أَثِيــرُ الْفَرَاشَــــات.. : صدى روح المبدع وصوته المُتَمَوِّجِ تموجات الذاكرة والحياة ـ سعيدة الرغيوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ومضات " أثير الفراشات" للمبدع " محمد حماس" نغمٌ مُعَطَّرٌ بانفلاتات الروح والذات ..تنطلق من الوجدان لتتسربل بقشيب الرًّبيع وبهائه ودروب وألوان الحياة بكل تفاصيلها وتمفصلاتها وتنقاضاتها وزخمها وبالعشق وطقوسه وتقلباتــه ..
تُراوِدُ السُّكون عن سكونه وصمته، تُحاكي صور الذَّات الكاتِبة/الْمُبْدِعَةِ  لتجعلها تحكي وتسرد وتحتفي وتنسج صوراً متعددة من محطات حياتية للذات المبدعة.
هي لوحات لفراشات تطير من أقحوان إلى آخر، تتجسَّد ُ حيناً قبسا من نُورٍ،وحيناً آخر نبرة غضب وآحايين أخرى تستدعي الذكريات وتقتحمُ الصَّمت وتَرْكبُ يمَّ اللُّغة لتَتَدَفَّقَ أغْنياتٍ وألحان،تارة بعين الحنين والشَّوق وتارة بعبق حروف الأمل المُسْتَنْبَتَةِ في زخم الألــم والوجع.
" أثير الفراشات" يُبَدِّدُ صمت الذَّات المبدعة، يستنطقها لتبوح بمكنوناتها، فتقتحم صمت المبدع وتتوغَّل فيه لِتكْشِف عن خبايا هذه الذات بِلُغَةٍ أَنِيقَةٍ.

إنَّ المبدع من خلال هاته الومضات يشاركنا أحاسيسه المتباينة فينقل لنا إحساسه بالفرح الذي نَاسَمَ الفُؤاد، فانسكب كؤوس فرحة عارمة " ص11" من الكتاب .يرسم لنا لوحة الفرح من خلال حضور: ( الأمل- الجمال- تحليق الطَّير صباحاً تَارِكاً غُصْن شجرة- خفقان قلب..ثم انفلات اللَّحظات من قبْضة الزَّمن والجغرافيا).ويحدث أن تنكتب الأحاسيس والمشاعر حفْنات منْ أحلامٍ ..ونورٍ وفرحٍ وأَملٍ...
في "أثير الفراشات" انتقالٌ وتِجْوالٌ بين عرْصات هاته المشاعر التي تجتاح الذات المُبْدِعة..التي هي لاغَرْوَ  دفقات الرُّوح وفَيْضِ الْخَاطِرِ.
يَتَوشَّح الكاتب ريشة الإبداع لينقل لنا دفقاته الروحية الوجدانية ،فتَسَّاقط حُروفاً بَهِيَّة ألقة تُلامِس إحساس القارئ/ المتلقي الذي يسْتعْذِبُ اهتزازات الحروف وترانيمها.
"أثيرُ الفرشات" أو " صدى الرُّوح" استرجاعات واستدعاءات ..حنِينٌ وعزْفٌ على أوتار الرُّوحِ المبدعة والشَّاعرة التي تُغدِّي تجربتها في عالم الكتابة والإبداع من االنَّحت من عالم الطَّبيعةِ والإنسان بكل تلاوينه،فيرسم المبدع لوحة فرحٍ غامرٍ وهذا مايبرز في " ص 12"  في ومضة " فرح" و" ص " 13 في ومضة " نُورٌ".
إنَّ المُبدعَ " محمد حماس" يُدغدغ حواس المتلقي بتوليفاته المتناغمة ونسيجه الإبداعي وكيمياءات الروح المتجانِسة وكأنه يعزِفُ نوتات موسيقى هادئة تُغْري النَّفس وتُطربُ الأسْماعَ.
يقول في ومضة " غَضَبٌ غَضَبْ.."

لاَنَشيدَ وَلاَعِيدَ ..ولاَ أَنْتِ ..وَلاَوِشَاحَ أَحْمَرَ ولاَتولِيبْ ..ولاَنَبَاتَ ولاَشَجَرَ...إلخ.
هي توليفةٌ من الكلمات المنفية المُعَبِّرة عن لحظَةٍ انْفِعالِيَّةٍ ساقها بأسلُوبٍ سَلِسٍ مُتَمَوِّجٍ.
فَأَجْمِلْ بالْعزْفِ على أوْتارِ الحُروفِ الْبَدِيعَةِ !!.
استدعاءاتٌ تَعْبُرُ الذَّات المُبدعة التي أفرغتها في شكلِ ومضات إبداعية شعريةٍ أنيقةٍ، ورد في ومضة " ارْحَلِي أنَّا شِئْتِ " ص 16" من الكتاب :

..وَلَمَّا قَالَتِ الْفِرَاقْ..سِرْتُ يَوْمَئِدْ لَسْتُ أَدْرِي إلَى أَيْنَ الْمسَاقْ..كَانَ الْعِنَاقْ ..واشْتَدَّ الرِّياءْ ..ظَنَنْتُ أَنَّ عِشْقَكِ حَق ..والتُّولِيبَ حَقْ ..وَرِجْلَيْكِ النَّحِيفَتَيْنِ تُدَاعِبَانِ مَاءَ الشَّلاَّلِ حَقْ..
إلى أن يقول على شاكلة درويش في إحدى قصائده :

القَمِيصُ الْأبْيضُ ..لِي..
فِنْجانُ الْقَهْوَةِ ..لي..
سَهَرُ اللَّيَالِي ..لِي ..
الْفَرَاشَاتُ ..لِي ..
الصُّوَرُ وَالذِّكْرَيَاتُ وَالْقُبُلَاتُ الْحَارِقَةُ لِي وَالْوِشَاحُ الأحْمَرُ ..لِي ...

...إلى قوله في ص 17 في ذات الومضة:
تَقَلُّبُكِ أَنَاءَ الْعِشْقِ ..لَيْسَ لِي ..

فالمبدعُ يُراوغُ السُّؤَال لِيَرسُمَ بالحرف الغيمات المطِرَة التي تغذق من فيْضِ حنانها على سنابل حقل الأحلام في ومضة" لمَ تَسْأَلِينَ عَنِّي ..؟.

" أثيرُ الْفرَاشَاتِ"،سردٌ،وصْفٌ ماتِعٌ ولغة جذَّابَةٌ ورسْمٌ للوحات الوجدان والعاطفة بالحرف والكلمة..يسكُنُ الحلم ذات المبدع الشاعرة ويستوطنها فيمشي بين الزهر والفراشاتِ رغم ملامِح الغدْرِ التي تشي بها ومْضة "صُورَةٌ منْ ذِكْراكَ".
كما يُحاولُ ترميم الذَّات الحالمة كُلَّما اشْتَدَّت به حالة العِشق من خلال إتلاف وحذْفِ كُلٍّ سُبُلِ الْعِشْقِ أو إيحاءاته وهذا مايتبَدَّى في ومضة " ذاتُ الوشاحِ الْأَحْمَرْ.. " ص 22" من الكتاب.
كما أسلفت الإشارة "الومضات" استدعاء لمحطَّاتٍ حيَاتية ولمشاعر وأحاسيسَ مُتبايِنةٍ اجتاحت الذات المُبدعة فانبرت لتدوينها بحس شاعرِيٍّ مُرْهَفٍ من خلال امتطاء صهوة الحرف الذي يأبى إلا الانكتاب من خلال لغة أنِيقَةٍ جميلةٍ وشاعرية.
يشتغل المبدع ويحرص على انتقاء مفرداته بعنايةٍ وكأنه ينسجُ نَسِيجاً بهِيا أو يصنع عقدا بديعاً قوامه اللغة الرَّشيقة وهذا ما لمسته في ومضَةِ " حجَرٌ ..حَجَرْ" ص " 24 من الكتاب، بل أكثر من ذلك  هو  يعزف على وتر الروح أو يجرب نوتة موسيقية يحكمها التناغم والتساوقُ والانسجام ..
هي ذِكرياتُهُ الْحُبْلى بالعشق/ عشق الأنثى  ..تتضح من خلال رسمه بالحروف وتصويره لحالة العشق التي انتابته حُيالَ صاحبة الوشاح الأحمر التي نزلتْ من نفسه  منزلة أميرة البراري والأشعار.

استنتاجات عامة:

لا يجسر الكاتب على نقل أحاسيسه بكل صدق إلا إذا انتصر صِدقاً على ذكرى / ذكريات الألم ..فالمبدع يحفر في الذاكرة ويشاركنا في العديد من محاطاته الحياتية التي تعكس مشاعره ودفقاته الشعورية والانفعالية.
قد لانُمسك بحقيقة المشاعر والأحاسيس،لكن جميل جدا أن يكون صدى الكتابة كفيلٌ بنقلها بأمانة وإِحْساسٍ .. تحضر في الومضات تفاصيل الاشتياق والحنين والحب والهيام بكثرة، وهذا ما يُسْتَشَفُّ من خلال المعجم الدلالي الآتي: ( الحبيب، أحبك، الحب ص 110) – (( أضناه الجوى، درب العشق ص106 )) – (( ثمار العِشق ص 104 ..)).
إن المبدع يرسم الأنثى في شكل قصيدةٍ باذِخَة التفاصيل كما يتجلى ذلك  من خلال نص" قصيده " ص 107".
فإذا ماقمنا بإحصاء عدد مفردات العشق نَلْحَظُ أن هذا المعجم قد هيمن بشكل كبير:( العشق الأبدي- نحب- حُبِّنَا- أحِبُّكِ وَأحِبُّ وِشاحَكِ – حبِيبَتِي – رسائلُ عشقك- حُبُّكِ – تورَّطْتُ في حُبِّكَ- كم أحِبُّكِ– وَجْد- ثمارُ العشق- تعشقني- دروب العشق ص - 103 أنغام عشق ص 102..إلخ ).
إنَّ مرافئ ذات الكاتب ترتحل فتنكتب ومضات تعكس وعي الذات الكاتبة باللَّحْظةِ التي عاشها أو بالأحرى اللَّحظات المُسترجعة والتي صارت ذكرى أحياها الحرف عندما عانقت البياض وداعبتْ الفكر، ففي ومضة " لون المدينَةِ ص 58" تصوير ٌ دقيق لقصة المعاناة التي يعيشها أبناء مدينة الفحم ..فهناك عملية اختزالٍ لمكابدتهم ومأساتهم من خلال تحول الحلم والأمل إلى خرابٍ ورمس وهذا ماتعكسه الأفعال الموظفة في هاته الومضة:
بَنىَ اَملاً وحُلماً  : ( الحلم والأمل)
رحل الرِّفاق ..رحلوا ..الحي رَمْسٌ والدِّيار غِربَانُ بَيْنٍ تَنْعِي الخرابا : ( حالة الموت والخراب).
كما يصور خذلان الضمير الجمعي" هم" / الكلاب لوجع أثنى الجبال التي تصرخُ صمْتاً أو موْتاً ويتردَّدُ صدى وجعها  دون استجابة، وهذا مايُستشف من ومضة " مخاض".
إن أثير الفراشات حلم محلق في سماء العشق بكل مدلولاته والجمال والانطلاق، وكأن بالمبدع يرغَبُ في القول : " هذه الومضات أثير فراشات جميلة مختلفة الألوان، فهناك إبدالات كثيرة للعنوان : " (( أثِيرُنا أَثيرُ فراشاتٍ)) أو (( أنا وأنْتِ أثيرُ فراشاتٍ)) ..لكون المبدع يتوجه إلى مخاطب بعينه / المعشوقة / المدينة / أميرة البراري والتي تجسدت في نعوت وصفات كثيرة منها على سبيل الذكر لا الحصر: ( وجهها كلون القمح وقْتَ الحصاد في ومضة " خُلاَسِيَّه ص 91"، امرأة خَبِيرَةٌ بِفِتْنَةِ الأَلْوانِ " ص 89" ، أنْتِ زَهْرائِي، ...كالْغَيْمَةِ ، أسطُورَةَ أو وَشماً ، شظِية قُزَحٍ ونعوت كثيرة تتضافر مجتمعة لترسُم لوحة المرأة الحبيبة / الأرض والوطن ..

وصفوة القول الومضات صدى الروح المُبْدِعة التي هزَّت جذع الروح والوجدان فتساقطت ثِماراً غضة بهية تستعذبها الذات القارئة التي تتلَقَّى  النصوص بِحسٍّ واعٍ لترتتشف رحيقها كما الفراشات فيكون الأثير ويكون الأثر النَّاجم عن عملية تذوق النصوص والتي دونما ريْبٍ تتباين من متلق لآخر..إن القراءة الواعية العميقة غير المتسرعة هي الكفيلة بجس نبض النص ..
وكل قراءة حادتْ عن سبيل القراءة العاشقة العميقة المتأنية في أي عمل إبداعي كانت قراءة غير مُجدية وضرب من العبث ..
لقد انتهج المبدع " محمد حماس" سبيل الإيجاز والتكثيف الموحي والاختصار البديع الناًَّّبض بغزارة الإيحاءات في زمن مُتَّسِمٍ بسرعته، لاسيما وأن المتلقي بات ينحو نحو القراءة السَّريعة لكثرة ضغوطات الحياة، اختزالات وتكثيف حافلٌ بالإيحاءات والدَّلالات ..إنَّه يُعبر عن لحظة/ لحظات انْفِعالية بأسلوب بديع سلس من خلال ومضاته.

.....................................................................................................

محمد حماس:أديب وكاتب مغربي من مواليد مدينة تاوريرت، من منشوراته :
أضغاث أحلام، مجموعة قصصية، 2014(مطبعة مايلي وجدة)
امرأة تمارس طقوسها، مجموعة قصصية، 2014(مطبعة مايلي وجدة)
مقالات ونصوص قصصية بعدد من الجرائد والمجلات وطنية والعربية
كتاب جماعي في السرد ضمن منشورات الموكب الأدبي(3) جمعية كفايت ماي 2015، مطبعة digital garden.Oujda
 أضغاث أحلام وامرأة تمارس طقوسها، مجموعة قصصية في طبعة ثانية بدعم من وزارة الثقافة  المغربية، مطبعة Rabat net 2016؛
ست مجموعات قصصية للأطفال، (بدعم من وزارة الثقافة المغربية)، مطبعة Rabatnet، 2016
"أثير الفراشات" (ومضات)، مطبعة Rabatnet، 2016
مقال "الترجمة وقتل النص الأصلي"، مجلة المثقف الإلكترونية، العدد: 1353، الثلاثاء 23/03/2010
مقال: المد الصليبي في بلاد الريف  ونشأة الزوايا الدينية ، وذلك من خلال  كتاب ” ميشو بيللر ” “ا لزوايا الدينية في المغرب ”(مجلة وجهة نظر المغربية العدد 63/2015).
نفسه، تم نشره بمجلة عصور الجديدة/جامعة وهران، الجزائر (عدد 14/15، اكتوبر 2014)
مقال "مؤسسة المخزن في التراث السياسي الشعبي"، مجلة الكلمة (المغرب)، العدد 101، شتنبر  2015.
مقال " نيرودا.. الشاعر.. الدبلوماسي.. العاشق.."، بمجلة أتارغاتيس، يناير  2016
مقال: ملامح من تاريخ بلاد الأمازيغ، مجلة ليكسوس في التاريخ والعلوم الإنسانية، العدد الثامن دجنبر 2016.
إعداد كتاب جماعي "مبدعات من شرق المغرب"، منشوراك الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الشرق، المغرب، مطبعة Bureau Market، وجدة، 2017
عدد من المقالات في السوسيولوجيا والتاريخ بعدد من المنابر
المشاركة في عدد من الندوات العلمية
*) في طريق النشر:
مجموعة قصصية، القصة القصيرة، "ابنة عمي .. وشويهات جدي .."