الفضــاء العمومــي عند يورغـن هابرمـاس ـ د. مولاي حيســون

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse1809102مفهوم الفضاء العمومي:
أخذ يورغن هابرماس Jürgen Habermas ( 1929-...) مفهوم الفضاء العمومي (espace public)  عن كانط E.Kant  الذي قال به و تم استعماله بكثرة في مجال التحليل السياسي منذ سبعينيات القرن الماضي، فهو الفضاء الوسطي الذي تكوّن تاريخيا في زمن الأنوار بين المجتمع المدني و الدولة [i] ، إنه أيضا المكان المتاح مبدئيا لجميع المواطنين حيث بإمكانهم الاجتماع لتكوين رأي عام.
لم يشرع الفكر النقدي في الفلسفة في تناول موضوع الفضاء العمومي كمبحث إلا في القرن التاسع عشر، جاء ذلك في خضم الاتجاهات التي ظهرت و تهم تحليل الهيمنة التي مارستها المؤسسات الرسمية في سعيها لبسط نفوذها عبر القول بمركزية سلطتها و شد الفرد إليها لأجل احتوائه.

كتاب " الفضاء العمومي: حفرية العمومية (publicité) كبعد مكون للمجتمع البورجوازي " هو موضوع أطروحة هابرماس في السوسيولوجيا بجامعة ماربورغ بألمانيا في 1961 [ii] ، عبارة عن دراسة لبنية و وظيفة النموذج الليبرالي للفضاء العمومي البورجوازي في أوروبا، يحلل فيه ظهور هذا النموذج و تحولاته التاريخية منذ العصر الهليني مرورا بالعصر الروماني حتى العصر الحديث، و يُبعد من الدراسة ما يسمى الفضاء العمومي العامي ""Plébéien [iii] الذي بقي مستترا  مع مرور الزمن، وتفحص الدراسة أيضا المظاهر العامة للعناصر الليبرالية المكونة للرأي العام البورجوازي والتحولات التي خضع لها في إطار الدولة الاجتماعية بأوروبا [iv]  وهو مزيج من "فينومينولوجيا الروح"  لهيجل   F.Hegel  والنقد الإيديولوجي الذي قام به ماركس  K.Marx ، أبرز هابرماس من خلاله اغتراب الوعي الجماعي (هيجل) داخل الدعاية و التفكك البنيوي للسلطة (ماركس) [v].


يعرف هابرماس الفضاء العمومي البورجوازي كفضاء لأشخاص خاصين مجتمعين على شكل عموم، هؤلاء الأشخاص يدافعون عن هذا الفضاء العمومي المنظم من طرف السلطة، وهم في نفس الوقت ضدها، وذلك من أجل نقاش القواعد العامة للتبادل  في ميدان تبادل السلع والعمل الاجتماعي ( المجال الذي بقي خاصا وأهميته ذات بعد عام )، وسيط هذا التعارض بين الفضاء العمومي والسلطة هو وسيط أصلي لا سابق تاريخيا، إنه الاستخدام العمومي للعقل أو: Aufklarung [vi] .

مثلت العمومية عند كانط،  السلطة الوحيدة القادرة على ضمان وحدة السياسة والأخلاق، ويعتبر الاستخدام العمومي للعقل بالنسبة إليه، شأنا خاصا للعلماء وبالخصوص العلماء الذين يقومون بإعداد مبادئ العقل الخالص أي الفلاسفة [vii]، من هذا المنطلق يرى كانط أن الاستخدام العمومي للعقل الخاص بنا يجب أن يكون حرا وهو الوحيد القادر على جلب الأنوار بين الناس واستخدامه الخاص يجب أن يكون محدودا جدا، غير ذلك فإنه يؤدي إلى عرقلة الأنوار.

اتخذ هابرماس،  كأبرز مفكري الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورتFrancfort   منحى آخر في فهم  "الأنوار" الذي  تعتبر "الحداثة" مظهره الأساسي، معتبرا هاته الأخيرة "كمشروع لم ينجز"[viii] وأنه أسيئ فهم الأنوار، مخالفا اتجاه الآباء الأوائل للمدرسة ( أدورنو وهوركهايمر...) باعتبارهم بأن ظهور الأنظمة التوتاليتارية في أوروبا النصف الأول من القرن العشرين كان من نتائج "حداثة الأنوار.

إن موضوع الفضاء العمومي هو "العموم" كحامل لرأي عام بوظيفة نقدية مسندة إليها صفة العمومية أي " عمومية النقاشات القانونية ".

يميز هابرماس بين نموذج الفضاء العمومي المهيكل تمثيليا [ix] الذي ارتبط في أوروبا بالسلطة الفيودالية والكنيسة والبلاط الملكي ونموذج الفضاء العمومي البورجوازي الذي ظهر بعد اختفاء الأول نتيجة للتحولات البنيوية التي عرفها، فقد وعت البورجوازية بذاتها بعد تشكلها كطبقة قائمة وعملت على تكوين استقلال خاص بها تجاه السلطة عن طريق تأسيس قواعد الحوار والمناقشة العامة، تجلى ذلك بشكل واضح في إنجلترا نهاية القرن السابع عشر الميلادي وفي فرنسا نهاية القرن الثامن عشر وقد انتقل النقاش العمومي إلى الصالونات والمقاهي ثم إلى النوادي الأدبية وما لبث أن استقر كأحد البنود الرئيسية في الدساتير الغربية.

رصد هابرماس في مؤلفه السابق الذكر، تطور مفهومي "العام" و " الخاص" منذ العصر الوسيط انطلاقا من التعاريف الواردة في القانون الروماني حتى نهاية القرن الثامن عشر الذي عرف تفكك الخيوط العريضة لتطور "العام" و "الخاص" عبر سيرورة الاستقطاب أدت إلى الانقسام إلى عناصر ذات بعد عام وأخرى ذات بعد خاص، فمع الإصلاح الديني في أوروبا، تحولت  مثلا  الكنيسة كسلطة دينية إلى قضية خاصة، فأصبحت حرية التدين لأول مرة جزءا من الحرية الشخصية وأصبحت الكنيسة كهيكل اجتماعي ضمن هياكل أخرى تدار بواسطة القانون العام كما فصلت "الميزانية العامة" عن ميزانية البلاط الملكي بعد أن كانت جزءا من مدخراته [x].

 تميزت فترة القرن الثالث عشر الميلادي ببداية الرأسمالية التجارية والمالية (الميركانتيلية)، حيث ظهرت عناصر جديدة للتبادل، تبادل السلع والمعلومات مشكلة بذلك عناصر نظام توغلت في النظام الاجتماعي، فتبادل المعلومات لم يكن مرتبطا بحاجيات التبادل السلعي فحسب، بل أن المعلومات أصبحت هي الأخرى سلعا لدرجة أن كل معلومة منقولة عن طريق الكتابة إلا ولها سعرها الخاص بها [xi].

 

التحول البنيوي لمؤسسات الفضاء العمومي:

كانت الحياة العامة في اليونان القديمة تدور في مكان السوق "الأغورا"Agora  وهي غير مرتبطة مباشرة بهذا المكان، إنها مرتبطة بمدى استقلالية "المواطنين" في محيطهم المنزلي، فقد كان هناك تباين واضح بين فضاء المدينة (polis)، الفضاء المشترك  للمواطنين الأحرار والفضاء المنزلي الخاص بكل فرد على حدة.

كان "العموم" في فرنسا القرن السابع عشر يعني : القراء، الجمهور،  المستمعين باعتبارهم المخاطبين والمستهلكين ونقاد الفن والأدب [xii] وقد شكل البلاط أول العموم،  وكانت المدينة تشكل مركز نشاط المجتمع البورجوازي، ففي بلاط لويس السادس عشر كانت للاجتماعات صفة خاصة،  يتم التداول مدة ستة أيام في الأسبوع، لكن سرعان ما أصبحت المدينة تضطلع بالوظائف الثقافية للبلاط.

تفككت بعد ذلك بنيويا الحياة العامة في البلاطات لتنتقل إلى الصالونات بالمدن، في فرنسا خلال تلك الفترة ضمت الصالونات الأدبية النبلاء وكبار بورجوازية الأبناك والموظفين لتشكل ما يسمى ب "الأنتلجنسيا" ، كما أن البلاط في إنجلترا غدا مكانا للعائلة الملكية التي أصبحت تعيش منعزلة، ولا يتم الاقتراب منها إلا في المناسبات الرسمية في الوقت الذي اتجه فيه المفكرون والنبلاء إلى المقاهي وأصبح بالتالي للأدب مكانة خاصة في الصالونات الإنجليزية، عكس ما حدث في ألمانيا، فنظرا لأنها لا تتوفر على بورجوازية مدينية في تلك الفترة بالمفهوم الذي يؤسس لفضاء عمومي بورجوازي قادر على استيعاب التحول البنيوي للحياة العامة في البلاطات فلم يكن التطور حاصلا كما هو الشأن بالنسبة  لإنجلترا وفرنسا لذلك نجد أن الفضاء العمومي المهيكل سياسيا ظهر متأخرا بعدما ظهر في إنجلترا ثم في فرنسا وانتقل بعد ذلك إلى ألمانيا حسب فورستر: F.G.Forster [xiii] .

أصبح المسرح يتمتع أيضا بمفهوم "العمومية"  لحظة الكشف عنها في البلاطات والإقامات الملكية ، ففي عهد شارل الثاني في إنجلترا، كان المسرح تحت رعاية البلاط، ولم يكن في لندن ما يسمى  بالمسرح الشعبي، أما في ألمانيا فلم يظهر المسرح الوطني إلا في 1766 بفضل جهود كل من: غوتشي Gottched  وليسسينغ Lessing  .

الموسيقى هي الأخرى شملها تحول، فحتى نهاية القرن الثامن عشر كانت مرتبطة بالفضاء العمومي المهيكل تمثيليا ( البلاطات والإقامات الملكية ) وظهرت بعد ذلك النوادي الموسيقية حيث تحولت إلى مجموعات عمومية تقدم أنشطتها بمقابل وبهذا تحولت الموسيقى إلى سلعة.

شكلت الجرائد إبداعا خاصا لنقد الفن والمنتجات الثقافية، ففي بحر القرن الثامن عشر، ظهر فضاء عمومي يضطلع بوظائف سياسية، تجلى ذلك من خلال الصحافة التي لم تكن في السابق بيد المعارضة حيث استطاعت هذه الصحافة نقد السيطرة التي تمارسها المؤسسات الرسمية في صحافتها الخاصة بها، ، فقد ضمت ألمانيا نهاية القرن الثامن عشر  ما يناهز 270 شركة للقراءة [xiv] وهي في حقيقة الأمر جمعيات متوفرة على محلات خاصة تمنح الإمكانية لقراءة الصحف والكتب والمحادثة فيما تمت قراءته، إن شركات القراءة هاته، كعموم يستخدم العقل، ليست لها أهداف تجارية، فجمعياتها تنتخب ممثليها بناء على قوانينها المنظمة، غايتهم الاستجابة لرغبات الأشخاص الخاصين ذوي الشروط البورجوازية الباحثين لتشكيل فضاء عمومي يضطلع بالقراءة والتعليق على الصحافة وتبادل الآراء الشخصية للوصول إلى المشترك بين هاته الآراء لخدمة مصالحهم الرأسمالية وهذا ما تم التعبير عنه بعد ذلك وبالضبط في 1790  بالرأي العام: Offentlichkeit Meinung"".

يشير هابرماس إلى أنه لا يجب الاعتقاد أن فكرة العمومية تحققت انطلاقا من المقاهي والصالونات، ولكن بفضلها تمت مأسسة هذا العموم كفكرة أضحت مطلبا موضوعيا وحتى إن لم تصبح واقعا فقد لعبت دورا محددا، إن النقاش داخل عموم يفترض وضع موضع تساؤل مجالات لم تكن خاضعة للنقاش من قبل [xv].

الرأي العام و مأسسة الفضاء العمومي السياسي:

كان لويس ميرسيي L.S.Mercier  أول من قام بتعريف "الرأي العام" داخل التيار الفيزيوقراطي حسب هابرماس، حيث عمل على تعميق التفكير حول دوره الاجتماعي [xvi] ، أما خلال نهاية القرن الثامن عشر الميلادي في أوروبا فقد ارتبط مفهوم الرأي العام بالاستعمال العمومي للعقل من طرف العموم القادر على إصدار الأحكام،  في إنجلترا خلال تلك الفترة، تطور الرأي إلى رأي عبر مفهوم "public Spirit" وهو المفهوم الذي اعتبره فورستر مقابلا لمفهوم الرأي العام، بعد أن كان لهما نفس المعنى لمدة طويلة في الاستعمال الشائع للمفهومين.

في فرنسا منتصف القرن التاسع عشر، كان الرأي العام يعني "الرأي الشعبي" الذي يتم التعبير عنه عادة عبر الإدراك السليم سواء لدى روسو من خلال نقده للحضارة أو لدى الموسوعيين عبر انتقادهم للإيديولوجيا.

اعتبر روسو Rousseau  "أغورا" اليونان القديمة مكانا عاما وأساسا للدستور الأثيني، فقد كان يريد ديمقراطية دون نقاش عمومي، حيث ربط "الإرادة العامة" برأي عام عفوي وآخر شائع، مؤكدا أن الإرادة العامة دائما على حق متجلية في توافق القلوب أكثر من توافق الحجج، والمجتمع الذي يُحكم بشكل جيد هو المجتمع الذي تكون فيه القوانين متلائمة مع الآراء، الآراء التي مصدرها الآداب البسيطة والقلوب المتحابة بشكل طبيعي [xvii].

اتجه هوبز T.Hobbes  إلى تقدير المعتقدات الخاصة على العموم مؤكدا أن الضمير الخلقي غدا رأيا، في الوقت الذي أوضح فيه بايل P.Bayle أن ممارسة النقد أضحت شأنا خاصا وبالتالي فإن "الحقيقة" تنكشف انطلاقا من النقاش العمومي للانتقادات فيما بينها، كما أكد جون لوك J.Locke  ما مضمونه أن "ما يحكم الأخلاق يحكم الشرف وما يحكم الشرف يستمد قانونه من الرأي"[xviii].

كانت فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر  مهدا للثورة (1789) التي كان من نتائجها الانفتاح على الشعب، عكس انجلترا التي اتجهت في اتجاه تكريس نزعة مؤسساتية رأسمالية ساهمت في إرساء قواعد مرتبطة أكثر بالبورجوازية والملكية وغير منفتحة على الشعب مقارنة بفرنسا، لقد عملت الثورة الفرنسية على جمع وظيفتين للرأي العام كانتا منفصلتين من قبل: الوظيفة النقدية و الوظيفة التشريعية، ففي دستور 1791 تم إدماج مبدأ سيادة الشعب ومبدأ الدولة الدستورية البرلمانية التي تضمن عن طريق الحقوق السياسية، الفضاء العمومي الموجه سياسيا.

في ألمانيا التي كانت بها بورجوازية "هشة"  لم ترق إلى مستوى المشروع الفكري للتغيير والتأثير لذلك لم يتبلور رأي عام  بشكل يمكن معه رصد تمظهراته النقدية، فقد كانت تتوفر على 7000 كاتب  في 1790 ولا يتوفرون على حس عام للوعي بذاتهم، نظرا لغياب رأي عام،  ثم أن هاته الفئة لم يكن لها من التأثير الفكري حتى يتكون رأي عام يعاكس الدعاية الرسمية للمؤسسات القائمة آنذاك [xix] .

الرأي العام هو النتيجة الواضحة للتأمل العمومي بصفة مشتركة لأسس النظام الاجتماعي، فعمومية النقاشات البرلمانية مثلا تسمح للجمهور برقابتها عن طريق استخدام النقد، وهو ما أكده الإنجليزي  جيرمي بنتام Bentham بأن الجمهور ( العموم ) في مجموعه عليه أن يكون محكمة عليا لجميع محاكم العدل بأكملها موضحا ضرورة العمومية في النقاشات الداخلية والخارجية للبرلمان التي هي الضامن لاستمرار الاستخدام العمومي للعقل الموجه سياسيا [xx].

إذا كان ماركس K.Marx  يرى أن الرأي العام ليس إلا وعيا زائفا يغطي مصالح الطبقة البورجوازية، نجد  دو توكفيل A.De Tocqueville  يعتبره  "قوة نقدية" مؤكدا إلى جانب ستيوارت ميل J.S.Mill  بضرورة اعتبار الرأي العام قوة يمكنها أن تكون سدا منيعا في أغلب الحالات لسلطة الدولة (أو تحُد من سلطتها)  مقابل  خضوع الرأي العام لضوابط قادرة على قيادته بفعالية و صلابة[xxi].

إن زوال الفضاء العمومي يعود بالأساس إلى التحول البنيوي للعلاقات التي تربط المجال العام و المجال الخاص، فقد لوحظ تنامي الفصل بين الحياة الخاصة والحياة العامة وظهور فضاء اجتماعي تميز بنوع من التداخل بين المؤسسات الاجتماعية ومؤسسات الدولة في مركب واحد من الوظائف غدا من الصعب التفريق بينها [xxii].

على مستوى المنزل: اختفاء الصالون وغرف الاستقبال وفردانية الغرف بالإضافة إلى التقسيمات المتعددة للفضاء المنزلي، يمثل ذلك تحولا خضعت له العائلة منذ العصر الليبرالي، ومقابل تنامي الميزة الخاصة للعائلة هناك الاعتراف المتزايد للميزة العامة لعالم الأعمال والتنظيم الاجتماعي [xxiii].

أصبحت الثقافة سلعة، ليس فقط من خلال شكلها بل حتى في مضمونها وفقدت بالتالي إحدى مظاهرها التي تفترض تكوينا معينا لفهمها، لقد تحولت الثقافة من ثقافة النقاش إلى ثقافة الاستهلاك وعرف سوق الكتب ظهور كتب الجيب الخاصة بشريحة معينة (الطلبة)  ثم المراجع المتخصصة التي لها أثمنة خاصة يتم اقتناؤها لأجل الزينة فقط بالإضافة إلى ظهور ما يسمى بالنوادي الثقافية خصوصا بعد الحرب العالمية الأولى في البلدان الأنجلوسكسونية وبهذا تحول الجمهور إثر ذلك من جمهور يناقش الثقافة إلى جمهور يستهلكها [xxiv].

 

الوظائف السياسية للفضاء العمومي:

في ثلاثينيات القرن التاسع عشر تحولت صحافة الرأي إلى صحافة تجارية مقاولة في كل من الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا واحتفظت الصحافة السياسية بطابعها الفرداني بالرغم من ظهور المجموعات البرلمانية والأحزاب السياسية في كل من فرنسا وإنجلترا.

لم يكن الفضاء العمومي السياسي مخترقا بالمنافسة بين المصالح ذات البعد الفردي، لهذا فالقرارات المتعلقة بالتوافق السياسي يمكن أن تتخذ باحترام كقاعدة للتعايش السياسي، في هاته الحالة فإن الفضاء العمومي يتكلف بتحقيق التوازن بين المصالح مقابل التخلي عن الاتفاق والتوافقات البرلمانية.

 لقد توفق البرلمان في أن يكون المكان الممأسس للنقاش، وأصبح النقاش السياسي مرهونا بما يدور في البرلمانات وفي وسائل الإعلام، لذلك لم يعد الرأي العام يتكون من خلال النقاش العقلاني بل أصبح مجالا للدعاية من أجل التضليل والسيطرة، إن عمومية النقاشات تقتضي ضمان استمراريتها داخل وخارج البرلمان وضمان وحدة الفضاء العمومي و وحدة الرأي العام المتكون.

تعود أسباب زوال الفضاء العمومي السياسي لأنه لم يعد ذلك الفضاء المؤسس على المشاركة المستمرة واستخدام العقل بارتباط والسلطات العامة [xxv] وتحولت الدولة من الدولة الدستورية الليبرالية إلى الدولة الاجتماعية، ففي إطار النموذج الليبرالي للفضاء العمومي  يكون من واجب  المواطنين مراقبة السلطة السياسية عبر تواصل يحركه عموم يستخدم العقل ويتكون بالتالي رأي عام بجهود الأحزاب [xxvi].

يرى هابرماس أن العمومية فقدت وظيفتها النقدية و عوضت بوظائف برهانية وحجج للنقاش حُرفت إلى رموز بشكل أصبح من غير الممكن الإجابة بحجج أخرى، وهو ما يبين فعل الدعاية  الموجهة للتحكم في الوعي بحيث " أضحى وجودنا محض دعاية أو أن وعينا بحاجة إلى دعاية للارتباط بها حتى نقول أنه موجود" [xxvii] .

وقد حاول دومينيك وولتون D.Wolton  توضيح دور الفضاء العمومي في الديمقراطيات الجماهيرية كنتيجة لحركة تحرير تشكلت لتقدير الحرية الفردية و مواجهة كل ما هو "عام" لما هو "خاص" أو داخلا في إطار المحظورات أو التقاليد، فالدفاع عن ما هو خاص في آخر المطاف حسب وولتون، هو الدفاع عن القواعد والمعتقدات المحافظة ليكون بذلك الفضاء العمومي واقعا ديمقراطيا يشير إلى تعبيرات متناقضة للمعلومات و الآراء والمصالح والإيديولوجيات  التي يعبر عنها مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والدينيويين والمفكرين داخل المجتمع،  مكونا بذلك رباطا سياسيا بين ملايين المواطنين المجهولين من أجل إعطائهم الشعور بالمشاركة في السياسة [xxviii].

  الفضاء العمومي كفضاء رمزي يضم عددا كبيرا من المواضيع القابلة للنقاش ومن الفاعلين المتدخلين عموميا، وذلك راجع للتوسع في مجال مصادر المعلومات وانتشار استطلاعات الرأي والتسويق والاتصال لدرجة إمكانية الحديث عن "فضاء عمومي كوني" ، فهل هاته الإمكانية متاحة دون استحضار مقولة  "صدام الحضارات"  أو المنظور الفوكويامي للتاريخ ؟.

(*) باحث في علم السياسة و القانون الدستوري

[i]- Dominique Wolton, l'espace public, cahiers français, N° 218, Mai - Juin 1997, page 66.
[ii] - أعيد طبع الكتاب  للمرة السابعة عشر بتقديم مطول لهابرماس  في سنة 1992. في الترجمة الفرنسية المعتمدة يستخدم المترجم: sphère publique و espace public و قد قمنا بنقل المفهومين إلى العربية بنفس الدلالة (الفضاء العمومي)، كما أن هناك من يستخدم: مجال عام أو عمومي / ميدان عام أو عمومي/ حيز عام أو عمومي.
[iii] - يتميز الفضاء العامي بكون الجمهور يبقى فيه أميا و ملجما عن الكلام و غريبا عن شؤون مجتمعه، تحضر فيه الأمكنة من دون قيم و لا معايير و تسوده المؤسسات الرمزية ذات الثقل التاريخي – الديني. أنظر: مجلة فلسفة، الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة،  العدد 6/ 1998.
[iv]- Voir "avant propos", Jürgen Habermas, l'espace public, Traduit par: Marc.B.de Launay, Critique de la   politique, Payot, Paris, 1978 p 10.
[v] - انظر: علاء طاهر، نظرية هابرماس النقدية، الفكر العربي المعاصر، العدد 39، أيار/ حزيران ، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان،  1986.
[vi]- Ibid, p 38
الاستخدام العمومي للعقل هو الذي يقوم به شخص معين بصفته رجل فكر أمام جمهور من القراء و الاستخدام الخصوصي هو الذي يقوم به شخص اعتبارا لمنصبه كموظف مثلا. 


[vii] - Ibid, p 114.
[viii] -Voir: J.Habermas, La modernité: un projet inachevé, Revue Critique, N° 413, octobre 1981.
[ix] - بالفرنسية:  structurée par la représentation.
[x]- Ibid, p 26.
[xi] - Ibid, p 32.
[xii] - Ibid, p 42.
[xiii] - Ibid, p 111.
[xiv] - Ibid, p 82.
[xv] - Ibid; p 47.
[xvi] - Ibid, p 105.
[xvii] - Ibid, p 107.
[xviii] - Ibid., p 108.
[xix] - Ibid, p 111.
[xx] - Ibid, p 110.
[xxi] - Ibid, p 142.
[xxii] - Ibid, p 156.
[xxiii] - Ibid, p 165.
[xxiv]-  Ibid, p 175.
[xxv] - Ibid, p 219.
[xxvi] - Ibid, p 249.
[xxvii] - علاء طاهر، مرجع سابق الذكر.
[xxviii] - D.Wolton, op. Cit.