نظرية التربية عند جان جاك روسو ـ اوبلوش محمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

1- التربية والحرية عند روسو:
يعتبر روسو واحدا من بين فلاسفة عصر الأنوار، وبكونه فيلسوفا، فقد انخرط في قضايا مجتمعه ، بحيث ساهم في نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية والتربوية التي كانت سائدة آنذاك ، وقدم مشروعه السياسي - التربوي بديلا لتلك الأوضاع ، لأن الغاية من مشروعه هذا هو تحقيق الحرية في النهاية وتخليص الإنسان من العبودية "حكمتنا في مجموعها مزاعم حقيرة، وكل مواضعاتنا من الخنوع أو الانحصار أو الضيق،  فالإنسان المتمدن يولد ويعيش ويموت في رق العبودية، حين يوثقونه بقماط، وحين يموت يسمرون عليه تابوتا، وما دام على وجه الدنيا فهو مكبل بشتى النظم"([1]) يرى روسو أن الطفل لا يجب أن تفرض عليه قيود منذ حداثته ، لكونه حين يولد يكون بحاجة إلى مد أطرافه وتحريكها ، كي يطرح عنه ما ركبه من الانقباض والتجمع الطويل في أحشاء أمه ، إذن علينا أن نَحُول بينه وبين الحركة داخل القماط ، وهكذا تكون الحرية حق طبيعي قبل أن تكون حق مدني للإنسان.

إن مفهومي التربية والحرية من المفاهيم الأساسية في الفكر الإنساني منذ أفلاطون، ويحضران بشكل كبير في الاتجاهات الفكرية والسياسية والتربوية. "التربية تأتينا من الطبيعة أو من الناس، أو من الأشياء، فنمو وظائفنا وجوارحنا الداخلي ذالكم هو التربية الطبيعية وما تتعلم من الإفادة من ذلك النمو، ذالكم هو تربية الناس وما نكتسبه بخبر تناعن الأشياء التي نتأثر بها، فذالكم هو تربية الأشياء([2])".
ومن خلال ذكر روسو لتربية الأشياء فإنه قسم التربية إلى ثلاثة ضروب "ومن بين ضروب التربية الثلاثة، نلقى تربية الطبيعية خارجة عن إرادتنا ، وأما تربية الأشياء فلا تتدخل تحت تربية سلطاننا إلا بمقدار، وأما تربية الناس فتلك دون سواها مطبوعة بنا بحق، بيد أننا لسنا مسيطرين عليها إلا افتراضا، فمن ذا الذي يتطاول فيطمع أن يهيمن الهيمنة جلها على أقوال كل من يحيطون بالطفل وأفعالهم"([3]).
من هنا يبين روسو أن فعل التربية، يتداخل فيه ما هو إنساني وما هو طبيعي وما هو  شيئي، أي أن لكل ضرب حدوده بحيث أن التربية الطبيعية خارجة عن سيطرة الإنسان، إذ هي  خاضعة لشروط بيولوجية وفيزيولوجية بينما فعل الإنسان في التربية يمنح له هامش من الحرية للتربية وتدجين وإدماج الفرد، أما تربية الأشياء، فهي مزيج بين الخبرات التي نكتسبها في ممارسة فعل التربية، ومحايتتنا للأشياء.
يوضح روسو أن نجاح التربية مرهون بتضافر هذه الضروب كلها وتكامل أدوارها في هذا الفعل "وما اعتبرت التربية فنا، فهي توشك أن تستعصي على النجاح ، فأسباب النجاح المحتومة ليست بيد أحد ، وكل ما يستطاع بالجهد أن نقترب من غايتنا قليلا أو كثيرا، ثم يستأثر الحظ بتمام الوصول وما هي هذه الغاية ؟ إنها بعينها غاية الطبيعة ، وقد سبق البرهان على هذا. وحيث أن ائتلاف ضروب التربية الثلاثة لا معدى عنه لاكتمالها ، فيجب أن توجه هذين الضربين اللذين لنا عليهما بعض السلطان إلى مضاهاة الضرب الذي لا سلطان لنا عليه"([4]).
ويقصد روسو بالضرب الذي لا سلطان لنا عليه، بضرب الطبيعة الذي يُعتَبر خارج سيطرة الإنسان ، إذ يرى أن ائتلاف ضربي فعل الإنسان (التربية) وتربية الأشياء رهينين بتدارك العجز الذي يسبب فيه ضرب الطبيعة.
إذا كان دوركهايم يرى أن المجتمع قهري وسلطة إلزامية ، بحيث يقدم لنا المجتمع كآلة لأنه يخلق أفرادا اختلافيين وفق الإيديولوجية السائدة من طرف الدولة ،  فإن روسو يرفض هذا التوجه القهري.
لقد كانت نظرية روسو في التربية قد سبقت نظرية دوركهايم بكثير، إلا أن الجدة تكمن في نظرية روسو، بحيث وظف  مفهوما جديدا، أصبح  بمرور الوقت مفهوما مركزيا في جميع المجالات ، حقوق الطفل، حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حقوق الحيوان، حقوق الأقليات... إنه مفهوم "الحرية". وهذه الحرية لا يمكن للطفل أن يتمتع بها إلا عند مرشد واحد. عكس ما  تفعله المؤسسات اللاهوتية بالأطفال ، تعدد المرشدين. إن دراستنا الحقة هي دارسة البيئة الإنسانية ، وهنا تكون التربية الحقة بالممارسة أكثر مما هي بالتلقين ، فالإنسان يبدأ التعلم حين يبدأ الحياة ، فتربيتنا تبدأ معنا، ومعلمنا الأول هو حَاضننا، وكان الأقدمون يعنون بالتربية التغذية ، ولئن قال: قائلون إن القابلة تخرج الطفل إلى النور فترضعه الحاضنة ويؤدبه المؤدب ويثقفه معلم المدرسة ، فهذا التفريق ساء استعماله ، وينبغي لخير الطفل أن يتولى قيادته مرشد واحد([5]).
لقد رفض روسو هذا التفريق التقليدي السائد، الذي يعاني الطفل من سلبياته، بحيث يصبح هذا الكائن الصغير موزعا على مجموعة من الأشخاص، وقد أكد روسو على دور المرشد الواحد الذي له الحق في قيادة الطفل ، والإفتاء في تربيته . "إن واجبك أن تعلمه كيف يعيش لا كيف يتحاشى الموت ، والحياة ليست نفسا يتردد بل هي نشاط ، واستخدام للجوارح والحواس والوظائف الحيوية ، من سائر عناصر كياننا"([6]).
أكد روسو في كتابه "إميل" أن الطفل محروم من الحرية ، وأنه يولد ويعيش في أحضان العبودية ، في حين أن الأجدر به أن يتمتع بالحرية لكي تكبر فيه الطفولة". حكمتنا في مجموعها مزاعم حقيرة ، وكل مواضعاتنا ضروب من الخنوع أو الانحصار أو الضيق، فالإنسان المتمدن يولد ويعيش ويموت في رق العبودية ، حين يوثقونه بقماش، وحين يموت يسموون عليه تابوتا([7]).

لا يكمن غرض روسو في نقد التصور الكلاسيكي للتربية ، والذي تشرعه المؤسسة الدينية المتكونة من الكنيسة ورجال الدين وبعض رجال السياسة ، الذين يُنمطُون المجتمع بكل ما يملكون من سلطة ومؤسسات. والحالة هذه ، من الأمانة أن نتأكد من مشروع روسو أنه مشروع سياسي تربوي، ديني بحيث نرى أن إصلاح السياسة مرهون بإصلاح التربية، وإصلاح التربية ينتج لنا مواطن صالح مهنته هي الحياة حسب تصور روسو.
"إن الناس في حالة الطبيعة سواسية ومهنتهم المشتركة أن يكونوا رجالا، وأن لا يعنيني أن يكون مصير تلميذي الانضمام إلى الجيش أو الكنيسة أو الاشتغال بالقانون، فالطبيعة تندبه قبل كل شيء للحياة الإنسانية. والحياة هي المهنة التي أريد أن ألقيه إياها ، بل سيكون إنسانا قبل كل شيء ، بكل ما ينبغي أن يكونه الإنسان"([8]).
لا ينتظر روسو  من المجتمع أن ينتج لنا أشخاص في حاجة لنا بهم ، بل لا ينتظر من المجتمع أن ينتج لنا أشخاص لهم دور معين جندي، قسيس، قاضي، بل ينتظر من المجتمع أن ينتج إنسان بمعنى إنسان متكامل ، ينفع الإنسانية جمعاء. لا أن نحرم الإنسانية من خير هذا الإنسان ، حيث ستحرم منه إذا تبع أهوائه الشخصية والمصلحية المتباينة ، من خلال خدمة مصلحته ومصلحة الإنسانية جمعاء ، وبين روسو هذا التناقض الذي يعيشه الفرد وسط هذه القوى المتباينة. "القوى المتباينة و نتبع من رنينها طريقا مختلطا لا يؤدي بنا إلى هذه الغاية أو تلك، وهكذا نتأرجح مغلوبين على أمرنا طيلة حياتنا ، إلى أن نخدم تلك الحياة عاجزين عن الوصول إلى وفاق مع ذواتنا ، وعاجزين عن إسداء الخير لأنفسنا وللناس على السواء"([9]). إن تصور روسو للتربية ليس بركماتيا ، كما تصورته بعض الفلسفات، بل هو تصور شامل ، أي أن الفرد يربى و ينتظر منه مشروع مشترك بين ذاته المستقلة والإنسانية المشتركة بين الجميع التي تنتهي بنا إلى المصلحة العامة .

يمكن لنا أن نتساءل أين يتجلى حضور مفهوم الحرية في فكر روسو؟ يبين روسو  "ما دام على وجه الدنيا ، فهو مكبل بشتى النظم"([10]). يرى روسو من خلال هذه القولة أن الطفل منذ نعومة أظافره ، وهو يعاني نير العبودية والنظم ، وتتمثل هذه النظم في بعض الطقوس التقليدية التي يكون الطفل عرضة لقيودها. وتستمد هذه الطقوس قوتها من الديانة المسيحية التي حددت المنظومة التربوية سلفا. وما دام مفهوم الحرية مفقود في هذه المنظومة ، فإنه مفقود في المجتمع بأكمله (السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي...) ويواصل روسو تعرية المشهد المأساوي الذي يعيش فيه الطفل قائلا: "ويبذل الطفل جهودا لا جدوى منها تستنفذ قواه وتعطل نموه. فيكاد يندم على أنه ولد لأنه لا يرى فائدة جناها من ولادته([11])" ويسترسل روسو في الوصف، "إن التضيق على أطراف الطفل يعوق دورة الدم ويعوق النمو ويغير من تكوينه وبنيته ، ويلاحظ أنه حيث لا يبالغ الناس في هذه الاحتياطات ينشئون أقوياء دوي فراهة وتناسق ، أما البلاد التي بالمدن والعرج وما إلى ذلك من العيوب والعاهات ، وخوفا من تشوه الجسم بالحركات الحرة ، يسارعون إلى تشويهه فعلا بهذا الضغط فكأننا نعجز أطفالنا عن الحركة كي تحول بينهم وبين أذى محتمل من حركاتهم"([12]). يبين روسو هنا الحرمان والضغط الذي يتعرض له الطفل منذ ولادته ، قبل أن يعي ذاته ، هو الذي كان  ضحية العبودية ، وهذا ما يسبب في إعاقته بشكل مجاني، ولو أن الطبيعة كرمته إلا أن الثقافة التي صنعها الإنسان تفسد  خليقة و فطرة هذا الطفل.
"هل يمكن أن يحتمل ضغط قاس كهذا من غير أن يؤثر في مزاج الطفل؟ إن أول ما يحسه في الدنيا هو الألم ، لأنه يجد عوائق لحريته التي يحتاج إليها فهو أسوأ حالا من سجين مكبل بالأغلال ، فيشتد هياجه وصراخه([13])".
إن الحرية عند روسو هي المعبر الوحيد في التربية ، للوصول إلى تعاقد سياسي (العقد الاجتماعي). "والحق أن "إميل" والعقد الاجتماعي مترابطان بأوثق العرى: فهما يدرسان مظهرين اثنين لمسألة واحدة ، فإميل تلميذ روسو يتعين عليه أن يعيش في المجتمع ، ولكن لابد من الاهتداء إلى نظام للتربية يتيح له أن يحتفظ بكل براءة الحالة الطبيعية وفضائلها وبكل طيبة الإنسان الفطرية ، كذلك يتعين على الناس أن يجتمعوا، لكن لابد من الاهتداء إلى شكل للاجتماع يحتفظ للأفراد المساواة والحرية اللتين كانتا حاصلتين لهم بالطبيعة"([14]).
لقد تبين الآن الخيط الرابط بين المشروع التربوي لروسو والمشروع السياسي. إذ لا يمكن الحديث عن المواطن دون الاهتمام بمسألة التربية. "لقد نوه روسو بهذه العلاقات في كتاب "إميل" يعني الحالة الطبيعية لا يتبع الإنسان إلا الأشياء، لا للبشر، وهذه التبعية لا تضر بحريته: فكيف السبيل إلى صون هذه الميزة في الحالة الاجتماعية؟"([15])
هذا التساؤل الذي طرحه إميل برهييه ، سيجيب عنه روسو في كلمات مختزلة ، يقول روسو: "هنا ينبغي العمل على إحلال القانون محل الإنسان وعلى تسليح الإرادات العامة بقوة فعلية متفوقة على فعل كل إرادة جزئية ؟ ولو كان في الإمكان أن تتسم قوانين الأمم ، نطير قوانين الطبيعة، بصلابة لا تستطيع أية قوة بشرية أن تظهر عليها، لكانت التبعية في الجمهورية جميع مزايا الحالة الطبيعية وجميع مزايا الحالة المدنية ، وأن نقترن الحرية التي تبقي الإنسان براء من الرذائل الأخلاقية التي ترقى به إلى الفضيلة"([16]).
وقد دافع مشنوق عبد الله عن هذا التصور الذي تبناه روسو، باعتبار التربية مشروع له امتداد في السياسة والاجتماع "تعدد المقالات الأولى بمثابة الإشارة إلى مشكلة فساد الأخلاق وغياب الحرية وأصابع الاتهام وجهها للعلوم والفنون والفلسفة والسياسة معا، فالتربية برمتها تربية وطنية ترمي إلى إعداد المواطن والإنسان والحكومة تصنع المواطن، والتربية أداة تصنعه، السياسة تربي والتربية تصنع السياسة  أو المواطنين لأن كل مواطن سياسي"([17]).
إن روسو اتجه في تربية المواطن تربية أهلية أو تربية المواطن في المنزل، إن الحرية في التربية هي أن يعمل الإنسان ما يرغبه أو ما يريده، وأنه لا يريد المرء إلا ما يقدر على تنفيذه ، "حيث يبين روسو أن كل فعل حر سببين يتظافران على استحداثه أولهما سبب معنوي هو الإرادة التي تحدد الفعل وتعينه وثانيهما وهو قوة تنفذه"([18]) ، فالحرية في التربية مرتبطة بالضرورة بالمربي بوصف ممثلا لطبيعة تجسد الضرورة.
يرى روسو  أن الحرية حق طبيعي للإنسان ، باعتبار هذا الأخير ولد حرا. والتربية والنظم السياسية والاجتماعية  كانت في عهد روسو إدارة ووسيلة لقمع واستعباد الإنسان وتشويه طبيعته بالأغلال.
إن مبدأ الحرية في التربية هو من إبداع روسو، لأن الحرية في التربية كانت قبله حلما تربويا. ولم تتعدى حدود الإدانة والرفض لأشكال القسر والإكراه التي كانت سائدة في النظام التربوي، لكن روسو جعل الحرية في التربية مركز المشروع التربوي الذي قدمه في كتابه "إميل" وقد حرر نظام الحرية في التربية عند روسو عقول المربيين والقائمين على النظام التربوي من كل النظم التربوية القديمة، والتي كانت تتميز بالقسوة والتسلط.
وركز روسو في مشروعه التربوي أيضا على ضرورة الحفاظ على النسل من خلال توضيح موقف لوك، ولكن ليس الحفاظ عليه وفقط ، بل الحفاظ عليه من خلال تقويم النسل وتربيته إلى أن يستقل ويكون قادرا على قضاء حاجاته بنفسه. "أما والغاية من الشراكة التي تقوم  بين الذكر والأنثى ليست لمجرد التناسل فحسب بل لاستدامة النوع، فإن هذه الشركة يجب أن تبقى حتى بعد التناسل، وعلى الأقل طوال المدة اللازمة لتغذية النسل، وحفظه أي إلى أن يصبح هذا النسل قادرا على قضاء حاجاته بنفسه"([19]). ومن خلال هذا الموقف نستنتج أن روسو يدافع عن هدف محدد للتربية وهو يكمن في إعداد فرد كامل متنقل يستطيع قضاء حاجاته بنفسه ، أي قادر على الإستقلالية و المسؤولية ؛ وله القدرة على تجاوز كل مشاكل الحياة التي تصادفه مستقبلا.

2- هدف التربية عند روسو:

يرى روسو أن هدف التربية هو تكوين إنسان كامل متصل بمسائل الحياة ومعضلاتها ويعمل على تجاوز مشكلاتها، فالحياة في نظر روسو لا تختزل في الترف والتمتع، بل الحياة هي العمل، أي أن يقف الإنسان عند قيمة إنسانيته ، فيعرف كيف يستخدم حواسه وينتفع بها. "فليس الرجل المعمر في نظره بالرجل الذي عاش طويلا، بل هو الرجل الذي شعر بالحياة الكاملة حق الشعور، فالحياة لا تعد إلا بالعمل الجليل الذي يقوم به الإنسان، والأثر الخالد الذي يتركه فالعمل هو الحياة والحياة هي العمل، والحي هو من يعمل ، أما عدد السنوات التي عاشها الإنسان فلا تعد مقياسا للحكم عليه ، والرجل الذي لا يشعل بالحياة هو الحي الميت ، يتنفس ولكنه لا ينتفع بحياته، ولا ينفع بها غيره"([20]).
لقد دافع روسو عن الطبيعة الإنسانية ، وأكد أنه من الصعب تمييز ما هو أصلي عما هو صناعي في طبيعة الإنسان الحالية. وبين أن هدف التربية يتجلى في تقويم الإنسان والرقي به، ومحاربة كل الأشياء التي تعوق نمو الطفل من بيئة وسلوك ومحيط اجتماعي والارتكاز على رفض المدينة التي هي أصل الشرور، وتقديم الريف كبديل لها.
"وظيفة التربية لدى روسو أن تزيل كل شيء يقف في سبيل النهوض بالطبيعة الإنسانية ورقيها، بمعنى أن التربية يجب أن تكون وسيلة سلبية تمنع الأشياء التي تعوق نمو الطفل، والأمور التي تؤثر فيه تأثيرا سيئا، والبيئة التي تفسده من النواحي العقلية والجسمية والاجتماعية والخلقية"([21]).
ويكمن الهدف من التربية عند روسو أيضا في تربية المواطن للحصول على الحرية والفضيلة معا وللحصول على هاتين الثمرتين لابد من الانطلاق من الطفولة ، ومتابعة تربيتها حتى يصبح الطفل رجلا. والرجل هو الإنسان والمواطن الكامل. إذ لا يمكن للمواطن أن يكون إن لم تكن الحرية ولا حرية بلا فضيلة.
لقد اختلف روسو مع كل الفلاسفة في مشروعه التربوي منذ أفلاطون بحيث كان غرض أفلاطون الوصول إلى مجتمع منسجم، في حين بين تلميذه أرسطو أن الهدف من تكوين مواطنين منضبطين لقانون المدينة ، أما اكسنوفان فقد وعد بأسر سعيدة ، أما سانت بازيل فيريد مسيحين مثاليين ، أما كوندياك أراد تكوين علماء مفيدين للتقدم ، وفيما يتعلق بروسو فإنه لا يقترح أي هدف إلا مسألة صنع إنسان كامل ، ليس مسيحيا أو مسلما أو تاجرا أو أستاذا، مجرد إنسان. وقد قال روسو أن العيش هي المهنة التي أريد له أن يتعلمها، كما ذهب  إلى أن سبب ضياع الإنسان هو المدينة ، مما جعله ينتقدها بشدة ."وقد أثبت أن المدينة هي السبب في التفاوت وعدم المساواة بين الإنسان  والإنسان، وهي منبع الشقاء في كل أمة من الأمم ، وقد كتب ضد الفكر والتفكير، واعتقد اعتقادا غريبا أن الرجل الذي يفكر هو حيوان فاسد الميزاج ، فهو يريد أن نقول إن التفكير الإنساني أدى إلى الحضارة والمدينة، وأدى إلى الترف وهذه كلها أصل الشقاء".([22])
يقدم روسو بديلا تربويا لكل الأخلاق الفاسدة التي تسببت فيها المدينة فأكد أن صلاح المرء لا يكون إلا بتحرره من قيود المدينة التي دجنت وحنطت الإنسان. "ولكي يكون المرء شيئا، ويكون مخلصا في كيانه سليم الوحدة ، ينبغي أن يطابق عمله قوله ، على بنية مما ينبغي أن يفعل فيقدم على فعله في حزم وثبات ومثابرة".([23])
إن الغاية من تربية المواطن أو الطفل عند روسو تمثل في جعله إنسانا ، تستفيد منه الجمهورية ، إنسان لا تطغى عليه المصلحة الشخصية بل المصلحة الجماعية ، إذن كيف يمكن تربيته على هذه القيم؟ بتعليمه كيف يعيش من خلال توظيف أعضائه الطبيعية ، "إن واجبك أن تعلمه كيف يعيش لا كيف يتحاشى الموت، والحياة ليست نفسا يتردد بل هي نشاط واستخدام للجوارح والحواس والوظائف الحيوية من سائر عناصر كياننا"([24]).
يتبين سخط روسو على المدينة والحضارة ، وكل رموزها ، وهذا ما جعله يرفض الطبيب أن يكون طرفا مشاركا في تربية إميل، من خلال تقديم الإسعافات ومواكبة نموه والسهر على مراقبة جسده  اليافع "إني لن أستدعي بتاتا أي طبيب لعلاج إميل اللهم إلا إذا باتت حياته في خطر ما حقا ، إذ لن يكون في وسع الطبيب عندئذ أن يؤذيه بما هو شر من الموت الذي هو مشف عليه"([25]).
نتساءل لماذا لا يريد روسو أن يكون الطبيب رفيق إميل في حياته، لكي يدفع عنه خطر الأمراض، أكيد أن روسو يدافع عن الطبيعة أن ندع الطفل للطبيعة تتكفل به، وأن نحارب كل الأنماط الثقافية المبتذلة والمسؤولة عن شقاء البشر، ومن بين الأدلة التي يقدمها روسو دفاعا عن أطروحته التي يدافع عنها ضدا عن المدينة وكل روافدها ، "فمن التناقض أن يظن الإنسان أن الطعام الحيواني خير للمرضع ، مع أن الطعام النباتي ثابت أنه أفضل للطفل"([26]).
فلا يتوانى روسو لحظة من الهجوم على المدينة إذ يرى من واجبه تعرية عيوب هذه الأخيرة من أجل تقديم بديل صالح للبشرية يتمثل في إعادة النظر في المدينة ومكوناتها، "والهواء المطلق النقي عظيم الفائدة في تكوين بنية الطفل ولا سيما في السنوات الأولى فهو يدخل من جميع مسام جلده الفض ويؤثر تأثيرا قويا في جسمه تأثيرا لا يزول ، ولذا لا أقر من يأخذون امرأة من القرية يحبسوها في حجرة بالمدينة ومعها من ترضعه ، بل الأفضل عندي أن أرسله إلى الريف حيث يستنشق الهواء النقي بدلا من هواء المدينة الفاسد"([27]).
إذن ما هو البديل الذي جاء به روسو في مشروعه التربوي ، بعدما أن قام بتوجيه نقد صارم للمدينة وساكنيها، "إن المدن تلتهم ساكنيها السلالة بالهزل أو العقم، ولا يمكن تجديد حيويتها إلا عن طريق الريف"([28]).
وهكذا اتضح أن البديل يقدمه روسو عوضا عن المدينة هو الريف الذي يتميز بمميزات طبيعية.
يرى روسو أن للطبيعة وسائل إيجابية في تكوين حياة الطفل لا يجب أن نفرط في هذه الوسائل أو أن نعارضها "ولدى الطبيعة وسائل خاصة لتقوية الجسم وتنميته ولا ينبغي أن نعارض هذه الوسائل مطلقا، ولهذا لا يجوز لنا بأي حال أن نرغم طفلا على المكث حينما يريد الذهاب ، ولا أن نرغمه على الذهاب وهو يريد البقاء حيث هو"([29]).
يؤكد روسو أنه من الخير أن نجعل فترة من العمر معفاة من نير العبودية، ألا يكفي أن هذا النير ليس مفروضا علينا من الطبيعة ، إذن فلنترك للطفولة ممارسة الحرية الطبيعية تلك الحرية التي تبعد الأطفال ولو إلى حين من الرذائل التي توجد هاهنا تحت نير عبودية المدينة.
إن هدف روسو من التربية الموحدة ، يكمن في تجاوز التفاوت القائم بين الطبقات، بحيث تسوء الديمقراطية داخل المجتمع من خلال التربية بواسطة التعليم ، ولكي تكون المساواة، "1-يجب أن يعبر القانون عن إرادة الشعب، 2- يجب أن تقوم الحكومة بتعليم جميع الأطفال تعليما حقا يحقق  المساواة ، حتى يعتاد كل طفل المبادئ (الديمقراطية) ويتكون بشكل كامل ولا يكون هناك نظام طبقات أو فرق كبير بين الغني والفقير"([30])، وقد بين روسو موقفه هذا في "رسالة في الاقتصاد السياسي".
إن المشروع التربوي الذي بينه روسو ، لا يمكن إلا أن يخلصنا من التفاوت الطبقي الذي صنعته المدينة  بمعية الأنظمة السياسية ؛ وهذا ما جعل روسو يقدم مجموعة من المواقف حول التربية والتعليم ، ويعتبرها بمثابة مبادئ أولية يجب الاهتمام بها في مجال التربية.

لائحة المصادر والمراجع
1- جان جاك روسو:       إميل، ترجمة ، الدكتور نظمي لوقا، دار النشر، الشركة العامة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، سنة 1958.
2- جان جاك روسو:       خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، ترجمة ، بولس غانم، تقديم عبد العزيز لبيب، دار النشر مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، 209.
3- إميل برهييه:            تاريخ الفلسفة، الجزء الخامس، القرن الثامن عشر، ترجمة، جورج طرابشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1983.
4- محمد عطية الأبراشي: أصول التربية المثالية في إميل لجان جاك روسو، دار المعارف القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1971.
5- مشنوق عبد الله:       تاريخ التربية، دار الفارس، بيروت، الطبعة الأولى، 1971.
6- محمد عطية الأبراشي: جان جاك روسو، المصلح الاجتماعي، دار النشر، إحياء الكتب العربية، عيسى الياي الحلبي وشركائه، الطبعة الأولى، سنة 1946.

 

[1] - جان جاك روسو: إميل، ترجمة الدكتور نظمي لوقا، دار النشر، الشركة العامة للطباعة والنشر، الطبعة  1، 1958، ص34.
[2] - المرجع نفسه، ص 26.
[3] - المرجع نفسه، ص 26.
[4] - المرجع نفسه، ص 26-27.
[5] - المرجع نفسه، ص 32.
[6] - المرجع نفسه، ص 33.
[7] - المرجع نفسه، ص 34.
[8] - المرجع نفسه، ص 31-32.
[9] - المرجع نفسه، ص 31.
[10] - المرجع نفسه، ص 34.
[11] - المرجع نفسه، ص 34.
[12] - المرجع نفسه، ص 34-35.
[13] - المرجع نفسه، ص 35.
[14] - إميل برهييه: تاريخ الفلسفة، الجزء الخامس، القرن الثامن عشر، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1983، ص 200.
[15] - المرجع نفسه، ص 201.
[16] - المرجع نفسه، ص 201.
[17] - مشنوق عبد الله: تاريخ التربية ، الطبعة الأولى، دار الفارس، بيروت، ص 48.
[18] - المرجع نفسه، ص 131.
[19] - جان جاك روسو: خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، ترجمة بوليس غانم، تقديم عبد العزيز لبيب، دار النشر، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، 2009، ص 193.
[20] - محمد عطية الأبراشي: أصول التربية المثالية في إميل، الطبعة الأولى، دار المعارف القاهرة، ص 60.
[21] - المرجع نفسه، ص 62.
[22] - محمد عطية الأبراشي، جان جاك روسو، المصلح الاجتماعي، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، 1649، ص73.
[23] - جان جاك روسو، إميل، ترجمة الدكتور نظمي الوفا، دار النشر الشركة العامة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1958، ص 30.
[24] - المرجع نفسه، ص 33.
[25] - المرجع نفسه، ص 53.
[26] - المرجع نفسه، ص 59.
[27] - المرجع نفسه، ص 59.
[28] - المرجع نفسه، ص 60.
[29] - المرجع نفسه، ص 82.
[30] - محمد عطية الأبراشي: جان جاك روسو، المصلح الاجتماعي، دار النشر، إحياء الكتب العربية، عيسى بابا الحلبي وشركائه، الطبعة 1، 1946، ص 74.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟