بناء ثقافة الانجاز ـ د. محمد الصفاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse3445الإنجاز، سلوك عملي ،يقوم على فعل يمارسه الإنسان لتحقيق منفعة يصيب أثرها الذات الفردية المنجزة للفعل، أو الذات الجماعية المنجز لها. و يرتبط السلوك الإنجازي في الصورة الذهنية، بمنجز، يحظى بقيمة نفعية مخصوصة، و قد يكون فكريا، أو اجتماعيا، أو سياسيا أو اقتصاديا، فيقال، إنجاز فكري عظيم، إنجاز اقتصادي عملاق، إنجاز سياسي فريد. إنجاز علمي مدهش .و بقول أخر، الإنجاز، سلوك مخصوص، يحكمه التدبير العقلاني المبني على سجايا مخصوصة ،قائمة على قاعدة نظرية مخصوصة، عصبها الفكر الخلاق. و معنى ذلك، الفكر العلمي المنتج باعتباره قاعدة و أساس الإنجاز البناء. إذ كلما ازدهر الفكر و نشطت الفعالية المعرفية السائرة على هدي نور النظر العقلي و حصافة المنطق، إلا و تحقق فعل الإنجاز على الوجه المطلوب. و هو ما يفسر جدلية العلاقة القائمة   بين فعل الإنجاز ببعديه النظري و العملي. و لعلها الحقيقة التي سار على هديها العقل المنجز الذي حقق سبقا و تفوقا على المستوى ألإنجازي. و على هذا الأساس يمكن القول إن الإنجاز ممارسة عقلية راقية تحكمها قيم و قناعات و خبرات و مهارات  تمثل ذخيرة تسمى ثقافة الإنجاز. و الجدير بالذكر في هذا المقام أن بناء ثقافة الإنجاز ليس بالعمل الهين بل مشروعا ضخما يرتبط تحقيقه بثابتين جوهريين:

أولهما: (1) القدرة: و المقصود بالقدرة، القيم النبيلة البانية للذات و العاصمة لها من الانحراف و الانزلاق، و الطريق إليها، التربية الفاضلة القادرة على غرسها في النفوس، و ترسيخها في الضمائر و العقول. و نظرا لما تقوم به التربية من دور فعال، و بما أنها قدرة تشتغل على منظومة القيم الحميدة باعتبارها قدرة أيضا، و تمثل أساس و قاعدة و منطلق ثقافة الإنجاز فقد فطن   إليها رواد التربية مما جعلهم يناضلون مكرسين قواهم، قصد تطوير حقل التربية، لجعله مجالا خصبا يمتلك المؤهلات القادرة على تغذية العقول و الإرادات بالمادة النافعة و المناسبة القادرة على تأهيلها لتكون عقولا مناسبة للأزمة و الأمكنة المناسبة.
(2) ثانيهما: القوة: و المقصود بالقوة، المعرفة التي يسعى الإنسان المتعلم إلى تحصيلها عبر آلية التلقي في إطار أكاديمي تحكمه شروط ومواضعات تختلف باختلاف الزمان و المكان، و كدا طبيعة العلاقة القائمة بين الأشخاص و المعرفة. و هما عاملان حاسمان في أمر الفصل بين بنيتين ذهنيتين
- بنية ذهنية ركبت صهوة الاجتهاد و البحث و اخترقت بصبر و ثبات المجهول المعرفي، فاستطاعت بما راكمته من مهارات و خبرات و تجارب علمية عملية أن تمتلك.
1- المعرفة النظرية المتمثلة في سلطة الخطاب المركز بأجناسه المختلفة، و المقصود بالخطاب المركز، الخطاب الأصل و المرجع، على مستوى التنظير، في بعده:
-    الحقوقي .
-    القانوني.
-    السياسي.
-    الفلسفي
-    الأدبي.
-    الطبي.
-    العلمي.
لدى هذه الذهنية باعتبارها المنتجة له. مما جعلها في موقع قوة تتحكم و بقوة في حركة الفكر المبدع المنتج للخطاب على مستوى التنظير.
2- الخبرة العلمية (المعرفة التطبيقية العلمية): بعد أن اكتمل الخطاب و بلغ سن الرشد و أدرك درجة عالية من النضج، انتقلت هذه العقلية إلى طور جديد من النظر العقلي، سمي و بحق، طور الانجاز التطبيقي العملي، تم في سياقه تحويل أو نقل النظريات أو المعرفة النظرية من مستواها الذهني المجرد، إلى مستوى عملي تطبيقي، لتصبح بموجبه أشياء مادية لها أثرها الملحوظ و الملموس على طبيعة الحياة. الشيء الذي أعطى للإنجاز في بعده التنفيذي حقيقته الواقعية، ذا الطبيعة التدرجية. إذ ابتدأ الإنجاز بسيطا، فتطور حتى غدا معقدا، و لازال يتطور يدفعه الألم و الأمل نحو الأكثر تعقيدا،في مقبل الأيام. و بمعنى أوضح، فالإنجاز قد بدأ بخاريا أليا، فتطور ليغدو تكنولوجيا رقميا. هذا، و تجدر الإشارة إلى أن الإنجاز من حيث طبيعته ينقسم إلى نوعين:
أ‌-    إنجاز مركب: و يتعلق بالإنجاز الصناعي بكل أنماطه، الذي يعد نتاج الاجتهاد العقلي المبني على المعرفة العلمية القائمة على سلطة المناهج.
ب‌-    إنجاز بسيط: و هو المرتبط بالمهارات المدبرة لسير و حركة المرافق ذات الصلة المباشرة بالشؤون الحياتية في أبعادها الإدارية، و الاجتماعية، و السياسية و الاقتصادية. و ليعلم القارئ الفاضل أن الانجاز أسير القيم الفاضلة، أي حينما تنغرس القيم الفاضلة و على رأسها المواطنة، و تترسخ في أوعاء الأفراد وتتشربها.وجدانا تهم عبر آلية القوة، حينها سينهض بناء الإنجاز و يرتفع صرحه عاليا، فيستقر في الوعي الجمعي كثابت من الثوابت الذهنية،المعول عليه كسبيل موصل دون غيره إلى تحقيق التفوق الفردي و الجماعي. الأمر الذي يجعل الإنجاز فلسفة تشاركيه يتقاسمها أبناء الأمة، كمشترك ثقافي يتحكم في الإرادات و يوجه العقول نحو الأهداف العليا رابطا إياها دوما بحبال الإنجاز المتينة.
و إذا كانت بعض الأمم، بعد صبر و اجتهاد و ثبات و كد، قد حالفها التوفيق و السداد في توطيد دعائم الإنجاز في أركان مجتمعاتها، و ترسيخ ثقافته بين أبنائه حتى أصبح مقوما من مقومات الحياة، و ثابتا من ثوابت الوجود، سواء تعلق الأمر بالإنجاز المعقد أو الإنجاز البسيط. فإن أمما أخرى قد حرمت من الانجاز المركب لأسباب ذاتية و موضوعية. كما أنها لازالت لم تتمكن بعد من التحكم في الإنجاز البسيط على النحو الأمثل. و العلة في ذلك كون الإنجاز يفتقر إلى الشرعية، بسبب غياب نسق ثقافي يحتضنه و يدعم فلسفته و وجوده. الشيء الذي يشوش على الانجاز و يكسر صورته و يشوه حقيقته في البنية الذهنية للفرد، مما يعيق القدرة التفاعلية لديه مع السلوك ألإنجازي. يفاد من السالف و يعمقه في الآن ذاته أن الوعي ألإنجازي يرتبط بنظامين متلازمين متكاملين:
1-    النظام المعرفي.
2-    النظام ألقيمي الأخلاقي.
و بدون توافر هذين الثابتين النابعين من صميم و جوهر كل من القوة و القدرة لا مجال إذن، للحديث بأي حال من الأحوال عن فعل الإنجاز. بل يتعلق الأمر بفعل أو حدث.و الواضح أن أي قراءة ثقافية عميقة لهذا المحتوى، لا يمكن لها أن تغفل التعارض القائم بين الإنجاز و الفعل. و لتوضيح هذا التعارض يمكن القول إن الإنجاز خبرات بشرية ذات أثر نافع لها بعد إنساني تخضع لقانون التراكم القاضي عبر السيرورة ببناء ثروة قومية، بها تنهض سيادة الأمة و على أساسها يتحقق مجدها. في حين يفتقر الفعل إلى هذه الخصائص، مما يجعله مجرد حدث ذي أثر أني غير قابل للحياة لما يعتريه من تشوهات جينية و نقائص خلقية.
لكن قد يتساءل القارئ الكريم عن الكيفية التي يتحقق بها ثقافة الإنجاز، و هو أمر من صميم ثقافة الإنجاز التي من أهم أسسها تقديم الحلول و الاقتراحات العملية. برد بسيط يمكن القول إن الإنجاز مرد ودية عالية الجودة يقتضي تحقيقها الاستثمار في المجالات الآتية:
-    المجال الآدمي: و ذلك من خلال صناعة المواطن وفق المواصفات المناسبة لحقيقة و فلسفة الإنجاز. و نشر قيم المواطنة الصادقة بمفهومها السلوكي.
-    المجال الأخلاقي: من خلال نشر القيم الأخلاقية و العمل على غرسها في النفوس و ترسيخها في الضمائر بالقدوة الحسنة لا بالوعظ و الإرشاد فقط ،باعتبارها القوة الروحية الضابطة لسلوك الفرد و المجتمع.
-    المجال المعرفي: و ذلك عبر الاهتمام بالمعرفة و تشجيع أهلها، و المقبلين عليها، و كذا الاعتناء بالبحث العلمي من جهة أنه جوهر، و فلسفة حقيقية الانجاز.
هذا و يعد الاشتغال على هذه المحاور و السعي إلى تثبيت أركانها هي الطريق و بدون شك كما يرى أهل النظر و الفكر، نحو بناء ثقافة الإنجاز. إذ بدونها وكما يرى أهل العلم والنظر، أيضا     انه ليس بمقدور الدول إن تصبح دولا راشدة ذات سيادة إلا إذا استوعبت دروس ثقافة الانجاز وامتلكت خصائصها الخلاقة وتمتعت بمستويات عالية من التعليم والتحديث في الأنماط المعرفية والتكنولوجيا.(1)            
 
الهوامش     
- الاجتهاد : مجلة متخصصة تعنى بقضايا الدين و المجتمع و التجديد العربي الاسلامي ص 430.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟