في مفهوم الحيرة ـ نادية عبد الجواد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse11041لئن أولت الفلسفة اهتماما بمضامين مجرَدة و كونيَة نسمَّيها مفهوما و توخت في معالجتها المنحى العقلي المنطقي الذي يسعى دائما للبحث عن تطابق ما مع الواقع من أجل الضفر بحقيقة يستقيم داخلها الوجود الإنساني كنسق أفلاطون مثلا فان ذلك جعلها تتعالى عن المسائل اليوميَة التي تمسَ الكيان الإنساني في صيرورته و تموضع الحياة موضعة تجمَدها و تجرَدها حتى تصير فكرة محضة و لا تطرح على نفسها كلَ ما يتعلَق بالذات و أعماق الإنسان و تشابكه بل تمرَ على اليوميَ مرورا غير إشكالي. و لعلَ ذلك ما فرَق الفلاسفة إلى فرقة هادمة للميتافيزيقا متجاوزة لها و أخرى محافظة تخشى على الفكر السقوط في حركيًة اليومية و فقدانه للمعنى.
فمعرف الحيرة مثلا هو من المعارف التي لم تحض بالاهتمام من قبل الفلاسفة لكنَّها كانت منبثَة في أنساقهم, فهي من المسكوت عنه الذي بدأت الفلسفة المعاصرة في إماطة اللثام عنه و لعلَ ذلك ما سنقوم به ببيان التناول المتعالي الكلاسيكي لمعرف الحيرة و إن كان ثانويَا و التناول التفهَمي الفينومينولوجي الذي يلتفت إلى المسكوت عنه و يخلَصه من الصمت الذي غيَبه داخل تاريخ الفلسفة.
فمالحيرة ؟ و بأي معنى يمكن الحديث فلسفيا في شأنها ؟

ليس معرف الحيرة من المعارف العريقة في الفلسفة و نقصد بذلك أنه لم يسبق لأحد من الفلاسفة الكلاسيكيين أن طرحه أو خصَص البحث فيه و لذلك لم نعتبره مفهوما. غير أن هذا الأمر لم يمنع من تواجده في الكثير من المسائل الفلسفية , منبثا فيها كأنه مبعث من مباعث التفلسف التي نادرا ما نوليها اهتماما على الرغم من الدور الأنتولوجي الذي تلعبه بالنسبة للتفكير بعامة و لكل المسائل المعرفية (الابستمولوجية) و العمليَة بخاصَة.
فالحيرة هي من المواضيع التي و إن لم تطرح مباشرة في تاريخ الفلسفة فإنها كانت حاضرة في الكثير من المسائل الفلسفيَة باعتبارها حالة توصيف لعمليًة التفكير ذاته فالحيرة كما صاغها القدامى و من بينهم بارمنيدس هي حالة من التشوش الذي يسم طريق الظنَ أي الطريق المضادَ للصفاء و اليقين, هو طريق الحق.
إن الحيرة هي إذن بمثابة العقبة التي تعترض الفكر السليم الذي مقصده الوضوح و اليقين و لذلك يمكن أن نترصَد معرف الحيرة في شكل رأي أو ظنَ "دوكسا" عند أفلاطون الذي ينسب هذا النوع من عدم اليقين و التردَد إلى الجهل و منه إلى السفسطة فما السفسطائي كما صوره أفلاطون إلا تلك الشخصيَة الحائرة التي لا تعرف جيَدا ما تنطق به و لا تثبت على فكرة و لنا في ذلك مثال غورجياس كبير السفسطائيين الذي أسقطه سقراط في التناقض عديد المرات لعدم ثباته على فكرة صحيحة و بالتالي فان صورة السفسطائي هي الصورة المثلى للحائر داخل الفكر الفلسفي الكلاسيكي فليست الحيرة من المقومات التي تشترطها الفلسفة بل إنما هي ما يميَز الفكر العامَي المنغمس في الظنون و الأحكام المسبَقة و لعلَ سجين الكهف الأفلاطوني المتلقي للظنون و الأوهام لتفسير للحيرة التي انتابته حين تم تحريره من القيود و هي حالة ضياع تام بين الوهم و الحقيقة لذلك فلئن كانت الحيرة لحظة انتقاليَة فهي لا يجب أن تطول و إلا صارت وضعيَة قصوى من الارتياب التام.
يجعل التناول المفهومي الكلاسيكي من الحيرة عيبا يطال الفكر و يجب تجنبه و يذهب بعض الفلاسفة إلى اعتبارها perceptions confusesحالة من الخلط بين الادراكات ، أو هي انفعال سلبيَ من شأنه أن يؤدي إلى الحزن مثلما ذهب إلى ذلك سبينوزا و هو أمر طبيعي في سياق ينظر إلى الصفاء و التميَز الذهنيين كرمز للتفكير السليم.
 ليس للحيرة من قيمة أيا كانت في سجَل الفلسفة التي تبحث عن الحقيقة فهي إما أن تنمَ عن عدم معرفة ملَمة و واضحة بموضوع ما و بالتالي تمثل عائقا إزاء عمليَة تأمل المثل و إما أن تكون انفعالا نفسيا يقود الإنسان إلى مدارك الشعور السلبي و يمنعه من أن يكون فاعلا و من أن يحقق الأتراكسيا المنشودة فالحيرة هي الحالة التي يجب أن يتجنبها الفيلسوف و لقد وصفها أبيقور بأنها تشوش أو ألم نفسيَ ناتج عن طريقة عيش الفرد و تمثله للأشياء فما القلق و ما الحيرة و ما التردد إلا أوجه من هذه الزعزعة التي يحدثها التعامل اللامتوازن مع العالم. إن الحيرة هي رديف غياب التوازن و كأنها أنتولوجيا العماء أو الفوضى التي لا تستقيم في الكون إلا إذا انتفت و تحوَلت إلى نظام و لذلك من الضروري العمل على مغادرتها. و لقد وجد الرواقيون حلا لتجنب هذه الحالات الحرجة للنفس و ذلك بأن نعيش وفق اللوغوس الكوني المطلق و أن لا ننفعل لكلَ الشرور التي تحدث ف"كلَ ما يحدث إنما يحدث لسبب ما" و مع ذلك تبقى الحيرة من الأشياء السيئة التي بمقدورها أن تجعل الإنسان في ألم مستمر إذا ما استمرًت, فلا شيء يضاهي ذهنا صافيا و حياة معتدلة.
و بما أن معرف الحيرة ليس من المفاهيم الرئيسيًة التي تناولها الفلاسفة في البحث فإننا يمكن أن نجد لها تأويلات و اخراجات متنوعة لا تستجيب إلى نسق مفهومي بل تشكل شبكة من التقاطعات الدلاليَة فنفس الحيرة التي تمثلها اليونانيون القدامى باعتبارها حالة تشوش و خلط معرفي قد شكلَت الشرارة الأولى للتفلسف و التساؤل: أليست الحيرة هي أخت الدهشة ؟ فالحيرة هي منبع التفكير إذ هي لحظة إعادة النظر إلى كل المسلمات و مساءلة كلَ المعارف و الاعتقادات السابقة و إذ لا يمكن أن يتولد عن ذلك سوى الحيرة بل لعلَ الحيرة هي أصل التساؤل باعتبارها يقظة ذهنيَة و تفَطن إلى تهافت شيء ما. و لعلَ تساؤل الفلاسفة ما قبل السقراطيين عن أصل الوجود و بحثهم عن العلًة الأولى إنما هو تساؤل متحيَر فيه رغبة ملَحة في المعرفة و الوصول و كذلك الشأن بالنسبة لمتحاوري أفلاطون و خاصَة ضمن محاوراته الأخيرة (بارمنيدس) المترددين بين الوحدة و الكثرة و إنها لحيرة مزدوجة تشمل الكاتب و القارئ معا. فالحيرة هي من الأمور الأساسيَة في الفلسفة و لعلًها تتحوَل أحيانا- مثلما هو شأن الريبيين – إلى اليقين في حدَ ذاته, فتعليق الحكم لديهم إنما هو تعبير أقصى عن انتصار الحيرة باعتبارها حالة دائمة للفكر و هو ما قاد كانط إلى أن يعتبر أن "الريبيً هو البوهيمي و المتشرَد بالنسبة للفكر" .
و إذا كانت الحيرة منخرطة ضمن التفكير الفلسفي سواء كانت منبعه أو شعاره فإنها شكلت أيضا تجربة فريدة للكثير من الفلاسفة فالشك الديكارتي مثلا هو مرحلة مركزيَة في تأسيسه للكوجيطو و من بعده العلوم فلولا الشك لما توصل إلى يقين ثابت و لعلَنا نقرأ هذه الحيرة في كتاباته عندما يصف كيف أنه بدأ يخلط بين الحلم و اليقظة و بين المحسوس و المجرَد بقوله في التأمل الأول  :
"Mais, en y pensant soigneusement, je me ressouviens d'avoir été souvent trompé, lorsque je dormais, par de semblables illusions. Et m'arrêtant sur cette pensée, je vois si manifestement qu'il n'y a point d'indices concluants, ni de marques assez certaines par où l'on puisse distinguer nettement la veille d'avec le sommeil, que j'en suis tout étonné; et mon étonnement est tel, qu'il est presque capable de me persuader que je dors."
"و لكن إذا ما أمعنت التفكير في ذلك, أذكر أني خدعت في منامي بأوهام مثيلة. و تستوقفني هذه الفكرة لأرى بوضوح أنه ليس ثمَة مؤشر البتة و لا علامة دالة و يقينيَة نمَيز انطلاقا منها بين اليقظة و المنام و أنني في غاية التعجب إلى درجة  أكاد أقتنع بأنني نائم"
أما حيرة كانط فتتجسَد في بداية الطبعة الأولى لمقدَمة نقد العقل الخالص و هي بمثابة مبعث إرساء كلَ مشروعه النقدي إذ يقول في حسرة على الميتافيزيقا:
"Il fut un temps où elle était appelée la reine de toutes les sciences "...
"مضى زمن كانت الفلسفة تسمى فيه "ملكة كلَ العلوم"


 فما قلق كانط إزاء وضع الفلسفة مقابل تقدم العلوم إلا حيرة عبَر عنها في صرخات استفهاميَة ثلاث : مالذي يمكنني أن أعرف ؟ مالذي عليَ أن أفعل ؟ و هل لي أن آمل ؟
تجد الحيرة ما يشرع لإقامتها داخل الفلسفة من خلال السؤال و الاستشكال و هي هنا حيرة مرفوعة إلى المستوى الفلسفي الذي لم يعد يسمح بالحديث فيه عن حيرة بمعنى الانفعال أو الشعور بل بالمعنى المفهومي للكلمة.
غير أن ذلك لا يمنع المسألة من أن تعيد طرق الباب من جهة كونها وضعيَة معيشيَة تحمل الإنسان على التفكير و لذلك لا يجب النظر إليها من ناحية هذا الدور الذي تلعبه فحسب بل من جهة تمدَدها و بتتبع آثارها في حياة الإنسان. فالحيرة يقول نيتشة هي الحالة الصحيَة للتفكير لأنها لا تنخدع بوهم الحقيقة : إنها التفطن الأعظم بأفول صنم  الحقيقة و كلَ ما ينجرَ عنها من ارتكاس . و لذلك نجد نيتشة في الكثير من كتبه و خاصَة في كتاب "هكذا تكلَم زاردشت" يدعو الناس إلى أن يفضلوا الحيرة على السكينة و الثبات "فالحقائق أوهام نسينا أنها كذلك".
تدخل الحيرة إذا من هذا الباب حيَز التفكير الفلسفي لتصير مركز العديد من المحاولات الفينومينولوجيَة. إذ يمكن أن نصنَف الحيرة ضمن الوضعيات القصوى أو الحديَة التي تقتضي تأويلا لأنها تدفع بالمرء إلى أقصاه و تجعله يعيد اكتشاف نفسه من جديد , و لعلَ الحيرة أكثر الوضعيات القصوى عسرا لأنها لا تستقيم على وضع نهائيَ أو لعلَها هي جوهر كلَ وضعيَة قصوى فالموت حيرة و العذاب حيرة و تمزق و هكذا فان تجربة الحيرة إنما هي من التجارب الفريدة التي قادت العلماء إلى مراجعة نظرياتهم بعد أن انسدت أمامهم الطرق و نذكر هنا أزمة الأسس التي زعزعت العلماء أو اكتشاف نظرية الفوضى و دعمها بالفيزياء الكوانطية التي احتار العلماء إلى اليوم في صياغة مفاهيم واضحة حولها و بالتالي فان الحيرة تطال جميع المجالات و تمثل تجربة فريدة تؤدي إلى الإبداع كما تؤدي إلى الانهيار.
إن الحيرة هي من المعارف الملتبسة نظرا لتعدد دلالاتها و تطرح أيضا مشكلا في الترجمة إذ يمكن أن تأخذ بمعنى التشوش الذهني و يمكن أن تفهم بمعنى الشك أو الاضطراب أو القلق أو عدم اليقين و لذلك فإنها تفتحنا حتى على التجارب الروائيَة فشخصيَة الشحاذ لنجيب محفوظ هي صرخة الحيرة التي تجعله ينتقل من تجربة إلى أخرى و من يقين إلى آخر, و هي التي دفعت أبا هريرة من هيئة كيان إلى أخرى و هي التي يلخَصها سارتر يكونها العدم الذي يوَلد الغثيان : أفليست الحيرة تعليق حكم و تعليق الذات بين عدمين ؟
إن الحيرة باعتبارها ملازمة لوضعية الإنسان المقذوف في العالم هي مصدر تشوق الإنسان للحياة بل لعلَها عين الأمل, فالاتحدد هو دائما حركة و الحركة ليست نقصا بإطلاق بل هي الحياة نفسها.
ليست الحيرة إذا تشوشا ذهنيا أو اضطرابا يجب استبعاده مثلما رأينا ذلك في اللحظة الأـولى و إنما هي ما يفرض نفسه علينا حتى في أبسط المواضيع بساطة و بداهة لذلك فهي منشأ التفلسف و محرَك الإنسان في كلَ ما يفعله.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟