العنوان: التعدد القرائي في رواية "جيرترود" (شهادات وقراءات) ـ فاطمة الزهراء بن اعميرة نيازك

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Anfasse24104لنوضح فكرة التعدد القرائي، ينبغي أن نسلم أولا بأن القراءة شرط ضروري لكل عملية تأويلية، لأن النص "لا يقدم إلا مظاهر خطاطية، يمكن من خلالها أن ينتج الموضوع الجمالي للنص، بينما يحدث الإنتاج الفعلي من خلال فعل التحقق"[1]. وكل محاولة لفهم وتأويل النص تصطدم بصعوبات تخص نوعا محددا من القراء. فهناك القارئ الحقيقي والقارئ الافتراضي، القارئ المتمرس والقارئ العادي، القارئ الناضج والقارئ الساذج. ولكل واحد منهم طقوسه القرائية، التي ترجع إلى مؤهلاته ومعارفه وطرقه التي تمكنه من اقتحام جسد النص الروائي وتفكيكه. ثم إن القول بالتعدد القرائي، يتجسد في الممارسة الممنهجة القائمة على قواعد وخطوات لمساءلة النص الروائي والتعاطي معه.

"جيرترود": بين القارئ العادي والقارئ المتمرس: 
من الطبيعي ألا نخفي إعجابنا بقارئ متمرس، يبحث عن النوع الجيد من الرواية. لا يفقد الصبر في التنقيب، وله مهارة التمييز من الصفحات الأولى بين رواية جيدة، متوسطة وأخرى شبه رديئة*[2]، و "يتلذذ بإنتاج خطاب مواز للنص"[3]. ناقد لغوي وسميائي، يقرأ ليظهر فشل القارئ العادي الذي لا تتجاوز قراءته نطاق النص. وبه يكون ساذجا "سريع السقوط في فخاخ السارد"[4] بسبب خموله و جفاف فكره. عكس القارئ المتمرس الذي يقدم افتراضات ويشارك في تأويل الأحداث، متتبعا تفاصيل الرواية بعين قارئ مدقق ومحقق. واختيارنا لمحمد الأشعري و محمد أسليم باعتبارهما قارئين متمرسين جاء مقصودا لنبين من خلاله قصور القارئ الساذج.


أ‌-     منفى العودة: ( شهادة محمد الأشعري).
يبدو أن شهادات وقراءات الشعراء والروائيين، تتميز بجمالية توازي النص المقروء، وذلك راجع إلى انتمائهم إلى خلفية فنية وجمالية تخول لهم النظر المتأني والبحث عن تفاصيل دقيقة. فها هو محمد الأشعري(*)[5] يقدم لنا قراءة في رواية "جيرترود" مبنية على التأمل والتذكر "قبل أربع سنوات، كنا في فاس على هامش لقاء شعري، ندردش في مطعم بارد، ونتكلم في مشاريعنا الأدبية بما يشبه الحديث عن طوق نجاة، يخلصنا من الفقر المعنوي، الذي أصبح مجتمعنا بارعا في إنتاجه. وعند ذلك، حدثنا حسن نجمي باستفاضة مدهشة عن جيرترود المرأة والرواية، وعن محمد وبعده الرومانسي، وما يمثله من فتح مغربي غير مسبوق سواء في فراش الأمريكية أو في مرسم بيكاسو"[6]. من هذه المقدمة تتبين لنا العلاقة الشخصية التي تجمع بين محمد الأشعري و حسن نجمي، التي لعبت  دورا مهما في بناء هذه الشهادة، حيث أردف قائلا "حسن كان يعرفها-الرواية- جملة وتفصيلا. كان يعرف أنها ستبدأ في المستشفى، وأنها ستتكئ على مخطوط حقيقي أو مفترض تركه الطنجاوي في منفى عودته، وأنها ستنتهي هنا والآن. وكان يعرف مسارات الرواية وتشعباتها الممكنة. وكان يعرف أيضا  بؤرتها المركزية التي يلتقي فيها محمد بغِواية جسدية وفكرية وروحية تكاد تلخص غوايَتنا الجماعية التي لم نُخضعها حتى الآن، لتفكير مشترك متخلص من أقنعة الصراعات التاريخية. وقد توجست خيفة من هذا الحديث المفصل والدقيق والمتحمس عن الرواية، كوني عرفت في علاقاتي الأدبية كثيراً من الأحاديث المتحمسة عن روايات لم تكتب أبداً، واكتفى مؤلفوها الرائعون بالحديث عنها كأعمال خالدة، اقتناعاً منهم ربما، بأن أفضل طريقة لتخليد عمل مَّا هو أن لا نكتبه"[7]. هذا التوغل في تفاصيل تسبق النص الإبداعي، يفسر أن محمد الأشعري كان منذ البدء ينظر أبعد مما ينظر سواه، وهي نظرة تنم عن وعي وتبصر.

والحَاصِلُ، أن محمد الأشعري بما هو قارئ مثقف يحاول تقديم شهادة أو بالأحرى قراءة نقدية لرواية "جيرترود" اعتمادا على ما يتقاسمه مع الكاتب من رؤى تتيح له استيعاب محتوى النص المقروء وتوسيعه "عندما قرأت الرواية أدركت أنها كانت مكتوبة قبل الحديث وبعده، بالمعنى الذي يتحقق في نصٍّ - غواية، فحسن نجمي الذي تعقب جيرترود في مغامراتها الإنسانية والأدبية والفنية، وتوسل إلى ذلك بكل الوثائق والمؤلفات المعروفة، لم يكن يكتب فقط، بل كان جزءٌ من طقس الإغواء، ما يحكم الرواية ويوجه بوصلتها، ولم يكن يتعقب المرأة في حد ذاتها، فالأمريكية عدا كونها موهبة خاصة، هي ضمن مئات من مُوَاطنيها انهمروا منذ عشرينات القرن الماضي على العواصم الأوروبية وعلى باريس تحديدا، أدباءَ ونقاداً فنيين وموسيقيين، بحثاً عن جذور منسية، أو عن كثافة مفقودة أو فقط تمهيداً لملء المتاحف الأمريكية بأعمال المرحلة.

 وحتى "روائيا"، فإن "جيرترود" ليست مسارا باهراً يبني عليه حسن نجمي عالما مدهشا يفترض أن يكون في كل عمل روائي، بالمقابل فإن ما تعقبه حسن مستعملا جيرترود، هو تلك المرحلة التي عاشتها، ذلك العصر الذي اخترقته بجسدها وبروحها، وتلك الأمكنة المشحونة، المتأرجحة بين عتاقة الأحياء والأزقة والجسور والحدائق، وبين بدائية الضاحية الغجرية، تم ذلك التزامن المذهل بين عبقريات مخلخلة للفكر وللوجدان، أبولينير، بيكاسو، ماتيس، غْرِي، ماكس جاكوب، فرنسيس سكوت فيتزجرالد، فرجيل طومسون، والعشرات من هذا العيار، كلهم كانوا يرتدون صالون جيرترود. ولكنهم قبل أن تجمعهم سهرات الأمريكية جمعهم عصر واحد في قلق واحد، قلق الحرب الأولى وأجواء أسئلتها السوداء، وجمعتهم تلك الاندفاعة المحمومة نحو الحياة والإبداع، كجواب على الحرب (سنرى ذلك يتكرر مع جيل آخر من الملاعنة بعد الحرب الثانية)"[8].

وبناء عليه، نجد أن الأشعري يتموقع في خانة المتلقي المبدع و اليقظ معا، الذي يحاول تقديم إشارات خفية مساعدة على فتح مغاليق النص وتقديم شهادة قرائية مبدعة تختلف عن قراءة المتلقي غير الفطن الذي"لا يلتفت إلى مثيرات متميزة تتطلب تركيزا خاصا في الإنتاج الفني. لهذا، فهو يخرج من العمل الفني بدون أية نتيجة لأنه لا يتعدى حدود المعنى الحرفي. ومن هذا المنطلق يكون المتلقي مستهلكا بالدرجة الأولى للأخبار والمعلومات"[9] فقط دون أي محاولة منه لتفسيرها أو تأويلها.

 ثم إن المتلقي المبدع يتميز عن غيره من القراء" لأنهم لا يكتسبون وجودا واقعيا بل يندمجون في مجموع التوجهات الداخلية النصية"[10]. وبالتالي، تكون نتيجة القراءة في هذه الحالة بالنسبة لهؤلاء القراء العاديين، استهلاكا للنص وتدميرا له، وإن كانت في الحقيقة هناك نصوص" يمكن استهلاكها بهذه الطريقة، كما يتضح ذلك من ركام الأدب الرخيص الذي يتدفق باستمرار من آلات الطبع"[11]، والذي يعيد في كل مرة نفس القول بالطريقة التي قيل بها.

 إلا أن رواية "جيرترود" عكس ذلك؛ فـ"محمد لا ينتمي إلى فصيلة البطل الشرقي بالمعنى الذي ساد في روايات عربية متفاوتة النجاح، جعلت من اللقاء بالغرب والاصطدام به بؤرة مكرورة في السرد العربي الحديث. لقد رتبت الظروف (وماتيس ليس بعيداً عن الحكاية) لقاء جيرترود بمحمد في التراب الطنجي. هنا حدث كل شيء، التحام الجسدين المعمد بافتضاض في أرض محايدة، ميلاد الكلمات الأولى، والنظرة الحاسمة التي تلقتها المرأة من عيني رجل لا يصدق ما يحصل له، والتي أثمرت مباشرة ذلك النداء المبهم إلى سفر بلا ملامح"[12].

ويعد انفلات حسن نجمي من السرد التقليدي، جعل من الشاعر والروائي محمد الأشعري متلقيا يتقن لغة القراءة النقدية، ويكتب نصا موازيا له قراءة وكتابة "إن ذهاب محمد بدون فضول، مجرد انقياد لنداء لا يعرف ما إذا كان شيئا صاعقا وعميقا"[13]. طافحا بالإبداع "يعود محمد إلى طنجة بعد أن استنفدت رحلته وظيفتها في الرواية، يعود لندرك معه ليس فقط المسافة التي تفصله عن جيرترود، بل أيضا المسافة التي تفصل زماننا عن زمانها، ولندرك من خلال عودته المدمرة أن المنفى ليس سفرا ولكنه إقامة في فخ الأمكنة"[14]. ثم إنه أسلوب ينم عن كفاءة أدبية، وخبرة جمالية تعيد صياغة النص وإعادة بنائه أثناء عملية القراءة.

ب- طقوس عبور وجنائز:(قراءة محمد أسليم).
إن كان المتلقي ينخرط في الإنتاج الفني من خلال القراءة، فذلك هو حال محمد أسليم(*)[15] الذي انخرط في قراءة هذه التجربة الروائية لحسن نجمي من خلال قراءته "طقوس عبور وجنائز"، وهي قراءة تضيف "وجهة أخرى للقراءة، تتمثل في اعتبار رواية جيرترود ليست مادة للمعرفة الاجتماعية فحسب، بل وكذلك متنا يمنح تلقائيا -للقارئ- ما لا يتم التوصل إليه في حقول معرفية مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتحليل النفسي إلا بمجهود وأدوات خاصين"[16]. إن التطرق للرواية من هذا الجانب استدعى من الناقد محمد أسليم الانطلاق من ثلاثة محافل طقوسية: يتمثل الأول في 'جيرترود باعتبارها طقسا إعداديا'، والثاني في 'جيرترود باعتبارها طقسا انتقاليا'  والثالث في 'جيرترود باعتبارها طقسا جنائزيا'.

وهكذا، يمكن اعتبار أسليم من بين القراء القلائل، الذين استطاعوا أن يتجاوزوا القراءة السطحية ويغترفوا من عمق النص مجموعة من الطقوس. فإذا كان الطقس الإعدادي يكرس للقاء محمد مع جيرترود ونشوء علاقة حميمية بينهما انتهت بقراره " أن يتخلى عن عمله ويلحق بها في باريس... ما يضعنا أمام حالة تشبه تعرض المرء لمس من الجن، وتعيد للأذهان ذلك النوع من الرحلات التي كان ينجزها أبطال الأزمنة الأسطورية، أحيانا بالصعود إلى السماء نفسها، للرجوع محملين بمعارف وقوى وقدرات تؤهلهم لممارسة سلطة دنيوية أو سحرية أو دينية. وبالفعل فالرواية تشبه عودة محمد من باريس كخروج آدم من الجنة"[17]؛ فإن الطقس الانتقالي يكرس" حصول الفرد المتنقل على وضع اعتباري معترف به من لدن الجماعة، فإن طقس محمد أفضى إلى إقصائه ربما لأن لا أحد من أفراد مجتمعه اعترف له به أو لأن الوضع الجديد غير قابل للتسمية وبذلك اختار أن يموت"[18]. ومنه مباشرة يتكرس الطقس الجنائزي الذي يفيد "أن موت الفرد في عدد من المجتمعات لا ينتهي بمجرد التخلص من الجثة، بدفنها أو حرقها أو حتى أكلها، الخ، إذ يبقى الميت على صلة بالأحياء، فيقدم مطالب تضعهم أمام التزامات يمكن أن تهدد حياتهم واستقرارهم ما لم يوفوا بها، ما يقتضي إقامة طقوس يقبل الميت بعدها قطع الصلة نهائيا بالأحياء وقبول وضعه الاعتباري الجديد باعتباره شخصا ميتا، يقول السارد حسن الراوي إنه كتب قصة حياة محمد الطنجاوي استجابة لعهد كان قد قطعه على نفسه في حياة البطل، لكن بموته ارتقى هذا الوعد العابر إلى واجب."[19]. ويمثل محمد أسليم  أيضا نموذج القارئ المتمرس الذي يستطيع جمع معاني النص وتأسيس منظور نقدي خاص به فهو لم يستنجد إلا بالنص و اعتمادا على النص ذاته، وبما استخلصه منه بشكل مباشر لأجل بناء هذه القراءة.

تدليل:
بخصوص شهادة محمد الأشعري وقراءة محمد أسليم، يمكن التأكد على أن رواية "جيترود" هو نص سردي فني جمالي بالدرجة الأولى، وبقدر ما هو واضح وسهل بقدر ما هو معقد ومتشعب، وكأن كل دراسة تحاول أن تقول: إن حسن نجمي شاعر وفنان وكاتب، يكتب فنا وشعرا ورواية. وهنا تكمن جمالية النص الروائي تحديدا. وبما أن هذه الورقات قابلة للدراسة والتحليل فإننا قد اشتغلنا عليها وتصرفنا فيها ما استطعنا بالحدود التي تسمح لنا بها الدراسة النقدية في استنطاق ما توصلت به هذه القراءات حتى لا يبقى النص النقدي جامدا ليس به حياة، وكأنما نريد أن نصل إلى أن المسألة ليست مسألة قراءة الرواية فقط وإنما هي مسألة قراءة نقد النقد وطرح أسئلة جديدة تساهم في إغناء المشهد النقدي الحديث، وذلك لأجل التأكيد أيضا على أهمية هذه القراءات والشهادات خاصة وأن النقد جزء لا يتجزأ من الإبداع وليس بوسعنا إنكار أو إهمال أهميته وما له من دور في إنجاح العميلة الإبداعية.

[1]- فلوفغانغ (إيزر): فعل القراءة، ص: 12 ( تم ذكره).
[2]- كان يمكن أن نستعمل مصطلح رواية (ردئية) عوض ( شبه رديئة) وهو المصطلح الصحيح، لكن في تصوري لا وجود لرواية رديئة، وإنما رواية غير قادرة على الاقناع. 
[3]- لشقر(حسن): التلقي والتأويل، موت المؤلف، ميلاد القارئ، ص: 33 (تم ذكره).
[4]- الإدريسي (رشيد): سمياء التأويل الحريري بين العبارة والإشارة، منشورات المدارس، الدار البيضاء، ط: الأولى، س2000،ص 147.
[5](*)- الأشعري (محمد):  1951سياسي وشاعر وروائي مغربي، اشتغل بالصحافة والمجال السياسي، تولي منصب وزير الثقافة. سابقا، له عدة دواوين شعلرية ومجموعة قصصية ورواية "القوس والفراشة"الحاصلة على جائزة البوكر العربية.
[6]- الأشعري(محمد): منفى العودة، ضمن مؤلف جماعي: الكتابة والتشكيل، ص: 11.
[7]- الأشعري (محمد): منفى العودة، ص: 11.
[8]- الأشعري(محمد): منفى العودة، ص: 11-12.
[9] - بنبراهيم (نوال): أثرالتلقي، ص: 150.
[10] - المرجع نفسه، ص:151
[11] - فولفغانغ (إيزر): فعل القراءة، ص:23.
[12] - الأشعري(محمد): منفى العودة، ص: 13-14.
[13]- المرجع نفسه ، ص: 14.
[14]- المرجع نفسه، ص: 18.
[15] (*)- أسليم (محمد): كاتب وناقد مغربي، من مواليد 25 يونيو 1960 بالقصر الكبير، حاصل على إجازة من كلية آداب الرباط، سنة 1983. وأهلية المدرسة العليا للأساتذة بمكناس، 1987. ودكتوراه مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس1990. اشتغل محررا بالمصلحة المركزية لوزارة التعليم بالرباط. 1986. ثم مدرسا بالتعليم الثانوي من 1987 إلى 1991. وأستاذا بالمدرسة العليا للأساتذة من 1991 إلى 1995. ويعمل حاليا أستاذا باحثا بمركز تكوين مفتشي التعليم بالرباط. وله عدة كتابات وإصدارات.
[16] - أسليم (محمد): طقوس عبور وجنائز، ص:97.
[17] - أسليم (محمد): ص: 98-99.
[18] - المرجع نفسه، ص: 100 .
[19] - المرجع نفسه، ص: 100.