلغيه، فهو يبتر الوحدات المعجمية ويحاول إخفاء التمفصلات والترابطات الفونيمية التي تكون دلالة الوحدة، ولكنه لا يصل إلى إلغاء هذه الدلالة التي يعيد المستمع-القارئ بناءها، فهي بالنسبة إليه عنصر غائب وليس عنصرا غير موجود. وإن العنصر الغائب للقارئ هو عنصر عامل بغيابه. إذ الغياب لا يساوي عدم الوجود أو الإلغاء.
وإذا كان الشاعر الحديث قد تصرف في البياض، ولعب بالوقف مشكلا فضاءات ملموسة معبرة، فإن الشاعر القديم قد استعمل الوسائل السمعية الترصيعية داخل البيت، وهي قائمة على توازنات شتى تشعر بحركية النظم، كما تشعر العلاقات النحوية والمنطقية بحركة الدلالة. وهما تياران يسريان في البيت ائتلافا واختلافا. ويجب الاعتراف، مع ذلك بصعوبة اكتشاف جوانب من هذه الصناعة بلغت حدا كبيرا من الدقة. في حين ينطق بعضها مفحصا عن فاعليته"(*) .
هذا ما يسمح به المقام، ونحيل القارئ المستزيد على كتابنا المحال عليه في آخر هامش من هذه المقالة.
 
هوامش:
1 - من الدارسين من رد جمالية التلقي إلى منحيين كبيرين: نصي ظاهراتي (إيزر ومن اقتفى أثره) وتاريخي تأويلي وسوسيولوجي (ياوس وآخرون) (انظر مقدمة الترجمة الفرنسية لـL'acte de lecture، ومنهم من جعلها أجيالا ثلاثة (انظر تقديم العدد 39 من مجلة Poètique وهو خاص بجمالية التلقي في ألمانيا) ومنهم من أدمج الأجيال مع الاتجاهات فجعلها أربعة مشاريع: ظاهراتي (إيزر وتأويلي هيرمينوتيقي (ياوس) واجتماعي تكويني (موكاروفسكي) وتجريبي نفسي واجتماعي (نوربين كروبن وشميدت) (إلرود إيبش "التلقي الأدبي". ص13). ويرى إيزر نفسه أن هناك تكاملا بين الاتجاه التاريخي الذي راده ياوس والاتجاه النصي الذي يعمل هو على تمكينه. يقول: "لا شك أن ما يعرف اليوم بجمالية التلقي أو نقد استجابة القارئ ليس نظرية موحدة كما يوحي بذلك اسمها. حقا، إن المفهوم يستلزم تيارين أساسيين من التفكير يمكن تمييز أحدهما عن الآخر بوضوح رغم تداخلهما. فالتلقي يركز على السيرورة التوثيقية للنصوص، ويرتبط أساسا بردود الأفعال والمواقف التي تكيف استجابات القارئ. ولكن النص نفسه هو في نفس الوقت شكل مسبق مبنين لتلك الاستجابات، بحيث يدمج قدرة الوقع الذي يبدأ السيرورة، ويبنينها إلى درجة ما". (آفاق نقد استجابة القارئ، ص211).
2 - نستحضر هنا كتاب: الواقعي والخيالي في الشعر العربي القديم (العصر الجاهلي). للأستاذ حميد لحمداني، الدار البيضاء 1997. ونحيل على ردنا عليه بمقال تحت عنوان "النقد غير المألوف في الواقع والخيال" في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 30/1/1998. ومقال آخر تحت عنوان "الواقعي والخيالي في البحث العلمي". بنفس الملحق بتاريخ 27/3/98.
ويمكن أن نضيف هنا أن هذا النقد الواصف للمعنى الجاهز والكلي القائم في النص يستند إلى خلفية بعيدة عن الفكر العربي الإسلامي. فقد "افترض هذا النموذج، كما يقول إيزر نفسه، أن الفن هو أرقى صيغة للمعرفة، يمثل الحقيقة كلها، إن لم يكن يشكل الحقيقة ذاتها، إلا أن الفن الحديث قد أبان عن أنه لم يعد بالإمكان اعتباره كصورة ممثلة لتلك الكليات، بل إن وظائفه الأساسية هي التعويض عن التصور الناتج عن الأنظمة السائدة لا التعبير عنها. ويبدو اليوم أن أسلوب التأويل الموروث عن القرن التاسع عشر يبخس العمل الأدبي بإنزاله إلى مستوى القيم السائدة في ذلك العصر. وهذا الشعور نتيجة طبيعية للمفهوم الهيجلي التي استعانت به هذه المعايير من أجل تأويل العمل والذي يقوم على اعتبار العمل "كمظهر حسي للفكرة" وفي هذا المجال خلق الفن المعاصر وضعية جديدة أيضا، فبدل المقابلة المتشبعة بالأفلاطونية بين الفكر والمظهر،فإن التفاعل القائم بين النص والمعايير الاجتماعية والتاريخية لمحيطه ولقارئه الكامن هي التي تكون حقل الملاحظة". (وضعية التأويل. الفن الجزئي والتأويل الكلي. دراسات سال. ع6، ص79). وقد تدخلنا في الترجمة العربية بما رأيناه مساعدا على وضوح النص وانسجامه اعتمادا على الترجمة الفرنسية لكتاب:L'acte de langage, p.37).
3 - انظر مقاله "التلقي والتأويل"، ترجمة محمد برادة، دراسات سال، ع6، ص11.
4 - L’Acte de lecture , p.218.
5 - و.إيزر. وضعية القارئ، الفن الجزئي والتأويل الكلي، دراسات سال، ع7، ص79.
6 - مقدمة الطبعة الألمانية لكتاب: فعل القراءة (ضمن الترجمة الفرنسية L'acte de lecture). لا نريد أن نخوض في الانتقادات والتحفظات التي أثارها تفريق أقطاب جمالية التلقي خاصة ياوس بين الأثر والتلقي ونكتفي بالإحالة على الأمثلة الكثيرة التي أوردها كونتر جريم فيما ترجمه عنه أحمد المأمون بعنوان: "التأثير المصطلح والموضوع" في مجلة دراسات سميائية أدبية لسانية. ع7، ص16-31، ويتضمن مآخذ كثيرة.
7 - L’Acte de lecture, p.197.
8 - نفسه، 198.
9 - نفسه.
10 - W.Iser. L’Acte de lecture, p.6.
11 - ما بين معقوفين ورقة كنت أعددتها كملخص أولي للمساهمة في ندوة التلقي والتأويل التي نظمت سنة 1992 بالاشتراك بين جامعة محمد الخامس ومؤسسة كونراد الألمانية. وصدرت أعمالها تحت عنوان: من قضايا التلقي والتأويل. ضمن منشورات كلية الآداب بالرابط سنة 1995. ولأن ظروفا شخصية لم تسمح، في آخر لحظة بالمشاركة، فقد بقي هذا الملخص في الأرشيف حتى اصفر ورقه. لم أدخل عليه الآن غير تغيير طفيف في آخره.
12 - من المنظرين الكبار الذي كان لهم تأثير عالمي في إعادة النظر في مفهوم الأدب بتأكيد نسبيته، فاستحق بذلك أن يوضع في طليعة مؤسسي جمالية التلقي، موكاروفسكي. يقول إلرود إبش: "كان طموح ميكاروفسكي أن يتجاوز، في آن، المثالية والميتافيزيقا الاستتيقية وكذلك علم النفس الفردي للإبداع، وكان الوصول إلى هذا الهدف يقتضي الاعتراف بالقيمة الاصطلاحية والوظيفية للفن.. إنه يتخلى عن التساؤل الأنطولوجي الذي طرحه أنكاردن: "ما هو جوهر العمل الفني، وكيف السبيل إلى معرفته؟" ليوكل للمجتمع، أو لفئة اجتماعية، مهمة التقرير بشأن الوضع الاعتباري الفني لنص أو لشيء ما". (التلقي الأدبي. دراسات سال، ع6، ص18). بعد هذا يقول الباحث: "إن موكاروفسكي ينجز امتدادا للشكلانية الروسية من خلال إضفاء الطابع التاريخي عليها وإعطائها هما تداوليا. لأجل ذلك نستطيع اعتبار وجهة نظره مندرجة ضمن نظرية التلقي". (نفسه 19. وانظر فوكيما وإبش 1977).
13 - انظر كتابنا: تحليل الخطاب الشعري: البنية الصوتية. ص48. وقد قلنا هناك (في سياق التقاء مع وجهة نظر كرانج في عدم كفاية أسلوبية التعبير (المرسل) وأسلوبية الأثر (الملتقي) ): "فالأمر لا يتعلق برفض هاتين الأسلوبيتين، أو القول بعدم جداوهما، بل يتعلق بتحديد المنطلق الأقوم الذي هو النص. إن أسلوبية الرسالة هي التي ينبغي أن تكون منطلقا لأي تقدم نريده للأسلوبية: "يجب إذن -حسب عبارة كرانجر- القول في وفاق مع وجهة نظر ياكوبسون أن التقدم الحاسم لنظرية أسلوبية يكمن في تركيزها أولا على الرسالة".
14 - (انظر الفصل الأول من كتابه: (L 'acte de lecture, Théorie de l'effet esthétique).
15 - بعنوان: (Théorie asthétisclier Wirkung) ترجم أغلبه إلى الفرنسية تحت عنوان:
La fiction en effet. Elément pour un modèle historico-fonctionnaire des textes “littéraires”.
16 - (La fiction en effet). Poétique 39, p.275.
17 - نهاية الكلام المقتطف.
18 - نفسه، 17.
19 - وضعية التأويل، الفن الجزئي والتأويل الكلي، ص77.
20 - نفسه، 78.
21 - أسرار البلاغة، 304.
22 - القصة في الأغاني، 8/29، ومنها: "فجعل يهمهم. فسمعت صوته عجوز في الدار فاطلعت في الدرجة حتى نظرت إليه، فإذا هو يحبو على الفراش عريان لما هو فيه، فانحدرت فقالت ضيفكم مجنون!".
23 - دلائل الإعجاز (شاكر)، 261.
24 - نفسه.
25 - نفسه، 265. وانظر الصفحة 509 منه.
26 - نفسه، 508.
27 - نفسه، 292. ومثله قول الشاعر:
إن السحاب لتستحيي إذا نظرت إلى نداك فقاسته بما فيها
"يوهمك بقوله: "إن السحاب"، أن السحاب حي يعرف ويعقل، وأنه يقيس فيضه بفيض كف الممدوح فيخزى ويخجل".
28 - أسرار البلاغة، 264.
29 - يقول: "وذلك مثل ما تجده لأبي تمام من تعسفه في اللفظ، وذهابه به في نحو من التركيب لا يهتدي النحو إلى إصلاحه، وإغراب في الترتيب يعمى الإعراب في طريقه، ويضل في تعريفه" (أسرار البلاغة، 121).
30 - L’Acte de lecture, p.199.
31 - أسرار البلاغة، 122.
32 - أسرار البلاغة، 123.
33 - أسرار البلاغة، 28.
34 - نفسه، 29.
35 - أسرار البلاغة.
36 - أسرار البلاغة، 339.
37 - انظر مقالنا: (تخليص الكليات، في قراءة فن الشعر)، في مجلة فكر ونقد، ع8، الرباط 1998.
38 - L’Acte de lecture, p.199.
39 - L'acte de lecture, p.200.. قال بعده: يزيد هذه الوضعية تعقيدا كون النص المخيل لا ينضب معينه حتى وإن سلك طريق التقرير في موضوعات معطاة تجريبيا. صحيح أنه يختار موضوعاته من العالم التجريبي.. غير أنه يفصلها عن سياقها التداولي. فيؤدي ذلك إلى "تفجير الإطار المرجعي" المساعد على تحديد المصرح به، ولذلك يظل القارئ مرتبطا بالنص لا بالمرجع. هذا، وأخشى، بالمناسبة، أن تكون الترجمة العربية قد حادت عن المعنى المقصود بقولها: "وهناك تعقيد آخر يتمثل في كون النصوص الأدبية تقوم فقط بتعيين الموضوعات الموجودة بشكل تجريبي". (فعل القراءة، ص57). ولعل الترجمة الفرنسية أدق في استعمالها عبارة "ne s'épuise pas" أي لا ينضب:
Cette situation se complique du fait que le texte de fiction ne s’épuise pas à “dénoter des objets empiriquement donnés”, p.200.
هذا في: L'acte de lecture ومثله في مقال:
La fiction en effet: "un texte littéraire ne s'épuise pas en effet d'être la dénotation d'un univers objectif empiriquement donné", p.274.
40 - الأسرار، 135.
41 - نفسه، 137.
42 - نفسه، 138.
43 - نفسه، 143-145.
44 - أسرار البلاغة، 142. وانظر هناك تبينا لصورة شعرية.
45 - استثمر ما عرف في هذا المجال بـ"المدى البصري-الصوتي أو فضاء الإدراك، وهو امتداد النص الذي يمكن تبينه في كل لحظة من لحظات القراءة"، هذه اللحظة التي نستطيع، اعتمادا عليها، توقع اللحظة الموالية" (L'acte de langage, p.20).
46 - نفسه، 203.
47 - تحليل الخطاب الشعري، 233. و Jakobson.R.Essais de linguistique générale,p.231
 
المراجع:
ـ أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، دار الثقافة، ط5 لبنان 1981.
ـ إلرود إبش، التلقي الأدبي، ترجمة محمد برادة، دراسات سال، ع6، ص11-37.
ـ إيزر فولفغانغ، أ) نظرية الأدب من منظور تحقيقي، الأسس الفلسفية وآفاق الاستثمار، ترجمة عز العرب لحكيم بناني، مكتبة المنهل، فاس 1997. ب) وضعية التأويل، الفن الجزئي والتأويل الكلي، فصل من كتاب The Act of Reading ترجمه عن الإنجليزية حفو نزهة وبوحسن أحمد. مجلة دراسات سال، ع6، 1992، ص69-84. ج) آفاق نقد استجابة القارئ، ترجمة أحمد بوحسن ومحمد مفتاح، ضمن: قضايا التلقي والتأويل. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. رقم 36. 1995.
ـ الجرجاني عبد القاهر، أ) أسرار البلاغة، تصحيح محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت 1981. ب) دلائل الإعجاز، ت.محمد رشيد رشا، دار المعرفة، بيروت 1987.
ـ العمري محمد، أ) تحليل الخطاب الشعري، البنية الصوتية، طبع الدار العالمية، الدار البيضاء 1990. ب) الرواية والاختيار، تأمل تاريخ الأدب العربي من زاوية تلقي الشعر القديم. في نظرية التلقي إشكالات وتطبيقات. منشورات كلية الآداب. الرباط 1993.
ـ كونتر جريم، التأثير والتلقي، المصطلح والموضوع (مقتطف من كتاب) ترجمة وتقديم أحمد المأمون. مجلة لدراسات سال، ع7، ص16-31.
ـ مشبال محمد، الأثر الجمالي في النظرية البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني، مجلة دراسات سال، ع6، ص126-140.
المراجع غير المعربة:

Iser Wolfgang.
a-L’acte de lecture. Théorie de l’effet esthétique. Traduit de l’allmand par Evelene Sznycer. Pierre Mardaga Editeur. Bruxelles. 1985.
b-La fiction en effet. Elément pour un modèle historico-fonctionnaire des textes littéraires. In Poétique. n°39. Septembre 1979, p.274.
هو ترجم إلى الفرنسية لأغلب ما ورد في بحث لإيزر بعنوان: Théorie asthétisclier Wirkung.
Jakobson Roman. Essais de linguistique générale. Ed. de Seuil. Paris 1963.