هل يمكن الكلام عن "الحق" في الكذب في المجال السياسي؟ ـ محمد المصباحي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

هل يمكن الكلام عن "الحق" في الكذب في المجال السياسي؟  ـ محمد المصباحيكانت السياسة على مر السنين هي البيئة المثالية لانبثاق الكذب بصنوفه المتعددة. لكن ألكسندر كويري يلاحظ بأننا »لم نكذب قط بالقدر الذي نكذبه اليوم. كما أننا لم نكذب بهذا النحو السفيه والنسقي والراسخ كما نكذب اليوم« . نفس الملاحظة ستتكرر عند حنة أرندت، التي انتهت إلى تقسيم تاريخ الكذب إلى مرحلتين كبيرتين، المرحلة الكلاسيكية والمرحلة المعاصرة، التي أصبح فيها الكذب كليانيا عولميا بفضل تقنيات الصورة والتواصل والإشهار والدعاية المعاصرة. ومن الواجب، إذا أردنا أن نفهم إشكالية الكذب السياسي كما تطرحها الأزمنة المعاصرة، أن نأخذ بعين الاعتبار الأفق التأويلي لزماننا الحالي. ففي هذا الزمان لم تعد الموجودات هي الموجودات، ولا الحقائق هي الحقائق، بل صارت مجرد تأويلات تخدم إستراتيجيات معدة سلفا. لم يعد الإنسان هو ذلك الحيوان الذي يعشق أن يرى الأشياء كما هي، أي ذلك الحيوان العاقل، بل صار ذلك الحيوان الذي يهوى أن يرى الأشياء كما يتوهمها ويؤولها ويقرأها قراءة ذاتية.
والكذب بعامة -اجتماعيا كان أو أخلاقيا أو حقوقيا أو سياسيا- ملازم للطبيعة البشرية. فسواء عرّفنا الإنسانَ بأنه "حيوان سياسي" أو بأنه "حيوان ناطق"، فإننا سننتهي حتماً إلى نفس النتيجة، وهي أنه "حيوان كاذب". فعندما نقول عن الإنسان بأنه "حيوان سياسي" فإننا نكون ضمنيا قد اعترفنا بأنه حيوان كاذب، لأن الكذب (وخاصة السياسي) هو ابن المدينة، ابن السلطة التي عندما تظهر بين الناس تقسمهم إلى حاكم ومحكوم، مما يسمح للكذب بالتسرب بين شقوق هذه القسمة ؛ في مقابل ذلك، الحيوان لا يكذب لأنه ليس في حاجة إلى دولة، إلى سياسة، ومن ثم فهو غير مضطر لتقديم الوعود، وإخفاء الحقيقة على الآخر أو تزييفها وإظهارها بمظهر آخر غير الذي هي عليه، لكي يكسب مغنما أو قوة وشرفا بين أهله ، الإنسان وحده من بين كل الحيوانات قادر على إعطاء الوعود وعدم الوفاء بها معا، وبهذه الجهة فهو عن حق حيوان كاذب. كما أنه ليس من الصعب ترجمة التعريف الثاني للإنسان -"حيوان ناطق"- "بالحيوان الكاذب"، ما دام أن أهم ما يميز الكلام استناده إلى الاستعارات والمجازات والتشبيهات التي تنأى بطبيعتها عن الواقعات والحقائق والبراهين، مما يسهل تسرب الكذب إلى المسافة الفاصلة بين الاستعارات والواقعات. ومن المعلوم أن اللغة العربية ترجمت كلمة "اللوغوس" اليونانية في تعريف الإنسان بالنطق والفكر معا، وكانت في هذا أمينة للّبس الأصلي الذي تنطوي عليه اللفظة اليونانية. فحينما تفهم من هذه اللفظة معنى الفكر والعقل، فإنها تجعل الإنسان باحثا عن الحقيقة، عاشقا لها، أما حينما تفهم من لفظة اللوغوس المعنى الآخر، وهو النطق والكلام، فإنها تجعل الإنسان هو ذلك الكائن سريع التصديق، ومن ثم قليل التفكير، الذي تنطلي عليه الحيلة بسرعة ويسقط في شرَك الكذب بسهولة ويسر.


والقول بأن الكذب من اللوازم الذاتية لحقيقة الإنسان لا يعني فقط بـأنه عام في الجنس البشري وحسب، بل وأيضا أنه ضروري لوجوده وحفظ حياته، »فحتى الكذب له قيمته«  كما يقول فولتير. وفي هذا الصدد يذهب نيتشه، الفيلسوف الذي أسس لثقافة الكذب ما بعد الحداثي، بعيدا عندما يصرح أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة بأنه بدون المفاهيم الخاطئة، والصور الخيالية، والأوهام اللاواقعية، تبدو الحياة مستحيلة ومقرفة، بل حتى العلم نفسه غير قابل للتصور بدون أساطير واستعارات . وبالفعل، لا يمكن للإنسان أن يستغني عن الكذب، سواء حيال ذاته أو إزاء الآخرين، وسواء كان كذبا جميلا، كالذي يطرزه الشعراء أو يدبجه المربون، أو كان كذبا مؤذيا للذات والآخر. وما ذلك إلا لأن له وظائف حيوية بالنسبة لحياة الفرد والجماعة والدولة إذ يحميها ويدافع عنها، ووظائف جمالية بسبب ما يحدثه من متعة وما يرفعه من قلق. فقول ما ليس حقا، أو قول ما لا نؤمن به، أو قول ما ليس موجودا، يُحدِث متعة للنفس، لاسيما وأنه يقنعها بأنها قادرة على الانفكاك من عالم الضرورة والإكراه، سعيا وراء الولوج إلى عالم الحرية والانعتاق، وبأنها قادرة على الخلق والإبداع وتجاوز ما هو كائن إلى ما هو قابل للإمكان، أو إلى ما ينبغي أن يكون.
وكما تمت الإشارة، للكذب علاقة عضوية بالسياسة، من أجل هذا عُنِي الفلاسفة وكتاب الدواوين والمؤرخون والمستشارون والقضاة بتأليف الكتب والرسائل في فنون الكذب السياسي في مختلف الثقافات وعبر مختلف الأزمنة والعصور، وهذا ما سمح لبعض الفلاسفة بالكلام عن تاريخ خاص بالكذب، له مراحله التطورية، التي تقتضي قفزات وربما قطائع، كما أشار مؤخرا كل من كويري، وحنة أرندت وجاك ديريدا.
وقد أدى التفشي الهائل لظاهرة "الكذب السياسي" في الأزمنة المعاصرة إلى أن يتحول إلى "مفهوم نظري"، تنظر فيه أحدث المناهج الفلسفية كالمنهج الفينومينولوجي والتأويلي والوجودي والتفكيكي، وأن يتخذ أبعادا فلسفية متعددة. وفي الماضي كان "الكذب السياسي" موضوعا لكتب ومقالات منذ أفلاطون وأرسطو وأوغسطين وماكيافيللي الخ، بيد أن هذه التحليلات والمواقف كانت تدخل إما في مجال الأخلاق، أو في مجال نصائح الحكام، أو في مجال المنطق والحجاج. أما في الفلسفة المعاصرة، فقد كاد "الكذب السياسي" أن يصير مبحثا مستقلا، تدور حوله مجموعة من المفاهيم والإشكالات والنظريات والنقاشات. لقد أضحى "الكذب السياسي" في نظر هذه الفلسفات جزءً بنيويا من العمل السياسي بعامة، سواء كان ديمقراطيا أو استبداديا، ليبراليا أو شموليا، تقدميا أو رجعيا، تنويريا أو أصولياً. فالسياسيون يجدون دائما من المبررات العملية "الوجيهة"، بل والأخلاقية "المُقنِعة"، لممارسة كذبهم، وهم مرتاحو الضمير إزاء الحق، طالما أنهم يؤمنون بأن السياسة بطبيعتها فعل كاذب.

إن متابعة دلالات وإشكالات "الكذب السياسي" يقتضي منا سلسلة متلاحقة من الأسئلة الظاهرة والخفية، مثل هل فعلا هناك، في مجال السياسة، فرق أساسي بين الكذب الكلاسيكي والكذب الحديث والكذب ما بعد الحداثي؟ هل ينبغي أن نستمر في اعتبار الكذب حتى في المجال السياسي فعلا لا أخلاقيا وربما معاديا للأخلاق، أم أن الرهانات السياسية الكبرى التي تشرط الفعل السياسي المعقد تقتضي معاملة الكذب في هذا المجال معاملة استثنائية تسمح لنا أن نتكلم عن "الحق في الكذب" من أجل مصلحة الدولة والشعب، فنعتبر الكذب في مجال السياسة فضيلة عليا مؤسسين بذلك لما يمكن أن يسمى "بأخلاقيات الكذب السياسي"، أم أنه علينا أن لا نعطي للسياسي أي مبرر وأي غطاء أخلاقي، أو أي استثناء يستعمله لإفساد وتشويه الحقائق والوقائع، والتغرير بالجمهور والرأي العام والزج به في معارك لا قِبَل له بها، وتخريب أسس الحياة المجتمعية المشتركة؟ بعبارة أخرى، هل الكذب من اللواحق الذاتية التي لا مناص منها للفعل السياسي، أم أنه فقط من اللواحق العرضية، أي من الآفات التي يمكن تلافيها بشيء من المقاومة الأخلاقية؟ وبالنظر إلى تاريخية الوجود البشري ومعناه، من الممكن أن نتساءل هل الحقيقة (ورديفها الصدق) هي التي تجعلنا أحرارا، أم أن الكذب هو الذي يحررنا من ضرورات الزمن، ومن الواقع العنيد والأرعن الذي نعيش فيه، أم أن الكذب بالأحرى ليس سوى "سلاح دمار شامل" في أيدي الطغاة والفاسدين من الساسة والسياسيين لإحكام سيطرتهم على مجتمعاتهم؟ ومن الأسئلة التي لاحت لنا، والتي قد لا نكون مضطرين للإجابة عليها: كيف يمكن مقاومة "طبيعة" الكذب الراسخة في الإنسان باعتباره "حيوانا سياسيا"؟ هل سنقاومه بالفكر النظري النقدي الذي تقوم به الجامعة، أم بالعمل الجَمْعوي المدني، أم بالعمل السياسي الذي تقوم به الأحزاب السياسية؟ هل يمكن أن يكون السياسي ماكرا دون أن يكون كذّابا؟ هل علينا أن نجيز الكذب السياسي باعتباره حقا من حقوق السياسيين، أو بوصفه من اللوازم الذاتية للفعل السياسي، أو أنه علينا أن نقاوم الكذب وندعوَ لمزيد من التشريعات التي تحمي المواطن والرأي العام والشعب من آفات الكذب السياسي المدمرة للشعوب والدول؟

من الصعب الإحاطة بكل معاني اسم الكذب والأسماء المرادفة أو الملازمة له. فالكذب يعني التقول والإفك والتضليل والخداع والإيهام والغش والمخاتلة والنصب والاحتيال والتزوير والتزييف والمكر والدهاء والإيقاع في الأحابيل وإخفاء الأسرار والغدر والخيانة الخ . كما أن الكذب يلتقي في استعمالاته السياسية، بالإيديولوجيا، خصوصا حينما تتخذ معنى قلب الحقائق وتحريفها عن معناها الأصلي، سواء تعلق الأمر بالفكر أو بالعمل ، وبالديماغوجيا والدعاية. لكن ما هو الكذب في حد ذاته؟
1) الكذب علاقة فاسدة بين القول والحقيقة (الوجود)
الكذب، في الغالب، قولٌ. أو هو تواصل عن طريق الكلمة والصورة، لكنه تواصل لا ينقل الحقيقة بل ما يتضاد معها. الكذب إذن قول مضاف على جهة التقابل إلى الحقيقة (الوجود)، أو إلى الصدق، سواء في هذا السياق الذي نحن فيه، وهو سياق السياسة، أو في غيره من السياقات السيكولوجية والاجتماعية والمعرفية. إن علاقة التقابل الإضافية بين الكذب والحقيقة قد تعني أن كل واحد من المتقابلين يوجد في قلب الآخر، مما يجعل فهم أحدهما بدون الآخر في غاية الصعوبة. إن الكذب هو من الأمور التي يدخل الضد في تعريفها، فالكذب هو تعمد نفي الحقيقة.
وقبل أن نمضي في تحليل علاقة القول بالحقيقة، يجدر بنا أن نُعرّج على القلب الذي أحدثه نيتشه في العلاقة بين مفهومي الكذب والحقيقة، حتى نحتاط منه. فقد لاح لنيتشه أن ينسب الكذب إلى كل ما هو مفهوم ومجرد وكلي (وهي الأمور التي تتوسل المعرفة العلمية والمنطقية لقول الحقيقة)، لكون المفهوم المجرد والكلي في نظر نيتشه هو مجرد هيكل عظمي بعيد عن حيوية الوقائع الجزئية؛ في مقابل ذلك ينسب الحقيقة إلى المجاز والاستعارة والأسطورة بحكم قربها من الجزئي ومحايثتها الحية له. والحال أن "الكذب السياسي" لا ينتسب لا إلى عالم الكليات ولا إلى عالم الاستعارات، لأن عالَم الأول هو عالم العلوم والثاني هو عالم الآداب والفنون، أما عالم السياسة فعالَمها هو عالم المعلومات والأفعال والمناورات والمؤامرات الجزئية والحية. هذا بالطبع لن يمنع السياسي من استعمال أدوات الخطابة والجدل والبلاغة لقلب الوقائع وإحداث التأثير المناسب في النفوس، إلا أن مهمة السياسي الكاذب ليست هي تحويل الاستعارة إلى حقيقة عبر تجريدها من واقعيتها، أو إفراغ المجاز من مضمونه الجزئي ليصبح كليا قابلا للاستخدام الاستدلالي، كما يفعل علماء الرياضيات والطبيعيات والمنطقيات في نظر نيتشه، وإنما مهمته هي تحويل ما ليس حقيقة إلى حقيقة أو العكس، أي الانتقال من الواقع إلى الخيال، من الحقيقة إلى الاستعارة. ومن ثم لا يمكن تفسير الكذب بالنسيان واللاوعي وربما بالغفلة وعدم الانتباه على غرار ما فعل نيتشه وفرويد وحتى كانط بجهة ما ، بل لا بد من اشتراط الوعي والحضور والقصد في الكذب لكي يكون كذلك، على غرار ما فعل كانط بالنسبة للكذب، وسارتر بالنسبة لسوء النية. الكاذب السياسي، لاسيما إذا كان رجل دولة، يعْرِف الحقيقة كاملة، ويحيط علما بالخبر من خلال اطلاعه على تقارير أجهزة المخابرات، إلا أنه يأبى إلا أن يضعها الحقيقة جانبا، من أجل أن يختلق "معلومات" أخرى مضللة تسمح له بإنجاز إستراتيجيته المعدّة سلفاً.
إن عدم التكافؤ بين القول والوجود (الحقيقة) تجعل المسافة بينهما مفعمة بالالتباس الذي هو أحد المصادر غير المباشرة للكذب. لكن الكذب "الحق" يذهب أبعد من الالتباس، لأن مِن شروط الكذب أن لا يكون ذهن الكاذب ملتبسا بصدد الموضوع الذي يكذب فيه؛ فلكي يكون الكاذب كاذبا يجب أن يعرف الحقيقة، ومع ذلك يرفض البوح بها. العلاقة، إذن، بين الكذب والحقيقة علاقة فاسدة، إنها كالعلاقة بين الملكة والعدم، لا كالتي بين المتضادين لأن الكذب هو الذي ينفي الحقيقة، أي يحولها إلى كذب (لا أن الحقيقة نفسها هي التي تتحول إلى كذب، وإنما موضوعها هو الذي يتحول)، في حين لا يمكن أن يتحول الكذب إلى حقيقة، اللهم إلا إذا أخذنا بنصيحة جوبلز (Goebbels)، أشهر وزراء هتلر وأحد رموز الكذب السياسي في القرن العشرين، والتي تقول » يكفي أن تكرر نفس الأكذوبة مرارا عديدة وعلى نحو متواطئ لتتحول إلى حقيقة! «. واضح أن هذا "التحول" أدخلُ في باب الألعاب السحرية، وإلا فإن من المستحيل أن ينقلب الكذب إلى حقيقة، لأن هذا يتطلب أن يكون يشترك مع الحقيقة في الانتماء إلى نفس الجنس، والحال أنهما ليسا كذلك، فكما أن الخل لا يتحول إلى خمر، بخلاف الخمر الذي يمكن أن يتحول إلى خل، فكذلك الكذب في علاقته بالحق. الكذب إذن هو نفي للموجود أو إنكار للحقيقة والصدق؛ وقد يذهب الكذب في الاتجاه المعاكس، أي أن يثبت ما ليس موجوداً، ويعلن "حقيقة" لا أثر لها في الواقع (وهو النوع الثالث من الكذب الذي يذكره ابن رشد). والكذب، بهذا المعنى هو حقيقة "ذاتية" بديلة للحقيقة الموضوعية؛ ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا قام الكاذب بالنيل من الحقيقة الموضوعية وتشويهها؛ غير أنه، وكما قلنا، قد لا تكون هناك "حقيقة" ما موجودة يعمل الكاذب على تزييفها، وإنما يعمل على اختلاق "حقيقة" بديلة من العدم. هكذا يبدو الكذب، كالتمثيل، خطابا بدائليا، لكن بينما التمثيل، إن لم يكن هو عين الحقيقة، فهو وفيّ لها بتقديمه لها بطريقة رمزية جميلة، فإن الكذب تقنية بدائلية القصد من ورائها السطو على الحقيقة وإلغائها. وفي كل الأحوال، لا بد للكذب من أن تسبقه نية معززة بالمعرفة، وإلا فإن »الجاهل، كما يقول سقراط، غير قادر على الكذب «. إن من يصدر عنه قول خاطئ دون أن يعلم أنه خاطئ، ودون أن تكون وراءه إرادة ونية مبيّتة لإيقاع الغير في الضلال، لا يُعتبََر كاذبا. إذن المعرفة والقصد، بمشتقاتهما المختلفة، ضروريان لحصول الكذب أو لاستيفاء تعريف الكذب. أكثر من ذلك، على الكاذب أن يعرف دائما أنه يكذب، فالمعرفة ليست فقط شرطا لموضوع الكذب، ولكنها أيضا شرط لذات الكاذب. فلكي نصف كولن باول بالكذّاب علينا أن نتحقق من أنه كان على علم تام بأن الحقيقة التي يفوه بها زائفة، وأن يكون له وعي واضح بأنه كان بصدد اقتراف أشهر كذبة سيعرفها التاريخ المعاصر من أجل تضليل مجلس الأمن، ومن خلاله كل العالم، خدمةً لإستراتيجية مسبقة رسمتها بلاده. أما إذا كان هذا الوزير ضحية تضليل جهات معينة، ولم يكن مشاركا مشاركة واعية ومسئولة في عملية تضليل الإنسانية جمعاء، فهو لا يستحق أن يسمى كاذبا.
وقد يبرر السياسي لجوءه إلى الكذب بالحكم المسبق الذي ينص على أن الحقيقة تتسم في الأكثر بالعطالة، أي بعدم القدرة على التعبئة والتحريك. والدليل على هذا أن من ثم من يصرّ على قول الحقيقة العاريةً الحافيةَ القدمين يكون مآله الفشل حتما في السياسة، لأن الجمهور، الذي هو مصدر قوة السياسي، لن يتبعه مادامت الحقيقة لا تحرّك فيه سكون وجدانهم ولا تستثير خمول خيالهم أو تؤجج آمالهم. وهذا ما دفع بعضهم إلى القول بأن »الحقيقة بطبيعتها لا سياسية، بل لعلها مضادة للسياسة« . أما الكذب، فيتميز في مقابل ذلك، بالقدرة على التحريك والاستنهاض إلى الفعل عن طريق إغراء الناس بوعوده المعسولة، ودغدغة أحلامهم بأوهامه المستحيلة، واستدراج قناعاتهم للالتفاف حول آرائه وتخيلاته سهلة التصديق.
وقد يبدو الكذب السياسي أحيانا فعلا مجانيا لا معنى له، ولا منفعة سياسية أو اقتصادية مباشرة من ورائه. فقد لاحظت أرندت أن الولايات المتحدة لم تكن تعرف ما ذا تريد من شنها الحرب على الفيتنام، وأنها خاضت تلك الحرب بشعارات كاذبة من أجل فرض صورتها كأقوى دولة وحسب. ونفس الأمر بالنسبة للعراق، مما يدل على أن دينامية الكذب قد تجر صاحبه إلى اتخاذ مواقف مجانية لا معنى لها، لأن الولايات المتحدة قادرة على فرض هيمنتها المطلقة بحروب أخرى لا تزهق فيها الأرواح ولا تُدمّر فيها البلدان.
2) الكذب علاقة فاسدة بين القول والفكر (الاعتقاد)
يمكن تعريف الكذب أيضا بكونه علاقة متنافية بين القول والفكر. فالكاذب هو من يقول ما لا يفكر فيه، أو هو »من يُخفِي شيئا ما في فكره، ويقول شيئا آخر«  ، أو كما جاء في تعريف كانط هو » مَن لا يؤمن بما يقوله  «، أو الكاذب هو من يقول ضد ما يعرفه ويفكر فيه. بهذا المعنى يعطي الكذب الأولوية لأحد معنيي كلمة اللوغوس اليونانية، وهو النطق والكلام، على حساب المعنى الآخر وهو الفكر. إذن هناك علاقة فاسدة بين القول والفكر، سواء من جهة الإثبات أو النفي. غير أن الكذب أكثر ارتباطا في الظاهر بالإنكار والسلب، مما يجعل طبيعته من سياق العدم. وهذه العلاقة تحملنا على تعريفه بكونه فعلا سلبيا يسعى من ورائه الكاذب إما إلى إحلال شيء محل آخر، أو إثبات أمر مكان آخر، أو التظاهر بفعل لم يُفعَل أو بحالة لم يتم الانفعال بها، إرضاءً للذات أو للآخر، أو تآمراً عليه لتحقيق مآرب معينة.
لكن ليس معنى هذا أن الكذب بعامة أمر سلبي اجتماعيا وتربويا ونفسيا، بل إنما الكذب بالنيات، أي أن ما يجعل الكذب أمرا مشينا ولا أخلاقيا في نظر الفرد والمجتمع هو مقاصده الخبيثة، وإلا فإنه أحيانا يلعب دورا إيجابيا، كأن يقوم مثلا بدور تربوي (الكذب على الطفل بصدد مرضه أو وفاة جدته)، أو بمهمة وطنية (كذب الفرد على الجيستابو الباحث عن أحد العناصر الوطنية المختبئة في بيته) أو بدور سياسي محمود (كذب رئيس الدولة بشأن قضية حساسة تهم مصير الدولة والشعب لو أفشاها لأدت إلى اضطرابات: مخزون المياه أو الحبوب، إخفاء خبر انفجار المفاعل النووي في تشارنوبل). وإذا كان للكذب وجهان، وجه متجه نحو الضلال والبهتان، والآخر نحو الصدق والحقيقة، فإن الوجه الناظر إلى الحقيقة ينظر إليها الكاذب فقط من أجل تزييفها لا من أجل الاعتداد بها. ومن البيّن بنفسه أن ازدواج القول الكاذب يعكس انقساما في شخصية قائله.
ولمّا كان الكذب هو إخفاء شيء بشيء آخر، أو إظهار شيء غير موجود أصلا، أو إنكار شيء موجود، فقد كان وجهه متجه جهة العدم في غالب الأحيان . فعندما يقدّم وزير من الوزراء إحصائيات أو تقارير "علمية" تُخفِي واقعا اقتصاديا أو تعليميا آخر لتُظهر واقعا آخر مضاداً له، يكون قد استعمل الصنف الأول وهو "إخفاء" شيء بشيء آخر غيره؛ وعندما يعرض وزير خارجية أكبر دولة عظمى صورا "للقمر الصناعي" للبرهنة "القاطعة" على  وجود أسلحة دمار شامل في العراق، يكون قد استعمل الصنف الثاني من الكذب، وهو "إثبات" وجود شيء لا وجود له أصلاً، أو إثبات ما لا ثبوت له بلغة المتكلمين؛ أما إنكار وجود سجن "تازمامارت" من قِبل المسئولين المغاربة في أجهزة الدولة والأحزاب على السواء لمدة من الزمن، فينتمي إلى الصنف الثالث، وهو "إنكار" وجود شيء موجود. هكذا يبدو الكذب وسيلة لتبرير فعل أو لتلميع صورة أو لإخفاء فضيحة. فالولايات المتحدة عندما أثبتت، أو بالأحرى ثبّتت في أذهان الجميع، وجود أسلحة دمار شامل في العراق، فهي تكون قد قامت بذلك كي تبرر "قانونيا" و"أخلاقيا" قرار شن حرب كان مُعدَّا سلفاً على دولة لم تمارس في حقها أي فعل حربي . هكذا صار العدم مبررا لممارسة العدم، مما يجعل كذب ما بعد الحداثة كذبا وقحاً وكارثيا بامتياز.
ونعود إلى أحد الفصول النوعية التي تحدد ماهية الكذب، وهو القصدية. فقد مر بنا أن ما يميز الكذب عن الخطأ هو الإرادة المبيّتة والواعية التي تدفع صاحبها إلى تحقيق أهداف مقصودة قد تتجاوز حتى سياق ومضمون القول الكاذب نفسه. فالكاذب، سواء كان سياسيا أو غير سياسي، ليس هو من يُخطئ في القول أو في الفهم أو في المعرفة، وإنما هو من يعرف الحقيقة بوضوح ويميزها عن ضدها، ومع ذلك يقوم عنوةً بتزييفها أو تشويهها لتضليل المتلقِّي وخداعه وإقناعه بصدق "حقيقة" ما ليس حقيقة، وإيقاع الاطمئنان الخادع في نفسه بها، رغبة منه في تحقيق مآرب أخرى من وراء كذبه. وكما سبق منّا القول، إن السياسي، الذي يلجأ اليوم إلى سلاح الكذب في معاركه السياسية، يكون على علم بالحقيقة، لكنه يعمِد عنوة إلى إخفائها إما بإنكارها أو بتعويضها بمعلومات مخالفة لها .
والقول بالطابع القصدي لفعل الكذب معناه، كما لاحظ كانط وتابعه في ذلك كويري، أنه ينطوي على احتقار مثلّث: للحقيقة وللجمهور وللكاذب نفسه . فالكذب احتقار للحقيقة لكون الكاذب يرى فيها أمرا كريها مقيتا يهدد مصالحه ووجوده، ولذلك يجب حجبها عن الأنظار؛ ويتجلى الكذب احتقار للجمهور في اعتبارهم غير مؤهلين لمعرفة الحقيقة، منكراً حقهم في معرفة الحقيقة كما هي، لأن هذه لا يستحقها إلا الخواص من أهل الحل والعقد ؛ والكذب هو احتقار الكاذب لنفسه، واحتقار الآخرين له في نفس الوقت، لأنه بتنكره للحقيقة يصبح أدنى قيمة من أتْفَه الأشياء، لأن " أتْفَه الأشياء" هذا قد يكون مفيدا، بينما الكاذب يُحدِث فسادا في أصل الوجود البشري . ومن أجل ذلك اعتبر كانط أن الكذب هو » أكبر مسّ بواجب الإنسان نحو ذاته من حيث هي كينونة أخلاقية « . في مقابل ذلك، يأبَى نيتشه إلا أن يتخذ موقف المنظّر للكذب والداعي لاحتقار الحقيقة، هذا الموقف الذي اقتفاه ليو شتراوس مع تأويل رديء له، حيث ادّعي بأن "الحقيقة قبيحة"، وبأنها "عقيمة وقاسية"، وبأنها مرتبطة بالظلام، لا بالنور كما كان الحال مع أفلاطون، ولذلك كلما كان الإنسان أخلاقيا بدا سطحيا وساذجا وغفلا، والعكس يبدو الإنسان في أبهى تجليات وجوده الخلاق والفعال حينما يمارس الكذب.
ومن المعلوم أن هناك تراثا طويلا في احتقار أهل النظر والفلاسفة ورجال السياسة للجمهور. ولعل أفلاطون هو أول من نظّر لهذا الاحتقار وفي كتاب سياسي، هو كتاب الجمهورية، مُرجِعا سبب احتقاره للجمهور إلى عداء هذا الأخير للحقيقة ولأهلها. فقد صورت لنا أسطورة الكهف كيف أن الجمهور ليس محبا للحقيقة، أي للمعرفة في ذاتها، أولا لأن إدراك الحقيقة تتطلب منه مجهودا مضنيا لا طاقة له به والتي لا تتجاوز حدود خياله وعقله العملي؛ وثانيا لأن الحقيقة تهدد توازنه العَقَدي وتزعزع استقراره النفسي؛ وثالثا لأن الخروج من كهف المعتقدات والظنون والآراء والأحكام المسبقة إلى ضياء الحقيقة يُعمِيه للوهلة الأولى، فيهرب منها إلى الأبد .
وذِكرُ "العقل العملي" يجرنا إلى الكلام عن أرسطو الذي وضع موضوع السياسة تحت مجال العقل العملي الذي له صلة ذاتية بالخيال والنزوع. فإذا علمنا أن هذا العقل يقوم على مبادئ الإرادة والرغبة والإمكان، في مقابل مبادئ الموضوعية والكلية والمطابقة والضرورة التي يقوم عليها العقل النظري، لأدركنا أن الفعل السياسي، في جوهره، أبعد ما يكون عن الحقيقة واليقين، وأقرب ما يكون من الاحتمال والرأي والظن، مما يجعل الخيال، وليس العقل، هو أداة الفعل السياسي بامتياز. فالسياسي، من وراء مشاريعه ومناوراته لإنشاء واقع جديد أو لفرض أرائه على المجال العام، لا يسعى إلى الحصول على المعرفة التامة، وإنما على الفعل المرتبط بالمستقبل، أي الفعل الذي يرنو إلى التغيير، تغيير الواقع الحالي. وبالفعل، ما يهم السياسي ليس صدق الحقائق والوقائع، وإنما مدى نفعها عند استعمالها لتغيير الوقائع، وتعديل ميزان القوى لصالحه. فبما أن السياسي هو إنسان فعّال للصور والأشياء، صانع للأحداث والأفعال، وخالق للأفكار والآراء المُعِدّة للأفعال، فهو بحاجة إلى الأوهام والخيالات، بحاجة إلى القفز على الحقائق والوقائع، وكأن هذه تشكل عوائق أمام طموحه السياسي، وفعله الخلاق. لذا لن نفاجأ إذا وجدنا أن الفعل السياسي، منذ الأزل، كان وما يزال قائما على انتحال الوقائع وتقديمها على أنها حقائق أو بدائل لها.
وقد اعتاد الفكر السابق على الحداثة أيضا على ربط ممارسة السياسة بالخيال، لأن السياسة تخاطب الجمهور الذي لا يفهم الحقائق ولا يستطيع تصورها إلا إذا تم تحويلها إلى مثالات ورموز واستعارات وأساطير. بهذا الوجه يمكن اعتبار الفعل السياسي أبعد ما يكون عن الحقيقة، خصوصا إذا كانت هذه الأخيرة مرتبطة بالأحداث والوقائع التي حدثت في الماضي، مما يجعله معرَّضا للكذب باستمرار. نقول هذا بالرغم من أن علم السياسة كما تصوره أرسطو علم مشتق من علم الأخلاق، مما يفترض مبدئيا أن يكون الفعل السياسي بعيدا عن الكذب، ولو أنه يعتمد على نمط خاص من الحقائق. لكن ارتباط السياسة بالشروط النظرية التي أشرنا إليها يجعلها لصيقة لصوقا ذاتيا بالكذب. فإذا أضفنا إلى ذلك أن منظّري ومؤرخي الكذب السياسي المعاصرين، أمثال كويري وأرندت ودريدا، لاحظوا بأن الفعل السياسي لم يعد اليوم مرتبطا أساساً بالعقل، وبالتالي بالحقيقة، وإنما بالرأي الذي يقوم على الخيال، لثبت لدينا أن السياسة هي أكثر شيء كذبا.
3) الكذب وإلحاق الضرر بالغير
استمر كانط في اعتبار التغليط القصدي هو ما يميز الكذب عن مجرد الخطأ، مسايرا التعريف الكلاسيكي للكذب، ومتجاهلا تعريف رجال القانون الذين يشترطون في الكذب، لكي يكون كذلك، أن يُلحِق الضرر بالآخر أو بالذات. فقد اكتفى كانط بتعريف الكذب قائلا بأنه » قول يراد منه تغليط الآخر قصدا « . أجل، كان كانط يميز عمليا بين ثلاثة أنواع من الكذب: (1) الكذب الأخلاقي الذي لا يُشتَرط فيه أن يكون مؤذيا، (2) والكذب القانوني الذي يُشتَرط فيه إلحاق الضرر بالغير، (3) والكذب السياسي الذي هو كذب على الجسم السياسي للمجتمع ككل؛ ومع ذلك فقد اتخذ نفس الموقف إزاء هذه الأنواع الثلاثة من الكذب، وهو عدم إدخال عنصر "إلحاق الأذى" في تعريفه للكذب . فهل تخلّى كانط فعلاً عن عنصر الضرر تماما في نظرته إلى الكذب؟
كان استبعاد كانط لعنصر إلحاق الضرر بالآخر من تعريفه للكذب نتيجةً لنزعته الأخلاقية والصورية والشاملة. غير أنه فعل ذلك لا من أجل استبعاد الضرر من تعريفه للكذب تماما، لاسيما وأنه يعلم أنه حتى قول الحق قد يجلب الضرر على قائله أو على غيره، وإنما من أجل إعادة النظر في مفهوم الضرر نفسه. إن رفضه للتعريف القانوني المشروط للكذب يرجع إلى إيمانه بأن الكذب، مهما كانت النوايا الطيبة التي تقف وراءه ومهما كانت درجة "براءته"، ومهما كان نفعه للذات أو للآخر، فهو بطبيعته مؤذٍ للإنسانية جمعاء، أي بما هي إنسانية، لأنه يقوّض مصدر الحق، وبالتالي ينسف كل المبادئ الأخلاقية والعقود السياسية. إذن كيف نوفق بين استنكاره إدخال عنصر الضرر في تعريف الكذب، والكلام بقوة عن الضرر الشامل الذي يحدثه للإنسانية، وكأن الكذب شر مطلق؟
من أجل الإفلات من هذا التناقض، استعمل كانط زوجين من المصطلحات الأرسطية المتقابلة: "بالعرض وبصفة عامة" من جهة، و"المادي والصوري" من جهة أخرى. فقد ميّز بين صنفين من الضرر؛ حيث فصل أولا بين الضرر الذي قد يُلحِقه القولُ الصادق بصاحبه أو بالغير، والضرر الذي يلحقه القول الكاذب حتماً؛ فالضرر الذي يحدثه القول الحق هو ضرر بالعرض، أولا لأن الحق بطبيعته لا يمكن أن يضر، وثانيا لأنه ضرر نادر ولا يلحق سوى الفرد لا الإنسانية (مثلا أن تفشي سر وجود أحد المقاومين في بيتك للشرطة عندما تسألك)؛ بينما الضرر الثاني، أي الضرر الذي يحدثه الكذب، هو ضرر يلحق الإنسانية بعامة، مما يجعله ضررا بالذات لا بالعرض (قد تنقذ حياة المقاوم المختبئ في بيتك إن كذبت على الشرطي الذي يبحث عنه، لكنك بهذا الكذب تكون قد أسهمت في تقويض مبدأ الصدق والكرامة في الإنسان). موازاة للقسمة السابقة، ميّز كانط بين الضرر المادي والضرر الصوري؛ الأول يتصل بالضرر الذي قد يحدثه قول الحق، ووصفه بالمادي يعني أنه ضرر عرضي وحسب؛ أما الضرر الصوري فيتصل باقتراف الكذب، ومن أجل هذا فهو يهدد مصير العقد الاجتماعي، ومصير الحق السياسي والقانوني والأخلاقي، مما يجعله ضررا كليا أي ذاتيا. فإذا سلمّنا بهذا التمييز المزدوج، فإنه يحق لنا أن نقول بأن الضرر لا يمكن فصله عن تعريف الكذب، لكن لا الضرر المادي العرَضي، وإنما الضرر الصوري والعام (أو الذاتي )، أي الضرر المعنوي أو العقلي، الذي يؤذي الإنسانية ككل، لأنه يخرّب أصل القول الحق ذاته. 
4) الكذب أداة الفعل السياسي
إن عالَم السياسة لا يتكون من أشياء وأعراض، كما أنه بالأحرى لا يتكون من مفاهيم ومعان، وإنما من قوى وبرامج ومشروعات مجتمعية متصارعة يقودها أفراد أو أحزاب. بناء على هذا يمكن تعريف السياسة بأنها فن ممارسة الصراع مع قوى مخالفة للاستيلاء على السلطة والحكم، وبطريقة غير مباشرة، للاستحواذ على الحق. فأن تمارس السياسة معناه أن تستعمل كل ما في وسعك من قوة لتتغلب على قوة أو قِوَى الخصم. وهذا ما يجعل السياسة من جنس الحرب، أو بالأحرى هي الوجه الآخر للحرب واللّعب معا، مما يحملها على أن تجعل هذين الفنّين جزءً من طبيعتها، عِلما بأن هذه الفنون الثلاثة تشترك في رهان واحد هو تحقيق النصر. ولمّا كان الانتصار في الحرب أو اللعب يقتضي، بجانب المعرفة والحنكة، ممارسة الخدعة، فإن صاحب السياسة سيكون مضطرا هو الآخر إلى ممارسة ضروب من المناورة والمخادعة والافتراء والتعمية والتمويه وإخفاء الأسرار، أي ممارسة الكذب لتحقيق النصر والاحتفاظ به. فالسياسي كما قال ميكيافيللي لا ينتصر فقط بالقوة ولكن أيضا بالحيلة والخدعة.
والحصول على القوة يكون عبر الفعل، أي عبر خلق الأشياء والأوضاع والمشاريع الجديدة. من هنا يمكن استبدال التعريف السابق للسياسة بتعريف آخر يقول بأن صراع القوى في المجال السياسي هو في نهاية الأمر صراع بين أفعال أو بالأحرى بين مشاريع أفعال. لكن بما أن أبطال وموضوعات الصراع هم جمهور الناس، فلا بد من إقناعهم. ولا يمكن إقناع الجمهور دائما بالحقائق، لاسيما وأن هذه الأخيرة لا تُسعِف السياسي دائما، لذلك سيكون مضطرا أن يحرّف المعطيات والوقائع والحقائق ويزيف الأخبار والمعلومات، بتضخيمها أو نفيها أو التقليل من شأنها أو تحريفها من أجل كسب الناس إلى جانبه.
ومن البيّن بنفسه أن موضوع السياسة ليس هو الحقيقة العقلية ولا الحقيقة المنطقية، وإنما هو الحقيقة الفعلية، المرتبطة بالمعطى المحسوس والمؤثر. وهذا معناه أن للمجال السياسي حقائقه التي تتميز بمعاييرها الخاصة المختلفة عن معايير الحقائق العلمية والأخلاقية وحتى الدينية. فإذا كان معيار الحقيقة في مجالي الرياضيات والعلوم الطبيعية هو المطابقة، سواء مع المبادئ والمصادرات أو مع الوقائع، فإن الحقيقة السياسية لا تقتضي سوى التوافق عبر المشاورة والمناقشة، أي استجابتها لأكبر قدر من انتظارات الجمهور، ومطامح التغيير والتجديد والإصلاح. أكثر من ذلك، بما أن حرفة السياسي تكمن في أن يعمل على تغيير المعطيات، فإن هذا التغيير قد يتطلب منه تزييف الوقائع، أي ممارسة الكذب ، وكأن العمل السياسي يقتضي من الإنسان أن يكون خفيف الروح بحيث يستطيع أن ينتقل بيسر ورشاقة بين الحق والكذب لجلب الإعجاب والدهشة من مخاطبيه. وضمن هذه الحيثية، لا يمكن أن يكون رجل المخابرات رجل سياسية، لأنه مبدئيا رجل حقائق، أي يتعامل مع الوقائع كما هي، لا كما ينبغي أن تكون . والدليل على ذلك، كما لاحظت حنة أرندت باستغراب، أن السياسيين لا يأخذون تقارير المخابرات مأخذ الجد، لأنهم لا يريدون أن يسجنوا أنفسهم داخل نطاق الحقائق، بل يريدون أن يذهبوا إلى ما بعدها، أن يصنعوا حقائقهم ووقائعم بأنفسهم. بعبارة أخرى، لو ركن السياسيون إلى الحقائق واكتفوا بها للقيام بتحليلاتهم وتصوراتهم وخطاباتهم، لقعدوا عن أفعالهم ولما كانوا سياسيين بالمعنى الحق للكلمة. فالسياسي لا تهمه الحقيقة، بقدر ما يهمه الفعل الذي يحول اللاحقيقة (الكذب) إلى حقيقة.
وتقودنا المعطيات السابقة إلى القول بأن الحقيقة السياسية ليست حقيقة منفعلة، وإنما هي حقيقة فعّالة، تمتاز بالمبادرة لتغيير المعطيات إلى افتراضات وتخمينات ومشاريع مضادة للمعطيات في اتجاه المستقبل. فالسياسي الحق (رجل الدولة) هو الذي يستطيع أن يغير اتجاه سفينة الدولة وربما دفة التاريخ (نابليون، بطرس الأكبر، باسمارك، أتاتورك...). بيد أن هذه الحقيقة التي هي قيد التشكيل غالبا ما تلبِس لباس الكذب، وكأن الكذب هو الذي يعطيها القدرة على الحركة وعلى تغيير الواقع قولا وفعلا. فإذا سلّمنا بهذا، فستكون السياسة داخلة تحت ثلاث مقولات أساسية: الزمن، والإمكان ثم الحرية.
فطالما أن ما يهم السياسي إنما هو الفعل المتصل بالمستقبل، فإنه لا بد من دخول عنصر الزمن في تعريف الحقيقة السياسية. ولعل هذه العلاقة للحقيقة السياسية بالزمن هو الذي جعل منظري الأنظمة الكليانية من الفلاسفة والمفكرين يرفضون الحقائق الميتافيزيقية والعلمية، ويعلنون »بأنه لا معنى لمفهوم الحقيقة الموضوعية والوحيدة بالنسبة للجميع؛ وأن معيار الحقيقة ليس معيارا شاملا، وإنما هو مرتبط بروح العرق، أو الوطن أو الطبقة، مرتبط بنفعه العرقي، والوطني أو الاجتماعي« . بل حتى الديمقراطيات الكبرى تشترك، بجهة ما، مع الأنظمة الكليانية في الاستخفاف بالحقيقة؛ فقد لاحظ كويري باكرا أنه بالرغم من أن نظام الولايات المتحدة ليس نظاما كليانيا، فقد برهن على أنه يقوم على »إعطاء الأولوية للكذب« .
ولمّا كانت الحقيقة السياسية حقيقة زمنية، فستكون بالضرورة حقيقة ممكنة، لأن حركة الزمان تقتضي فضاء الإمكان. ولذلك عادة ما تُعرَّف السياسة بأنها فن الممكن. والحال أن الإمكان، كما مر بنا، هو الشرط القبْلي والضروري للكذب. فالكذب لا يمكن أن يظهر في بيئة قولية تهيمن عليها الضرورة والحتمية، وإنما يتولد في بيئة تطبعها القوة والإمكان، الذي يسمح بالظن والرأي والتخمين والتخييل، أي برؤية الواقع على غير ما هو عليه، ولو أن الكذب يذهب أحيانا أبعد من ذلك عندما يطمع في اقتطاع موضوعاته من مجال المستحيل. ونجد صدى هذا الازدواج في معنى الكذب لدى ابن رشد أثناء تفسيره لأرسطو .
والكلام عن الإمكان لا ينفصل عن الكلام عن الحرية. نعم، إن » الحرية هي جوهر الحقيقة« كما قال هيدجر، فكيف يتأتى لنا ربط الكذب بها؟ الحل يكمن في الوجه الآخر للحرية. فالقول بالحرية بإطلاق هو اعتراف بأن الوقائع جائزة، ممكنة، وأنه يمكن التصرف فيها وتصريفها إلى ما هو أحسن، وهذا ما عبّرت عنه حنة أرندت أفضل تعبير عندما قالت: »نحن أحرار في تغيير العالم وإدخال الجديد عليه. وبدون هذه الحرية الذهنية للاعتراف بالوجود أو نفيه، بدون هذه القدرة على الإدلاء بنعم أو لا ... لا يمكن أن تكون هناك أية إمكانية للفعل؛ والحال أن الفعل هو جوهر الفعل السياسي« . ولعلنا قد ذكرنا فيما سلف من القول بأن الكذب هو إحدى علامات الحرية: فحرية القول، وهي الحرية في نفي الحقيقة، هي حرية الكذب؛ وحرية الفعل، أي الحرية في نفي الواقع وتعديله وتجديده، هو اعتراف بشرعية الكذب بجهة ما. وهنا لا نملك إلا أن نعترف بأنه بفضل الكذب يشعر الإنسان بنفسه خفيفا يستطيع خرق عادة المتناقضات، وتجاوز سقف المبادئ والمسلمات، والتحليق طليقاً فوق قواعد الأخلاق والمواضعات والأعراف. لكن هذه الحرية نفسها قد تصبح أيضا طاغوتا وجبروتا عندما يجري باسمها إلغاء حرية الآخرين، ومصادرة حق الأغيار في معرفة الحقيقة، وتخريب ثقافات المخالفين "المارقين" وحضاراتهم وكياناتهم السياسية.
5) الكذب قول تخييلي
بالرغم من أننا في تحليلاتنا السابقة ربطنا السياسة بالقوة، وبالرغم من أن الأفعال الملموسة هي ما يميز موضوع الحقل السياسي، فإن العنصر الجوهري في تحقيق السياسات هو الأقوال والخطابات (سواء كانت منضوية تحت مبحث الخطابة، أو الجدل، أو السفسطة، أو البلاغة)، وما تنتجه وتثيره من تمثلات وخيالات وأوهام وأساطير وتأويلات). والأقوال، بهذه الجهة، هي بمثابة الوسائل، والأفعال بمثابة غايات تلك الأقوال. وهذا ما نبّهت إليه بقوة حنة أرندت حينما قالت: »أن تكون سياسيا، أن تكون في المدينة (polis) معناه أن تقرر كل الأشياء عن طريق الكلام والإقناع، وليس بالقوة والعنف« . والمطلوب من هذه الأقوال، في بادئ الرأي، أن تكون صادقة، لا كاذبة، بيد أن كويري لا يتردد في ربط القول عامة بالكذب: »فعلاً، يُعرَّف الإنسان باللغة، التي تفضي إلى إمكان الكذب... مما يجعل الكذب خاصة الإنسان« .
وهنا سيكون علينا من جديد أن نعود إلى مفهوم "القوة". فإذا كانت "القوة" هي ما يجعل سياسيا ما يتفوق عن زملائه السياسيين، فإنه غالبا ما يستمدها من قدرته على الخطابة، أي من براعته استمالة الجمهور؛ فبقدر ما يتمكن السياسي من أن يحشد أكبر عدد من الجمهور، تكون له القدرة على التأثير على الفضاء السياسي، وبالتالي على التغلب على الخصوم. ولا يمكن للسياسي أن يستميل الجمهور، وبخاصة في الأنظمة الديمقراطية، إلا بحسن الخطاب. فالقادر على اختلاق الصور المُغرية، والأوهام الخلابة، والأحلام الفاتنة ولو كانت مستحيلة، هو مَن يستطيع أن يكسب معركة القوة ضد خصمه. ولمّا كان ابتكار هذه الصور والأحلام والأوهام ليس من أجل ذاتها، ولا من أجل التمتع بها، كما هو الحال في الأدب والفلسفة، وإنما من أجل استمالة الجمهور والاستحواذ على الفضاء العمومي واستقطاب الرأي العام إلى جانب البرنامج السياسي المدافع عنه، فإن أداة صنع تلك الصور، أي أنواع الأقوال المعروفة، وبخاصة الخطابة، هي التي تمنح القوة للسياسي. من هنا يمكن القول بأن السياسة هي أقرب ما تكون إلى الشعر: فكما أن "أعذب الشعر أكذبه"، كذلك أعذب السياسة أكذبها. باختصار، في السياسة وربما في كل شيء، لا يمكن للأفعال أن تخرج إلى الوجود إلا عبر الأقوال، أي عبر العبارات والخيالات والاستعارات والصور والأحلام.
ومعنى هذا، أنه لمّا كان السياسي غالبا ما يتوجه بخطابه إلى الجمهور، لا إلى الخواص من العلماء والمفكرين، فهو لا يُعنَى في المقام الأول بالبرهنة على موقفه والاستدلال على آرائه ومشاريعه المستقبلية استدلالاً عقلياً لإحداث اليقين والاطمئنان في أنفسهم، وإنما يهتم بإقناع الجمهور بها باستعمال الأقاويل الجدلية والخطابية والسفسطائية والشعرية والحكائية. وتسمح هذه الأقاويل، التي تنطلق من قاعدة الخيال، بتلفيق الحيل القولية للقفز على الحقائق الواقعية، وإظهار ما ليس هو على أنه هو . هكذا يكون الطريق السليم لفعل السياسة هو الالتفاف على الحقيقة والواقع وتقديمهما بطريقة تخدم هدف السياسي، وهو الانتصار على خصومه وربما على الواقع نفسه.
وإذا كان الفكر السياسي "ما قبل الحداثي" قد اعتاد أن يُرجِع التقابل بين الجمهور والخاصة إلى التقابل بين الحقيقة والرأي، وبين العقل والخيال (الروية، الفكر...)، فإن الفلسفة السياسية المعاصرة، في نظر حنة أرندت،  ألغت هذا التعارض المزدوج بين الحقيقة والرأي، وبين الخاصة والجمهور. ودليلها على ذلك، من جهة، أن الحقيقة صارت اليوم نتيجة توافق وإجماع، لا وليدة تطابق أو إكراه؛ ومن جهة ثانية أن الكذب السياسي لم يعد ينطلي فقط على الجمهور، بل وحتى على الخاصة من المثقفين والسياسيين الذين يبدو أن انخداعهم بالكذب يكون أسرع وأفدح، لأنهم لا يكتفون بالتأثر والانفعال به، بل ويعملون على ترويجه، والدفاع عنه، والدعوة إليه بالحجة والدليل .
وللكذب السياسي، كما هو معلوم، مقاصد متعددة، فهو ليس موجها دائما لخداع العدو أو الخصم، بل قد يكون موجَّها للاستهلاك الداخلي، أو للدعاية الخارجية، أو لخداع المؤسسات التشريعية المحلية لاستدراجها إلى استصدار أمر بالحرب أو بالسلم ( أو الاستسلام). ويضطر السياسي إلى الكذب لأنه منحاز إلى جهة معينة، فهو لا يستطيع قول الحقيقة طالما أنه متورط في التزامه بحزب أو بسلطة أو بدولة، أي أنه لا يستطيع الوقوف على مسافة واحدة من كل التيارات والأحزاب - كما هو الحال بالنسبة للقاضي أو الأستاذ الجامعي- ليقول الحقيقة.
وقد مرّ بنا أن العلاقة الجوهرية بين السياسة والكذب معروفة منذ القِدم، أي منذ أن عرف الإنسان مؤسسة المدينة أو الدولة، بل ومنذ أن عرف الإنسان الحقيقة. فلو جازفنا بترجمة كلمة الكذب باللاحقيقة، لألفينا أنفسنا متفقين مع ما صرح به هيدجر في كتاب ماهية الحقيقة –ولو في سياق آخر- بأن »الحقيقة بدأت مع بداية هذا التاريخ، لكن مع هذه البداية دخل الإنسان في اللا-حقيقة، بالمعنى العميق للاّ-حقيقة، أي باعتبارها انكفاءً وتراجعا (retrait) للموجود«، وبهذه الجهة يكون »السؤال عن ماهية الحقيقة قد تحول إلى سؤال عن اللا-حقيقة« . هكذا يكون ظهور الوجود البشري نفسه رهناً بظهور اللاحقيقة . وهذا يعني أن تعريف الإنسان بأنه حيوان كاذب لا يبعد عن الحقيقة!
إذن لا مفر للسياسي من الكذب، مهما علت نزاهته الأخلاقية، لاسيما إذا كان الجمهور يتوقع منه أن يكذب عليه ليدغدغ أحلامه ويوسع من فضاء أوهامه. فالسياسي الماهر، كما لاحظت أرندت، هو من يحدس انتظارات الجمهور وتوقعاته وآماله في تحقيق أهدافه الصغيرة والكبيرة. إذن الكذب صفة ذاتية للفعل السياسي، ولا يمكن أن ينفك عنه. فالسياسي يتميز عن غيره من الناس بحيازته لملكات المكر والدهاء، وقدرات المراوغة والمناورة والتضليل، وهي ملكات وقدرات ملتبسة بالكذب في أصلها. في مقابل ذلك، من يروم إصابة الحق في أقواله وأفعاله بنزاهة وموضوعية وحياد، فسيكون مآله الفشل الذريع في حلبات السياسة.
من أجل هذا، أجمع كل المهتمين بظاهرة الكذب على أن هذا الأخير أمر حيوي لا بالنسبة للسياسي وحسب، ولكن أيضا بالنسبة للجمهور العريض من الناس. والكذب يخضع هو الآخر لقانون العرض والطلب، أي أن هناك جدلا متفاعلا بين الكاذب والمكذوب عليه، فالكاذب يكذب لأن هناك من يطلب ويلح عليه أن يكذب. غير أن المشكل ليس في الفاعل، لأن له مبرراته ومآربه التي تدفعه للافتراء والنصب على المكذوب عليه، وإنما المشكل في المتلقي، الذي يعرف أن السياسي يكذب عليه، ومع ذلك يستمر في الاستلذاذ بكذبه وقبوله كما لو كان هو عين الحقيقة عن طيب خاطر! بهذا النحو، يبدو الإنسان وكأنه لا يريد أن يتعرف على الحقيقة، لا يريد أن يكون حراً، بسبب ميله الفطري للتصديق السريع، وجنوحه الغريزي للانتشاء بالأوهام، بدلا من تمحيص الحقيقة والعناية ببراهينها وفحص مقتضياتها. الإنسان يفضل رؤية تشابيح الكهف وظلاله على مشاهدة أنوار الحقيقة الساطعة، والتملّي بأضواء الأشياء كما هي، لأن الأنوار تؤلمه بعد أن اعتاد لذة الظلام، ظلام الكهف ، مما يعني أن »إرادة الظهور، والوهم، والخداع... هي أكثر عمقا، و"أكثر ميتافيزيقية"، من إرادة الحقيقة«  في الإنسان، كما يقول نيتشه. والسياسي الحاذق هو من يعرف كيف يستثمر هذا الميل الغريزي أو الميتافيزيقي في الإنسان، وكيف يتوقع ما يريده جمهوره منه، فيلجأ إلى خياله لاصطناع التخييلات والأوهام المناسبة لدغدغة أحلامه.
6) الحق في "الكذب الفاضل"
بعد كل هذه الجولة في بنيات وآليات ووسائل ومقاصد الكذب السياسي، نعود للتساؤل مع كانط هل من حقنا أن نتساهل مع الكذب، فنسمح به في بعض الحالات الاستثنائية، حينما يكون الكذب مثلا مفيدا لنا كأفراد أو كجماعات أو دول، أو على الأقل حينما لا يكون الكذب ضارا لنا ضررا ماديا مباشرا؟ بل هل بوسعنا أن نتكلم أحيانا عن "واجب" السياسي في الكذب؟ مثلا تحت ذريعة اتقاء شر مرتقب، أو ضمانا للمصالح "العليا" للبلد؟ هل من حق المواطن أن يكذب على عدوه بدافع الوطنية أو الهوية، أم أن عليه أن يخبر بالحقيقة كيفما كانت، ومهما كانت النتائج المترتبة عنها ؟ يجيب كانط بطريقته المعتادة الصارمة بأنه من المستحيل الكلام عن استثناء ما بالنسبة لقاعدة الصدق، أي الكلام عن "الحق في الكذب"، أو الحق فيما يمكن أن يسمَّى "كذبا فاضلا"، لأنه متى سمحنة بأي استثناء في هذا الصدد، وتحت أي ظرف أو استناداً إلى أي مسوّغ كان، فسنقوم بإفساد الأساس الذي يقوم عليه الحق والصدق، معتبرين الكذب عندئذ "فاضلا"، فستختلط معه الفضيلة بالرذيلة . هذا علاوة على أنه لا يمكن تبرير "الحق في الكذب" بالنفع والفائدة، لأن مثل هذا الادعاء، في نظر كانط، مضاد للمشروعية، إذ لو توقف الحق عن أن يكون حقاً في ذاته، أي حقاً مطلقا غير مشروط، لكفّ عن أن يكون حقا. إن إخضاع الحق للشروط والظروف الاستثنائية، حتى لو كانت إنسانية أو مصيرية، معناه، في نظر كانط، إلغاؤه من أساسه. من أجل هذا، ليس للإنسان فقط الحق في أن يكون صادقا، بل عليه واجب أن يقول الصدق، مهما كانت العواقب والتبعات التي ستترتب عليه أو على غيره. مما يعني أن الإنسان ليس حرا في أن يقول الصدق أو أن لا يقوله، لأن » الصدق واجب غير مشروط (مطلق)« . فهل سيستمر كانط في صرامته العقلانية في تحريم الكذب حتى بالنسبة لمجال السياسة؟
نطرح هذا السؤال بهذه الصيغة لأن السياسة بطبيعتها تقتضي قدرا عظيما من المرونة والكياسة، ودرجة كبيرة من المراعاة لمصلحة الدولة والمجتمع، وإلا فإنها ستتوقف عن أن تكون سياسة. فإذا كانت السياسة هي فن تدبير الشأن العام، أي تدبير أمور الدولة المعقدة والمتشابكة حفاظا على كيانها ومناعتها، وكان إفشاء بعض الحقائق والأسرار من شأنه أن ينال من هيبتها ويهدد أمنها ويزعزع استقرارها ونفوذها، أو يفتّ من عزيمة جيشها، أو يخرب اقتصادها، فقد يتبادر للذهن أن الكذب أمر ضروري. كما أنه إذا كان إخفاء بعض الحقائق الإستراتيجية عن طريق مراقبة الأخبار سيُعِين على إنجاز مهام سياسية أو أمنية هامة بالنسبة لمصير الأمة، فقد يبدو الكذب فضيلة ضرورية في عالم السياسة (مثلا لو قام الحسن الثاني مثلا بإفشاء سر المسيرة الخضراء وإخبار مَن كانوا يشتغلون معه وحواليه صباح مساء في إعدادها دون أن يخطر على بالهم الغاية مما يفعلون، لما كان لهذا الحدث أن يحدث، ولما كان له ذلك الوقع السياسي العالمي المدهش!).
لكن كانط أبَى إلا أن يصرّ على أن ليس على الحق أن يتكيف مع الضغوط السياسية، أو يخضع لمقتضياتها وضروراتها، بل على العكس من ذلك، السياسية هي التي عليها أن تخضع لضوابط الحق . فالصدق يبقى مبدأ مقدسا ولا يقبل أي استثناء أو مرونة حتى في مجال السياسة. بعبارة أخرى، لا يمكن الكلام عن "الحق في الكذب" حتى لو كان مفيدا للدولة وللجماعة أو قادرا على درء الشر عنها، وحتى لو كانت الحقيقة جارحة للأفراد والأمم، بل وحتى لو كان الكذب بسيطا تافها.
ويعزز كانط برهنته على استحالة قبول الاستثناء بالنسبة لقاعدة الصدق بثلاث حجج: أولاها تنطلق من اعتبار أن »الاستثناء من القاعدة هو تناقض في حد ذاته«، فمعنى القاعدة، من حيث هي قاعدة، هو أن لا تقبل أي استثناء، وإلا صارت متناقضة مع نفسها. بعبارة أخرى، لو قبلنا باستثناء واحد للقاعدة الأخلاقية الآمرة بأن لا نكذب، لأضحت هذه القاعدة مضادة لمفهومها، الأمر الذي سيؤدي إلى تخريب مصداقية المبدأ الذي يقوم عليه كل قول، وهو الثقة؛ وثانيا القبول باستثناء في القاعدة المانعة لنا من الكذب » يُفسِد الشمولية، التي بها وحدها تستحق المبادئ أن تسمى مبادئ« ، وثالثا لأن »الكذب هو إذلال، أو بالأحرى تدمير لكرامة الإنسان« ، لأنه ينطوي على احتقارٍ لكرامة الجمهور أو الشعب الذي نكذب عليه، وعلى اعتراف ضمني بأن لا حق له في الخروج من ظلام الجهل، ولا أهلية له لمعرفة الحقيقة وتلقّي نور العلم. إذن لا استثناء في الكذب، سواء تعلق الأمر بالأخلاق، أو بالحق، أو بالسياسة.
بيد أنه لا بد من الإقرار بأن زمن الصرامة الكانطية قد ولّى، زمن إخضاع السياسة لعقلانية مطلقة لا تقيم أي وزن للأبعاد الإنسية في العلاقات السياسية. فمنذ أن فرّقت الحداثة السياسية، مع مكيافيللي، بين الأخلاق والسياسة أسست لمشروعية الكذب في السياسة، بل ومهدت الأرضية لكي يصبح الكذب، بجهة ما، مرادفا للسياسة. أكثر من ذلك، وكما سبقت الإشارة، نعيش الآن في زمان تفاقَم فيه الكذب السياسي تفاقما مذهلا إلى درجة أصبح فيها سلاحا مدمراً لدول وثقافات وشعوب بأكملها باسم "حقائق" لا ندري من هو خالقها الأصلي (الإرهاب، أسلحة الدمار الشامل مثلا، نشر الديمقراطية). لقد صار الكذب في زماننا هذا، زمان تقنيات الصورة والإعلام والتواصل، صناعة ضخمة قائمة بذاتها، تُسوَّق منتجاتها بطرق حديثة، مما جعل الحقيقة تبدو وكأنها عاطلة لا تؤثر على الملأ. نعم، دائما اعتُبِر الكذب أداة في غاية الأهمية في السياسة منذ أن وُجدت الدولة، بيد أن » الكذب الكامل والنهائي لم يكن معروفا في الأزمنة السابقة« . ومع ذلك، فإن تطور الصناعة الجماهيرية للكذب لم يكن متناسبا مع "جودته" و"إتقانه"؛ إذ يبدو أن تطوره الكمّي أفضى إلى تدهوره الكيفي ، حيث صار الكذب اليوم أكثر وقاحة وفظاظة وسماجة. ذلك أن الكذّاب اليوم (وقد يكون ناطقا باسم معهد مرموق للبحث العلمي في مجال السياسة الخارجية لهذه الدولة أو تلك!) يعرف أن مخاطَبَه يعرف الحقيقة، ومع ذلك يصرّ على ترديد كذبته البذيئة المرة تلو الأخرى بدون ملل أو كلل، وكأنه يريد أن يثبت عنوة بأن له وحده الحق الشرعي في الكذب، وأن الآخرين لا حق لهم في معرفة الحق. وضمن هذه الشروط، دخلت العولمة ساحة الكذب، حيث لم يكتف بعض رؤساء الدول الكبرى بالكذب على شعوبهم، بل صاروا يسوّقون كذبهم ويفرضونه بالقوة على كل شعوب العالم، بل صاروا يكذبون حتى على الله!
وتَحْمِلنا ظاهرة استفحال الكذب المنظّم والمتطور تقنيا وجماهيريا على التساؤل مَن المسئول عن اتخاذ الكذب هذه الأبعاد الكونية في الأزمنة المتأخرة، بحيث » صار الإنسان الحديث – وبخاصة الإنسان الكلياني ... – يسبح في الكذب، يتنفس الكذب، ويئن تحت وطأة الكذب في كل لحظة من لحظات حياته«؟ . ودون أن نعود إلى سلسلة الأسباب التي قد تكون وراء هذه الظاهرة، نكتفي هنا بالمجازفة في تحميل كانط قسطا من مسئولية هذا الوضع الذي اتخذه الكذب، على الرغم من وقوفه الصارم لصالح الحق، ومعارضته لأي نوع من الاعتراف "بالحق في الكذب"، ولو تعلق الأمر بالحياة والموت بالنسبة لشعب أو دولة أو فرد. ونحمّل كانط هذا القسط من المسئولية غير المباشرة من ناحيتين؛ الأولى تعود إلى ثورته الكوبرنيكية العارمة، التي بمقتضاها لم يعد الإنسان يقنع بفكرة "الحقيقة المنعكسة" في الذهن لحقيقة معطاة في الوجود الخارجي، أو يكتفي بالحقيقة المنزّلة التي لا تقبل نقاشا ولا اجتهادا، بل أضحى الإنسان، بمقتضى تلك الثورة، يؤمن بأنه هو صانع الحقيقة سواء على الصعيد العلمي، صعيد معرفة الطبيعة الخاضعة للضرورة والحتمية، أو على الصعيد الأخلاقي، صعيد الأوامر الأخلاقية، أو على الصعيد السياسي، القائم على مبادئ العقل والإرادة والحرية والمجازفة. إن المسافة بين إيمان الإنسان بأنه صانع الحقيقة، وبأن الحقيقة هي حقيقة الأقوى، ليست كبيرة، مما يوفر الغطاء النظري للكذب . الناحية الثانية تعود بنا إلى دور الخيال في الكذب؛ فإذا سلّمنا بما تقوله حنة أرندت، من أن الخيال هو الأصل المباشر لكل الأكاذيب، وعلِمنا أن الثورة الكوبرنيكية الكانطية أحدثت ثورة في النظر إلى طبيعة الخيال ووظيفته، حيث لم يعد يتسم بالطبيعة الانعكاسية، بل صار أداة خلاقة لخيالاته وصوره الخاصة، لانتهينا حتما إلى القول بأن كانط، بهذه الجهة، يكون قد مهّد بطريقة غير مباشرة للثورة الكبيرة التي حققها الكذب السياسي في عصرنا هذا .
خاتمة
لم يكن غرضنا من إبراز العلاقة الصميمية بين السياسة والكذب أن ندعو إلى المصالحة بينهما، لأن مِن شأن ذلك أن يَؤُول إلى نوع من الشك والعدَمية في العمل السياسي عامة، وإلى تثبيط عزيمة من له هِمّة في محاربة مظاهر التزييف والضلالة والبهتان في السياسة، وإنما كانت غايتنا من وراء ذلك التنبيه إلى خطورة انزلاق السياسة، على الصعيدين الداخلي والعالمي، بشكل نهائي نحو الإيمان بثقافة الرياء والنفاق والخداع والمراوغة والمكر والافتراء والكذب، لأن هذه الثقافة لا يمكنها إلا أن تهدد الوجود البشري برمته على هذه الأرض. فإذا كان لا أمل في استئصال الكذب من السياسة، طالما أنه يدخل في جوهرها بوجه ما، فليس معنى ذلك أننا ينبغي أن نستسلم إلى حبائله، ونتركه يُفسِد الطبيعة السياسية للإنسان، ويشعل نار الفتنة والهيمنة في كل مكان، هذه الفتنة التي تهدد التنوع الحضاري والثقافي في العالم. إننا نعتقد أنه علينا أن لا نترك للفعل وحده حق تغيير العالم وحده، لأن »الفعل، كما قال هيدجر، لن يغير العالم« ، بل علينا أن نعززه بالتفكير المسلح بالأخلاق.
إذن لم يكن قصدنا أن نثبت أن "العالم كذب في كذب" كما قال أحد الشعراء، ولا أن نجعل هذه العبارة الشِّعْرية مرادفة للعبارة الصوفية القائلة بأن "العالم خيال في خيال"، فنسوّي بين الكذب والخيال، ونغرق القارئ في نزعة نسبية مبتذلة تدّعي أن كل شيء يمكن أن يكون حقا وباطلا في نفس الوقت حسب الزاوية التي يفضّل المرء أن ينظر من خلالها إليه، أو نجعله لا يقيم وزنا لأي قول أو شهادة أو معلومة بذريعة أن كل شيء يُداخِله قدر من الشك؛ لم يكن غرضنا أن ندعو إلى تسامح فج مع الكذب بدعوى أن الناس أنفسهم لا يطيقون العيش في عالم متراص من الحقائق والضرورات، وأنهم يفضلون، بدلا عنه، عالم الأكاذيب المُغرية والطرية في كل آن وحين؛ كما لم يكن غرضنا أن ندافع عن "الأكاذيب النبيلة" وقايةً للحضارة البشرية من "فظاعة" الحقيقة، و"جحيم" العدمية، واصفين الحقيقة بالظلامية والخسة، ومتهمين إياها بأنها تشكل تهديدا للنظام والاستقرار السياسي، كما كان يقول ليو شتراوس ؛ وأخيراً لم يكن غرضنا أن نَخْلص إلى تعريف للإنسان بموجبه يتقلص إلى مجرد حيوان كاذب، جاعلين من الكذب ماهية له، بل كان غرضنا بالعكس أن نبيّن أن لا تعارض بين الحقيقة والخيال، وأن لا تقابل بينها وبين الحرية، وأن الإنسان إنسان بالحقيقة التي هي بنت الحرية، وليس إنساناً بالكذب، الذي مهما كان متقنا ونافعا، فإنه سيظل أداة تحطيم الكرامة البشرية على المدى البعيد، وسيظل غير قادر على أن يصمد أمام العقل وأمام الرأي العام في المجال العمومي، ومن ثَم فإن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بدون حقيقة يعترف بها الجميع عن طريق التشاور والتوافق، لا عن طريق الإملاءات والضغوطات. إن أية دعوة للتخفيف من معاداة الناس للكذب لا يمكن إلا أن تؤدي إلى مزيد من الكوارث التي تهدد مصير الوجود البشري بعامة على الأرض.
إننا نتفق تمام الاتفاق مع شادية دروري في رفضها لعملية "تبييض" الكذب، التي قام بها ليو شتراوس لفكره المعادي للحق وللحقيقة، والداعي إلى شرعية وجوب استعمال مختلف أشكال الكذب لخداع الشعوب وقاية للحضارة الغربية من أهوال الكشف عن الحقيقة، عندما لجأ إلى الاحتماء وراء سلطة كل من أفلاطون ونيتشه. ذلك أنه على الرغم من اشتراكهما في الدفاع عن المكانة المتميزة للخاصة، واختصاص نيتشه بالتنويه بالكذب في مقابل انتقاده المرير للحقيقة المجردة لأنها عبارة عن تزييف للواقع الحي وافتراء عليه، فإنهما لم يّحرّضا الفلاسفة قط على الكذب على الآخرين، على الجمهور، والاحتفاظ بالحقيقة لأنفسهم واستعمالها في عمليات رهيبة للهدم والتخريب، فقد ظل أفلاطون يعتقد دائما بأن المشكل السياسي هو مشكل أخلاقي بامتياز، ولا يمكن أن تكون السياسة أخلاقية إن هي قامت على الكذب والخداع .
حقاً، لا يمكن للمرء أن ينكر أن كل حكومات العالم تكذب، وكل الساسة والسياسيين يكذبون بهذا القدر أو ذاك، لكن شمولية الكذب هذه لا تشفع له أن يصبح فضيلة حميدة، ولا تبرر قول بعض أتباع ليو ستراوس من المحافظين الجدد الذين يعتقدون بأن الشعوب والجماهير لا يمكن أن تُحكَم وتُساس إلا بالكذب . من ناحية أخرى، لا يمكن للمرء أن يجحد ما يمكن لبعض أصناف الكذب أن تقوم به من دور إيجابي في الحياة الخاصة والعامة، وهي الأكاذيب التي يحلو للبعض أن يسميها "بالأكاذيب النبيلة"، ومنها الكذب السياسي نفسه في بعض الحالات الاستثنائية، ومع ذلك، يبقى الكذب في حد ذاته أداة من أدوات العنف السياسي، الذي يحْرِم الآخر من حقه في معرفة الحقيقة ويعمل على إبقائه في منطقة الجهل في نفس الوقت الذي يحشو دماغه بمختلف ضروب الترهات والأراجيف والأساطير المؤججة لغرائزه وانفعالاته، مما يشكل استهتارا بكرامة الجمهور واستهانة بالرأي العام، من هنا كانت مقاومته واجبا سياسيا.
يتضح مما سبق أن الكذب السياسي مفهوم إشكالي لا يمكن الجزم بشأنه بطريقة قطعية، والقول بأن له ماهية ثابتة على ضوئها ينبغي الحكم عليه حكما مطلقا. ففي كل حقيقة، وفي كل قول صادق، يوجد شيء من الشك.
ويضفي الطابع الإشكالي على مفهوم الكذب السياسي نوعا من التاريخية، التي تجعل من الممكن الكلام عن حداثة، بل وعن "ما بعد حداثة" الكذب السياسي بالقياس إلى أزمنة الكذب الكلاسيكي. فالفرق كبير، كما تقول أرندت، بين الكذب التقليدي بوصفه فعلا لإخفاء الحقيقة، والكذب الحديث بوصفه تدميرا لها. فالكاذب ما بعد الحداثي يعرف أنك تعرف الحقيقة، ولكنه يصرّ على أن يدمرها بكل وقاحة أمام ناظريك ليضع في محلها "حقيقة" أخرى ملفَّقة بواسطة أفاعيل الخيال المسلح بتقنيات الصورة والتواصل والإعلاميات الحديثة. إن العمل على تنصيب "حقيقة" الدولة الضخمة مكان "حقيقة الواقع" المتواضعة، والعمل على "تبييضها" بواسطة التقنيات الحديثة، صار صناعة نافقة في الديكتاتوريات كما في الديمقراطيات على حد سواء. وهذا التكالب الهائل على الحقيقة يشكل خطرا كبيرا على الإنسان، على الحرية، وعلى الديمقراطية.
وإذا كانت السياسة مضطرة لاستعمال الوقائع والحقائق لا في معانيها المعتادة، أو في مجاريها الجمهورية، بل في معاني جديدة وصور غير منتظرة خدمة لأهداف التغيير الضروري للوجود السياسي، فإنه لا ينبغي أن نجعل السياسة تنتصر على الحقيقة، لأن هذا الانتصار، كما تقول حنة أرندت، هو الذي أدى إلى قيام الأنظمة الكليانية. بالتأكيد، قد تسمح السياسة، شأنها شأن فنَّيْ الحرب واللعب، بالمناورات الضرورية لتحقيق النصر، لكنها لا تجيز الغش والكذب.
وإذا كنا لا ننكر أنه قد تكون للكذب منافع محمودة في بعض المستويات السياسية، فإننا نفضل عدم الكذب حتى لا يتم تخريب الصحة السياسية للجماهير والشعوب فتندفع إلى ممارسة أعمال هوجاء (الإرهاب مثلا)، أو إلى الانكفاء على نفسها والقعود عن دعم المسيرة الديمقراطية في بلدانها. وإذا كنا لا ننكر على السياسة أن تأتي بعضا من الأكاذيب النافعة، فإننا لن نوافق أن تصبح الدولة مصنعا ضخما لتفريخ الأكاذيب، واختلاق الإشاعات، ونكث الوعود والتحلل من الالتزامات، احتقارا منها لشعبها الذي من الواجب عليه في نظرها أن لا يعرف الحقيقة. فالسياسة لا ينبغي أن تصبح مرادفة للكذب في أي حال من الأحوال، أو أن يُمسي الكذب فنّا محترما، وعلامة على الانتماء إلى عالم ما بعد الحداثة الهجين. فاستعمال الكذب بشكل منهجي بالنسبة لشعب معين يؤدي لا محالة إلى إنهاكه، وإرهاق قدرته على الصبر، وفقدان مناعته إزاء الحقيقة والصدق، مما يغرقه في جو من اليأس، هذا الجو الذي هو البيئة المباشرة لاستنبات العدمية والإرهاب. أليس الإرهاب تجسيدا حيا لسيادة الكذب السياسي في أعلى صوره؟

محمد المصباحي، قسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة محمد الخامس أكدال، الرباط، المغرب

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟