التحقيب التاريخي كمادة لتدريس التفكير التاريخي ـ توفيق أكياس

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse201111يتناول هذا المقال قراءة في كتاب: صهود محمد، التحقيب التاريخي، إسهام في التأصيل الابستمولوجي والمنهجي، مطابع الرباط نت 2016. هذا الكتاب الذي يعتبر إضافة مهمة للساحة التربوية المغربية، نظرا لراهنية الموضوع والحاجة الملحة لتناوله بالبحث والدراسة.

لقد حاول المؤلف وهو أستاذ بكلية علوم التربية سبق له الاشتغال لسنوات في التأطير والمراقبة التربوية لأساتذة التعليم الثانوي، أن يتناول جانبا من الجوانب الابستمولوجية في تدريس التاريخ يتعلق بالتحقيب التاريخي، كان موضوعا لأطروحته الجامعية لنيل شهادة الدكتوراه في علوم التربية تخصص ديداكتيك التاريخ. منطلقا في ذلك من التأصيل المنهجي والابستيمولوجي للتحقيب التاريخي من أجل إعداد أداة بيداغوجية، تُمكن من النقل الديداكتيكي لما تم تأصيله منهجيا في التعليم المدرسي. استهدف من خلالها إكساب المتعلمين تعلما منهجيا لكيفية تحقيب مختلف للمواضيع التاريخية. يتجاوز النظرة التقليدية التي ترى أنه منتوج جاهز وقالب زمني قائم، إلى نظرة ترى فيه مسارا تفكيريا وعملية منهجية تسهم في بناء الحقب وإعادة النظر في بنائها.

لقد جاء هذا الكتاب ليعكس التطور الذي عرفه البحث التاريخي في مساءلته لموضوع التحقيب، وينقل هذا التطور إلى الحقل المدرسي لتدريب المتعلمين على ممارسة المنهجيات ذاتها في التفكير في الحقب وبنائها ذاتيا بدلا من تقبلها كمعطى جاهز يشكل وحدة منسجمة.
وقد وظف المؤلف إلى جانب الوثائق الرسمية مجموعة كبيرة من المراجع باللغتين العربية والفرنسية، خولت له توفير الكثير من الموارد المعرفية والأدوات التطبيقية لدراسة التحقيب التاريخي ستشكل مرجعا خصبا للباحث في ديداكتيك التاريخ.


ومن أجل الجواب عن سؤاله الإشكالي حول طبيعة العلاقة التي تربط بين الجانب الاسطوغرافي والمنهجي والابستيمولوجي للتحقيب التاريخي في المستوى الأكاديمي بالتطورات والحركية التي تعرفها المعرفة المدرسية في مجال تدريسية التحقيب[1] حاول المؤلف تدعيم الجانب المنهجي والديداكتيكي في الفكر التاريخي ضمن الممارسات التدريسية، في جزء منه متعلق بالتحقيب التاريخي في صورته المنهجية، ضمن إطار بيداغوجي يستحضر مدخل الكفايات. من خلال بناء نموذج ديداكتيكي نظري في موضوع التحقيب التاريخي، ثُم إنجاز مصوغة تعلمية في موضوع التحقيب التاريخي وتجريبها. وبناء على اهداف البحث وضع تصميما من ثلاثة فصول:

-       فصل أول منهجي يستعرض إشكالية البحث وأدواته المنهجية.
-       فصل ثان خاص بالتأصيل النظري للنموذج الديداكتيكي.
-       فصل ثالث خاص بتجريب النموذج الديداكتيكي عبر المصوغة التعلمية ونتائج التجريب.

فبعد فصل أول قدم خلاله المؤلف تأطيرا منهجيا مستعرضا السياقات المعرفية والاجتماعية والتربوية التي قادته لطرح إشكالية بحثه حول التحقيب التاريخي، والأدوات المنهجية التي وظفها في سبيل تمحيص فرضياته.

  حاول في الفصل الثاني الخاص بالتأطير النظري للنموذج الديداكتيكي التعرف على طريقة عمل المؤرخ من أجل نقل هذا الاشتغال من مستواه الأكاديمي إلى مستوى الممارسة التربوية عن طريق استقراء الكتب المنهجية والابستيمولوجية عبر ثلاثة مباحث.

وقد انطلق الاستاذ محمد صهود في المبحث الأول " من كون التحقيب التاريخي مفهمة تشتغل على الزمن استنادا على الوثائق" [2]  في محاولة لتتبع المسار التاريخي للتحقيب حيث أبرز أن موضوع التحقيب لم يكن حكرا على المؤرخين بل حظي باهتمام كبير من طرف الفلاسفة ورجال الدين. حيث قدم دراسة تطورية للتحقيب منذ الحضارات القديمة، من أجل استقراء أسسه المنهجية والابستيمولوجية، ميز خلالها بين ثلاث حقب كبرى في تطور التحقيب التاريخي، الأولى تمتد من بداية التاريخ إلى غاية ظهور المسيحية، والثانية تمتد منذ انتشار المسيحية والإسلام إل غاية القرن 17م، والثالثة من القرن 17م إلى اليوم. مبرزا أن التحقيب بفرعيه الرئيسيين الدياكروني والسانكروني يتماهى مع عمل المؤرخ برمته، وأن المفاهيم التحقيبية (القديم-الوسيط-الحديث-المعاصر) هي مفاهيم لها تاريخ ولم تكن موجودة منذ الأزل وبالتالي لا يجب التعامل معها على أنها معرفة يقينية. كما عرض نماذج لدراسات قدمت   تواريخا مختلفة لامتدادات الحقب الكلاسيكية. أكد من خلالها ان التمسك بالتحقيب الكلاسيكي قد يكون معرقلا للدراسات التاريخية، وأن الدراسات التاريخية يجب أن تخترق جميع الحقب.

 لقد أكد الأستاذ صهود أن التحقيب الكلاسيكي (القديم الوسيط-الحديث) الذي أنتج أثناء التطور الذي شهدته المعرفة التاريخية في القرن 17.تقادم ولم تعد له أهمية في المعرفة التاريخية، إذ لا يعترف له الآن إلا بفعاليته المؤسسية من حيث كونه إطارا للبحث الجامعي (تخصصات القديم/الوسيط/المعاصر)، ومنطلقا لتأليف الكتب المدرسية وبناء برامج تدريس التاريخ. كما أنه أساس لترتيب الأرشيفات. أما من الناحية العلمية والمنهجية فقد أصبح يطرح عدة إشكالات، حول مدى مطابقته لتحقيب الشعوب غير الأوروبية؟ ومدى مطابقته لتحقيب تخصصات أخرى؟  وأيضا مدى تماشي مفاهيمه مع مستجدات المعرفة العلمية المعاصرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية على وجه الخصوص.

إن استعراض مجموعة من التجارب التحقيبية عبر التاريخ، سمح للأستاذ صهود بتحديد الأسباب التي جعلت التحقيب الكلاسيكي متجاوزا، في عدم اعتراف جميع الفلاسفة والمؤرخين بوحدة التاريخ الانساني التي تعتبر أساسا منهجيا للتحقيب العالمي. مستشهدا في ذلك على سبيل المثال لا الحصر بالمؤرخ والفيلسوف الالماني Spengler الذي يرى في كتابه انحدار الغرب Le déclin de l’Occident انه لا توجد ثقافة واحدة وإنما هناك ثقافات متعددة لكل منها خصوصيته وبالتالي لا يمكن الحديث عن التحقيب الواحد. وأيضا في الهجومات التي تعرضت لها المعرفة التاريخية خاصة من طرف المدرسة البنيوية التي تركز على المجتمعات بدلا من مفهوم التحول حيث قسم Levis Strauss تاريخ الإنسانية إلى فترتين هما النيوليتية والثانية هي الحقبة الصناعية. مما دفع المؤرخين لتطوير تصورهم للزمن دفاعا عن التاريخ، كما كان الحال بالنسبة للتصور البروديلي لمفهوم الزمن (قصير-متوسط-طويل).

لقد تمكن المؤلف من خلال هذا التأريخ للتحقيب من تحديد عدة معايير تحقيبية (معيار ديني، معيار فلسفي، معيار التقسيم الكرنولوجي، معيار الدورة الاقتصادية...). وخلُص إلى كون "كل تحقيب هو في الأصل مَفْهَمَة، إذ أن كل تحقيب يقسم المسار التاريخي إلى حقب، وكل حقبة تصطبغ بخاصيات معينة وتشكل الحقبة مفهوما عاما يبنى بواسطة أشكلة موضوع التحقيب وبناء الكرنولوجيا وممارسة نوع من التأويل، أي ان الأمر يهم المنهج بشكل عام.

 على أن هذه المفهمة تشتغل في ضوء الزمنية وهكذا تم رصد أنواع من الزمنية مثل الزمن الدوري والزمن الخطي والزمن اللولبي...ومن شأن التصور حول الزمن أن يكيف أو يطبع التحقيب بطابع خاص "[3]

انطلاقا من معطيات المبحث الأول تناول المؤلف في المبحث الثاني منهجية التحقيب في محاولة للتمييز بين التحقيب كسيرورة منهجية. وبين التحقيب باعتباره منتجا. ومن أجل تحديد الأرضية النظرية لهذا الطرح قدم تعريفا للتحقيب بكونه "عملية مفهمة تنطلق من إشكالية سواء أكانت صريحة أم ضمنية، وتوظف مفاهيم زمنية ومعرفية، وتنتهي بإنتاج مفاهيم تحقيبية"[4] وبناء عليه حدد الخصائص المنهجية والابستيمولوجية التالية للتحقيب:

-        التحقيب بناء ذهني للماضي على ضوء إشكاليات الحاضر لأنه جزء لا يتجزأ من المعرفة التاريخية.
-       التحقيب أشكلة تأخذ بعين الاعتبار مقاييسه ومستوياته (المقياس الجغرافي -المقياس الزمني-المفهوم المركزي)
-       التحقيب بناء افتراضي يمس "ثلاث جوانب: المفهوم الجامع للحقبة بعد تحديد خصائصها والمنعطف، وطبيعة التحول."[5]
-       التحقيب اشتغال على الزمن وبالزمن كمفهوم "يمارس ثقله على مختلف التحقيبات ويطبعها بطابع خاص"[6]، حسب أبعاده وأشكال توظيفه والتفكير فيه.
-       التحقيب تقويم يعبر عن وعي تاريخي، فهو "ليس عملية تقنية تقوم على أساس التوقيت أو عملية منهجية تقوم على أساس مفهم الماضي البشري"[7]

لقد سمحت هذه الخصائص للأستاذ صهود بتقديم تعريفه الخاص للتحقيب التاريخي بكونه   مفهمة ترمي إلى إبراز تحول المجتمع في الزمن (كأساس من أسس الفكر التاريخي، حسب الوثائق أو حسب النموذج التفسيري أو بالمقارنة...) ووثائره ومنعطفاته (كمكون من مكونات المنتوج التحقيبي، يتجاوز مفهوم القطيعة بمعنى الفصل بين حقبتين إلى مفهوم القطيعة في الاستمرارية بمفهومها الباشلري الذي يمكننا من تقسيم حقبة معينة الى عدة حقب فرعية تنسجم داخل وحدتها). وتتم هذه المفهمة عبر سيرورة منهجية (تتماشى مع طبيعة المعرفة التاريخية) تتأسس على صياغة إشكالية تحقيبية تستهدف بناء الحقب وإنتاج مفاهيم تحقيبية، عبر القيام بعملية توقيت الوقائع والاحداث التاريخية انطلاقا من استقراء الوثائق ووضع كرنولوجيا لهذه الوقائع والاحداث تم تأويلها[8].

إن التحقيب بهذا المفهوم الذي قدمه المؤلف ليس عملا بسيطا أو منتوجا جاهزا، بل هو عمل إشكالي وسيرورة من العمليات المنهجية. تسمح بتشريح المنهج التحقيبي إلى عدة عمليات فكرية تحدد نوعية التحقيب الذي يتم اختياره في كل حالة.

ويكمن هاجس هذه الخطوات التحقيبية بالنسبة للديداكتيكي في مدى إمكانية نقلها كما يعيشها المؤرخ أي أن ننقل البحث في القضايا والموضوعات التاريخية من إطار أكاديمي إلى إطار مدرسي؟

في سبيل الجواب عن هذا التساؤل حاول المؤلف في المبحث الثالث بناء "خلفية ديداكتيكية تستند إلى ثلاثة أبعاد: البعد المنهجي (حصيلة المباحث السابقة)، والبعد البيداغوجي (المقاربة بالكفايات)، والبعد الوثائقي (دور الوثائق والدعامات في عملية التحقيب)"[9].

حيث مكنه البعد المنهجي في تحديد أهداف عملية منهجية التحقيب وفوائده على المستوى الديداكتيكي التي تنسجم مع خصائص تعريفه للتحقيب، إذ هيكل السيرورة المنهجية للتحقيب التاريخي حسب مقاربة ديداكتيكية على أربع مستويات:

-       المستوى الإشكالي: تتم فيه صياغة إشكالية تحقيبية انطلاقا من تحديد زمن ومجال وموضوع الحدث أو المفهوم. الأمر الذي "يحرر التحقيب من طابعه الجامد، ويجعله منه تمرينا منهجيا يؤثر في طبيعة المعرفة التحقيبية ذاتها من العوائق الابستمولوجية"[10]
-       المستوى الكرنولوجي: يتم خلاله تعلم توقيت الأحداث والوقائع ضمن سلم زماني، في أفق ترتيبها تزامنيا وتعاقبيا وموضوعاتيا. ويتم التمييز بين الزمن المعيش والزمن المدرك والزمن التاريخي.
-       المستوى التأويلي: يتم فيه تحديد معالم الحقبة والمنعطفات بواسطة التأويل، في أفق رصد الاستمرارية والتحول (ثنائية تحول/ثبات).
-       المستوى التركيبي: بناء تركيب للمنتوج التحقيبي (حقب تاريخية-مفاهيم تحقيبية)، انطلاقا من الطرح الإشكالي ووصولا إلى الخلاصات.

أما فيما يخص البعد البيداغوجي قدم الأستاذ صهود مقاربة للتحقيب ضمن الإطار البيداغوجي لبيداغوجيا الكفايات انطلاقا من دراسة تشخيصية للتحقيب التاريخي في المرحلة الثانوية التأهيلية كان قد أنجزها لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة [11]. حيث بين أن التحقيب في التوجيهات التربوية هو مجرد قدرة ضمن كفاية "ترسيخ اكتساب المهارات المنهجية"، كما أن اختزال التحقيب في العصور التاريخية وتناوله كمنتج ومعطى محدد مسبقا، لا يضعه في مكانه البيداغوجي الذي ينسجم مع التعريف الذي قدمه المؤلف للتحقيب بكونه مفهمة وسيرورة منهجية. وفي سياق الجواب عن تساؤله عن كيفية جعل التحقيب التاريخي مادة منهجية للتعلم بدلا من تقديمه كمعطى؟  استعرض المؤلف أربعة اشكال من الدعامات التي تستعمل في التحقيب التاريخي (اللوحة الكرنولوجية-الخريطة التاريخية-الرسوم البيانية-الشبكات المبيانية)، كما حدد مختلف المكونات والعمليات المنهجية المرتبطة بالتحقيب التاريخي، وأيضا مختلف القدرات المنهجية (الإشكالية التحقيبية-التوقيت والكرنولوجيا-التأويل-البناء) والعمليات الفكرية المستنبطة من الأسس المنهجية والابستيمولوجية للتحقيب، للاستناد عليها في النقل الديداكتيكي (حددها في 18عملية فكرية تحقيبية).

بعدما استعرض المؤلف في الفصل الثاني بمباحثة الثلاثة المعطيات الاسطوغرافية والمنهجية والابستيمولوجية التي سيوجه تعلم التحقيب من خلالها، خصص الفصل الثالث لأجرأة نموذج ديداكتيكي وتقديمه عن طريق مثال من تاريخ المغرب. حيث أعد مصوغة تعليمية تتكون من قسمين (المبحثين الرابع والخامس)، القسم الأول عبارة عن دليل للأستاذ والثاني عبارة عن كراسة للتلميذ.

تهدف هذه المصوغة إلى ربط تدريس التاريخ بالمنهج التاريخي عامة، وبالمستجدات على المستوى البيداغوجي، وأيضا بالبحث الأكاديمي، من خلال تدريب المتعلم على اكتساب مهارات منهجية في التحقيب التاريخي. وقد استندت في بنائها على تأطير منهجي وديداكتيكي يقوم على ثلاثة مرتكزات ابستمولوجي/ منهجي وإسطوغرافي، ومرتكز بيداغوجي تم توضيحها في دليل الأستاذ.

ويعتبر المرتكز الابستمولوجي تأصيلا نظريا للمقولات المنهجية التي استعرضها المؤلف في الفصل الثاني. إذ ينطلق من التعريف الذي اقترحه للتحقيب والعمليات الفكرية التحقيبية التي حددها، لتوضيح المستويات الأربعة للمفهمة في التحقيب التاريخي (الإشكالية-التوقيت والكرنولوجيا-التأويل-التركيب) والعمليات الفكرية المرتبطة بكل مستوى منها. 

أما المرتكز البيداغوجي فيتعلق بالنقل الديداكتيكي للمقولات والمكونات المنهجية في انسجام مع التوجه العام للمناهج التربوية المغربية. "هكذا انطلق الأستاذ صهود من "كون التحقيب التاريخي عملية منهجية كبرى بمثابة كفاية من بين الكفايات التي ينبغي أن يسعى تدريس التاريخ لتنميتها في المتعلم"[12]، بينما اعتبر المكونات المنهجية للتحقيب "قدرات تساهم في تنمية الكفايات المنهجية المتمثلة في التحقيب التاريخي"[13] "هذه القدرات قسمها إلى أهداف تعليمية، تفرعت بدورها إلى عمليات فكرية ذات صلة وثيقة بالعمليات المنهجية للفكر التاريخي فيما يتعلق بالتحقيب"[14]

بينما تمثل المرتكز الاسطوغرافي في اختيار موضوع تاريخ المغرب في القرن التاسع عشر من أجل تطبيق المنهجية التحقيبية المقترحة.

بناء على الأسس والمرتكزات السابقة وضع المؤلف هندسة عامة للأنشطة الديداكتيكية بهدف أجرأة تعلم منهجية التحقيب التاريخي، حيث اقترح بطاقات تعليمية "تتضمن أنشطة ديداكتيكية، تنميها بدورها عمليات فكرية معينة. وسيدعى المتعلم في هذه الأنشطة إلى استثمار الموارد الوثائقية للإجابة أو القيام بإنجازات بهدف تنمية القدرات التحقيبية المعنية"[15]. ولضمان إنجاز المصوغة بشكل سليم اقترح المؤلف مجموعة من التدابير الديداكتيكية التوجيهية، كما قدم مقترحات أجوبة للمصوغة التعليمية.

وفيما يخص القسم الثاني من المصوغة المتعلق بكراسة المتعلم (المبحث الخامس) فقد اقترح المؤلف خلاله على المتعلم أنشطة ديداكتيكية تنطلق من مثال من تاريخ المغرب يتمحور حول تحقيب التحولات التي تزامنت مع الضغوط الأجنبية على الاقتصاد والمجتمع المغربيين خلال القرن 19م. من أجل إكسابه تعلما منهجيا يقوده لبناء الحقب ورصد منعطفاتها وتحولاتها بدل تلقيها جاهزة. ولتحقيق هذا الهدف استهل الأستاذ محمد صهود كراسة المتعلم بمورد منهجي وتوجيهات عملية، لمساعدة المتعلم أثناء عملية الإنجاز والإجابة عن أسئلة وتعليمات الأنشطة التعليمية التي تضمنتها أربع بطاقات. تدرجت مواضيعها حسب تدرج الخطوات التحقيبية (الإشكالية-التوقيت والكرنولوجيا-التأويل-التركيب).  

لقد كان إعداد هذه المصوغة التعليمية عملا ذا أهمية بالغة، فهو من جهة يقدم للمدرس معطيات معرفية ومنهجية تساعده على التوجيه الجيد لعمل المتعلم. ومن جهة ثانية هو عملية نقل ديداكتيكي للمعرفة العالمة بمستوياتها المنهجي والمعرفي والمفاهيمي، إلى معرفة مدرسية تراعي المستوى العقلي والادراكي للمتعلم.

ومن أجل إضفاء المصداقية على النموذج الديداكتيكي الذي اقترحه، عمل المؤلف على تجريبه استنادا على إشكالية البحث وفرضياته. وقد خصص المبحث السادس لعرض المعلومات عن هذا التجريب ونتائجه. حيث تطرق في جزئه الأول إلى منطلقات التجريب وكيفية أجرأته، والأداة المستعملة فيه. بينما قدم في الجزء الثاني نتائج التجريب وتمحيص الفرضيات من خلال معالجة إحصائية للنتائج التي تضمنتها المبيانات والجداول المستخرجة من المعدلات العامة للاختبارين القبلي والبعدي للمجموعتين التجريبية والضابطة تحليلها على ثلاث مستويات (عام-خاص-تفصيلي). حيث صبت المعطيات المعالجة بشكل واضح في اتجاه تمحيص الفرضية المركزية التي انطلق منها الأستاذ صهود وهي "أن تأسيس تعلم التحقيب التاريخي على أسس منهجية وإبستمولوجية، من شانه ان يسهم في تنمية الممارسة المنهجية التحقيبية عند متعلم المرحلة الثانوية التأهيلية"[16]  

في ختام دراسته قدم المؤلف خلاصة للمراحل التي مرت منها الدراسة في مستوياتها الثلاث، مستوى النموذج النظري، ومستوى النقل الديداكتيكي، ثم مستوى تجريب النموذج.  كما أشار   إلى حدود بحثه حيث أكد على كون تأسيس النموذج البيداغوجي على ضوء المقاربة بالكفايات ليس الاختيار البيداغوجي الوحيد، ونبه إلى كون المصوغة التي تم إعدادها همت السنة الأولى بكالوريا، وبالتالي فإن تغير المستوى يقتضي مراعاة المستويات السيكولوجية والمعرفية للمتعلمين. أما بالنسبة للتجريب أشار أنه من المفيد إعادة التجريب بموضوعات تطبيقية أخرى، نظرا للطابع المستجد للمصوغة من حيث التصور المنهجي والديداكتيكي.

لقد كان هذا الكتاب معطى معرفيا وديداكتيكيا جليل الفائدة استطاع من خلاله الأستاذ محمد صهود تقريب موضوع التحقيب التاريخي من الباحثين والمهتمين والطلبة. ورغم كون المؤلف حافظ في هيكلته للكتاب على شكله الأكاديمي، إلا أن تجربته العلمية والبيداغوجية سهلت على القارئ استيعاب محتوى الكتاب، بتقديمه لمادة خصبة حول العلاقة بين التحقيب وتطور الكتابة التاريخية، محاولا تجاوز التحقيب الكلاسيكي من خلال دراسة تطورية للتحقيب، مكنته من الانتقال إلى الشق التربوي المتعلق بكيفية تمرير بيداغوجيا تسمح بتدريس التحقيب في الثانوي؟

ختاما لا يسعني إلا أن أدعو كل المهتمين بالفكر التاريخي من مؤرخين وباحثين وطلبة ومدرسين ومفتشين وواضعي المناهج بالقراءة المتأنية لهذا الكتاب. الذي يقدم بالإضافة إلى غرضه البحثي الذي أسس عليه فرضيته المركزية، درسا عمليا في منهجية البحث التاريخي عموما والبحث التاريخي التربوي على وجه الخصوص، وكذلك درسا عمليا في منهجية بناء المعرفة في العلوم الإنسانية.

إن العمل يبدو لي جد مهم بالنسبة للتلميذ والمدرس، والطالب من أجل تكوينهم. فيما يخص الإشكالات والقضايا المنهجية المرتبطة بالتحقيب التاريخي في تدريس التاريخ. ولكونه يعتبر مساهمة جد قوية في سؤال يشغل ديداكتيك التاريخ في الثانوي التأهيلي، تفتح أمام الباحثين المجال للتفكير في التحقيب والتساؤل حوله في تدريس التاريخ بالجامعة، وفي أثره على تطور البحث التاريخي بشكل عام. 

[1] صهود محمد، التحقيب التاريخي، إسهام في التأصيل الابستمولوجي والمنهجي، مطابع الرباط نت 2016، ص.13
[2]  نفس المصدر، ص 76.
[3]  محمد صهود،2016، ص 78.
[4]  نفس المصدر، ص79.
[5]  نفس المصدر، ص80.
[6]  نفس المصدر، ص81.
[7]  نفس المصدر، ص85.
[8]  نفس المصدر، ص114
[9]  نفس المصدر، ص125
[10]  نفس المصدر، ص147
[11] محمد صهود، التحقيب التاريخي في المرحلة الثانوية التأهيلية: دراسة تشخيصية، بحث لنيل دبلوم الدراسات المعمقة في علوم التربية بكلية علوم التربية بالرباط،2002-2003 (غير منشور)
 [12] محمد صهود، ص154.
[13]  نفس المصدر، ص 155.
[14] نفس المصدر، ص161.
[15] نفس المصدر، ص163.
[16] محمد صهود،2016، ص17

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟