التقويم المطلوب لـ« في رحاب الفلسفة» المعطوب-«في رحاب الفلسفة» على محك النقد - د.ناصر السوسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

jalibertبــدايـــة:
أثار الكتاب المدرسي «في رحاب الفلسفة»للسنة الأولى من سلك الباكلوريا، بعيد نشره، اهتماما جادا تشهد له بعض المقالات المنشورة على صفحات بعض المنابر الوطنية، وهي من دون شك مقالات سعت، من حيث مبناها ومعناها، إلى تحقيق غرضين اثنين:
يتحدد الغرض الأول في تقديم انتقادات صميمية، وبناءة في الوقت عينه، للكتاب المذكور، وإن اختلفت زوايا النظر وطرق المعالجة.
ويتحدد الغرض الثاني في الرغبة في تطوير درس الفلسفة في التعليم الثانوي التأهيلي، باعتباره أولا درسا في حق التأمل الحر، والتفكير الجاد، وبوصفه ثانية تمرنا وتمرينا على ممارسة النقد الواعي والمسؤول، كما النظر المنهجي الدقيق والسليم.
إن درس الفلسفة إلى جانب كونه مرحلة المرآة، هو كذلك لحظة انقلابية واعية من أجل النظر، وإعادة النظر في مختلف أشكال الانضباط والخنوع، والانحباس، والتحنط في شرنقة القيم، والمعارف، والمسلكيات، والتصورات الجامدة، وإرساء لقـواعد من التفكير جديدة ترتكز بشكل أساسي وكلي على العقل، والمنطق والخلق والتجاوز، والتحرر.
ومن هنا أهميته وفعاليته في تــنشئة الشخص الإنساني بإقداره على التكامل والاندماج الاجتماعيين.

سيتحدد فضاء اشتغالنا مرة أخرى على كتاب «في رحاب الفلسفة» وسنعمل على التوغل أكثر في بعض أعماقه بغاية تشخيص المزيد من المنزلقات، ولإخراج ما اعتراه من معاطب مضامينية وبيداغوجية و معرفية أيضا إلى واضحة النهار.
استيضاحات حول بعض المضامين:
يتعلق الأمر هنا بتقديم جملة من الملاحظات بعضها يهم الجوانب البيداغوجية والتعليمية، وبعضها الآخر يخص المضامين المعرفية.
مشكلة «الوضعية المشكلة».
تشكل الوضعية المشكلة ضمن المقررات الدراسية الجديدة العتبة الأساسية لكل عملية تعليمية وتعلمية، ولهذا الاعتبار يتصدر كل مفهوم من المفاهيم الفلسفية المقترحة في كتاب«الرحاب» «وضعية-مشكلة» لتقوم بوظيفة الصاعق البيداغوجي إن صح هذا التوصيف، ولربما المشهد الفكري الذي يتوسل إقحام  المتعلم داخل اللحظة المزمع بناؤها؛ وذلك بخلق وضعيات التوتر المعرفي لديه، من خلال إقلاق فكره، واستفزاز ذهنه، ثم بإدهاشه بالمفارقات الممكنة، والتقابلات الباعثة على اليقظة الإبستمولوجية، والحاثة على الشك المنهجي والمسترسل(...) إذ بدون هذا لن يتسع مدى العقل كما لن يسعى إلى الاستفهام بطرق منظمة في ما قد يعترضه ويواجهه من قضايا إن في الحال أو في مستقبل الزمان.
لنستفهم بالتأسيس على هذه المعطيات بهاته الصيغة: هل توفقت بعض «الوضعيات- المشكلات» المقترحة في كتاب «الرحاب» في الانسجام والنزر اليسير مما ورد في الأسطر السابقة: نقصد هنا تخصيصا حالة التوتر الفكري ووضعية الإحراج الوجيه، بالمعنى الذي يطرحه سقراط لدى المتلقي  ؟
كجواب على سؤالنا هذا نورد نموذجين كدليل ساطع على بعض الاضطراب الذي طبع اختيار بعض «الوضعيات- المشكلات»:
النموذج الأول:
فيما يرتهن بمفهوم"المجتمع" أورد مؤلفو الكتاب المدرسي «في رحاب الفلسفة» في الصفحة59 مقطعا اقتبسوه من رواية« الثعلب الذي يظهر ويختفي» للمبدع المغربي محمد زفزاف كيما يؤدي وظيفة«وضعية - مشكلة» لدراسة مفهوم المجتمع، غير أنه ليس بخاف على الولوعين بلذة قراءة النصوص الأدبية حتى لا نقول نقاد الأدب، إن أعمال الأديب  محمد زفزاف الإبداعية تقوم في عمومها على تناول وتشريح الهامشي والمهمش في المجتمع المغربي  بفنية عالية  وبتقنيات جمالية أيضا تستلهم بشكل عميق البناء المعماري القصصي  «التشيخوفي»،  وإن شئنا أضفنا إلى قولنا إن الهامشي عند محمد زفزاف هو بمنزلة الثقب الصغير الذي يسعفه على الإطالة على تضاريس حياة البسطاء بإيقاعها الصاخب والحزين. غير أنه مع ذلك نؤكد بأنه لا علاقة لذلك الاشتغال الأدبي على وجه المطلق بإنتاج  علمي  أو كتابة سوسيولوجية أو فلسفية  قد توقظ حس  التساؤل عن المجتمع  بما هو مؤسسة شديدة التعقيد. ومن هنا مشروعية هذين الاستيضاحين: ماهي العلل والمبررات الموضوعية لإقحام وتطويع نص بشكل قسري كيما يؤدي وظيفة هو بعيد عنها بعد سهيل عن السهى؟ وما علاقة ذات النص بمفهوم "المجتمع" أصلا؟
النموذج الثاني
كعتبة للدخول إلى مفهومي "التقنية والعلم" (ص:79) اقتطع مؤلفو"الرحاب" فقرة طويلة نسبيا من "الجزء الثاني" من السيرة الذاتية للكاتب الروائي إدريس الشرايبي «الحضارة أماه!... » فاقترحوا "سحر المذياع" عنوانا لها. وإذ ربط المؤلفون، سواء أثناء «التعليق» على النص، أو ضمن الأسئلة التي ذيلوه بها، وإن بنحو ضمني، بين المذياع والتقنية  فإنه غاب عن أذهانهم أن التقنية «تيخني» هي انكشاف وانجلاء بالإضافة إلى  كونها شكل من أشكال الحقيقة، وكيفية من كيفيات الوجود، وبهذا المعنى فهي ليست بأي حال من الأحوال صنعا ولا أدوات أيضا، على اعتبار أن المخترعات التقنية ليست تستمد – وهذا على مر التاريخ- تسميتها إلا من العصر الذي تنتمي إليه. وبالاستناد على هاته الملاحظات نحصل ما يلي:
لا تسهم نظير هاته «الوضعيات – المشكلات» في استنفار إحساسات التلاميذ أو استفزاز وعيهم لإقحامهم في خضم اللحظة البيداغوجية الإستراتيجية، وهي لحظة الإحراج، من أجل تدارس المفهوم وعرضه على محك الفحص والمناقشة.
من غير المستساغ على المستوى البيداغوجي، الإلقاء بالوضعية- المشكلة كما اتفق، أو بصورة جاهزة، ومرتخية أو باردة ومبتذلة، بحيث تكون فارغة من دفق السؤال وحرارته. من هنا نبادر إلى القول بأن الأمر يتطلب من المدرس اليقظ إبداع الوضعية- المشكلة بقصدية واعية داخل الفصل، وبمعية المتعلمين، من خلال استغلال حدث عابر داخل الحجرة الدراسية قد يساهم، إن بهذا الشكل أو ذاك، في خلق وضعيتي الحيرة والدهشة لدى المتعلمين. فهل من طبيعة أساسية للفلسفة غير التساؤل المتواصل، والإنكار الدائم، و الانفصال بامتياز؟
مأزق درس«الوعي واللاوعي»
سنمحور هذه الفقرة حول ملاحظتين أساسيتين واحدة تتعلق بغيبة ديكارت الكبرى وغير المبررة بالمرة من درس الوعي، والأخرى ترتهن بغيبة النصوص المؤسسة لمفهومي  «الإيديولوجيا و الوهم».
ديكارت: الغائب الأكبر:
بيسر كبير يستطيع متصفح درس«الوعي واللاوعي» في كتاب «الرحاب» أن يهتدي إلى غياب فلسفة الذات الديكارتية، وهذا أمر، إن كان يبعث على الذهول، فإنه يدعو كذلك إلى طرح هذين التساؤلين: لماذا تغييب ديكارت؟  وما معنى التغاضي عن لحظة هذا الفيلسوف العظيم في درس  من الأهمية بمكان هو درس الوعي؟
إننا نعتقد أن تغييب ديكارت من درس الوعي لا يمكن أن يعني بكل  تأكيد غير تغييب للحظة فلسفية انقلابية وحاسمة عملت على إحداث تحولات هائلة وعميقة في تاريخ الفكر الفلسفي. نريد بذلك ما أسس للفكر المعاصر من جانب، وما هم نوعية علاقة الإنسان بالعالم والزمان، وبذاته أيضا(الوعي) من جانب ثان بحسبان الذات مقطنا للفكر، ومأوى للحقيقة، ومثوى لليقين، والاستقلالية، و الفعالية.
إن لحظة ديكارت، كما يشهد بذلك كبار الفلاسفة الألمان، مثل هيغل وهايدغر وهابرماس، هي بكل تأكيد منطلق الفكر الحديث، وهي أيضا ما يؤسس لذات الفكر في انفصاله عن فلسفة البداهة والوضوح.
غيبة  النصوص المؤسسة لمفهوم «الإيديولوجيا»:
هل توفق مؤلفو الكتاب بشكل فعلي في اختيار بعض النصوص التي تفي بالغرض المستهدف ضمن محور «الإيديولوجيا و الوهم»؟ ثم ما هي بعض الملاحظات التي عملنا على تسجيلها ونحن نشتغل على هذا المحور؟
نسجل على محور «الإيديولوجيا والوهم» ما يلي:
غياب النصوص الأساسية المؤسسة لمفهوم الإيديولوجيا وما أكثرها في تاريخ الفلسفة، نشير هنا على سبيل الذكر إلى نصوص كبرى، وشامخة شموخ منتجيها كديستوت  دوتراسي، وماركس، وغابل، ومانهايم، وغرامشي، وألتوسير(...) وهو ما يجعل الاستيضاح التالي مشروعا: كيف يتسنى لنا الإبحار بيافع مبتدئ في خضم مفهوم تعتريه التباسات عديدة، وتغلفه تلوينات شتى وتأويلات متباينة، وقد يقذف بالمدرس عينه باتجاه الخروج للتبضع الفكري من خارج النصوص التي اعتمدها «الرحاب»؟
كما نسجل ارتباكا باديا فيما يرتهن ببعض المقابلات بين النصوص وهو ارتباك  يحتاج إلى تبريرات بيداغوجية ومعرفية بالأساس، فكيف يحاور مثلا ماركس وهو فيلسوف قضى كما نعلم جميعا سنة 1888، فيلسوفا معاصرا هو بول ريكور (ص،ص:21/22)؟
وهل كان ج.ج.روسو يحاور نصا لابن خلدون؟ (ص، ص 61/60) (مفهوم المجتمع) وقبل هذا وذاك هل ابستمية روسو هي نفس ابستمية ابن خلدون؟
ملاحظات بصدد «خطوات تحليل النص»:
اقترح مؤلفو«الرحاب»قراءة للنص الفلسفي تنبني على خطوات أربع يهمنا ها هنا إخضاع ثلاث منها لجهاز الفحص، ومبضع النقد معا، وهي على التوالي: الإشكالية ثم الأطروحة فالحجاج.
الإشكالية:
الإشكالية صيغة استفهامية تساؤلية ووجيهة تتضمن طرحا متماسك العناصر والأطراف يحرك النظر، ويدعو إلى التفكير المنظم في التعاطي معه.
لنر هل تم بالفعل احترام ومراعاة هذه الصيغة المتعارف عليها لدى مدرسي الفلسفة؟
حدد «المؤلفون» الإشكالية في نص لديكارت(ص:36) في هذين السؤالين: ما علاقة الرغبة بالسعادة؟ وما هي الرغبة التي تولدها البهجة؟ إلا أن المتفحص بوسعه أن يتبين بدون عناء أن نص ديكارت هذا ليس يتضمن لفظة«سعادة» وهو ما يجعلنا نستفهم: هل يصح تربويا أن نسأل عن مطلب لا يعلن عن نص صراحة أو ضمنا؟
الأطروحة:
قد يكون مقبولا تحديد الأطروحة باعتبارها فكرة كاملة ومتكاملة، بحيث يغدو النص بمقتضاها إما جوابا، وإما تفسيرا، أو شرحا لها. وارتكازا على هذا  المعطى نشدد على ان استخراج أطروحة ما من نص ما لن يستقيم باقتطاع جملة منه مثلما فعل «المؤلفون»حينما عمدوا إلى تحرير السطرين الأخيرين من نص لديكارت(ص:36) قال فيهما:«وهذا الميل، أو هذه الرغبة التي تولد هكذا من الإحساس بالبهجة تسمى عادة الحب»
الحجاج: الغلو في المبنى و الخلو من المعنى:
الحجاج هو الطرق المنهجية والآليات المعتمدة سواء في عرض أطروحة، أو في الدفاع عنها أو في تفنيدها ودحضها معا. وإكساب المتعلم كفايات وكيفيات المحاجة من داخل انتظامات النصوص، كما أثناء لحظات تحليل هاته الأخيرة، أو في إنتاجاته الإنشائية، أمور مندوب إليها بكل تأكيد في التمرين الفكري والفلسفي.
نبغي من هذا تحديدا الأساليب الحجاجية نحو«المقابلة،والتقابل والتداخل،والتضاد، والتضايف، والمقارنة،  والمماثلة، وما سوى ذلك أيضا...
ومع أن القضية بهاته الأهمية الكبرى والقيمة القسوى، فإننا نرى بأن مؤلفي «الرحاب» قد عردوا عن ذلك بجنوحهم إلى تسطيح مسألة الحجاج من خلال:
اختزاله في نتف من التعابير العربية العادية نظير  الأساليب الشرطية أو بعض الأفعال التي لا يستقيم التعبير العادي والكلام المتداول بدونها من قبيل:
« لما كان...لابد...لما كانت...إذن...ولو فرضنا...لا نبالغ....بل إلى....ينطلق....نقول مثلا....»(...)
أو انتزاع بعض الروابط القضوية العادية جدا، أو اللغوية من مثل:«وقد ....لكن....أما....إن هذا....»(..)
ج. أو جعل التضاد تضادا بين العصور لا بين زوايا  النظر و الرؤى ومن ذلك: هل كان النص الذي كتبه مسكويه[لا »ابن مسكويه« يا أيها المؤلفون!!!](ص:37) الذي يتحدث فيه عن اللذات الحسية مضادا لنص ديكارت(ص:36) الذي يتحدث فيه عن البهجة؟ وهل كان جاك لاكان الذي يتحدث في نصه(ص:33) عن الرغبة كاستيهام على مستوى اللاوعي، يدخل في علاقة تضاد هو الآخر مع نص لسبينوزا(ص:32) ينظر فيه إلى الرغبة كشهوة واعية؟
إن ما يبرر هاته التساؤلات على المستوى التداولي هو كون التضاد، أو تقابل الضدين لا يحصل إلا بين أطروحتين، أو حكمين يتعلقان بنفس الموضوع، إذا صدق أحدهما كذب الآخر، ولا يصدقان معا وفي آن واحد على نفس الموضوع(...)
ونهــاية:
ابتغت هاته الملاحظات بشكل أساسي المزيد من إعمال النظر في بعض مضامين ومدارات «الرحاب» والمزيد من التقويم الموضوعي، والنقد الواعي، والتصحيح الممكن لعمل «مؤلفيه»،  وأيضا لأجل خلق أرضية فكرية وتربوية تروم المناقشة المثمرة، وتتوخى الحوار الهادف والديمقراطي الذي يرتكز على ثابتة الاختلاف بين عموم المهتمين ومختلف الفاعلين التربويين الذين مازالوا يؤمنون بالمهمة النبيلة للفلسفة كطب حضاري، وبوظيفتها التنويرية ضدا على كل أشكال الشعوذة الفكرية والفاشية التي ترى إلى المستقبل بعيون الماضي.


هــوامش:

« في رحاب الفلسفة» السنة الأولى من سلك الباكالوريا- مسلك الآداب والعلوم الإنسانية،كتاب التلميذ(ة)، فريق التأليف:أحمد الخالدي، مصطفى كاك، عبد الغني التازي، محمد زرنين.
الدار العالمية للكتاب- مكتبة السلام الجديدة، الدار البيضاء- 2006.

محسن (مصطفى) :2006، نحن والتنوير، عن الفلسفة والمؤسسة ورهانات التنمية والتحديث وتكوين الإنسان في أفق الألفية الثالثة، مجد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان ص:22- 23.
Aubenque(P) : 1980, Aristote et les problèmes de méthode, Louvain la  Neuve Editions de L’institut supérieur de philosophie : pp 5-6
عمد المؤلفون إلى ترجمة عنوان رواية إدريس الشرايبي ب«الحضارة أمي» وهي ترجمة تجانب الصواب. لقد أهمل المترجمون عمل علامة التعجب الواردة في العنوان الأصلي والتي  لها دور كبير في فهم المعنى، لذلك نقترح هذه الصيغة العربية كترجمة للعنوان «الحضارة أماه !...» أو «الحضارة يا أمي!»
Cf : Chraïbi (Driss) : 1972, la civilisation ma mère  !...Editions Denoël, Folio.181pages.   
Heidegger (M) : 1958, la question de la technique, dans Essais et Conférences Editions Gallimard, Paris P :20 et P :45.
Habermas (j) : 1985, le discours philosophique de la modernité, Gallimard , Paris P : 20 et P : 163.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟