إمبراطوريّة الإرهاب ـ سلام زويدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse04035كيف لنا أن نتعاطى مع مفهوم الإرهاب؟ وأي ضربٍ من القراءة تَقدر على النفاذ مسباريا إلى أصله وفصله ونشأته وتطوّره عبر الأحقاب التاريخيّة؟ هل نتعامل معه بمنطق الأركيولوجيا أم بمنطق الجينيالوجيا أم أن الأمر على ضوء الراهن الوهن يتطلّب قراءة ماديّة تاريخيّة تعكس المرحلة العليا التي وصلت إليها الرأسماليّة؟
      لقد ارتأينا أن نباشر الإرهاب ونستأنف القول فيه فلسفيا من جهة جعله النصف المظلم من نظام الإمبراطوريّة المعولمة ، أي الجرح المتقرّح الذي لطالما سعى نُسّاخ العصر إلى إخفائه فجعل عنوان مداخلتي " إمبراطوريّة الإرهاب"  هو في حقيقة الأمر دعوة إلى ضرورة تصريف الإرهاب في غير ذلك المصرف الدارج في الموروث الثقافي العربي، ومنه تحديد التناقضات الأساسية الفاعلة في صلب حركة التاريخ العالمي والمحدد للمهام المطروحة على القوى المناهضة للإرهاب، ذلك أن فهم إشكاليّة الإرهاب وتشخيصها يتطلّب في نظرنا تحديد الأطراف الفاعلة في الساحة العالميّة ومن ذلك فالإرهاب وفق هذا التمشي  يُفهم في سياق حركة الاقتصاد السياسي الذي بات اقتصادا سياسيا معلوماتيا وهذا هو مضمون مداخلتي والذي فيه سأحاول المرور بالأطروحات التاليّة :


    سأبين في الموضع الأّوّل، كيف أنّ التنظيمات الإرهابية بمختلف تلويناتها وفرقها الدينيّة هي إفراز من إفرازات الرأسمالية العولميّة ومنه كيف أن الإرهاب الأصولي هو ردّ فعل ظلامي على الأزمة العالميّة وفيه  سنحاول بيان وتبيان أن العولمة وباعتبارها درجة قصوى من المنظومة الرأسماليّة هي عولمة للإرهاب والفقر والثقافة والحرب ومنهم سأصل إلى تبين الاقتران العضوي داخل نظام الإمبراطوريّة بين صناعة الفقر وصناعة الإرهاب وهذا التزاوج المفاهيمي هو الذي يفتح المجال أمام القوى المناهضة لشراسة العولمة للتفكير في ثقافة بديلة.
وفي الموضع الثاني لحظة سنحاول تحديد بعض الأطروحات التأسيسيّة لفعل المقاومة والتخطي.

1.   إمبراطوريّة الإرهاب
      حينما سقط  جدار برلين الذي يفصل ألمانيا الشرقيّة عن ألمانيا الغربيّة ومع صدور البيروسترويكا السوفياتيّة[1]  ونهاية التاريخ وإمبراطوريّة الثروة[2]، اعتقدت الإنسانيّة أّنّها افتتحت عهدا جديدا سيسوده الرخاء والسلم العالميان وبعد أفول نجم الشيوعيّة في بلدان أوروبا الشرقيّة وخلف الشعارات الرنّانة التي نترجمها بأنغام النظام العالمي الجديد خرجت سمفونيّة الموت لتترجم أحداث الحادي عشر من سبتمبر عملا إرهابيا يقتضي تدخّلا عالميا وبموجبه وقع التدخّل في أفغانستان واحتلال العراق وعلى ضوء العدو الافتراضي الذي يحرّك مطامع رأس المال وقع تقسيم العالم تقسيما ميتا-أخلاقيا بين قوى الخير وقوي الشر فأعيد رسم الخارطة السياسيّة لتبيح الهيمنة الامبرياليّة على العالم ، هيمنة اتخذت مصرف تحالفات خبيثة غايتها العزل والقتل السياسي، ففهم الإرهاب على ضوء ما قيل يتطلّب أولا السكن والإقامة داخل منظومة بكاملها، فحركة رأس المال لا يمكن أن تحافظ على ديمومتها إلا عن طريق الاستمرار في عمليّات النهب التي تقودها ديناصورات العصر والمتمثّلة رأسا في صندوق النقد الدولي ومنظّمة التجارة العالميّة، وبالتالي فالإرهاب الحقيقي تمارسه الأدوات الخفيّة والناعمة للرأسماليّة العالميّة، ذلك أنّ العولمة هي الدرجة القصوى من الإرهاب المعلوماتي المسلّط على الخصوصيات الثقافيّة، فخلق مجتمع وقواعد استهلاكيّة لا يكون ممكنا إلا عبر التكييف الهيكلي والإجبار على التحديث السياسي أي تبني النموذج السياسي والثقافي والاقتصادي للعولمة وبالتالي فعمليّة الإصلاح الهيكلي تمرّ حتما ووجوبا عبر قتل الهوويات الثقافيّة وإضعاف البنيّة الفوقيّة للدولة من أجل إطلاق العنان لحركة رأس المال الوهمي لكي يجول دون قيود، فإمبراطوريّة العولمة ليست إمبراطوريّة رفاه وسلم عالمي كما يسوق منضّروها بل هي "إمبراطوريّة فوضي "[3] و"سيطرة صامته "[4]من قلب العالم إلى أطرافه تعبر عن الاعتداء الوحشي والبربري "على الديمقراطيّة والرفاهيّة"[5].

      يبقى الحديث عن الإرهاب بمعزل عن الظّروف التي أنتجته وبعيدا على التناقضات الرئيسيّة التي يحتكم إليها أمرا لا طائل من ورائه فحديثنا عن إمبراطوريّة الفقر والإرهاب لا يكون واضحا إلا إذا تابعنا إمداداته النظريّة التي تعود إلى فلسفات التنوير والحداثة فما الإمبراطوريّة المعولمة إلا امتدادا لمنوري القرن الثامن عشر وما العولمة السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والعسكريّة إلا سيرورة من السيرورات والتطوّرات التاريخيّة للرأسماليّة العالميّة ، فليس الصراع الذي يضبط حركة التاريخ ويعيد رسم الخارطة السياسيّة صراعا ثقافيا ولا صراع أديان ولا حتى صراع حضارات[6] بل هو صراع اقتصادي حول مناطق الاستقطاب ، فتحليل الإرهاب وتشخيصه وتوجيه الضربات إليه يبدأ أولا بتجفيف منابعه التي تمتدّ إلى فلسفات الأنوار والحداثة فهي التي أنتجت الفاشيّة والنازيّة وهي التي أضرمت الحربان العالميتان وهي كذلك من رعت سياسة الاستيطان في فلسطين المحتلة. يسمح لنا ما قيل بالذهاب مع دريدا في اعتبار الإرهاب عرض من أعراض الحداثة وأزمة من أزماتها[7] والتي نعبّر عنها بأزمة شعاراتها بخروج فكر الحداثة عن مبادئه ومن ذلك فأزمة الحضارة العالميّة في زمنيّة الإمبراطوريّة هي أزمة صنم رأس المال الذي لا يستطيع لما يقول ماركس أن يحافظ على استمراريته إلا عن طريق التغذّي من جماجم ضحاياه عبر تشكيل العالم على صورته.

      في زمنيّة إمبراطورية المال والإعلام تعولم الإرهاب وأجهضت القيم الكونيّة وقتّلت الخصوصيات الثقافيّة وحلّت حريّة البيع والشراء محل الحريات السياسيّة التي انتزعت بأغلى التضحيات وحلّت التعدّدية السلعيّة محل التعددّية الثقافيّة، فعلى هذا المصرف تكون إمبراطوريّة العولمة إمبراطوريّة فوضى وإرهاب وفقر في الآن عينه، فبمرور الرأسماليّة من طور الإمبرياليّة إلى طور العولمة اتضحت الفوارق بين الطبقات وازداد التدخل الامبريالي المعولم  في سياسات بلدان التخوم فكان من نتائجه فتح الأسواق للرأس المال المسعور الذي تقوده الأيادي الناعمة وما انجر عن هذا الخيار من تحطيم لقوائم الدولة ولسيادتها وبالتالي خلق النموذج الراعي للرأسمال المعولم، ناهيك عن الظواهر اللا إنسانيّة التي أفرزتها العولمة الرأسماليّة فمافيا السلاح وشبكات الدعارة والصراعات الدينيّة والعرقيّة والطائفيّة والعصابات المنظّمة والقرصنة في المحيطات هي في حقيقة الأمر النتيجة الحتميّة لديكتاتوريّة رأس المال.

      يمرّ تحليل الإرهاب في نظرنا حتما ووجوبا من الإرهاب الأصولي في شكله الديني إلى الإرهاب الذي تمارسه الدول والذي لم يعد يخضع لمنطق السيادة ولا لمنطق المركزيّة بل يخضع فقط للخيط الذي يحرّك الاقتصاد السياسي الذي بات في الراهن اقتصادا سياسيا معلوماتيا وحيويا، فمرورنا إلى الإرهاب في بنيّة الإمبراطوريّة المعولمة نترجمه بضرورة تحديد التناقض الحقيقي الذي يشقّ العالم، فالتناقض الفاعل في صلب التاريخ ليس تناقض الشعوب المهيمن عليها مع الإرهاب الأصولي بل أنّ التناقض نعبّر عنه طبقا للشروط الماديّة بالتناقض بين المراكز والتخوم، بين المهيمن والمهيمن عليه، بين القوى التقدميّة والتحرريّة والقوى الرجعيّة التي تستهدف المحافظة على التشكيلة الطبقيّة العالميّة الراهنة من أجل مواصلة سياسة استنزاف ثروات الشعوب  وذلك عبر تغذيّة الصراعات والفتن والحروب وما الوضع المدعشن في سوريا والعراق وليبيا واليمن إلا التعبير الأشمل عن الدور الذي تلعبه الإمبراطوريّة المعولمة في تغذيّة الصراعات والفوضى  واللا استقرار في البلدان ذات المواقع الحيويّة، ذلك لأنّنا نعتبر أن حركة الاقتصاد السياسي لا يمكن لها أن تحقق نموا في السيولة الماليّة إلا عبر نشر الفوضى الخلّاقة التي تؤدّي إلى مزيد من الإخضاع عبر منطق تأبيد الانقسام وتقسيم المنقسم.

      البين مما قيل أن إشكاليّة الإرهاب طبقا للوضع الراهن والذي نعبّر عنه بالدرجة الصفر من التدبير السياسي والاقتصادي تدفعنا إلى إعلان ميقات أزمة حضارة رأس المال الوهمي أو السابح ومنه إعلان الأزمة الحضاريّة الشاملة ذلك أن اللا استقرار في المناخ السياسي العالمي والذي ترجمناه بعولمة الإرهاب والجريمة والفقر هو الذي يجعل من نظام الإمبراطوريّة نظاما إرهابيا وإرهابيته نترجمها بالسيطرة على الدول وإخضاعها والتحكم في قراراتها واستثمارها وان لزم الأمر دعشنتها وإدخالها في فوضى شاملة خدمة لجشاعة رأس المال.

      الآكد  أن عولمة الإرهاب اليوم وتحوّل الرأسماليّة إلى الدرجة الأقصى من الإرهاب والذي وصل إلى حد التدمير الشامل للدول هو دليل واضح على أزمة خيارات ما بعد الحداثة ، فلئن كانت الحداثة وفق تشخيص أدرنو وهوركهايمر قد انتهت إلى كارثة كبرى فإنّ ما بعد الحداثة قد استحالت إلى إمبراطوريّة عولميّة[8] بربريّة تجسّد ديانة جديدة لها صلواتها وطقوسها، فتحليل الإرهاب وتحديد المهام المطروحة على المثقفين العرب إنّما يتم أولا عبر مراجعة مخزوننا الروحي وذلك من أجل الكشف عن المسكوت عنه في تاريخنا ومن ثمّة فالمطلوب هو ملاحقة امداداته النظرية والعمليّة التي تعود إلى الموروث الميتافيزيقي الذي ساهم ولا يزال يساهم في تفريخ الإرهاب الأسود لتستثمره المافيات السياسيّة العالميّة لزعزعة أمن واستقرار الشعوب ومن ثمّة فأزمتنا نحن الثقافي والحضاري والكوني ليست أزمة روحيّة ولا أزمة أخلاقيّة وإنما هي أزمة اقتصادية ، أزمة في السيادة على الذات والآخر والوطن والعالم ، هي أزمة نعبّر عنها بعدم توفّر نموذج سياسي ومجتمعي واقتصادي يكون قادرا على الاستجابة لهموم وتطلّعات الشعوب ومن ثمّة فالأزمة التي ساهمت في تفريخ الإرهاب وتصديره وتوريده وفق المصالح التي تمليها الخارطة السياسيّة المحليّة والعالميّة، هي أزمة في البناء التنموي نعبّر عنه بتمزّق النظام هيكليا[9] وعدم مقدرة البرجوازيات في بلدان الأطراف على منافسة البرجوازيات العالميّة وهذا التمزق في خيارات الدولة وخضوعها المطلق لخيارات البنك الدولى هو الذي ساهم في استفحال الوضع في البلدان التي يسمونها بالربيع العربي ومن ثمّة فتناقض هذه البلدان ليس مع الإرهاب بل مع سلطان رأس المال المحلي والأجنبي فهو الذي أنتج الفقر وغذى الصراع وهو كذلك من أنتج هذا الوضع المدعشن ورعاه وموّله في سوريا ووقف ضدّه في ليبيا واليمن وهذا التذبذب واللا استقرار في الموقف من الإرهاب من قبل أجهزة النهب الدوليّة هو الذي يجعلنا ننظر إلى الإرهاب في تلك النقطة التي يتمفصل فيها الإرهاب الأسود بالإرهاب الأحمر، أي في مفترق الطرقات التي تتقاطع فيها إرادة التحرر من سلطان رأس المال بإرادة تأبيد الوضع وتزمين الصراع ومن ذلك فإشكاليّة الإرهاب والتي اعتبرناها الدرجة القصوى من العنف والنهب الذي تستعمله المافيات السياسيّة العالميّة إنّما تحل في إطار حركة الملكيّة الخاصّة باعتباره الحركة الديالكتيكيّة لرأس المال الذي لا يمكن له أن يحافظ على عنفوانه إلا عبر تكديس الجثث وتدمير البنى التحتيّة بالشامل وإضعاف البنى الفوقيّة للدول من أجل تسهيل السيطرة عليها ومعنى ذلك أن إشكاليّة الإرهاب كتعبير عن أزمة العولمة وتأزم مشروع ما بعد الحداثة إنّما يحلّ عبر نفي الإله الدنيوي للإمبراطوريّة والذي نعبّر عنه برأس المال المعولم .

      لا تكون معالجة الإرهاب وتأصيله واجتثاث منابعه وأدواته بتحويله إلى مفهوم تجريدي، بل بالقضاء على الظّروف التي أنتجته ومن ثمّة فالسياسات الاستعماريّة المعولمة والتي نعبّر عنها بالأيادي الناعمة هي التي أنتجت وفرّخت الإرهاب بسياساتها التي لا تخدم مصلحة المستعمرات بل مصلحة رأس المال، فحديثنا عن الإرهاب الذي يمارس عبر سلطان رأس المال لا ينفصل عن الصهيونيّة العالمية فلا غرابة أن تصمت المافيا الإعلاميّة المعولمة على أكبر المجازر الإرهابيّة التي تحاك ضدّ الشعب العربي في فلسطين في حين يتجّه الساسة المحلّيون والعالميون إلى التنديد بالعمليات الإرهابيّة في عاصمة الأنوار، يصمت الإعلام المعولم عن تهجير السكّان الأصليين لفلسطين من قبل آلة القمع الصهيونيّة  وفي الجهة المقابلة يحمّل النظام السوري مسألة تهجير شعبه، مذّاك فمشكلتنا نحن مع الإرهاب ليست إشكاليّة أصولية وإنّما هو إرهاب دول يقوده رأس المال المعولم ومن ثمّة فالقضاء على الإرهاب الذي تمارسه الدول على بقيّة شعوب العالم يمرّ حتما ووجوبا عبر كنس الوجود الرأسمالي المعولم، أي القضاء على الإله الدنيوي  للرأسماليّة العالميّة ذلك لأنّها " تتمتع بقدرات هائلة على الاضطهاد والتدمير"[10]وهو راجع إلى تطبيق العلم وتوجيهه ليخدم مصالح المافيات العالميّة، هذا التوجيه نعبّر عنه بالدقّة والسرعة في تنفيذ العمليات الإرهابيّة، لذلك فالإرهاب في نظرنا سواء كان إرهاب دول أو إرهاب أصولي ديني فمدلوله واحد نشر الفوضى في العالم لإطلاق العنان لرأس المال لكي ينتقّل بين الدول بدون قيود ومن ثمّة فالإرهاب المعولم هو تقنيّة جديدة لاستعمار الشعوب ونهب الثروات .

      لا شكّ في أن عولمة الإرهاب هي عولمة للفوضى وللفقر داخل البنيان السياسي للإمبراطوريّة بمقتضاها "لا أحد يستطيع أن ينجوا من الموت بواسطة الاستدلال"[11] فمنطق الحوار والنقاش حل محلّه صوت الرصاص والصواريخ الباليستيّة التي جعلت من الإرهاب تنظيما عالميا يساير العولمة ويضاهيها في الانتشار.

     الواضح أن الأزمة مستوطنة في بنية العولمة باعتبارها الدرجة القصوى من الرأسماليّة العالميّة، فهي التي أنتجت ولا تزال تنتج وتغذّي الصراعات، وخلقت تنظيم القاعدة لمقاومة المد الشيوعي وهي كذلك من أنتجت التنظيمات الإسلاميّة بالعراق والشام واستثمرتها لزعزعة البنيان السياسي لتخوم العالم من أجل إعادة اقتسام العالم بين كبيريات الدول المتحكّمة في العالم، لذلك فرأس المال المعولم هو من يقف خلف الدمار الذي تعيشه الدول وهو من يغذّي التنظيمات الإرهابيّة بمختلف تلويناتها وتشيعاتها وهو من يسعى إلى المحافظة عليها وتحريكها داخل العالم الشبيه برقعة شطرنج كبيرة تتحرك فيها ديكتاتوريّة رأس المال ،فأينما حلّ إلا وترك الفوضى ونشر الفقر لذلك فنحن نعتبر أنّ إرهاب اليوم هو امتداد تلقائي ومواصلة لسياسيات الاستعمار الكلاسيكسيّة عبر استحداث طرق وأساليب لإخضاع الشعوب ونهب ثرواتها، فغالبا ما تكون ساحة الصراع الامبريالي هي أقطار تخوم العالم التي لا تكفيها مشاكلها الخاصة التي أفرزتها في جل الأحيان قوى النهب العالمية بشكليها الإمبراطوري الكلاسيكي والمعولم حتى تسقط في "فخ الربيع العربي" المنتج لفخ "الحرب الباردة الجديدة" وبالتالي نصبح أكباش فداء تجرب فينا قوى الاستعمار الناعم آخر منجزاتها في حقل الصناعة العسكرية، واشكاليتنا الأولى أن بلدان الأطراف لا تزال هشة البنيان وضعيفة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا مما يجعل أغلبهم يرضخون إلى منطق الاستعمار الذي تمارسه التكتلات العالمية.

      لا ينفصل الحديث عن الإرهاب المتمركز والمتصالب في بنية نظام الإمبراطوريّة عن التفكير في ممكنات المقاومة و الإنعتاق من غطرسة العولمة باعتبارها التطبيق الخادع والمشوّه للكونيّة الحقيقيّة وفق تشخيص بودريار وبذلك يكون النضال ضدّها وضدّ إفرازاتها خيار إنسانيا وهو ما يتطلّب في نظرنا شكل جديد من التنظّم على مستوى عالمي لمناهضة نظام الإمبراطوريّة.

2.   أطروحات أوليّة لفعل المقاومة والتخطّى
       لا يمكن في نظرنا تجاوز هذا الوضع المدعشن إلا بتجاوز الظّروف التي أنتجته فلئن كانت الأصوليات الدينيّة هي الوقود الذي يحرّك الحروب الاستعماريّة المعولمة فإنّ المطلوب أولا هو تحليل الدرجة التي وصلت إليها الرأسماليّة ذلك لأنّها لا تستحمّ في نفس المستعمرة مرتيّن ومعنى ذلك أنّ تحديد درجة تطوّر أساليب الإنتاج وموقع حركة رأس المال في العمليّة الإنتاجية يمثّل في نظرنا النقطة الأولى لكل عمل مقاوم وذلك نترجمه بأن الحروب المعاصرة تهاجمك في كل مكان وترهبك أينما ذهبت وذلك راجع إلى استعمال التكنولوجيات المتطوّرة وتطبيقها لإستثمار الشعوب وهذا التطبيق جعلنا نمرّ إلى الاستعمار الرقمي ومعنى ذلك أن العمليات الإرهابيّة مستوطنة في بنية الإمبراطوريّة المعولمة وداخل الاقتصاد المعلوماتي وعبر رأس المال الوهمي وعليه فنقطة البدء تكون انطلاقا من التيقن بأن العمليات الإرهابيّة "لم تعد بإلقاء القنابل واختطاف الطائرات وتفجير المباني وطريقة الكاميكاز وإنّما أصبحت تجري على الصعيد الرقمي باختراق المنظومات الإعلاميّة والهجومات الاليكترونيّة والتشويش على الفضائيات وإحداث البلبلة في المصادر المعلوماتيّة والعسكريّة لدولة معيّنة وممارسة الضغط الدبلوماسي والحصار الاقتصادي والتضييق التجاري وفرض منظومة من الرقابة القانونيّة الدوليّة "[12]

     البيّن مما قيل أن تحديد الدرجة التي وصلت إليها المنظومة الرأسماليّة هو الكفيل وحده ببيان المهام المطروحة على مناهضي العولمة فالتفكير في الإرهاب يمرّ حتما عبر تدمير هذه المنظومة وتفجير الوعي السياسي والأخلاقي والديني والفني ومعنى ذلك أن الإله الدنيوي والمتمثّل رأسا في التجارة التي باتت اليكترونيّة والاقتصاد الرأسمالي الذي استوي إلى اقتصاد معلوماتي هو بالجوهر رأس الإشكال والنضال لا يكون بمهاجمة الإرهاب الأصولي  في معقله بل يكون بتفكيك أجهزة الإمبراطوريّة وطرد الإله الدنيوي ومحاصرته وعليه فمقاومة الإرهاب لا يكون بالتوجّه إلى الإرهاب في شكله الأصولي المدعشن بل في مقاومة الفقر والاستغلال والهيمنة المعولمة التي تمارسها مافيات المال والإعلام والسلاح فالمطلوب في نظرنا هو إنهاء الاحتلال والاستيطان والتهجير والكف عن اعتبار العالم مستعمرة شاسعة تجرب فيه قوى الاستعمار الناعم آخر منجزاتها في حقل الصناعة العسكرية، فنقطة البدء لكل عمل مقاوم ومناهض لشراسة المنظومة الرأسماليّة المعولمة يكون أولا بتحديد التناقضات الرئيسيّة التي تضبط حركة التاريخ ومنها تحديد سمات المرحلة من أجل تحديد ممكنات المقاومة وسبل الخروج من الأزمات التي فجّرتها هذه المنظومة لذلك فمن أوكد الأمور أن يستعاد التفكير في الإرهاب على ضوء الإمبراطوريّة المعولمة وعلى مصرف ما تحقق من مكاسب نظريّة ومن ذلك الانخراط في مشروع أساسه النقد الذي لا يفلت منه شيء وشعاره المقاومة ورأس حربته حفاة العالم كإمبراطوريّة مضادة لإمبراطوريّة رأس المال [13] وغايته الإنسان الحر، فالمطلوب على ضوء الراهن الوهن هو" نفخ الحياة في المقاومة ضد حالة الحرب العالميّة الدائمة"[14] فالفكر المقاوم هو توقيع مضاد لخيارات الحداثة وما بعدها ولديكتاتورية رأس المال ولأشكال اللا مساواة وللقمع المسلّط على الهوويات الثقافيّة والأقليات الدينيّة ولمظاهر التدخّل في الشؤون الداخليّة لبلدان الأطراف، فإنتهاج خيار المقاومة باعتبارها ثقافة بديلة ومناهضة لثقافة العولمة هو النقطة الأوليّة للتخطي والعبور والذي يمرّ أولا بإعلان أزمة النظام العالمي الإمبراطوري وعدم مقدرته على المحافظة على السلام والأمن العالمي لذلك فإننا نعتبر إمبراطوريّة الراهن " أشبه بالساحر الذي لم يعد يعرف كيف يتحكّم في الشياطين التي استحضرها"[15] فتنامي الحروب والتقاتل وحرب الأصوليات وتفاقم الفجوة بين المراكز والتخوم هو الذي يجعل من منظومة رأس المال في حالة أزمة شاملة فالرجوع إلى الإرهاب تحليلا وتصريفا على ضوء أزمة الإمبراطوريّة المعولمة وتأزّم خياراتها هو في حقيقية الأمر دعوة إلى الانخراط في مشروع تحرري شامل يتشكّل من قوى حيّة وطلائعيّة للاحتجاج والرفض والمقاومة لكل ما هو سائد ومن ذلك يكون هامش الإمبراطوريّة في تناقض مع مركز الإمبراطوريّة كمقدّمة ممكنة للبناء الديمقراطي الشامل وللتعايش المشترك بغض النظر على الاختلافات الدينيّة والإيديولوجيّة والثقافيّة.

      فالحاجة إلى ثقافة بديلة هو في ذات الوعي حاجة إلى شكل جديد من الوعي يكون نتاجا لأزمة الراهن وامتداد وتطويرا لكل الأفكار التقدميّة والتحرريّة في العالم ومنها فالحاجة إلى ثقافة بديلة هو حاجة إلى شكل جديد من التنظّم يكون على قاعدة المشترك الكوني الحقيقي والذي نعبّر عنه بمطلب الإنسانيّة في الحريّة والرفاهيّة والكرامة الإنسانيّة  بعيدا عن شتى أشكال الهيمنة والجبروت  الذي تمارسه المافيات العالميّة .

      يكون الفعل المقاوم على قاعدة الشروط الماديّة التي أفرزتها الرأسماليّة العالميّة من أجل فضح سياسيات الخوصصة التي تنتهجها البلدان الراعية ومنها فضح ديكتاتوريّة رأس المال الذي يتغذّى من جثث الموتى ومن تفقير العقول والثقافات إلى التلاعب بميولات الإنسان والتحكّم فيه فعلا وسلوكا ومن ثمّة فالفعل المقاوم والذي نعبّر عنه بالبراكسيس[16] الثوري لا يمكن أن تكون ضرباته الموجّهة إلى عمق المنظومة  ناجعة وفعّالة إلا متى انتقل من مستوى وطني " إلى المستوى العالمي وإلى مهاجمة التأسيس الإمبراطوري بعموميته"[17] ومن ذلك فمقاومة  بطش منظومة رأس المال التي بيّضت المال والإرهاب يتطلّب تكثيف أشكال المقاومة وعولمتها وربطها بما هو سياسي واقتصادي وثقافي وإيديولوجي وذلك من أجل "خلق فضاءات عامة جديدة وأشكال فتيّة للتجمّع"[18] تفجّر الفوضى الإمبراطوريّة وتفضح ممارساتها وتزيد من تصدّعاتها من أجل التعجيل في نهايتها.

     قلنا في ما سبق أن تحديد المهام التاريخيّة يتطلّب تحليل سمات المرحلة لأنّ هكذا تحليل يحدّد المهام المطروحة على القوى المناهضة لرأس المال ولخياراته اللا إنسانيّة وهذا التحديد هو الذي سيسمح بفرز شكل المقاومة وممكنات التخطي والعبور نحو تشكيلة اقتصاديّة واجتماعيّة جديدة تكون قادرة على استئصال اللا إنساني في هذه الحضارة .

     البيّن مما قيل أن تحديد العدو المشترك على مستوى عالمي هو البداية الممكنة لثقافة بديلة تحمل في طيّاتها مشروع للتحرر الإنساني الشامل من ديكتاتورية رأس المال ومن أجهزته وأدواته النفّاثة ومعنى ذلك لما يقول نيغري "يتعيّن على كل نضال إذا أراد أن يكتسب مغزى وذا شأن أن يهاجم قلب الإمبراطوريّة ،أن ينقضّ على منبع قوّة هذه الإمبراطوريّة"[19] ومثل هكذا أمر لا يكون ممكنا من وجهة الماديّة التاريخيّة إلا عن طريق تحويل فعل المقاومة إلى نشاط ثوري يكون مشتق من السخط والنقمة على ما هو كائن أي على الأوضاع التي جعلت من الإنسان كائنا مهانا ومستعبدا ومحتقرا وعلى أساليب الإنتاج وعلاقاتها التي صادرت الإنسان في مزاد ومعبد السلعة العالميّة وعلى الأخلاق والقانون والدين لأنهم ساهموا في تثبيت ما هو كائن وفي نقل هموم الإنسان وتطلّعاته في الحريّة والكرامة الإنسانيّة إلى ما وراء هذا العالم فجميع الأنظمة السياسيّة عبر شتى أشكال التشكيلات الاجتماعيّة بما في ذلك التشكيلة الإمبراطورية المعولمة تستعمل شتى أشكال الخرافات والأساطير لتقدّم الصبر والسلوان للجماهير المستضعفة والمفقرّة والمنخلعة عن الوجود فثقافة المشهد سواء كانت دينيّة أو سياسيّة تقدّم العزاء للمستضعفين والمقهورين ومن ذلك نكون في حاجة إلى بيان تأسيسي في المقاومة   من اجل التغيير الراديكالي لهذا العالم .

[1]  -الهمامي(حمه)،البيرسترويكا السفياتيّة : ثورة مضادة داخل الثورة المضادة، المطابع الموحّدة المنطقة الصناعيّة تونس، الطبعة الأولي
-ماندال(أرنست)،ماتبان(ليقر)،فولادي(جيري)، البرسترويكا رؤى نقديّة، ترجمة بشير الطبعة الأولى 1989.
[2]
[3] كتاب أصدره رجل الاقتصاد المصري سمير امين والذي تناول فيه مخلفات وإفرازات الإمبراطورية على بلدان العالم الثالث.
انظر في هذا السياق : امين سمير ( إمبراطوريّة الفوضى، ترجمة
[4] السيطرة الصامتة، الرأسماليّة العالميّة وموت الديمقراطيّة، مصدر مذكور سابقا
[5] بيترتمارتين(هانس)، سيزمان ( هارالد)، فخ العولمة الاعتداء على الديمقراطّة والرفاهيةـ سلسلة كتب ثقافية وشهريّة يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت
[6] مقالة تحمل عنوان "الصدام الثقافي" صادرة في صيف 1993 في مجلة فوريين فيرر الأمريكية وقد طورها في كتاب "الصدام الحضاري وإعادة بناء النظام العالمي وقد نشر سنة 1996.
[7] http://www.maghress.com/fkihbensalah/1000815الفسلفة في مواجهة الارهاب
[8] انظر في هذا السلق : الامبراطورية :امبراطورية العولمة الجديدة، مرجع مذكور سابقا، ص62، أنظر  خاصة فصل الإنتاج السياسي الحيوي.
-Negri(Antonio), traversées de l’empire, traduit  de l’italien par judith Revel, Edition de l’derne 2011.
[9] -امين(سمير)، التطور اللامتكافئ: دراسة في التشكيلات الاجتماعيّة للرأسمالية المحيطة، ترجمة برهان غليون، دار الطليعة، الطبعة الثانية مارس 1978.
[10]  نيغري ( انطونيو)، هاردت (مايكل)، الإمبراطورية :إمبراطورية العولمة الجديدة، ترجمة فاضل جتكر، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى 2001 ص ص17,
[11]  الميسكيني(فتحي)، داعش والغبراء أو نهاية الإسلام...؟ نص غضبي، الحوار المتمدن العدد4558 29-8-2015،www .ahewar.org /depat/show.art.asp ?aid= 430468
[12] زهير الخويلدي، فلسفة جاك دريدا في مواجهة عولمة الإرهاب، الحوار المتمدن-العدد: 4693 - 2015 / 1 / 16 - http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=450844
[13] يستعمل نيغري ومايكل هاردت في هذا السياق مفهوم الجمهور"الجمعنة" كحالة لا بروليتاريّة ولا ماركسيّة بعد ماركس وهي العنصر المضاد للإمبراطورية انها"مجموع فرادات نتاجية تعمل ضدّ السلطة من أجل فرض المقاومة والمكافحة "، أيّ مقاومة نظام الامبراطوريّة المتكون من كوكبة مركبة والذي تبدّل فيه لاستغلال من براديغم الاستغلال الاقتصادي الي براديغم الاستغلال البيوسياسي، حيث يقول في هذا السياق" حيث بات الدور المركزي الذي كانت قوّة عمل جماهير عمال  = المصنع تحتله عائد اليوم بصورة متعاضمة لقوّة العمل الذهنيّة واللاماديّة والقائمة على إتقان فن الكلام والتواصل، مما يفرض ضرورة تطوير نظريّة  سياسية للقيمة، نستطيع أن نضع مشكلة هذه المراكمة الرأسماليّة الجديدة للقيمة في قلب آليّة الاستغلال "
انظر في هذا السلق : الامبراطورية :امبراطورية العولمة الجديدة، مرجع مذكور سابقا، ص62، أنظر  خاصة فصل الإنتاج السياسي الحيوي.
-Negri(Antonio), traversées de l’empire, traduit  de l’italien par judith Revel, Edition de l’derne 2011.
[14]  اهاردت (مايكل) نيغري(انطونيو) الجمهور: الحرب والديمقراطيّة في عصر الامبراطوريّة،ترجمة حيدر حاج اسماعيل،، المنظّمة العربيّة للترجمة/بيروت كانون الثاني 2015، ص141,
[15]  البيان ص62
[16]  البراكسيس لفظ مشتق من اليونانيّة  معناه العمل والممارسة.وضدّه المعرفة أو النظر.ويدلّ عند الماركسيين على مجموع النشاطات  التي تهدف الى تبديل التنظيم الاجتماعي مثال ذلك  قول انغلز"لقد آن للفلسفة أن تعمل على تبديل العالم لا أن تقتصر على تفسيره وتأويله". المعجم الفلسفي مصدر مذكور سابقا، ص 206.
[17]   الامبراطورية :امبراطورية العولمة الجديدة ص101
[18] نفسه ص101
[19]  نفسه ص 105.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟