دولوز وفن الرواية ـ ادريس شرود

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse02051إلى أستاذي الكبير.. ادريس الكريوي.
تقديم
    عبر الفليسوف الفرنسي جيل دولوز في عدة مناسبات، عن تخوفه من أفول نجم الفلسفة، اعتبارا لتراجع دور الجامعة في الإهتمام بالعلوم الإنسانية، وبروز منافسين جدد. طبعا وجدت الفلسفة أمامها دائما منافسين، منذ منافسي أفلاطون إلى مهرجي زرادشت، مرورا بالإبستمولوجيا والماركسية واللسانيات والتحليل النفسي. الآن هناك الإعلاميات والتواصل والدعاية التجارية، حيث فعل التسويق يعتبر كأرقى فكر رأسمالي، كوجيطو السلعة. هكذا راحت الفلسفة، تواجه من تجربة لأخرى منافسين وقحين أكثر فأكثر، وشتامين أكثر فأكثر، حتى أن أفلاطون نفسه لم يكن ليتصورهم في أشد لحظاته هزلا(1). أضف إلى ذلك، تهافت حقودي عصر الفراغ، من دعاة نهاية الفلسفة وموتها. في ظل هذه الظروف، انخرط دولوز في إعادة الإعتبار للفلسفة عن طريق خلق لقاءات جديدة مع فروع معرفية وفنية، ومنها الرواية.
التباسات الفكر في مرحلة ما بعد التحرير
     منذ عمله الأول حول هيوم(2)، ودولوز يبحث عن طريقة جديدة لاستئناف القول الفلسفي في ظروف ما بعد التحرير، حيث الإنغلاق في تاريخ الفلسفة والإكتفاء بمداخل إلى هيغل وهوسرل وهايدغر. هكذا شكل تاريخ الفلسفة عاملا سلطويا تكونت عبره صورة عن الفكر تدعى الفلسفة تمنع الناس تماما من التفكير(3). شكل هذا الإحساس القوي بالإنغلاق، تحريضا لإرادة دولوز لطرح مصير الفلسفة ومستقبلها، خاصة وانه لم يكن يميل إلى الوجودية ولا إلى الفينومينولوجيا. ففي ظل هذه الظروف، انطلق دولوز في البحث عن أشكال تعبير فلسفية جديدة، وكان محرضه الرئيسي لركوب هذه التجربة، هو الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه. فكان من  الضروري متابعة ما بدأه فيلسوف العلم المرح، في علاقة مع تجديد بعض الفنون الأخرى، مثل المسرح والسينما...(4).

كانت المهمة الأولى لجيل دولوز إذن، هي الخروج من تاريخ الفلسفة، بالإهتمام بكتاب يبدون أنهم يشكلون جزءا من تاريخ الفلسفة ولكنهم ينفلتون منه جزئيا أو كليا، أمثال لوكريس وسبينوزا وهيوم ونيتشه وبرغسون(5). في نفس الوقت، شكلت الرواية والفن التشكيلي والسينما والموسيقى مجالات أخرى للإنشغال الفلسفي. كانت إرادة فيلسوفنا مركزة على ذلك المفهوم الهيراقليطي والنيتشوي الظافر، وهو مفهوم الصيرورة. فالصيرورة يقول دولوز، ليست أبدا محاكاة ولا تقليدا لنموذج ولا تطابقا معه، ولو كان نموذج عدالة أو حقيقة، إن الصيرورة تنتمي إلى الجغرافيا، إنها توجهات واتجاهات،إنها مداخل ومخارج(6). لا تختلف نظرة دولوز للرواية عن تصوره لمهمة الكتابة، فهما معا يقترنان بمفهوم الصيرورة، فأن تكتب معناه أن تصير، ولكن لا يعني أن تصير كاتبا، وإنما أن تصير شيئا آخر(7). تتميز نظرة دولوز للرواية عن كثير من المقاربات النظرية التي تناولت وظيفة هذا الفن، إذ لا يتعلق الأمر في الإبداع الروائي بعكس الواقع في الكتابة ولا الوصول إلى الحقيقة التاريخية أو الإجتماعية، فالنص الإبداعي لا علاقة له مع الذكرى حتى المضخمة منها، ولا مع الإستيهام(8).
من نقد الأدب الفرنسي إلى تفوق الأدب الأنجليزي والأمريكي
     وجه جيل دولوز انتقادات للأدب الفرنسي، ففي كتابه "حوارات" مع كلير بارني، لخص الحالة العامة لهذا الأدب بقوله: "الأدب الفرنسي مليء بالبيانات، والإيديولوجيات، ونظريات الكتابة، ومليء بالمجاملات العصابية، بالمحاكم النرجسية(9)، كما أنه مليء بالمبالغات في الجانب الإنساني والتاريخي، والمغالات في عرض المعاناة وتضخيم الأحداث وتحريك الأبطال في كل اتجاه. يتفق دولوز مع نظرة لورانس للأدب الفرنسي، حين يأخذ عليه كونه روحيا، وإيديولوجيا ومثاليا لا مجال لمعالجته، ونقديا بشكل كبير، ولكنه نقد يحمل على الحياة عوض أن يبدع الحياة(10). فرضت هذه الوضعية على دولوز ممارسة الترحال وعقد لقاءات مع كتاب وروائيين وموسيقيين وفنانين تشكيليين ومخرجين سينمائيين. لكن دولوز كان يلح كثيرا على فن الرواية، لأنه مصدر لسوء تفاهم: فكثير من الناس يعتقد أنه يمكن صنع رواية بما لهم من إدراكات وانفعالات، وذكريات أو وثائق، رحلات ونزوات، أبناء وأقارب، والأشخاص المهمين الذين قد يلتقون بهم. وخاصة الشخص المهم الذي يمثله الكاتب نفسه...، وأخيرا يستعين بآرائه الخاصة التي تلحم كل هذه العناصر. وعند الحاجة يستشهد بأسماء كتاب كبار اقتصروا فقط على كتابة قصة حياتهم.... وبذلك يصل إلى كتابة روايات ذات صفة توليفية، تتيح له تحركا واسعا، ولكن بحثا عن أب [مرجع]، لا يلقاه إلا في ذاته، تلك هي الرواية التي ينتجها [كاتب] صحفي. لا يكاد يعفينا من [سرد] أي شيء، تعويضا عن غياب كل عمل فني حقيقة(11). لم يهتم جيل دولوز بالنقاشات والجدالات التي كانت تجري في الجامعات الأوربية والأمريكية حول نظريات الرواية وحول علاقة الفلسفة بالأدب، ومدى أهمية الكتابة الروائية  بالطريقة الفلسفية أو الأدبية، بل كان معجبا بتلك العلاقة المبهرة التي تربط الأدب وبالحياة. تلك هي المهمة التي اضطلع بها الأدب الأنجليزي والأمريكي؛ أدب عبارة عن مجرى للتجريب، ومجال مفتوح للرحيل، ولإبداع خطوط هروب، ولاختراع انفعالات وإدراكات مجهولة.
 يشيد جيل دولوز، في هذا الصدد، بنماذج من الروائيين الأنجليز والأمريكيين الذين كتبوا بواسطة الإدراكات والإنفعالات، نذكر من بينهم على سبيل المثال:
-ديفيد هوبرت لورانس: كان الموضوع الأكثر سموا عنده، يقول دولوز، هو الرحيل والهروب، اختراق الأفق والدخول في حياة أخرى. فاكتشاف العوالم، حسب لورانس، لن يتحقق إلا بواسطة هروب طويل مكسر.
-سكوت فيتزجيرالد: أبدع هو الآخر خطوط هروب، عبارة عن تكسيرات لا تسامح فيها. ففوق هذه الخطوط تجري أحداثا والتقاءات، وتفرض قيود. لكن رغم القيود المختلفة التي تبقى فوق الخط كالأم والأب الأزليين والأشكال الأوديبية والتصلبات الفاشية، فإننا مطالبون بمواجهة هذه الأخطار، والتحلي بالصبر والإحتياطات اللازمة، والقيام بالتعديلات الضرورية كل حين.
لا يتوقف الأدب الأمريكي والأنجليزي عن تقديم هذه التكسيرات، وهاته الشخصيات التي تبدع خط هروبها، وتبدع بواسطة خط الهروب. فهي مليئة بالحيوية والنشاط والفعالية، والرغبة الشرهة في المغامرة والإكتشاف، أي الرغبة المرحة في الحياة. لسنا هنا أمام تلك المحاكاة الساخرة للشخصيات، صاحبة الأدوار البطولية أوالخلاصية، بل أمام شخصيات عبارة عن  مجموعة من الإحساسات التكثيفية ومن كتل الإحساسات المتغيرة. إن عملية رسم خطوط الهروب، حسب دولوز، تعني في المقام الأول تخطي الحدود وعدم اعتناق الأوامر السائدة واكتساب سرية. وتعني في المقام الثاني إبداع كتابة تكون بمثابة وسيلة من أجل حياة تفوق الحياة الشخصية. وتعني في المقام الأخير إنتاج واقع وإبداع حياة، وإيجاد سلاح. كل شيء في هذا الأدب الأنجليزي والأمريكي،عبارة عن حياة وتجريب، انطلاقة وصيرورة ومرور وقفز وقوة خارقة وعلاقة مع الخارج(12).
الرواية إبداع للإنفعالات والإدراكات والأحاسيس
    يتمثل دور الروائي حسب دولوز في إبداع كتل من الإنفعالات والمدركات والإحساسات، بالإرتكاز على الوحدة الواقعية للكتابة، وهي التنسيق، أي العمل المشترك والتعاطف والتركيب والتفاعل. لايتعلق الأمر في الإبداع الروائي بالتخييل والتأمل والتأويل، أو المشابهة والبلاغة والإستعارة، بل بالكتابة مع العالم أو مع قطعة من العالم أو مع الناس، أي أن يكون الكاتب في الوسط، فوق خط التقاء بين عالم داخلي وعالم خارجي. فتكون المنفعة الوحيدة للكتابة هي رؤية اختفاء الزجاجيات التي تفصلنا عن العالم، على حد تعبير لورانس.وخير مثال على ذلك، الإنفعالات العظيمة للحالات الغسقية للفرسان في روايات كريستيان دوتروا، والمؤثر الإدراكي لأرض البور عند توماس هاردي، والمؤثرات الإدراكية المحيطية البحرية عند ملفيل، و المؤثرات الإدراكية للمرآة عند فرجينيا وولف. فمهمة الفنان النبيلة تتمثل دائما في إضافة متغيرات إلى العالم، ومنح فرصة رؤية قوة الحياة التي تخترق العمل الإبداعي، وصياغة برامج من الحياة تكون وسائل للرصد من أجل تسيير تجريب يتجاوز قدراتنا في التكهن(13).
 لم يتوقف دولوز عن التأكيد على علاقة الفلسفة والأدب بالحياة، فنحن ندرك ونحس بأهمية هذه العلاقة في مجمل كتاباته، والتي تثبت نزعته الحيوية وإيمانه بهذا العالم، وتمجيده للفرح والمتعة وتأكيده للحياة. نلتقي في آخر كتبه، بمقالة رائعة تحمل عنوان "الأدب والحياة"(14)، كما نصاب بالدوار، حين يؤكد في آخر مقالة نشرها قبيل وفاته، بأن الحياة هي محايثة المحايثة: إنها قدرة وغبطة مطلقتين(15).
    هكذا يصير فن الرواية مع دولوز، لغة الإحساسات التي تقوم مقام الكلمات واللغة نفسها. أما الكاتب الروائي الكبير، فهو من يستخدم الكلمات، ولكن يخلق صياغة يجعلها تمر في الإحساس، وتجعل اللغة الجارية تتلعثم، أو ترتعش أو تصرخ أو حتى تغني: إنه الأسلوب، النبرة، لغة الإحساسات، أو اللغة الغريبة داخل اللغة، تلك التي تستدعي شعبا للمجيء.... إن الكاتب يطوع اللغة ويجعلها تهتز ويضمها ويصدعها لانتزاع عنصر المدرك من الإدراكات وعنصر الإنفعال من الإنفعالات والحس من الرأي؛ وذلك بهدف استدعاء هذا الشعب، الذي لا يزال غائبا بعد، كما نأمل(16).
الهوامش:
1-جيل دولوز وفيلكس غتاري: ما هي الفلسفة؟، ترجمة مطاع صفدي وفريق مركز الإنماء القومي،مركز الإنماء القومي، الطبعة الأولى،ص 35.
2- جيل دولوز: التجريبية والذاتية، بحث في في الطبيعة البشرية وفقا لهيوم، تعريب أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1999، صدرت طبعته الأولى ضمن المنشورات الجامعية سنة 1953.
3- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان-أحمد العلمي، أفريقيا الشرق، 1999، ص23.
-4Marc  B Delaunay : Deleuze et Nietzsche ou L’inverse…, Magazine Litteraire,N°257, Septembre 1988, p44.
5- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان-أحمد العلمي، أفريقيا الشرق، 1999، ص33.
6- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص10.
7- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص59.
8- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص178.
9- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص66. يقول دولوز:" الفرنسيون يبالغون في في الجانب الإنساني والتاريخي، ويبالغون في الإهتمام بالمستقبل والماضي. يقضون وقتهم في تحديد النقاط المشكلة للوضع. لا يعرفون مزاولة الصيرورة ويعتمدون في تفكيرهم على مقولتي الماضي والمستقبل التاريخيين. وحتى بالنسبة للثورة، فإنهم يفكرون في "مستقبل الثورة"، عوض التفكير في صيرورة – ثورية. لا يعرفون رسم خطوط، واتباع قناة. لا يعرفون شق الجدار وبرده. إنهم شغوفون بالجذور والأشجار والسجلات ونقاط  التشجير والخصائص"، انظر دولوز-بارني، حوارات، مرجع سابق، ص 52.
10- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص67.
11- جيل دولوز وفيلكس غتاري: ما هي الفلسفة؟، ص178.
12- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص51 و52.
13- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص65.
14-Gilles Deleuze :Critique et Clinique, Editions de Minuit, 1993 , p14.
15- l’Immanence : Une Vie …, Gilles Deleuze : Deux Regimes de Fous, les Editions de Minuit, 2003, p359.
16- جيل دولوز وفيلكس غتاري: ما هي الفلسفة؟، ص184