هكذا تكلم الجابري في نقد العقل السياسي العربي ـ المصطفى المصدوقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse06118في كتابه العقل السياسي العربي،حاول الجابري بيان محددات الممارسة السياسية و تجلياتها في الحضارة العربية الإسلامية و امتداداتها إلى اليوم.
وإذا أردنا أن نقرب الإشكالية التي يعالجها الجابري ،أمكن القول إن السؤال الذي يريد المؤلف الإجابة عنه هو التالي:كيف تكون العقل السياسي العربي؟و مسار تكوينه في التجربة الحضارية العربية الإسلامية؟
فالجابري يرى أن العقل السياسي العربي انطلاقا من الدولة الأموية مرورا بالعصر العباسي وصولا إلى واقعنا السياسي الراهن،هو عقل بقي حقل التفكير فيه محاصرا باديولوجيات لاعقلانية،هي:إيديولوجية الجبر،و التفكير الخارجي،و الإمامة.
كما بقت الممارسة السياسية التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية تكرر نفسها في إطار محددات أساسية،هي:القبيلة و الغنيمة و العقيدة،مع اختلافات بسيطة بقت كزهرات قليلة في حقول الشوك،لم تغير من طبيعة المسار العام لهذه الممارسة.«من الدعوة إلى الدولة،دولة النبوة و الخلافة،ومن هذه إلى الملك العضوض و الدولة السلطانية:مسار واحد،هو مسار تاريخ ظهور و تشكل العقل السياسي العربي».«فقد بقي هذا المسار يكرر نفسه في الوطن العربي،مع اختلافات جزئية لا تغير اتجاهه و لا من طبيعة حركته،لأن المحددات التي صنعته و التي كانت تعيد صنعه هي هي:القبيلة،الغنيمة،العقيدة».حيث بقي الصدام العنيف و الاقتتال هو الحل الغالب بين الفرقاء السياسيين،بسبب عدم إقرار طريقة واحدة مقننة لتعيين الخليفة،و عدم تحديد ولايته،و عدم تحديد اختصاصاته،و عدم القدرة على محاسبته.

وفي سبيل دراسته للعقل السياسي العربي،وظف الجابري صنفين من المفاهيم :صنف استعاره من الفكر العلمي الاجتماعي و السياسي المعاصر(اللاشعور السياسي و المخيال الاجتماعي و المجال السياسي)،و أخر استمده من  التراث العربي الإسلامي(القبيلة و الغنيمة و العقيدة).
يستدعي الجابري هذه المفاتيح قصد التعرف على جانب أساسي من جوانب الظاهرة السياسية في التجربة الحضارية العربية الإسلامية.فالقبيلة- بحسب الجابري- هي طريقة و سلوك في الحكم السياسي،يعتمد ذوي القربى بدل الاعتماد على ذوي الخبرة و المقدرة.و ليس المقصود مجرد قرابة الدم،بل القرابات ذات الشحنة العصبية ،من مثل:الإنتماء إلى مدينة أو جهة أو طائفة.
أما الغنيمة فهي ما يفرضه الغالب على المغلوب من إتاوات و ضرائب ،سواء كان الغالب أميرا أو قبيلة أو دولة.تقوم بدور العامل الاقتصادي في المجتمعات التي تعتمد على الخراج و الريع.و المقصود هنا ما كانت الدولة تأخذه كجباية:الفيء و الجزية و الخراج.
و أما العقيدة فيقصد بها فعل الاعتقاد و التمذهب سواء كان على شكل دين موحى أو إيديولوجيا،إنه المنطق الذي يحرك الجماعة ليس على أسس معرفية مثل اللاشعور الجمعي أو المخيال الاجتماعي،بل على رموز تأسس الإيمان و الاعتقاد.
و في النهاية ،يخلص الجابري إلى أن القبيلة و الغنيمة و العقيدة محددات حكمت العقل السياسي العربي في الماضي و مازالت تحكمه في الحاضر،و النتيجة نكسات فتحت الباب أمام عودة المكبوت.وهكذا عادت العشائرية و الطائفية و التطرف الديني و العقائدي لتسود الساحة العربية،ليجعل حاضرنا مشابها لماضينا.فأصبحت القبيلة محركا للسياسة،و الريع-الغنيمة- جوهر الاقتصاد،و العقيدة دافعا للفعل و تبريرا للقمع.
القبيلة،الغنيمة،العقيدة ،محددات أساسية للعقل السياسي العربي:
يعرض الجابري دور كل من القبيلة و الغنيمة و العقيدة في تكوين العقل السياسي العربي زمن الدعوة المحمدية ،و بالتالي دورها في تطور هذه الدعوة إلى دولة.
تذكر المصادر التاريخية أن الدعوة المحمدية كانت ذات مشروع سياسي واضح،رافقها منذ انطلاقتها و بقيت محتفظة به ،و تعمل من أجل تحقيقه.و يتمثل هذا المشروع في إنشاء دولة عربية و القيام على دولتي الفرس و الروم.
و في المرحلة المكية،مرحلة الدعوة السرية التي دامت ثلاث سنين،من الدعوة المحمدية.كان العقل السياسي العربي يتحدد خلالها كما يلي:العقيدة من طرف الرسول،و القبيلة و الغنيمة من طرف الملأ من قريش«أما في مكة فقد كان الخطاب فيها بصيغة"يا أيها الناس" خاصة،و المقصود عمليا هم سكان مكة لا بوصفهم قبائل بل بوصفهم أفرادا يطلب منهم الإيمان بمحمد "ص" و بما أنزل عليه و الانضمام إلى من سبقوهم في الإيمان،إلى أصحابه أو صحابته ،الذين كانوا قد أخذوا يشكلون الجماعة الإسلامية الأولى».
فكانت الآيات الأولى التي نزلت من القران تتجه بالخطاب إلى محمد "ص" تبشره بالرسالة و تحمله أثقالها،و تؤكد له نبوته وسلامة عقله و حسن خلقه و ترد على قريش فيما تطعن به عليه.
و في مقابل ذلك تناولت مختلف السور التي نزلت في المرحلة الأولى من الدعوة،تناولت بالتفصيل و بإلحاح الحياة الأخرى و مشاهد القيامة من حساب و جنة و نار،«فكان ذلك هو مركز الاهتمام الذي شد القران إليه في هذه المرحلة و عي المسلمين الأوائل و مخيالهم و استشرافاتهم».
أما مرحلة الجهر بالدعوة في مكة،فقد تضمنت برنامجا جديدا.يقوم على التأكيد على نبوة محمد "ص"،و على وجود حياة أخرى بعد الممات،و الحث على الإنفاق على الفقراء و المساكين،التذكير بمصير الأقوام الماضية،لفت الانتباه إلى نظام الكون ككل و كأجزاء.
لكن...
لماذا لم يكن خصوم الدعوة المحمدية قادرين على التخلص من صاحبها و لا على إيذاء و تعذيب أو قتل أتباعها من العبيد و الموالي؟
هذا ينقلنا إلى دور القبيلة ،سلبا أو إيجابا،في الممارسة السياسية،ممارسة سلطة الجماعة،التي تعرضت لها الدعوة المحمدية ،أو استفادت منها،من يوم قيامها إلى أن أصبحت لها دولة.
إن القبيلة –بحسب الجابري-قد قامت بالنسبة للدعوة المحمدية بدورين مختلفين:فمن جهة مكنت خصومها ،و هم الملأ من قريش من ضرب حصار ضدها،و قد نجحوا في ذلك إلى حد كبير،إذ لم يتجاوز عدد من اسلموا في هذه المرحلة كلها154 فردا.و من جهة أخرى وفرت القبيلة نفسها الحماية و المنعة للرسول "ص" أولا،و لأصحاب العشائر و القبائل من المسلمين ثانيا،فكانت من هذه الناحية عاملا أساسيا في بقاء الدعوة حية تبحث لنفسها عن طريق لكسر الطوق القبلي المفروض عليها.
«هذه العلاقات القبلية المعقدة لم تكن تسمح لقريش بتصفية رجال الدعوة المحمدية لأن أي اعتداء جسماني/دموي على أي فرد من أعضاء القبيلة كان سيفجر الوضع في مكة تفجيرا،سيشعلها حربا أهلية شاملة،و لذلك استطاعت الدعوة المحمدية أن تبقى حية تحت حماية نعرة الأقارب و نظام الجوار.غير أن هذه العلاقات نفسها لم تكن،من جهة أخرى،تسمح لتلك الدعوة بالانتشار و الانتصار ،لأن نجاحها يعني،في المخيال القبلي،ارتفاع بني هاشم إلى مركز السيادة على جميع القبائل،لأن النبي صاحب الدعوة منهم،و هذا ما لم يكن يقبله بنو عمومتهم الأقربون بنو أمية،و الأبعدون بنو مخزوم».
إذا لم يعد للدعوة المحمدية أن تشق لنفسها طريقا للانتشار و الانتصار،إلا إذا نجحت في كسر الطوق القبلي،و هذا ما لم يكن من الممكن حدوثه إلا بقيام قوة مسلحة تهاجم البنية القبلية المكية من خارجها،و تضربها في الأساس المادي الذي تقوم عليه.
و في هذا السياق،تأتي هجرة الرسول "ص" إلى المدينة،و فيها يبدأ تأسيس الدولة،و الصراع مع قريش -الذين حاربوا الدعوة المحمدية دفاعا عن مصالح معينة – سينتقل إلى مرحلة أرقى،مرحلة ضرب تلك المصالح نفسها.
فبالرغم من أن قريشا،و سكان الجزيرة العربية عموما،لم يكونوا يعطون للدين وزنا كبيرا في حياتهم، فقد أصرت على الدفاع عن آلهتها و أصنامها،و مهاجمة الدعوة المحمدية.
فأي ضرر كانت تشكله الدعوة المحمدية على قريش بهجومها على الأصنام؟ ...إن أصنام قريش و آلهتها كانت مصدرا للثروة و أساسا للاقتصاد:كانت مكة مركزا لآلهة القبائل العربية و أصنامها،تحج إليه و تهدي لها و تقيم أسواقا حولها أو قريبا منها،تبيع فيها و تشتري،فكانت مكة بذلك مركزا تجاريا للعرب أيضا.و أكثر من هذا،كانت في الوقت نفسه محطة رئيسية في طريق التجارة الدولية بين الشمال و الجنوب و الغرب و الشرق.«إذن فالمس بآلهة قريش هو مس مباشر بتجارتها».
«إن قريشا كانت تدرك تماما الخطر الذي كانت تشكله الدعوة المحمدية على مصالحها الاقتصادية:إن نبد الشرك معناه كف القبائل العربية عن الحج إلى آلهتها و أصنامها بمكة،و بالتالي توقف عائدات الحج و التجارة معا.لم يكن من الممكن إذن إقناع قريش بسخافة عبادة الأصنام،ذاتها بل الغنيمة التي من ورائها».
إذن،كانت هجرة النبي "ص" إلى المدينة لا خوفا و لا هربا،بل كانت من أجل مواصلة  الدعوة بوسائل أخرى:توجيه السرايا و قيادة الغزوات لاعتراض قوافل قريش التجارية،الشيء الذي يعني ضرب الحصار الاقتصادي على مكة و صولا إلى استسلامها السياسي،و بالتالي الدخول في الإسلام.و لما كان ضرب الغنيمة يعقبه حتما الاستيلاء عليها و توظيفها،ماديا و معنويا لإعداد ضربات أخرى،فإنه لا مناص من أن يكون لها حضور ما في المرحلة الجديدة.«لقد كان و لا بد إذن من أن تدخل الغنيمة كجزء أساسي  في الكيان المادي للدولة الناشئة،و من ثمة في عقلها الاقتصادي ،التشريع للغنائم».
غير أن دخول الغنيمة في كيان الجماعة،و لو في إطار خدمة الدعوة و رسالتها،كان و لابد أن يؤدي إلى دخولها في عقل الأفراد- السياسي و الاقتصادي،و من ثمة تصبح الغنيمة من جملة الحوافز التي تحرك البعض.و لذا صارت الغنيمة حاضرة في غزوات النبي "ص" و سراياه،يأخذها المسلمون و يوظفونها ليس فقط في تجهيز الجيوش بل أيضا في تحفيز النفوس على الجهاد.
و هكذا لم يعد الغزو بدافع العقيدة و حدها،بل لقد غدا لدى كثير من المسلمين الجدد،إن لم نقل عند جلهم،يخضع لاعتبارات القبيلة و الغنيمة كما حدث في غزوة الخندق و شهدت به سورة الأحزاب،و شجبته و نددت به.و كما أيضا يوم حنين وغزوة تبوك.
و يخلص الجابري إلى انه في مرحلة الدعوة المحمدية(السرية و الجهرية) كان الدور الأساسي للعقيدة.أما في مرحلة الدولة فالدور الرئيسي قامت به القبيلة في طور النشأة،أما في الأطوار الأخرى اللاحقة فالمحرك الأساسي فيها هو الغنيمة.
القبيلة المرجع الأساسي لاختيار الخليفة:
كانت أول مشكلة سياسية داخلية واجهت الصحابة و المسلمين،هي مسألة خلافة النبي "ص" ،فكيف عالجها الصحابة و حسموا فيها؟
«إن المرجعية التي حكمت الكيفية التي جرت بها الأمور عند بيعة أبي بكر خليفة للنبي،لم تكن لا العقيدة و لا الغنيمة،و إنما كانت الكلمة الأولى و الأخيرة لمنطق القبيلة».و يشرح الجابري هذا الطرح بالقول:«لقد حاول الأنصار الانفراد بالأمر دون المهاجرين،و لكن تناقضات القبيلة الداخلية مزقت و حدتهم و أضعفت موقفهم فصار الأمر للمهاجرين.عند ذاك بايعت الأغلبية من الأنصار و المهاجرين أبا بكر،لا بسبب مركزه في الإسلام و حسب،بل أيضا بفعل اعتبارات قبلية-من قبيلة ضعيفة لم يكن يخشى منها أن تستبد و لا أن تتدخل في منافسة غيرها،في وقت كانت القبائل القوية متعادلة القوى-.هذا إضافة إلى خبرته في مجال ممارسة السياسة في إطار القبيلة».
كما أن الكيفية التي تمت بها بيعة عمر بن الخطاب،فإنها تختلف تماما عن تلك التي تمت بها بيعة أبي بكر«أما استخلاف آبي بكر لعمر فلم يكن وصية بل كان بعد مشورة ،و لم تكن لوارث آو قريب بل كانت لشخص من قبيلة أخرى،كان على رأس المؤهلين للمنصب.و لم يكن هذا التدبير الذي سلكه أبو بكر مما ينافى التقاليد القبلية العربية،بل كانت من التقاليد المعمول بها أن الرئيس يعين أمير الحرب و من يخلفه إن قتل و من يخلف هذا الأخير...».
أما عمر بن الخطاب فسيلجأ إلى تدبير أخر،إلى مسطرة أخرى في انتخاب من يخلفه،إذ اقترح على الناس ستة مرشحين سموا ذلك الوقت بأهل الشورى،كلفهم بانتخاب واحد منهم خليفة.و هؤلاء الستة هم علي بن أبي طالب و عثمان بن عفان و عبد الله بن عوف و سعد بن أبي وقاص و الزبير بن العوام و طلحة بن عبيد الله.
إن وقائع الشورى تؤكد أن الصراع كان شديدا بين علي و أنصاره و عثمان و أهله،أي بين بني هاشم و بني أمية.إنه الصراع الذي كان قائما بينهما في الجاهلية،و الذي غطى عنه الإسلام لمدة من الزمن،لينبعث بأقوى مما كان.
«إن الصراع خلال عملية الشورى لاختيار من يخلف عمر بن الخطاب كان،على مستوى القبيلة،بين بني هاشم ممثلين في علي بن أبي طالب،و بني أمية ممثلين في عثمان بن عفان».
الغنيمة سببا للفتنة:
حاول الجابري أن يجيب عن سؤال :دور كل من القبيلة و الغنيمة و العقيدة في حوادث الفتنة زمن الثورة على عثمان بن عفان.
و بحسب الجابري فان الثورة على عثمان قد اكتست ،على مستوى القبيلة،طابع ثورة العرب على قريش.كيف ذلك؟
إن بنية دولة الدعوة المحمدية قد أصبحت،بعد فتح مكة،بنية قرشية الطابع،يتولى السلطة الإدارية و المالية-العمال،و عمال الصدقات-فيها رجال من نفس القبيلة التي كانت لها السلطة الإدارية و المالية في مكة قبل الفتح:بنو أمية و حلفاؤهم.و تأتي حروب الردة،زمن أبي بكر لتضيف لهم السلطة العسكرية.فالقواد العسكريون الذين قاموا بقمع و تصفية حركات الردة و ادعاء النبوة كانوا من بني مخزوم و بني أمية أساسا،و هؤلاء القواد هم الذين قاموا أيضا بعمليات الفتح الكبرى في العراق و الشام،ثم في فارس و مصر و افريقيا.
و هكذا،فبما أن خلافة النبي "ص" قد انتقلت إلى المهاجرين،أي إلى قريش،خلقت و ضعا جديدا تماما:قريش حاملة راية الإسلام هذه المرة تعيد تأسيس الدولة بسواعد أبنائها و دمائهم.و على رأس قريش الآن بنو أمية و حلفاؤهم من ثقيف و بني مخزوم.و من هنا سيصبح التصنيف إلى قيس و كلب أوإلى مضر و ربيعة أو بصورة عامة إلى عدنان و قحطان من التصنيفات الأساسية على مستوى القبيلة.
هذه التصنيفات و التعارضات و الصراعات التي أخذت تهيمن على المخيال القبلي أثناء حروب الردة،لتشكل «محددا أساسيا في التفكير السياسي  يومئذ ،ستتكرس مع الفتوحات الكبرى».
و عندما أخذت جيوش المسلمين تتوغل شمالا لفتح العراق و الشام بقيادة رجال من قريش حرص أبو بكر على أن لا يشرك في عمليات الفتح القبائل التي كانت قد ارتدت،إذ لم يكن يثق فيها،فنشأ عن ذلك وضع قلق على صعيد الأمن الداخلي،إذ كان من الممكن أن يثور العرب في أية لحظة على حكم قريش و تعود الأمور إلى ما كان عليه الحال من قبل.
«و هكذا خلق الفتح زمن عمر و ضعية قلقة جديدة تتميز بتجميع القبائل في معسكرات –أمصار-كوحدات مستقلة و لكن في اتصال و احتكاك مباشرين،الشئ الذي كان يذكي العصبيات الخاصة داخل العصبيات العامة من جهة و يوقظ هذه بعضها بعضا من جهة أخرى».
فإذا كانت القبيلة الإطار الذي احتضن الثورة و أطرها ،فان الغنيمة كانت المحرك و المحدد الأساسي لها.
و هنا يؤكد الجابري على أن الغنيمة كان لها شان كبير جدا ،و بالتالي فلابد من «اعتبار دورها الأساسي في الأحداث التي شهدها عصر الخلفاء الراشدين الذي يمثل في مخيالنا الديني و التاريخي،نحن العرب و المسلمين،المدينة الفاضلة».
و بالعودة إلى زمن أبي بكر نجد أن الغنائم كانت قليلة نسبيا،إذ لم تبدأ غنائم الفتوحات الكبرى تصل إلى المدينة إلا في عهد عمر بن الخطاب،ابتداء من اليرموك و القادسية،و لهذا فإن توزيعها بالسوية،على أهل المدينة جميعهم،لم يكن ليعمق بشكل خطير الفوارق بين الأغنياء و المستضعفين،و إذا أضيف إلى هذا أن مدة خلافة أبي بكر لم تتجاوز السنتين و أربعة أشهر، يمكن أن نقول إن الوضعية الاجتماعية،من حيث الغنى و الفقر لم يطرأ عليها تغيير جوهري،و أنها بالتالي كانت على الحال نفسها التي تركها عليها النبي"ص":فوارق في حدود المعتاد الذي لا يبعث في النفوس ما يمكن أن يعبر عنها ب"الحقد الطبقي".
غير أن الوضعية ستتغير رأسا على عقب زمن عمر بن الخطاب.«فالأموال التي كانت ترد إلى المدينة من كل جهة،بمبالغ كبيرة،كانت تتجاوز حدود المعاش بكثير.و توزيعه بالتساوي معناه المساواة بين الناس في الفائض على الضروري للمعاش،في مجتمع و في زمان كان معنى العدل فيه هو:إنزال الناس منازلهم.و منازل الناس كانت يومئذ محكومة،بالمحددات الثلاثة :القبيلة و الغنيمة و العقيدة،و بالتالي فتوزيع الغنيمة سيتم على أساس اعتبارهما معا.ذلك ما فعله عمر بن الخطاب:لقد فاضل بين الناس في العطاء على أساس القرابة من الرسول(القبيلة)و على أساس السابقة في الإسلام(العقيدة)».
إن ترتيب الناس في العطاء حسب القرابة من الرسول و السابقة في الإسلام ،كان لابد أن يؤدي إلى تكديس الثروة في أيدي مجموعة معينة،و بالتالي كان لابد أن يورث فوارق كبيرة بين المسلمين في الثروة،فوارق تتسع باتساع حجم الغنائم و الخراج.
و هكذا،فما أن ولي عثمان حتى بدأت مظاهر الغنى في الانفجار،و سرعان ما استفحلت،و ظهرت المنكرات.وزاد في انفجار الترف تزايد حجم المال المتدفق على المركز من الخراج،كما كان للإجراءات التي اتخذها عثمان أثرها الكبير فيما حصل من تفاحش الغنى و الترف.لقد سمح بالخروج من المدينة لأولئك الذين كان عمر بن الخطاب قد حبسهم فيها من كبار الأغنياء،و ترك الناس يمارسون التجارة بطرق مختلفة و قام هو نفسه بإقرار تدبير فتح الباب لأنواع من الاتجار و المضاربة في أسهم المقاتلين و أعطياتهم.
إضافة إلى ما تقدم فإن عثمان قد جعل عماله من بني أمية قبيلته،و منهم من لم يكن لديه ما يكفي من المصداقية الإسلامية ،بل بالعكس كان منهم من عرفوا بسلوك كان هدفا للطعن و الانتقاد.
و قد كان من نتائج هذه التدابير أن تركزت ثروات هائلة في أيدي جماعة قليلة من الصحابة و رجال قريش فاتسعت الهوة بين الفقراء و الأغنياء،و زاد في اتساعها توقف الفتح و تكاثر النسل و هجرة الأعراب إلى الأمصار....إنه وضع يهدد بالانفجار،و قد حصل الانفجار فعلا.
«إن الثورة على عثمان لم تكن ثورة طبقية،بالرغم من أن الدور الأساسي المحرك فيها كان الغنيمة،أي العامل الاقتصادي،و بالضبط التفاوت الواسع و العميق بين الفقراء و الأغنياء يومئذ.لم تكن هذه الثورة ثورة طبقية،لأن العلاقة بين الأغنياء و الفقراء يومذاك لم تكن مؤسسة على استغلال طبقة لطبقة».
و الفتنة لم تكن مجرد رد فعل ضد استئثار قريش القبيلة بأوفر نصيب من الغنيمة،بل كانت كذلك احتجاجا باسم العقيدة.
و في هذا الصدد يقول الجابري إنه كانت هناك شخصيات من الجماعة الإسلامية الأولى أو "مسلمي العقيدة" (عمار بن ياسر و أمثاله من المستضعفين )هي من قادت المعارضة ضد عثمان باسم الإسلام الحقيقي الذي ترسخ في و وجدانهم و وعيهم و مخيالهم منذ المرحلة المكية من الدعوة ،أولئك الذين تحملوا صنوف الاضطهاد و العذاب على يد قريش التي أصبحت،زمن عثمان،تستأثر بالسلطة و الغنيمة بقوة القبيلة.
هؤلاء الجماعة أصبحوا يمثلون الضمير الديني وسط ذلك الوضع الدنيوي،الممعن في الدنيا و ثرواتها و ترفها و نعيمها،على حساب الدين و قيمه و مثله،على حساب الآخرة،فرفعوا عقيرتهم بالاحتجاج.
«فعلا كانت هذه الجماعة تقاتل على التأويل،تأويل القران،بل تأويل الدين كله.لقد كانوا يصدرون عن وعي و مخيال تشكلا في المرحلة المكية من الدعوة المحمدية،مرحلة ما قبل الدولة،التي كانت خلالها قريش تسومهم سوء العذاب و التي لم يكن أمامهم أثنائها غير الاعتصام بالعقيدة و ما تقدمه لهم من أمثال و عبر عن القرون الماضية و أوصاف و مشاهد عن يوم الحساب و القيامة».و مع أن عثمان قد عاش هذه المرحلة المكية ،فانه كان «يمارس نوعا آخر من التأويل».
فشخصيات الجماعة الإسلامية الأولى كانت تفكر ب"منطق الثورة" ثورة الإسلام على الأصنام و الملأ من قريش و المترفين...بينما كان عثمان يفكر ب"منطق الدولة"،و هو منطق يجد مرجعيته و مصداقيته في الدين نفسه:في نصوصه و في سيرة النبي و سيرة أبي بكر و عمر. «فالتأويلان معا إذن عنصرين من العناصر المؤسسة للعقل السياسي في الإسلام».

تجليات العقل السياسي العربي:
يبين الجابري كيف أن العقل السياسي العربي بعد الفتنة الكبرى قد تجلى في دولة الملك التي أسسها معاوية ،حيث انتقل من دولة الشورى(دولة الخلفاء)التي يؤسس فيها الدين السياسة و يحكمها،تكون فيها السياسة تطبيقا للدين و خادما له،إلى دولة الملك القائم على القوة،دولة جديدة في الإسلام تقوم على منطق القبيلة،الخلافة فيها ليست للعرب كلهم في هذه الفترة،بل لقريش فقط،و ليست لقريش كلهم،بل لبني عبد مناف وحدهم،و ليست لعبد مناف كلهم،بل لبني أمية خاصة.
و لتثبيت منطق القبيلة اتخذ بني أمية من الغنيمة كعنصر تحفيز للموالين و أداة لإغراء المعارضين و الثائرين :«لقد كان العطاء السياسي من ثوابت السياسة الأموية،و قد تمكنوا بواسطته من شل خصومهم و ربطهم بهم،سواء كان هؤلاء الخصوم من الهاشميين أو من زعماء القبائل أو من الشعراء و رؤساء الموالي....فكان العطاء السياسي الوسيلة المفضلة لديهم لممارسة السياسة في القبيلة:لإسكات خصومهم و شل معارضتهم...و أن ذلك وسيلة من وسائل ضمان الاستقرار في البلاد».
كل ذلك مسنود بعقيدة جبرية لا ترحم:«كان الأمويون يقولون إن الله ساق إليهم الخلافة بسابق علمه،قضاء و قدرا،أي أنه كان يعلم منذ الأزل أنهم سيستولون على الحكم،وعلم الله نافذ،فيكون الله هو الذي حتم عليهم أن يقاتلوا على الخلافة و أن يرتكبوا ما ارتكبوه من الأعمال لأن ذلك كله جرى بسابق علمه».لقد وظف الأمويون فكرة الجبر ليبرروا استيلاءهم على السلطة أولا، ثم ليتهربوا من المسؤولية ثانيا فنسبوا أعمالهم كلها لله،و بذلك قالوا ليس على الخلفاء عقاب.
و لمزيد من تثبيت أركان الدولة قال المتكلمون و الفقهاء إن:«العمل ليس ضروريا في الإيمان» و هو قول يبقي الخلفاء الأمويين المتهمين بالزور و الظلم و الفسق خارج دائرة الإيمان،و بالتالي عدم الثورة ضدهم.
إنه تأسيس جديد لدولة استبدادية ترتدي جبة منع الفتنة،بالحفاظ على وجود كيان الأمة ككيان و على الإسلام كدين.و هو منظور يرى فيه الجابري نمودجا للدولة بقي سائدا منذ ذلك الحين إلى اليوم.القبيلة إطار، والغنيمة محركه ،و العقيدة غطاءه الروحي.«من هذه الزاوية يبدو ملك معاوية كإنقاذ،كتجاوز لوضعية تهدد الإسلام و دولته بالانقراض»..«لابد أن يرى في ملك معاوية تأسيسا جديدا للدولة في الإسلام و إعادة بناء لها»..«سنجد أن ملك معاوية كان فعلا دولة السياسة في الإسلام،الدولة التي ستكون النمودج الذي بقي سائدا إلى اليوم».
و إذا كان معاوية قد انتزع الحكم بقوة السلاح و فرض نفسه خليفة.و بما أنه كان يفتقد إلى الشرعية،فقد لجا إلى ادعاء رضى الله،فقال إن قضاء الله و قدره هو الذي ساق إليه الحكم.إن افتقاد الشرعية البشرية الديمقراطية قد جعله يدعي الشرعية الإلهية،في مسالة تركها الشرع الإلهي للناس،لاختيارهم و رضاهم.
أما مع العباسيين ستصبح منزلة الخليفة تنتمي إلى منزلة،منزلة لا تضاهيها منزلةالله،فهو شخص اختاره الله ليتصرف في إرادته الحرة،و هو في منزلة تعلو على التشبيه-في إطار إيديولوجيا سلطانية مطلقة- تضع الخليفة في منزلة الشخص المتأله.
إلى جانب الخليفة أصبح المجتمع العباسي يتألف من الخاصة(الأمراء،الوزراء،الفقهاء،قادة الجند،الكتاب..) و مهمتها حمل العامة على طاعة الأمير.و العامة (الجند و بقية الناس)و يخضعون للخليفة و للخاصة و عدم معارضتهم.لذلك انتهت السياسة في هذا المجتمع الخاضع الدليل لحاكمه.
لذلك يرى الجابري أن الأدبيات السلطانية التي سادت في العصر العباسي ،هي أدبيات تم نقلها من الأدبيات السلطانية الفارسية.و ساد في إطارها اتجاه المماثلة بين الله و الخليفة،التي تتحول في الخطاب الأدبي إلى مطابقة تخلع  فيها على الأمير صفة الألوهية المباشرة.«إن العقل السياسي العربي مسكون ببنية المماثلة بين الإله و الأمير.البنية التي تؤسس على مستوى اللاشعور السياسي ذلك النمودج الأمثل للحكم الذي يجذب العقل السياسي العربي،منذ القديم إلى اليوم،نمودج المستبد العادل».
و لتجديد العقل السياسي العربي و تحديثه و تحريره من الأطر اللاعقلانية،طرح الجابري عدة حلول فكرية في خاتمة الكتاب:
-تعرية الاستبداد بالكشف عن مرتكزاته  الإيديولوجية و الاجتماعية،و اللاهوتية و الفلسفية التي هيمنت على العقل السياسي.
-إعادة النظر في أصول الفقه السياسي الإسلامي،و إقرار نظام دستوري ديمقراطي ينفي و يتجاوز المحددات التقليدية التي تحكمت في العقل السياسي العربي،لأن العصر الراهن لا يحتمل غير أساليب الديمقراطية الحديثة التي هي إرث الإنسانية كلها.
-تحويل القبيلة إلى تنظيم سياسي اجتماعي،لإيجاد مجال جديد تمارس فيه السياسة،و يكون فيه التمايز بين الدولة و المجتمع المدني.
تحويل الغنيمة إلى ضريبة،أي تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاج في إطار سوق عربية مشتركة تفسح المجال لقيام وحدة اقتصادية بين الأقطار العروبية،هي وحدها الكفيلة بإرساء الأساس الضروري لتمنية عربية مستقلة.
-تحويل العقيدة إلى مجرد رأي،فبدلا من التفكير المذهبي الطائفي المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة،يجب فسح المجال لحرية التفكير و حرية الاختلاف،و بالتالي التحرر من سلطة الجماعة المغلقة(دينية أو حزبية  ..)و بعث آليات جديدة للتعامل يحركها عقل اجتهادي نقدي.
-القيام بعملية نقد جدري للمحددات التقليدية للعقل السياسي العربي و أصول الفقه،لأنه بدون ممارسة هذه الأنواع من النقد بروح علمية سيبقى كل حديث عن النهضة و التقدم في الوطن العربي حديث آمال و أحلام.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟