في بيداغوجيا المدنيّة ـ عبدالله عطيّة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Quand on commence à penser que toutes les opinions ont la même valeur , il n’ya  plus d’erreur ni de vérité.
Octavio Paz

anfasse30129في المفهوم:
التّربية المدنيّة مادّة قيم بدرجة أولى، التّسمية في حدّ ذاتها تُغني عن كلّ تشكيك في ماهيّتها من ناحية، وتؤكّد هذه الحقيقة البيّنة من ناحية ثانية. ولعلّ الانتقال في مستوى التّسمية من "التربية الوطنيّة" إلى "التربية المدنيّة" له أكثر من دلالة، هي استجابة طبيعيّة مجتمعيًّا لمرور الدّولة من طور البناء إلى طور ما بعد البناء ،أو لِنَقُل من طور بقاء الكيان السياسيّ إلى طور حسن البقاء التنشيئيّ لهذا الكيان .أعني كيف يستشعر النّشء معنى الوطنيّة حين يمارسها أفقيّا وعموديّا، الممارسة العموديّة تأخذ شكل "التعرّف على: - الهياكل الإداريّة التي يتعامل معها وتراتيب عملها / ودور المؤسّسات العموميّة وكيفيّة تنظيمها/ والعلاقات القائمة بين المؤسّسات الوطنيّة والمؤسّسات العالميّة.." ثمّ "المشاركة في نشاط المؤسّسات والمنظّمات الجهويّة والوطنيّة / والاقتناع بضرورة صيانة المكاسب الوطنيّة والإنسانيّة (1)"..هي أهداف عامّة بطبيعة الحال ضَبَطَها المقرّر الدراسيّ للمادّة وتحكمها فلسفة سياسيّة جوهرها "أنّه في كلّ بلدان العالم يُدرَّسُ الأطفالُ أنّ بلادهم هي الأحسن"(2)..أمّا الممارسة الأفقيّة فهي ذات أهميّة قصوى، هي ممارسة تنبع أوّلاً من وعْي حادّ ودقيق بالتلازم بين الحقّ والواجب...ذلك أنّ ثنائيّة الحقّ والواجب تختزل تقريبا مُجمل مضامين مدارات المادّة في مختلف المستويات التعليميّة. فطالما أنّ "المدنيّة هي مجموع الصّفات الوديعة والرّقيقة التي يحملها الإنسان أثناء تصرّفه وفي علاقاته بالآخرين" (3) فليس بالإمكان الحديث عن ممارسة أفقيّة سليمة وإيجابيّة حين لا يكون الفرد "مواطنا"...ولا يكون الفرد مواطنا في دولته إن لم يكن "واعيا بحقوقه وقائما بواجباته".


في أُسس المدنيّة:
إنّ قيم المادّة تنشيئيّة أساسا، والمدرسة فضاء للكِبَر، أمّا مستويات التنشئة المنشودة فهي ثلاث تشترك جميعها في إنتاج:
-    الوعي بالفرديّة.
-    الوعي بالوطنيّة.
-    الوعي بالإنسانيّة.
القيمة ومنها القيم، هي الأهميّة المناسبة التي يخصّ بها فرد فكرةً أو توجّهًا ما أو سلوكًا معيّنًا على ضوء تصوّر مخصوص...ومُدرّسُ التّربية المدنيّة هو بدرجة أولى "مدرّسُ قيم ومبادئ"، فالأدبيّات التّربويّة والبيداغوجيّة حديثا تنزع نحو التأكيد على أنّ الدّيمقراطيّة  مثلا ،كمفهوم حاملٍ لعديد القيم ،لا معنى له كمادّة دراسيّة إن لم يكن مصحوبا بتصرّف ديمقراطيّ يتجلّى ممارسةً أثناء أنشطة التعلّم والتّعليم. فكفاية المدرّس المهنيّة لا تتحدّد حصْريّا بما هو ديداكتيكيّ وتقنيّ، أي بدرجة وعيه بما يدرّس وكيف يدرّس – وإن كان ذلك مطلوبا بطبيعة الحال – بل إنّ الأساس الآخر لهذه الكفاية إيتيقيّ وأخلاقيّ...إنّه تمثُّلٌ للتّرابط الوثيق بين المفاهيم التّالية: المعرفة le savoir والأنْسَنَة l’humanisme والنّجاعة l’efficacité و النّجاح la réussite ...أمّا عن المعرفة فهي دون أدنى شكّ تمثُّلُ ما به يكون المتعلّم "واعيا ومقتنعا ومدركا ومستعدّا..."  فالأهداف المعرفيّة لا تتحقّق إلاّ استنادا إلى مضامين تُلامِس جوانب حياتيّة ومعيشة، وتفتح أُفُقَ المتعلّم عمّا يختلج بداخله وعمّا يحدث في مختلف دوائر انتمائه...أمّا عن الأنْسَنَةِ فهي موصولة بالمستوى العلائقيّ أي بما هو إنسانيٌّ في المتعلّم- الإنسان، فالمدرسة تنقل المتعلّم من مجال حَميميّ تحتكم العلاقات فيه إلى العواطف والمشاعر (أي العائلة) إلى فضاءات ينظّمها القانون (المدرسة ،المجتمع) من خلال الانفتاح على مفاهيم تبدو شكلانيّة (الدّور، المكانة، الوظيفة، القانون، الدّولة، الحريّة ،المسؤوليّة....)وعلى هذا الأساس فاشتغال المدرّس وتلاميذه على مثل هذه المفاهيم لا ينبغي أن يكون اشتغالا تقنيّا جافّا وخاليا من كلّ معنى إنسانيّ...فحين يباشرون مقولة المواطنة مثلاً شرْحًا وتحليلا وتعمّقا، يُنتظر أن لا يُختزل منطق التعلّمات في منطق المعارف، أي أن تكون غاية الممارسة البيداغوجيّة مجرّد حفظ معارف وترديدها للاستظهار بها عند الضّرورة التقييميّة، والمطلوب حينئذ هو استحضار ما يلي: أنّ التّربية المدنيّة –وسائر المواد الدّراسيّة في الواقع- تستدعي الوعي بأنّ التّعليم/التّعلّم موقفٌ إنسانيّ ومدنيّ أوّلُ مقوّماته استهداف شخصيّة المتعلّم بما هو إنسان...فالأنْسَنَةُ موصولة بالبُعد المتّصل بالممارسات أي بآليّات التّبليغ وبكيفيّاته، وموقع المتعلّم فيها لأنّ هذا الأخير للأسف الشّديد مازال "موضوع إعلام وليس ذاتَ تواصل" على حدّ عبارة ميشيل فوكو   l’élève est objet d’une information mais jamais un sujet d’une communication  .
إنّ الأساس الإيبستيمولوجيّ للاشتغال على المفاهيم والقيم الواردة في برامج المادّة يتمثّل في كيفيّة إكساب المعارف المتّصلة بها المعنى، أي أن يكون لها امتداد عمليّ في حياة المتعلّم: كيف يقدر المتعلّم ،في تواصل مع هذه المفاهيم ومع مدرّسه ،على تحويل هذه القيم والمعارف إلى ممارسات ، فالتّربية المدنيّة ،وهي التي تُتيح للمتعلّم الانفتاح على عديد القيم، تنشُد تعديل عديد التصوّرات ما قبل العلميّة لديه وإعانته على بناء مفاهيم جديدة يكون ناجعا في بنائها وواعيا بمضامينها وحقولها المعرفيّة.

في أبعاد المدنيّة:
إنّ المنظومة المفاهيميّة والقيميّة التي تستند إليها المادّة لها في تقديرنا أربعة أبعاد: بُعْد تحسيسيّ تنشيئيّ وبُعْد معياريّ وبُعْد معرفيّ وبُعْد إجرائيّ.
-    البُعْد التحسيسيّ التنشيئيّ: التّحسيس والتّوعية مُكوِّنان أساسيّان للحياة المدنيّة والأخلاقيّة، هُما يَسْمحان بمراجعة المتعلّم للأحاسيس والمشاعر الأوّليّة التي تَسْكُنه، يسمح له هذا البُعد باكتساب مشاعر متجدّدة تتّصل بذاته في جانبيها الفرديّ والجمعيّ من حيث خصوصيّاتها وميزاتها وجوهرها.
 أمّا عن الكفايات المناسبة لهذا البُعد فهي عديدة نذكر منها: *أن يُقَدِّر المتعلّمُ ذاتَه وفرديّتَه بحيث يجنّبها كلّ سوء وكلّ سلوكيّات لاَسَوِيّة،  *أن يُراقب اندفاعيّته وفَيض مشاعره – بحكم مرحلته العمريّة- فيوظّفها إيجابيّا في النّفع الخاصّ والعامّ. *أن يستحضر وجدانيّا الآخر فيُنْجِدُه ويتضامن معه ويُعينه.
إنّ هذه الثّقافة التّحسيسيّة تُبنَى انطلاقا من وضعيّات متنوّعة من محيط المتعلّم ،ومن محامل بيداغوجيّة تستميله وتشدّه إليها فيتفاعل معها بما يمكّنه من تصويب اتّجاهاته ومواقفه.
-    البُعْد المعياريّ (ثقافة القانون والحقّ ): إنّ ثقافة الحقّ والواجب والقانون التي توجّه السّلوكيّات داخل القسم وفي المؤسّسة التّربويّة وفي المجتمع تجعل المتعلّم يدرك كيف أنّ القيم المشتركة في مجتمع ديمقراطيّ تحكمها قواعد ومعايير مشتركة ،فالحياة الجماعيّة منظَّمة بالقانون، والمجتمع ذلك "الكائن الأعظم" على حدّ تعبير دوركهايم لا يستقيم وجوده دون الوازع أي القانون ،القانون كقواعد ومؤسّسات وآليّات رقابة ومحاسبة...
إنّ الكفايات المتّصلة بهذا البُعد عديدة نذكر منها على وجه التّخصيص ما يلي: *اقتناع المتعلّم باستحقاقات العيش المشترك المتمثّلة في منظومة القواعد والضوابط القانونيّة ،*إدراك معنى احترام هذه القواعد القانونيّة بل وحتميّة احترامها، فهي بقدر ما تَسْمَحُ وتَضْمَنُ فإنّها كذلك تَمْنَعُ وتُعاقب...
-    البُعْد المعرفيّ (ثقافة الحُكْم) :المعرفة غاية ووسيلة، هي غاية الفعل التّربويّ وهي إحدى رسائل المدرسة ،ولكنّها مع ذلك هي وسيلة هامّة لإنضاج المواقف وللمُحاجّة والمساءلة النّقديّة الواعية...فالقيم والمفاهيم المدرّسَة تظلّ حول المتعلّم ما لم تبعث فيه الحيرة المعرفيّة ولم تُدرّبه على اتّخاذ مسافة نقديّة منها، النّقدُ إجراءٌ واعٍ ومسؤول يَنِمُّ عن قدرة المتعلّم على أن يمارس سلطته ...إجرائيّا يتّخذ هذا السّلوك عدّة أشكال نذكر منها طرح السّؤال والتّعليق والدّحض والدّعم متى كان ذلك ضروريّا.
إنّ الكفايات المستهدفة من هذا البُعد تتعلّق أساسا بمدى قدرة المتعلّم على *التّفاعل مع محتويات ما يَدْرُسُ، أي بمدى أهليّته لبناء موقف مُستنِد إلى حُجج منطقيّة تناسب مستواه وتُثري تحصيله العلميّ بعيدا عن كلّ استيعاب أعمَى أو رفضٍ أصَمّ، * الارتقاء ذاتيّا من وضع اللاّمبالاة إلى موقف واعٍ يُسنِد خياراته فكرًا وسلوكًا ،ويَحمله على الإبداع و يَقِيهِ شَرَّ التّسطيح الفكريّ والوجدانيّ والاستسلام إلى المجهود الأدنى...إنّ جوهر هذه الكفاية يتمثّل في تحويل الفكرة إلى موقف.
-    البُعد الإجرائيّ (ثقافة الالتزام): التّربية المدنيّة هي تربية على القيم المدنيّة، ومنظومةُ مقرّراتها المفاهيميّة تُحاجِج كلّ تصوّر خاطئ أو ممارسة منحرفة عن ذلك، وعلى هذا الأساس فإنّ ما يتعيّن استحضاره والاشتغال عليه هو المتعلّم ذاته: المتعلّم فاعلا في محيطه المدرسيّ والعائليّ والمجتمعيّ. تتّخذ هذه الفاعليّة عدّة أشكال لعلّ أهمّها أن ينخرط المتعلّم في الشأن الخاصّ والعامّ انخراطا واعيا ومسؤولا...بل أن تتوفّر له كلّ عوامل الانخراط وأن تَضمن له كلُّ الأطراف هذا الالتزام المواطنيّ فَتُثَمِّنَ مساهماته وتُصوّب عثراته .
أمّا عن الكفايات المتعلّقة بهذا البُعد الهامّ فنذكر منها ما يلي: *أن يُجسِّم المتعلّم  تمثُّله لفكرة القانون والنّظام الدّاخلي لمدرسته *أن تتولّد لديه قناعة بأنّ المحيط المدرسيّ هو بنفس أهميّة ومكانة محيطه الأسريّ لديه  فيُخرج هذه القناعة من مستوى الاعْتِمَالِ الوجْدانيّ إلى مستوى الإجراء والتّنفيذ ويكون ذلك بالحفاظ على مكوّناته وأشيائه *أن ينخرط داخل فضائه المدرسيّ في مشاريع خاصّة وجمعيّة بدافعِ الوعي المواطنيّ والبيئيّ...

 في ضمانات بيداغوجيا المدنيّة:
إنّ بيداغوجيا المدنيّة  la pédagogie du civisme)) دقيقةٌ وحسّاسةٌ، ولا نبالغ حين نُقرّ بأنّ السّلوك والعلاقة القائمة على الممارسة أهمُّ بكثير من المعرفة المحضة، فعناوين التّربية المدنيّة والمفاهيم المتّصلة بها بقدْر ما تؤثّث المتعلّمَ بشروط المواطنة الفاعلة من خلال المعرفيّ le cognitif باعتباره أفكارا تنتظر التّجسيم ،فإنّ السّلوك والممارسة والانخراط الطّوعي فرديًّا أو جماعيًّا، من خلال المواقف أو الأفعال، تَظَلّ  كلُّها من أهمّ متطلّبات تدريس التّربية المدنيّة...فالمدنيّة علاقة، هي علاقة ناتجة عن وعْي، والوعْيُ له امتدادٌ في مَتْنٍ معرفيّ استساغه المتعلّمون وساهموا في إنتاجه وبنائه، وهذا الوعْي يستحيل على المدى الحينيّ العاجل أو الآجل ممارسة مواطنيّة مسؤولة.
إنّ تطوير بيداغوجيا مدنيّة في مقاربة القيم والمفاهيم الواردة في مقرّرات المادّة متأكّد، فليس مُمكنًا الحديثُ عن التّربية على المدنيّة والمواطنة دون إحالة مشروطة على إيتيقا وأخلاقيّات معيّنة...فالمدرّس الموكول له ذلك ،باعتباره رسولَ هذه المنظومة القيميّة، مَدعُوٌّ إلى أن يستحضر في كلّ مرّة المتعلّمَ ذاتًا وكيانًا وإنسانًا: أن يُربّي المدرّسُ يعني ذلك أن يتعامل مع المتعلّم باعتباره غاية في حدّ ذاته وليس مجرّد وسيلة...فالتّكوين المدنيّ بِناءٌ يَتمّ من خلال شبَكة من العلاقات المتفاعلة ،ولعلّ أهمّ علاقة هي التي تَصِلُ المعلّمَ بالمتعلّمِ والمتعلّمَ بالمعلّمِ ...و إنّ القيم التي يستهدفها هذا التّكوين تميّز الأفراد المتعلّمين باعتبارهم مواطنين ينتمون إلى وطن وإلى عالم وإلى ثقافة وحضارة.

الإحالات:
(1)    البرامج الرّسميّة للتّربية المدنيّة، وزارة التّربية والتّكوين ، تونس.
(2)    التّربية والنّظام الاجتماعيّ، برتراند رسل، ترجمة سمير عبده، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت ص133.
(3)    معجم علم الاجتماع.

عبدالله عطيّة ( متفقّد أوّل للمدارس الإعداديّة والمعاهد)