"كِيَةْ لَحْروفْ" مخاض الإبداع وغربة الكلمة : قراءة في ديوان "كِيَةْ لَحْروفْ" للزجال يوسف الطاهري ـ د. محمد رحو

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

keyyete-lahroufeمقدمة:
"كية لحروف"1 هو الديوان الزجلي الثاني للشاعر الزجال يوسف الطاهري القادم إلينا من عسر الزمن المغربي، هذا الزمن الذي أنجب شعراء ومبدعين شبوا على القيم الوطنية والمبادئ الانسانية، فحملوا همومها، ودافعوا عنها بأرواحهم وأقلامهم. صدر سنة 2016 عن مطبعة نجمة الشرق ببركان، بعد ديوان أول "يا ما غدا العيد: قصائد من زمن الرصاص" كان قد عرف النور سنة 2010. يضم بين دفتيه اثنتي عشرة قصيدة وكلمة تصديرية بقلم الشاعر نفسه عنونها ب"قلق الكتابة وألم الفراق" انساحت جميعا على فضاء ورقي بلغ اثنتين وتسعين صفحة.
يلمح المتتبع لقصائد الديوان حضورا لافتا لأنا الشاعر، وما يلبث يستغورها حتى يحس حسيس هذه الأنا، ويتناهى إلى سمعه تصاعد أناتها وزفراتها بفعل ما تنوء به من هموم الحياة وأوزارها، مما جعلها تعيش حالة من التشظي بين عسر الإبداع وغربته، والرغبة في معانقة الحلم.


1-عسر الإبداع:
تحيا الذات الشاعرة حالة من التوتر والقلق جراء ما يلفها من آلام، وما يجثم عليها من أحزان كما يعترف بذلك الشاعر في غير ما موضع، يقول: "أنا عندي همْ مْوَدََََََََََََََََََََََرْ/ ْيدَوَََََََََََََََََرْ فين يسكن" ص 13. "كَانُوا خُوتِي وْ َراحُو/ ف هْمومْ الدنيا تْلاحُوا" ص 24. "بْقِيتْ تالفْ بْلا مْصِيرْ" ص34. "لْقِيتْ رايي غًامل.../لقيت الهمْ/ منْصُوبْ فُوُقْ ذْراعي" ص35- 36...
وهاته الهموم والأحزان كانت المحرك الأساسي نحو الكتابة والإبداع باعتبارهما متنفسا للذات، ومخرجا للأزمة، تنفض عبرهما ثقل السنين وتصوغ من خلالهما نظرتها للحياة، أو بعبارة أخرى تقترح البدائل وتبحث عن الحلول التي لا تكون بالضرورة حلولا فردية بالرغم من الطفو الظاهر لأنا الشاعر على سطح القصائد، وإنما هي حلول جماعية لحالات اجتماعية ونفسية تتطابق كليا أو جزئيا وهذه الذات الملتاعة. وهذا الازورار نحو الكتابة والإبداع في مثل هذه الحالات التي ترصدها قصائد الديوان، يعطينا تصور الشاعر للكتابة ومفهومه لها، وهو مفهوم نستعين في صياغته من خلال قوله في ص45 "أنا مَ جِيتْ نسعى ف الدنيا/ ل جَاهْ ومَالْ وضَلْ الهيبة/ أنا جِيتْ نشكي ونحكي/ ونَنْفَضْ من قلبي رْمادْ"
وإذا ما اعتبرنا إلى جانب هذا المقطع إقدام الشاعر على الكتابة منذ زمن بعيد كما يخبر بذلك ديوانه الأول "يا ما غدا العيد: قصائد من زمن الرصاص" وجدنا الكتابة عنده مبدأ وقضية، يتصدى من خلالها، وهو لا يملك غير يراع وقرطاس، للمبتذل من الحياة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وهي عنده قناة للجهر بما ضاق به الصدر وأشفق منه، ولا يبغي إلى غير هذا سبيلا، فلا الشهرة تعنيه، ولا تلميع الاسم يغريه، ولا أن يصنع له منها صولجانا إلى كرسي الزعامة يرقيه.
إن الشاعر وككل كاتب حر نزيه، يتخذ من الكتابة منبرا حرا للتعبير. لما استقوت عليه الهموم والأحزان، ولما جاءه المخاض، هرع إلى جذع نخلة الإبداع يهزها إليه، غير أن حروفها أبت أن تساقط. لقد أصيب الشاعر بحبسة في اللسان وإفحام في البيان، عبر عنهما في قوله: "ولا جْبَرْتْ فْراسي قْصايَدْ" ص44، "عَكْلَتْ لحروف حدْ لْساني" ص41، "مشِيتْ نْرَسِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِي لحروف عند العتْبَه/ وْنْرَكََََََََََََََََََََبْ علْ المخْزُون/ واللِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِي مدْفونْ ف راسي/ لْقيتْ رايي غامَلْ" ص35. وهذا ما ضاعف من حدة الألم عند الشاعر وزاد في شكواه، فأصبحت بذلك القصيدة في هذا الديوان أحيانا ترثي حالها لحالها.
إن ارتفاع شكوى الشاعر مما بات يعانيه من عسر في الإبداع، يعكس إرادته ورغبته في أن يصبح لقوافيه وقع الزلزال المدمر، والطوفان الجارف لكل أوجه الأسى، ولحظات الألم التي أتعست الانسان، فهو لا يبكي الكلام المسترخص ولا يتأسف على المعاني المقصوصة الجناح، فتلك مطروحة في الطريق، يأتيها القاصي والداني، وتنقاد للشعراء وأشباههم. إنه يشكو هجران الكلمة التي تمنحنا النور في هذا الكون، وهذا ما نستخلصه من خلال قوله: "غادي نْوَضِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِي لَكْلامْ/ غادي نَرْفَسْ حْروفو/ نْطَهرْ حْشَاهْ/ وَنْصَبَََََََََََََََََََنْ شْقَاهْ/ من الكية اللي كاوْياهْ" ص56، وقوله "نْوَضِِِِِِِِِِِِِِِِيهْ من وْسَخْ البراني/ نْلَبْسو معنى يواتيه/ نْسَوَََََََََََََََََكْلو ونْكَحَََََََََََََََلو عينيه/ ...إلى أن يقول: وْ يَخرجْ فايضْ بْلَمْعاني" ص28- 29.
لهذا فلا يجب أن يفهم أن عسر الإبداع عند الشاعر نضوب وجفاف في القريحة، وإعاقة في الخيال، فانعقاد اللسان، وتأبي الكلمة عن الخروج، قد يكون لأمرين كما يذهب إلى ذلك التحليل النفسي، وهما تأثير الحدث على النفس إيجابا أو سلبا، ففي حالة الحدث السلبي، تلتاع النفس وتحترق كمدا، فتغيب الكلمة وتستعصي عن الخروج، وفي حالة الحدث الإيجابي تقف النفس مشدوهة منبهرة بالمرئي فتتلعثم الكلمات وتندحر على حد اللسان. لذلك فلا مدعاة للقلق أو الوجل على قلم الشاعر من الانكسار، فالأمر لا يعدو سحابة صيف عابرة، سرعان ما سترجع المياه إلى مجاريها حين يصفو الجو، فتعاود الذات الشاعرة الارتباط بحبل الابداع، والشاعر نفسه يدرك هذا الأمر تمام الإدراك حين يقول في قصيدة "كية لحروف" ص 76- 77 "إلى حَرْنَتْ لحروف/ وكَفرت بالمعنى/ وْ ضَيْقَتْ علْ لكلام/ وْ قالت/ هاذْ لَقْصيدة مْصيدة.../ راهْ غ ما لْقاتْ اللي يرويها كِيفْ بْغَاتْ/ ولا اللي يْنَعََََََََََََََتْ لْها فِينْ/ تْلاََََََََََََََََََتْ ضَوْ القَبْلَة فين". فكل ما في الحكاية إذا هو غياب الحافز على الإبداع وانقطاع مجراه.
هذا التحليل هو ما تقدمه نصوص الديوان على الأقل، غير أن القراءة النقدية يمكن أن تذهب مذهبا آخر، فتجعل من جفاء الكلمة للشاعر، ونفورها منه، مدخلا لتجربة جديدة في الكتابة، أو انعطافا نحو جنس إبداعي جديد، فلماذا الوقوف عند أعتاب القصيدة الزجلية؟ ولماذا هذا الإصرار من الشاعر أن يعبر زجلا، فهل كتب للزجال أن يبقى زجالا طول عمره، فيصب في القصيدة الزجلية كل تجاربه؟. فبالإمكان أن تكون تلك الكلمات النافرة والعبارات المستعصية، قد أعلنتها ثورة على القصيدة الزجلية، لكونها لا تليق بمقاسها، ولا تنسجم والتجربة التي يحياها الشاعر، وحجم الأسى المستبد به، لكنها من جهة أخرى يمكن أن تنساب سلسة عذبة إذا ما أفرغت في قالب إبداعي آخر. أقول هذا لأن الظروف التي تعبر عنها القصائد لا يمكنها إلا أن تولد ردود أفعال إبداعية، لن تكون بالضرورة زجلا، وقد أثبت الدارسون أن الإنسان يتجه "إلى الخلق والإبداع عندما يتعرض لأوضاع صعبة، تتحداه إلى أبعد درجة ممكنة"2، يبقى فقط اختيار القالب القادر على احتوائها، فهلا بادر الشاعر إلى ذلك، وجرب جنسا إبداعيا آخر؟ في هذه المرحلة على الأقل، حتى يظل نهر الإبداع متدفقا ومتنوعا بتنوع التجارب والأشكال التعبيرية، وهكذا يسهم المبدع في إغناء الثقافة شكلا ومضمونا، ويسهم من ثمة في بناء الحضارة وتطور المجتمع.
  
2-معانقة الحلم:
لم يكن لجوء الشاعر إلى معانقة الحلم إلا رغبة منه في الخروج من سوداوية اللحظة، لحظة شكلها واقع الحياة في البداية، وغربة الكلمة بعد ذلك، فكان بذلك الحلم هو البلسم الشافي من عوادي الزمن وكدر الحياة، كما أنه هو الكفيل بانتشال الشاعر من مأزقه وأوضاعه اليومية، وفتح نظره على أفق حياتي جديد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذا الحلم سيغدو طاقة مغذية للمخيلة، يحررها من القيود والأسر، ويعيد للإبداع مجراه الطبيعي، يقول: "وِيلا غَيََََََََََََمْ قَنْطْ لحروف/ ف سْما حروفي/ وَ طْفَاتْ الضو من هْبالي/ غادي نْوَرَََََََََََََدْ عَطْشْ لكلام/ ب عْروسْ حْلاَمْ" ص16.
إن الشاعر وهو يرتمي في أحضان الحلم، لم يتمكن من صنع الابتسامة التي يريد، ومن تحقيق غاياته وأهدافه في هذه الحياة، فالحلم الذي ركبه كان جانحا، لم يسر وفق رغبة الشاعر، لذلك فبدل أن يخفف من النوازل، زاد من وطأتها، فكان هذا الحلم وجعا، كما يصفه الشاعر في قصيدة "وْجاعْ الحلم" ص51. فأحلام الشاعر هي الأخرى لم تسلم من وطأة الواقع، فقد امتدت إليها المآسي والأوجاع، فسعت إلى إجهاضها، وتكدير صفوها، يقول في ص88: "وَحْدِي لْقيتْ الليل/ سفَََََََََََََاحْ نْعاسي، عَوال يْوَجََََََََََََعْ الحلم/ و يْعَصَََََََََََََََبْ الماجي ف لَيامْ".
وبهذا أصبح الشاعر محاصرا من كل جانب، في يقظته وحلمه، وفي واقعه وخياله، شدد عليه الخناق، فلم يكن مسموحا له حتى بمناجاة النفس والارتقاء بها فوق الطبيعة، ولعمري تلك أقسى الظروف التي يمكن أن يحياها الانسان، اختار الشاعر أن يجعل منها صورة له، وكل محاولة لفهم الذات الشاعرة والاقتراب منها خارج هذا الوضع وهذه الصورة، سيكون لا محالة فهما خاطئا، وهو ما نبه إليه الشاعر في قصيدة "شكون يقرا دموعي" ص87. وأمام هذا المعطى وجدناه يتمنى لو أسعفه الزمن لأعاد عجلته إلى الوراء، فيعيد بناء حياته من جديد، فيكتب من ثمة يقول: "نكتب الحرف الأول/الضحك الأول/ الحب الأول"54. غير أن هذا المتمنى بالرغم من عزته يبقى مستحيلا، وفي هذه الحالة يكون الشاعر أمام خيارين: إما الاستسلام وتعليق وضعه على مشجب القضاء والقدر، وكأن الأمر تصريف سماوي، وهو ما لا ترضاه نفس جبلت على الإيباء والشهامة، أو التعايش مع الوضع ومجابهته بكثير من الإرادة والعزم، وهذا ما لجأ إليه الشاعر فوطن نفسه على التحدي وركوب الصعاب، كما يظهر من خلال استعماله للفعل مسندا إلى ضمير المتكلم في هذه العبارات: "نْطَوَََََََََََََعْ لَحْزانْ/ نْوَاطِي لَجْبال/ نْذَوََََََََََََََََبْ السحابْ" ص57. وإذا ما حدث هذه المرة وعفته العبارة، وكبا القلم، فسيكتب حلمه بالريح، بعد أن يروضه ويسقيه بالهم والأحزان، يقول: "غادي نكتب بالريح، نْوارْ القَبْلة/ وْ نَقلعْ المُرْ مَنْ عْروقْ الدفلة، و نَسْقِي الحلم/ بالهم وْ لَحْزانْ" ص56.
فأن يصبح الهم والحزن مادتين في يد الشاعر لصناعة الحلم يعني قمة التحدي، كما يعني انتصاره على الواقع الحياتي، ويحيل من جانب آخر على ثقافة الشاعر ومبادئه وقيمه في الحياة، مبادئ ترفض الاتكالية والوصولية والانهزامية، فالطريق لا تكون دائما مفروشة بالورود، لذلك على الانسان أن يبادر إلى التضحية والارتماء في أحضان المجهول، فإنسانيته تدعوه إلى الاحتراق من أجل إضاءة درب الآخر.
لقد آمن الشاعر مع كبار الفلاسفة "أن المقدار الأكبر من الشر يفضي إلى مقدار أكبر من الخير"3 ولعل هذا الإيمان هو الذي قاد شعراء الحداثة الذين عانقوا النكسات والنكبات إلى التبشير بمجتمع عربي جديد، ودفعهم إلى التفكير في إعادة النظر في كل القواعد والأسس البالية، بدءا بالثقافي وصولا إلى السياسي.

 
خاتمة:
جماع القول: إن "كية لحروف" رصد لحالات الذات الشاعرة في تشظيها بين واقع يومي عصيب، وبين حلم مجهض، وإذا كانت الكلمات قد خذلته في الخروج من عسر اللحظة، فإن إرادته وثقافته، لم تزده إلا قوة على المواجهة، مواجهة ستثمر في القادم من الزمن لا محالة حياة أفضل، وحلما أجمل، ومزيدا من الإبداع.
هوامش:
1-كية لحروف (زجل)- يوسف الطاهري- مطبعة نجمة الشرق- بركان- 2016- 96ص
2-الفعالية الثورية في النكبة- نديم البيطار- دار الطليعة- بيروت- 1964- ص:27- 33
3-نفسه