منطق فلسفة العقل الخالص 3/1 ـ هادي معزوز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Anfasse12118إن فلسفة العقل الخالص، أو الفلسفة النقدية والتي يمثلها فيلسوف كونكسبرغ كانط، ليست إلا تلك القراءة المعاكسة لمنطق التفكير الفلسفي خلال عصر الأنوار، والذي كان إما مصنفا تحت تأثير التقليد القاري الذي يعتبر كل من ديكارت، لايبنتز، باسكال، واسبينوزا رواده الأوائل، أو عن طريق هيمنة التقليد الأنغلوساكسوني والذي أرسى دعائمه فلاسفة كبار من قبيل بيكون، هيوم، لوك، والأسقف بيركلي وإن غامرنا في تصنيف هذا الأخير ضمن دائرتهم.
    عندما نعود إلى تاريخ الفلسفة سنجد أن هذا الصراع بين العقل والتجربة الحسية لم يكن وليد لحظة الأزمنة الحديثة، بقدر ما أن جذوره كانت ضاربة مند اليونان خاصة فلسفة كل من أفلاطون المنتصرة للعقل الرياضي، وفلسفة أرسطو المدعومة من طرف العقل الفيزيائي، لهذا ربما لن ننشده عندما نرى أفلاطون قد منع كل من ليس رياضيا من الدخول إلى أكاديميته، عكس أرسطو الذي كان الفيزياء physis من بين الاسئلة الكبرى التي شكلت نسقه الفلسفي إضافة إلى ما بعد الفيزياء، والحال أن العصور الوسطى أو قل فلسفة العصور الوسطى لم تسلم هي الأخرى من صراع خفي بين العقل والتجربة، بين الفكرة والشيء، وبين المثال والواقع، تمثل أساسا في ذلك الحوار الشهير بين مدرستين الأولى اسمية بناها رجل يدعى القديس أوغسطين، والثانية واقعية أسسها القديس طوما الأكويني، الأولى حاولت أن تبيئ معالم المسيحية والفلسفية الأفلاطونية، في حين أن الثانية جعلت من المدرسة الأرسطية منطلقها الأول، وبين هذا وذاك سطع نجم فيلسوف ألماني والذي ليس إلا إيمانويل كانط الذي وإن أبدى اهتماما كبيرا بالفلسفة الديكارتية في بداياته حياته، انعرج عنها بعدئذ خلال تأسيسه لمبادئ العقل الخالص القائم على أسس نقدية تفكر في كيفية التفكير.

والحال أن هذا الانعراج وبعودتنا إلى اهتمامات كانط الأولى يمكن أن نجد له مسوغا، يتمثل في أن الرجل وإن انتصر للمنهج الديكارتي فقد كان ممارسا للفيزياء وليس للرياضيات، ــ وهو الأمر الذي ذهب إليه القليل القليل من المهتمين بالشأن الفلسفي ــ انطلاقا من كتاباته منذ سنة 1746 إلى غاية سنة 1755، هذا التزاوج بين التأثر فلسفيا بالمدرسة العقلانية والانصياع للفيزياء علميا، ولد في الرجل بعدئذ فكرة عدم الانحياز المطلق إلى أية مدرسة، حيث لكل واحدة منها خصائصها وعيوبها وأسسها.
    والحال أن كتاب "نقد العقل الخالص" قد شكل فيما شكل تلك الصرخة الفلسفية في وجه التقليدين، وذلك التحول الكبير نحو عقل أخر والتي ليس إلا العقل النقدي، فما هي يا ترى أهم أسسه ومبادئه ومرتكزاته؟ وهل تمكن العقل الخالص من رسم معالم فلسفة جديدة أحدثت شرخا كبيرا في الفكر أم أنها انتهت بنهاية التأسيس لعقل أخلاقي عملي؟ بعبارة أخرى كيف يتساءل العقل الخالص على ماذا يمكن أن يعرف؟
    ينطلق كانط بداية في فهمه الفلسفي للمعرفة من ثنائيتين وهما المعرفة القبلية priori، ثم المعرفة التي يعطيها الواقع أو المعرفة البعدية  posteriori، مؤكدا أن معطيات الفكر القبلية ليست تقترن ضرورة بتقديم معرفة صحيحة، وذلك لأن للواقع منطقا آخر ما إن تحاول المعاني المجردة فهمه حتى يسقط في أكثر المشاكل تعقيدا، من ثمة فإنه يجب أن "نطلب من العقل أن يأخذ عل عاتقه أصعب المهام، والتي ليست إلا معرفة نفسه وتأسيس محكمة  تؤيد مزاعمه المشروعة، وترفض التي بدون أسس، ليس عن طريق قرار تعسفي، ولكن باسم قوانينه الأبدية الثابتة، وبكلمة واحدة أن ينتقد العقل الخالص نفسه." (1)  من ثمة فلا شك أن العقل الخالص إنما يتساءل عن كيفية تفكير التفكير، أو بعبارة أخرى يحاول أن يفكر في التفكير، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار معطيات التجربة الحسية، من هنا كان التأثر شديدا من طرف كانط بالرياضيات والفيزياء لبنائهما المنطقي الصارم عكس الميتافيزيقا التي حاولت دوما بناء الواقع وفهمه انطلاقا مما هو قبلي فقط، أي انطلاقا من مبادئ العقل الخالص.
    إن على الفلسفة وفي أول خطوة منها نحو تحقيق النجاحات الباهرة على غرار الرياضيات والفيزياء، أن تبتعد قليلا عن التفكير في الموجود نحو التفكير في المعرفة إذ المشكل ليس مشكلا أنطولوجيا ontologique بقدر ما أنه يتعلق بالذات أولا وأخيرا، زيادة على ذلك فإنه ينبغي أن نفصل ذاتية كانط عن البعد السيكولوجي الكلاسيكي وهو البعيد تمام البعد عن الفلسفة النقدية، لسبب بسيط يتعلق بكونه يفصل بين الحساسية والإرادة، في حين أن أهم فصل يجب أن يعتمد هو الفصل بين الحساسية والفهم وهو ما سيكون منطلقنا الرئيسي نحو فهم قويم لفلسفة كانط النقدية.
    لا شك أن الميتافيزيقا القديمة حسب كانط لم تكن تقوم إلا على تلك العلاقة غير المتناسقة بين الحساسية والفهم، أي بين معرفة قبلية محضة وأخرى بعدية متذبذبة، في حين أن ميتافيزيقا كانط البديلة حاولت إعادة النظر في هذا الأمر، وتعويضها بميتافيزيقا قائمة على منطق التحليل كمنطق لفهم الظواهر، أي أن الظواهر على حد تعبير الفيلسوف الشهير بوترو(2) تصبح خاضعة تماما للفهم، وعليه فإنه يؤكد في معرض معالجته لهذا الأمر على ضرورة عدم الاعتماد على التحليل لوحده مثلما ذهب إليه ديكارت حيث يتوقف التحليل عندما ينتهي من فك المعطيات إلى عناصرها البسيطة، بقدر ما يجب أيضا أن نفسر المعاني المجردة قبليا وذلك تفاديا للسقوط في عقل أعمى يتعالى عن التجربة الحسية معتبرا إياها نموذجا له لا غير.
     نفهم من هذا الأمر أن حيلة كانط تكمن في إعادة النظر في العقل الخالص ليس انطلاقا من العقل الخالص، وإنما انطلاقا من معطيات التجربة الحسية، إذ الأول ـ العقل الخالص ـ لن يستطيع التقدم بدون الأشياء التي تعطيها لنا التجربة الحسية، بعبارة أخرى لا مرية في أن " كل مجهوداتنا من أجل التأسيس لحكم قبلي نحو هاته الاشياء لم تؤدي بنا إلى نتائج مرجوة."(3)       

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1-    E. Kant : critique de la raison pure, vol  2, paris, Gibert, 1912
2-    Voir par exemple : e. Boutroux : philosophie de Kant ; p : 19
3-    E. Kant : op ; cité ; p : 21

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟