أطياف نيتشه في فلسفة دريدا ـ اسماعيل فائز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Anfasse12117"ينبغي بلا ريب إيراد النقد النيتشوي للميتافيزيقا، لمفهومي الكون والحقيقة، اللذين حلت محلهما مفاهيم اللعب والتأويل والإشارة من دون حقيقة حاضرة " جاك دريدا.
تقديم :
سنحاول- في هذا المقال - أن نتتبع مسيرة البحث عن فلسفة نيتشه داخل الصرح الفلسفي الفرنسي المعاصر( التي بدأناها بالإشتغال على القراءة الدولوزية لفلسفة نيتشه، وآثار هذه الأخيرة في فكر ميشيل فوكو ) 1 ، وذلك بالتركيز على واحد من دعامات هذا البناء الفكري وركائزه، ألا وهو الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، الذي ذاعت شهرته في كل بقاع العالم كرائد للتفكيكية،نحت مفاهيم جديدة : "التفكيك Déconstruction  و الإخــــــــ(ت)ــــــلافDéfférance،والتمركزالعقلي  Logocentrisme والتمركز الصوتي Phonocentrism ..." وصاغ تصورات متفردة استهدف من خلالها نقد وتفكيك الميتافيزيقا الغربية، وذلك بالكشف عن أوهامها، وتعرية تناقضاتها، وإظهار ما تحجبه.
ولكن قد يجدر بنا الوقوف لحظة قصيرة للتصريح بصعوبة وشساعة فلسفة دريدا، أضف إلى ذلك محاولة السعي لتسليط الضوء على الحضور النستشوي داخلها. ولذلك فإننا سنقتصر على طرق بعض الإشكالات التي نعتقد أنها تفسح أمامنا المجال للتعرف على حضور نيتشه داخل المتن الدريدي. فبأي معنى يمكن الحديث عن هذا الحضور؟ وقبل ذلك كيف يمكن أن نعرف التفكيك الذي يعتبر "الأس المفهومي" لفلسفة دريدا؟ ثم ألا يتسنى لنا ربطه "بالتفلسف المطرقي" النيتشوي إن صح التعبير ؟ ألا يحق لنا القول إن دريدا يسير في الطريق التي عبد فيلسوف المطرقة جزءا منها، ألا وهي طريق النقد  الجينيالوجي للميتافيزيقا الغربية والإطاحة بها من عرشها الذهبي؟

1-    مفهوم التفكيك:
من بين المفاهيم الأأكثر إلتباسا في الفلسفة المعاصرة، نجد مفهوم التفكيك، الذي نحته دريدا، والذي يحاول من خلاله قراءة النص الفلسفي والأدبي، ورج بنية الميتافيزيقا(ميتافيزيقا الحضور)، ولكن كيف يتصور دريدا التفكيك أولا؟ وماذا يقصد به؟
إنه لمن الصعب توضيح مفهوم التفكيك الدريدي في بضع صفحات، وفيلسوفنا نفسه يبدو حائرا في تحديد هذا المفهوم. ولكن لنعطي فكرة موجزة حوله، سنعمد أولا إلى تعريفه بالسلب (أي بما ليس هو )، كما يفعل دريدا.
فبالرغم من ارتباط التفكيك في اللسان الفرنسي Déconstruction بالبادئة Dé  التي تدل على الهدم والنقض، فدريدا يؤكد في مؤلفه "الكتابة والاختلاف " (في رسالة إلى صديق ياباني ) بأن التفكيك ليس هدما. ذلك أن المصطلح الأخير عادة ما يرتبط بعمل سلبي، غرضه تقويض البناء والإطاحة به فقط، وربما لأن الهدم كثيرا ما يتم من خارج البناء ويهشمه كليا. غير أن التفكيك الدريدي يختلف عن هذا المعنى.
ويضيف دريدا إن "التفكيك بأي حال، ورغم المظاهر ليس تحليلا analyse ولا نقدا critique "2، إذ يحيل التحليل إللى سلسلة البحث عم جزء بسيط لا ينحل، أو أصل أول أو مكون أساس لايقبل الإنحلال. وتفكيكية دريدا لا تعترف بشيء لا يكون قابلا للتفكيك، بعبارة أخرى إن التفكيك يطال، وينبغي أن يطال كل شيء وأي شيء. وليس التفكيك نقدا، لأن هذا الأخير (بمعناه العام أو الكانطي) – حسب الفيلسوف – يمتح من جهاز مفاهيمي متعال، (كالقرار، الحكم، التحديد...) لذلك يستهدفه التفكيك.
التفكيك إذن ليس هدما ولا تحليلا ولا نقدا، فهل نعتبره منهجا؟ إذ ذاك سنجد رائد التفكيكية رافعا يده معارضا. فالتفكيك "لا يستطيع أن يكون اختصاصا discipline  أو منهجا" 3. إذ المنهج أو الإختصاص يرتبط بجملة من الخطوات التي نسير على هديها للوصول إلى مبتغانا، بيد أن التفكيك لا يمكن تحديده في قواعد أو خطوات يتبعها المفكك من أجل تفكيك بنية أو نص.ويؤكد الفيلسوف أنه قد توجد كيفيات لطرح السؤال التفكيكي، ولكن في نهاية المطاف ليس التفكيك "قواعد جاهزة".
وإن لم يكن التفكيك تطبيقا لقواعد ناجزة، فهل يكون إبداعا أو فعلا؟ يرد دريدا قائلا: "التفكيك ليس فعلا أو عملية". إذ يرتبط هذان الأخيران بذات معينة(الشخص، الجماعة) تأخذ على عاتقها مسؤولية القيام بذلك الفعل أو العملية. إلا أن الفيلسوف الفرنسي ربما يريد أن ينأى بتفكيكيته عن ربطها بأي ذات، لذا يقول:" إن التفكيك حدث لا ينتظر تشاورا أو وعيا أو تنظيما من لدن الذات الفاعلة ولا حتى من لدن الحداثة، إن الشيء في تفكك"4. قد نقول إن التفكيك لا نقوم به نحن، بل إن كل نص أو موضوع يحوي في داخله بوادر وبذور التفكك. بتعبير آخر إن النص أو البناء يوجد به مكون أساس، هو قابليته "للإنفكاك"، ولكن يبقى أن تقوم الذات بكشف هذا المكون وإبرازه.
نلمس نوعا من القلق بشأن، تعريف وتحديد التفكيك. ويكمن سر هذا القلق في كون أي مرادف للتفكيك، أو أية عبارة أو نص يروم شرح معنى التفكيك (أو حتى ترجمته) هو ذاته قابل للتفكيك. . يقول دريدا في "الكتابة والإختلاف" : "ما الذي لا يكون التفكيك؟ كل شيء. ما التفكيك؟ لا شيء"5.
ولعلنا نقترب من فهم التفكيك أكثر بإيراد هذا القول لفيلوسوفنا " ما يهمني في القراءات التي أحاول إقامتها ليس النقد من الخارج، وإنما الإستقرار أو التموضع في البنية المتجانسة للنص، والعثور على توترات أو تناقضات داخلية، يقرأ النص من خلالها نفسه، ويفكك نفسه بنفسه"6. التفكيك إذن طريقة في القراءة، قراءة النص ( على أن نفهم النص بمعناه الشامل الذي يعبر عنه بلانشو بقوله" بأن العالم نص وأنه حركة الكتابة ذاتها")7 وسبر أغواره، بما يتيح للمفكك الإقامة فيه، ومحاولة إظهار بعض نقاط التناقض وسمات الإختلال المضمرة فيه. إنه إذن يضرب النص بالنص ذاته ( أو البناء بالبناء عينه).
بهذا المعنى التقريبي للتفكيك، راح الفيلسوف الفرنسي يفكك بنية الميتافيزيقا الغربية، أو ميتافيزيقا الحضور – كما ينعتها – القائمة على تمركزات أهمها التمركز العقلي والتمركز الصوتي، فما دلالة المفهومين؟ وكيف يقوضهما الفيلسوف؟
2 – من نيتشه إلى دريدا: نقد وتفكيك الميتافيزيقا
يقوم التمركز العقلي الغربي على أطروحة أن العقل بإمكانه بلوغ الحقيقة بمفرده دون استدعاء آليات أو مكونات أخرى، ويمكن الرجوع بهذه الفكرة إلى أفلاطون الذي ميز بين عالم المثل بما هو عالم الحقيقة والأفكار الخالدة والنور، وعالم النسخ بما هو عالم الواقع والتجربة والظلام. هذا الإعلاء من مكانة العقل وسلطته سيجد تعبيره لدى أب الفلسفة الحديثة ديكارت، الذي اعتبر العقل "نورا فطريا" يهدي من استرشد به إلى اليقين، عبر نهج منهج الشك، وعدم قبول إلا ما تأكد من الأفكار بواسطة العقل، وما اتضحت بداهته بالنور الفطري.
نظر إذن إلى العقل على أنه يمثل الإكتفاء والإمتلاء والناطق باسم الحقيقة، إلى أن جاء نيتشه ليزعزع ثقتنا بهذا العقل، وبمفهوم الحقيقة، ويكشف لنا ما يثوي وراءهما من قوى وإرادات، هي إلى الغريزة واللاعقل والسعي وراء المنفعة أقرب، مؤكدا أن "الحقيقة ماهي إلا كذبة فرضت نفسها" على حد تعبيره. وكثيرا ما شبه نيتشه الحقيقة بالمرأة وعمل على التشكيك فيها". ف"الفيلسوف الذي يعتقد بالحقيقة كما بالمرأة لم يفهم شيئا، لأنه إذا إذا كانت المرأة حقيقة فهي تعلم أنه لا توجد حقيقة، ولا مكان للحقيقة وأنه لا تملك الحقيقة" كما يقول دريدا في كتابه "المهماز، أساليب نيتشه", ويرى أن " كل المواصفات والصفات والسمات التي ربطها نيتشه بالمرأة ، المسافة المغرية، الوعد الخفي، الإستعلاء الذي ينتج الرغبة، تنتمي إلى الحقيقة كتاريخ للخطأ". ومن خلال استخفاف نيتشه وتحطيمه لتمثال الحقيقة يكون قد ساهم في ضرب أس من أسس الميتافيزيقا.
وهاهو دريدا يواصل مسيرة نيتشه عاملا على تفكيك هذه المقولات (أي الحقيقة، العقل...) التي تحيل إلى فلسفة الوعي والحضور، القائمة بدورها على مركزية الصوت وتهميش الكتابة. ولكن كيف ذلك؟
يؤكد الفيلسوف الفرنسي أن الميتافيزيقا الغربية وتاريخ الفلسفة الغربية كان تاريخا لإقصاء وتهميش الكتابة، وينيط بها مهمة ثانوية، ألا وهي التعبير عن الأفكار ، وتحقيق التواصل  بين الأجيال. ويتضح هذا الأمر في استقصاء اللسانيات السوسيرية  (دي سوسير) التي تميز في الدليل بين المدلول والدال. فالأول صورة ذهنية مجردة، والثاني صورة حسية (كتابة أو نطق)، لنقل المعنى الذهني مقابل التعبير المحسوس. وقد يبدو لنا هذا التمييز علميا وموضوعيا، إلا أن دريدا سرعان ما يباغتنا، ليوضح لنا أنه يمكن الرجوع بهذا التمييز إلى  الثنائية الميتافيزيقية الفاصلة بين المعقول والمحسوس ، وبلغة أفلاطونية بين المثال والنسخة، والتي تمنح الأفضلية للأول على الثاني، للمدلول على الدال، للروح على الجسد، وأخيرا للكلام على الكتابة.
إن الميتافيزيقا إذن حينما تعلي من شأو الكلام أو الصوت، تفعل ذلك انطلاقا من الإعتقاد بأن هذا الصوت تجسيد لحديث اللوغوس وللحضور 8، في مقابل الغياب. بعبارة أخرى إنني حينما أتكلم أحقق حضوري، وأمثل وعيي، وأستطيع في الآن ذاته التعبير عن الحقيقة وعن المعنى الأصلي، فأتجنب بذلك الدخول في متاهة التأويل، لأنه يكون بإمكاني تصحيح المعنى إن فهم كلامي خطأ.
لذلك لايجد رائد التفكيكية غضاضة في الجمع بين التمركزية الللوغوسية والتمركز الصواتي، كطرفين على قدم المساواة، أو إن أردنا القول كطرفين يحقق الواحد منهما الآخر. فالوعي كلام، والكلام وعي. أي "التجاور المطلق بين الصوت والوجود، بين الصوت ومعنى الوجود، بين الصوت ومثالية المعنى".9
إن اعتبار الميتافيزيقا الغربية أن الصوت – لا بمعناه الفيزيقي فقط، وإنما كتعبير عن الحضور أيضا – تحقيق للمعنى والوجود واللوغوس، جعلها تسند للكتابة مهمة ثانوية، فترى فيها "مجرد ترجمان لكلام مليء وحاضر بامتلاء (حاضر إزاء ذاته ومدلوله، وإزاء الآخر، شرطه موضوعه الحضور عامة)". 10
وسواء فهما الصوت على أنه الصوت الفيزيقي أم الصوت الروحاني النفسي 11، أم الصوت الفينومينولوجي الترنسدنتالي، فإن أفق التفكير لا يختلف، فهو يصدر عن وجهة نظر ميتافيزيقية، تدعي الإمساك بالحضور الممتلئ والحقيقة والبداهة، لذلك فهي تهمش الكتابة وتجعلها خادم ورسول الصوت، الذي عادة ما يخون مهمته، ولا يبلغ رسالته بدقة وأمانة. ويتبادر إلى أذهاننا سؤال مهم، وهو لماذا تحط الميتافيزيقا من قيمة الكتابة والدال؟ لماذا يخشى الوعي والحضور الكتابة؟
حينما تعض الميتافيزيقا بالنواجذ على الكلام أوالصوت فهي لا تفعل ذلك عبثا، وإنما تفعله اتقاء لشر التأويل. ذلك أن الكتابة تفتح النص على التأويل وإعادة التأويل. وهذا ما ترغب الميتافيزيقا في تجنبه بتمجيد الكلام، أو باستعمال الكتابة، لكن شرط أن تكون كتابة بالعقل – إن صح التعبير – تتوسل بالصرامة المفهومية، والإتساق المنطقي، والخضوع لسلطة النسق، وإذ تفعل ذلك فلكي تحد من التأويل، أو تقصيه، إن أمكن ذلك، حتى تظل لها وحدها سلطة إنتاج واحتكار امتلاك المعنى "الحقيقي" الواضح  الذي لا يتناطح عليه كبشان.
وربما كان نيتشه من السباقين إلى وعي هذه المسألة، ولذلك لم يتصرف إزاءها بسذاجة، فحاول خلخلتها، وهذا ما يقر به جاك دريدا حين يقول: "وبتجذيره مفهومات "التأويل" interprétation و "المنظور"  perspective  و" التقييم" évolution  و"الإختلاف " défférence  [...] نقول بتجذيره إياها، ربما ساهم نيتشه، [...] في تحرير الدال من تبعيته أو وضعيته المتفرعة بالقياس إلى "اللوغوس" أو المفهوم المرتبط به، مفهوم الحقيقة أو المدلول الأول"12. ويضيف الفيلسوف قائلا: لقد كتب نيتشه ما كتب، كتب أن الكتابة – وكتابته هو أولا – ليست خاضعة إلى "اللوغوس" و إلى الحقيقة".13
نيتشه إذن – وكما يصرح دريدا – أسهم في تحرير الدال والكتابة من ربقة المدلول واللوغوس والحقيقة. وفعل الفيلسوف الألماني ذلك حين غرس مقولات التأويل والتقييم والمنظور والإختلاف في التربة الفلسفية. فلم يعد المعنى واحدا بل صار متعددا، ولم تعد الحقيقة ترى من نافذة واحدة هي نافذة البداهة أو العقل، بل من نوافذ عدة، أكانت الغريزة أم العقل أم العاطفة. ومع نيتشه توقف السعي نحو الصرامة المفهومية والمعنى الحقيقي، وخلت فلسفته من النسق المغلق والضيق، أو لنقل – مستعيرين التعبير من فوكو – أعطيت قيمة للنسق البارد.
إن الميتافيزيقا "تحرص على الكتابة الموصولة التي تلائم الفهم الأفلاطوني للمعرفة التراكمية: المعرفة، الذاكرة، والتي يطبعها مفهوم الوحدة، تلك الوحدة التي تعكس وحدة الذات المتكلمة الممتلكة للمعنى والمتحكمة فيه" 14. فهي (أي الميتافيزيقا ) تنبذ التأويل وتعدد المعاني وتكتم صوت الاختلاف، انطلاقا من اعتبار المعرفة بناء يجب الإسهام فيه، لا خلخلته أو تقويضه، ولأن المعرفة الحقة والحضور الكامل يتحقق لديها، وبخلاف ذلك أدخل نيتشه مفهوم اللعب في الكتابة ( التخلي عن النسق والتقييد المفهومي العقلاني )، من خلال توظيف الحكمة والقصيدة، الأولى كفن للتفسير، والثانية كفن للتقويم، كما شرح لنا دولوز، أي باختصار استعمال "الكتابة الشذرية" 15، التي أعلن من خلالها نيتشه سقوط الجدار الإسمنتي الفاصل بين الكتابة النسقية الجافة، والكتابة الأدبية المنفتحة والخفيفة. ومن هنا يمكن أن نجد تقاطعا بين نيتشه ورواد التفكيكية "إنهم يبذلون ما لديهم من جهد على غرار نيتشه لإسقاط الحواجز المؤسسية لتي تفصل الميدان الفلسفي عن الميدان الأدبي لأجل بلوغ حرية اللعبة النصبة غير المحدودة، اللعبة الدالة".على حد تصريح بيير زيما.16
كان فيلسوف المطرقة يريد للكتابة أن تكون بالعقل والجسد والأحاسيس. ولذلك كان فيلسوفا وشاعرا وأديبا، يولي قلمه شطر جمالية التعبير وعذوبته، فحرر الكتابة من أغلال العقل. ولهذا لا يتردد دريدا في القول: "ينبغي بلا ريب إيراد النقد النيتشوي للميتافيزيقا، لمفهومي الكون والحقيقة، اللذان حلت محلهما مفاهيم اللعب والتأويل والإشارة من دون حقيقة حاضرة " 17. ولهذا أيضا لا يحجم بيير ف زيما P.V.Zima – صاحب الدراسة النقدية عن التفكيكية – عن القول: "إنه لصحيح أن يتم التشديد على الإرث النيتشوي لدى دريدا، الذي يتجلى في المحاكاة الساخرة والقول المأثور والشذرة".18
إن تمرد نيتشه ودريدا من بعده على أسلوب الكتابة الميتافيزيقية، التي تعطي الكلمة الفصل للعقل والمنطق، لم يكن عبثا ولعبا - بالمعنى السلبي للكلمة – بل كان صادرا عن وعي بأهمية الكتابة، لا كوسيلة فقط بل كغاية أيضا، ذلك أن الكتابة "ليست وعاء لشحن وحدات معدة سلفا وإنما هي صيغة لإنتاج هذه الوحدات " بتعبير دريدا.
ولربما كانا يريدان إطلاق العنان لأقلامنا كي تكتب، ولكي تكتب ما ترغب في كتابته. وفي هذا السياق نفهم لم قال رائد التفكيكية : "إن قيام الكتابة هو قيام اللعب ".19
إن دريدا إذ يريد أن يجعل للكتابة الغراماتولوجية (النحوية)20 موطئ قدم في الخطابات المعاصرة – بحيث ينظر إليها كضرورة – ينطلق من كون العلامة المكتوبة21 ضرورية لكل مجتمع، وقابليتها للتكرار (وهو ما لم يتوافر للصوت إلى وقت قريب)، وكذا الإنسلاخ عن سياقها،واستزراعها في سياق أو خطاب آخر، مما يشكل بوابة لولوج عالم التأويل المنفتح، المنتج للدلالة والمعنى، وأخيرا للإخــــ(ت)ـــلاف La Défférance الذي عدل الفيلسوف من كتابته (أبدل e ب a)، ليعني به ليس فقط المغايرة والتنوع والتباين، وإنما أيضا الإرجاء والتأجيل.
وباجتراح دريدا لهذه الطريقة الإملائية الجديدة في كتابة الإخـــ(ت)ـــلاف Défférance الحاملة لدلالة جديدة يكون قد تكرد على "الإملاء الأرثوذكسي" بتعبير أحد المفكرين، ويعمل في الوقت نفسه على تفكيك ميتافيزيقا الحضور. ذلك أنه يعرف الإخـــ(ت)ـــلاف Défférance بأنه "الإزاحة التي تصبح بوساطتها اللغة أو الشفرة أو أي نظام مرجعي عام، ذي ميزة تاريخية، عبارة عن بنية من الاختلافات ". 22
الاختلاف إذن إزاحة وتأكيد لانعدام المطابقة، وصعوبة، وربما استحالة الإمساك بالحضور الممتلئ23، وتأجيل للمعنى إلى ما لانهاية ، وذلك يغرقنا في دوامة التأويل اللامتناهية، نجدد بفضلها المعاني والدلالات (وبوسعنا القول إن الاختلاف هو ما يمنح للأشياء معانيها ) ويحيلنا معنى إلى آخر. فيتجذر بذلك الإختلاف، وينفتح مجال أرحب للتأويل. وهكذا يصبح الحضور الذي تتبجح به الميتافيزيقا رمادا مندثرا في آفاق الوجود، ما دام المعنى والذات واللغة، والوجود ككل : "بركانا نشيطا" تتطاير شظاياه في كل النواحي ويثور كلما حسبناه خامدا، وكلما اقتربنا إلى الإرتكان والإطمئنان للحضور الكافي والمعنى المغلق، أي المعنى الكامل الذي تبلغه الذات المتوحدة عبر سعيها الدؤوب نحو الحقيقة من خلال الإصغاء لحديث وصوت الروح، كما تريد الميتافيزيقا.
على سبيل الختم:
وعلى سبيل الختم – مادام إنهاء هذا الموضوع غير ممكن بالنظر إلى نقصانه ولا امتلائه – يبدو أن فلسفة نيشته صرخة في وجه الوجود تعلن تجاوز واجتثاث شجرة الميتافيزيقا بتقويض أركانها ومقولاتها جينيالوجيا. والعمل على ترسيخ مفاهيم أكثر انفتاحا وذات نفحة تشكيكية. بيد أن مهمة كبيرة  كهذه تتطلب تضافر جهود مفكرين وفلاسفة كبار. لهذا  جاء رائد التفكيكية ( من بعد هايدغر..) ليؤكد أن تجليات الميتافيزيقا لا تزال تضرب بجذورها في الفكر والفلسفة، فاستهدف ميتافيزيقا الحضور،مفككا إياها ومبينا ثغراتها وفجواتها.
من هذه الزاوية يعد دريدا تلميذا لنيتشه، استوعب دروسه (ودروس هايدغر )، ولكنه استطاع أن يتفر بآلياته، القائمة على إخضاع كل لشيء "لمشرط التفكيك ". فراح يترصد الميتافيزيقا في أوجهها، التي ارتكزت على تمجيد مفهوم الحضور، ما جعلها تعلي من شأن الصوت على حساب الكتابة. باعتبار الأول يرادفه الحضور الممتلئ،بخلاف الثانية التي تؤشر على الغياب والتباس المعنى واغترابه.
ولتفكيك مقولة الحضور تلك أبرز الفيلسوف الفرنسي أن اللغة شرط تحقق المعنى وليست فقط قالبا له. وأوضح أهمية الكتابة في إحياء النص, حين نؤمن بالاخـ(ت)ـلاف كسعي متواصل لبلوغ المعنى الذي لا يبنى إلا بالدخول في دوامة التأويل. وبهذا يكون دريدا قد أسهم (مثل نيتشه ) في تصديع بنيان الميتافيزيقا الغربية بأن أبان أن المعنى والحضور معلقان إلى أجل غير مسمى! 

الهوامش:
1-    التي بدأناها بالإشتغال على القراءة الدولوزية لفلسفة نيتشه أنظر الرابط الإلكتروني التالي: /http://anfasse.org/2010-12-30-16-04-13/2010-12-05-17-29-12/5563-2014-08-23-11-39-05
وآثار فلسفة نيتشه في فكر ميشيل فوكو http://www.anfasse.org/2010-12-30-16-04-13/2010-12-05-17-29-12/5543-2014-08-09-11-33-37
2-    جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 2، 2000، ص 60.
3-    فوكو – دريدا، حوارات ونصوص، ترجمة محمد ميلاد، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية ط1، 2006، "حول مفهوم التفكيك"، ص 145.
4-    الكتابة والاختلاف، ص 61.
5-    المرجع نفسه، ص 63
6-    المرجع نفسه، ص 49.
7-    عبد السلام بنعبد العالي ،أسس الفكر الفلسفي المعاصر، ص 82.
8-    حول مفهوم الحضور أنظر جيف كولينز – بيل مايبلين، أقدم لك دريدا، ترجمة حمدي الجابري، مراجعة وإشراف وتقديم إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005.
9-    الكتابة والاختلاف، ص 111.
10-    المرجع نفسه، ص 106.
11-    يعتبر أفلاطون أن الحقيقة "حوار الروح الصامت مع النفس"، ويقول كانط : "شيئان يثران في النفس الإعجاب: السماء المرصعة بالنجوم فوقي والقانون الأخلاقي في نفسي".
12-    الكتابة والاختلاف، ص 120.
13-    المرجع نفسه ، ص 121.
14-    أسس الفكر الفلسفي المعاصر،م,س ص 135.
15-    يقول نيتشه: "وفي بعض كتبي تشكل الكتابة الشذرية (Aphoristique) شيئا من الصعوبة، ومصدر ذلك هو كوننا اليوم لا ننظر إلى هذا الشكل من الكتابة بجدية كبيرة". جينيالوجيا الأخلاق، ص 16.
16-    بيير ف  زيما، التفكيكية دراسة نقدية، تعريب أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1. 1996.
17-    المرجع نفسه، ص67.
18-    المرجع نفسه، ص 72.
19-    الكتابة والاختلاف، ص104.
20-    في مقابل هذه الكتابة يحدد دريدا كتابة بنويماتولوجية تحيل على الخلق الإلهي وقدرته، أي اعتبار العالم ككتاب يحمل بين دفتيه آيات على عظمة الخلق، وهي تدخل في عداد الصوت الميتافيزيقي، الذي يريد الفيلسوف تفكيك مركزيته. أنظر ص ص 116-118 من المرجع نفسه.
21-    عبد الله ابراهيم، التفكيك: الأصول والمقولات...،ص ص 79-80 (بتصرف).
22-    المرجع نفسه، ص51.
23-    في سياق خلخلة ثنائيات الميتافيزيقا وتفكيك ميتافيزيقا الحضور يركز دريدا على مفاهيم لها معاني مزدوجة، تحمل بذور التضاد وقادرة على زعزعة الثقة في أحادية المعنى وكماله (الذي تدعي الميتافيزيقا امتلامه) من قبيل مفهوم الأثر الذي يحيل على الحضور والغياب، المحو والإيجاد...والفارماكون: السم والترياق، والإضافة التي تدل على الاكتمال والنقص، والهامش الذي يشير إلى توضيح وإضافة شيء إلى المركز، وقد يحل محله أو يخلخله. والمهم أن هذه الكلمات- المعاول ( المعول يبني ويهدم ) تثبت انعدام اكتمال المعنى واستحالة الحضور الممتلئ. أنظر الكتابة والاختلاف، ص ص 27-28، وأقدم لك دريدا، ص ص 34-37، و ص ص 42-43.

 المصادر و المراجع المعتمدة:
1-    فريدريك نيتشه، جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة وتقديم، محمد الناجي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2006.
2-    جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 2، 2000.
3-    فوكو – دريدا، حوارات ونصوص، ترجمة محمد ميلاد، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية ط1، 2006، "حول مفهوم التفكيك".
4-    فوكو – دريدا، حوارات ونصوص، ترجمة محمد ميلاد، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية ط1، 2006، "حول مفهوم التفكيك".
5-    بيير ف  زيما، التفكيكية دراسة نقدية، تعريب أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1. 1996.
6-    جيف كولينز – بيل مايبلين، أقدم لك دريدا، ترجمة حمدي الجابري، مراجعة وإشراف وتقديم إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005.
7-    عبد السلام بنعبد العالي ،أسس الفكر الفلسفي المعاصر، مجاوزة الميتافيزيقا، دار توبقال للنشر،الدار البيضاء، ط1،1991.
8-    عبد الله ابراهيم، التفكيك: الأصول والمقولات، منشورات عيون المقالات، الدار البيضاء، ط1، 1990.