فلسفة الدين : قضايا ومفاهيم نقدية ـ أيوب كـــوش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse17070"في الدين أودعت الشعوب أعز ما لديها."
هيغل.
الدين ظاهرة إنسانية أساسية في كل المجتمعات البشرية ،وكما يقول روني جيرو " لايوجد مجتمع بدون دين" ،فالدين ظاهرة قديمة قدم الإنسان إلا أن موضوع تفكيري سيدور حول فلسفة الدين باعتبارها مبحثا من مباحث الفلسفة ،أو فرعا من فروعها كفلسفة العلم ،وفلسفة الفن... ،وهي مبحث جديد ظهر في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر مع تلامذة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط Kant  ،وهذا الظهور المتأخر له أسبابه نذكر منها: أن فلسفة الدين لا يمكن أن تنشأ في مجتمع بدين واحد ،فهي تفترض بالأساس تعدد الأديان ،كما أن فلسفة الدين أتت كتمرة لذلك الفشل الذي عرفته الحروب الصليبية في القرن السابع عشر بين الأرتوذكس والبروتستانت ،والكاتوليك ،وهذه الحرب الدينية عمرت مئة سنة وانتهت بتبادل الاعتراف ،إذ أصبحت الحقيقة الدينية نسبية وليست مطلقة ، عندها نشأت فلسفة الدين .وللاقتراب من هذا الموضوع يمكن التساؤل وطرح إشكالات جوهرية من قبيل: ما معنى فلسفة الدين؟ وما الفرق بين فلسفة الدين والفلسفة الدينية؟ وكيف يمكن التحديد الدقيق لفلسفة الدين عما ليست فلسفة الدين؟ وهل ثمة تعريف جامع مانع للدين أم أن هنالك تعريفات متعددة بتعدد الحقول المعرفية؟ وهل يمكن الإستناد على تعريف ماهوي لفلسفة الدين؟وماهي ثوابت تحديد الفلاسفة المحدثين للدين؟
للإجابة على هذه الإشكالات يجدر بنا في المقام الأول تحديد فلسفة الدين بما ليست فلسفة للدين ،وكما يقول العرب " بأضدادها تعرف الأشياء" استنادا على هذا المبدأ حري بنا القول أولا: بأنه ليست فلسفة الدين من تاريخ الأديان في شيء لأن التفلسف في الدين شيء كما سنحدد لاحقا ،وتاريخ الأديان شيء آخر فتاريخ الأديان ما هو إلاَّ عبارة عن سجلٍ مسطور يتضمن جملة من الأفكار والتجارب العقدية التي اعتقدها الإنسان من غابر الأزمان. واقترنت بدايته بظهور الكتابة في ما يقارب ما قبل خمسة آلاف عام أي ما يوافق عام 3000 ق.م في الشرق الأدنى. أما فترة ما قبل تأريخ الديانات فهي تتعلق بدراسة العقائد الدينية التي وُجِدَت قبل ظهور سجلات مكتوبة. أما زمن الديانة فهو تاريخ متسلسل لتلك الديانة الواحدة... أن هدف الحوار الديني ليس تحويل من نحاوره الى ديننا بل هو "اكتشاف الدين في الأديان" أو "اكتشاف الوحدة في التنوع".

ثانيا: ليست فلسفة الدين من اللاهوت Théologie ( المسحي) - الذي يقابل علم الكلام عند المسلمين - في شيء لأن اللاهوت له وظيفة دفاعية ،وذلك كما عرفه ابن خلدون في كتابه المقدمة "علم الكلام هو علم الدفاع عن العقائد الإيمانية بالحجج العقلية" ،فاللاهوت خادم للدين وظيفته تأكيد الدين و تسويغه لمن لا يؤمن به ،بينما فلسفة الدين لها وظيفة نقدية
ثالثا: ليست فلسفة الدين من الفلسفة الدينية في شيء لأن الفلسفة الدينية لها صبغة دينية فصاحبها يتفلسف داخل الدين أي يكون له دين أو معتقد ويتفلسف منه ؛ بينما فلسفة الدين تقع خارجه باعتبارها حكما أو تقويما نقديا للدين.
بعد هذا التتنقيح والتحديد الأولي لما لا يرتبط بفلسفة الدين ؛لكن قد تستدعيه فلسفة الدين باعتبارها مبحثا منفتحا على مختلف العلوم والمشارب إلا أنها لا تعتبره أساسا لوجودها فماهي إذن فلسفة الدين؟ أن هذا السؤال يطلب الماهية أو جوهر فلسفة الدين ويمكن أن نسوق التعريف التالي:فلسفة الدين هي فحص نقدي للمعتقدات الدينية الأساس ،وللمفاهيم الدينية. بعد هذا التحديد ،ولكي نلج إلى باقي جوانب الموضوع لابأس من أن نسوق جملة من التعاريف التي حاولة تحديد أو تعريف الدين ،أو ما الذي نعنيه بالدين؟ qu'est ce que la religion ،بهذا السؤال سيتمكن القارئ من إدراك معنى الدين في مختلف المجالات ومختلف التعاريف ناهيك عن الحقول المعرفية المختلفة التي تتداخل و فلسفة الدين لأن كما أشرنا سلفا بأن فلسفة الدين مبحث منفتح على كل المباحث الأخرى ولا يقصى منها أي مبحث ،ومن ضمن هذه المباحث نذكر: سوسيولوجيا الدين ،و سيكولوجيا الدين التي تبحث في علاقة الإيمان بالدهن البشري ،واللاهوت...، بالإضافة إلى أنه مبحث منفتح على جميع الأديان فالكل له الحق في أن يتفلسف في الدين سواء كان معتقدا أو غير معتقد ،لأن من أخلاقيات فلسفة الدين الحياد القيمي la neutralité axiologique أي عدم التعصب لأي دين من الأديان ،فالكل على قدم المساوات. كما سأحول مناقشة هذه التعريفات ببعض الفلاسفة الذين تناولوا قضية الدين صراحة أو ضمنا لأن أغلب الفلاسفة تناولوا موضوع ما معنى الدين؟ في تضاعيف كتبهم ،ولم يتناولوه تناولا مباشرا إلا أن البعض الآخر أفردوا كتبا في هذا الشأن مثل فيورباخ...
إذن ثمة عدد كبير من التعاريف المختلفة للدين: منها ماهو فينومينولوجي يحاول عرض ماهو مشترك بين أشكال الأديان المعروفة، مثل: "الدين اعتراف بشري بوجود قوة فوق بشرية مسيطرة؛ هي الإله أو الألهة الذين يستحقون الطاعة والعبادة" (معجم أوكسفورد)، ومنها ماهو تأويلي سيكولوجي، مثل: "الدين عبارة عن إحساس وإعمال وتجارب البشر في العزلة حين يشعرون بالإرتباط بشيء يعتبرونه إلها" (وليام جيمس)، وهنالك تعاريف سوسيولوجية للدين، مثل: 'الدين مجموع اعتقادات وممارسات ومؤسسات اجتماعية طورها البشر في مجتمعات مختلفة." (تالكوت بارسنز)،ويعرف آخرون – كأصحاب النزعة الطبيعية – بأنه "مجموع وساوس وشكوك تعيق ممارسة الأفعال بحرية" (سالمون رايناخ) ،أو بشكل أكثر تعاطفا: "الدين هو القيم الأخلاقية التي تعالت واستنارت بالمشاعر" (ماثيو آرلوند)، وهناك أيضا تعريفات دينية للدين، مثل: "الذين هو الإعتراف بأن كل الأشياء هي مظاهر لقوة لا نستطيع إدراكها" (هربرت سبنسر)...(1)
إن اختلاف التعريفات يضعنا أمام افتراض جوهري وهو ربما لا توجد خصائص مشتركة وموحدة لشيء يسمى الدين. فغالبا ما يدعو الدين إلى اللحمة الاجتماعية، وأحيانا يعبر عن انسجام داخلي للفرد/ المتدين، وأحيانا يتصف بكونه ما يفعله الإنسان في عزلته من طقوس وعبادات...
إن التعريف الفينومينولوجي للدين بحسبانه اعتقاد بوجود قوى خارقة مسيطرة هي الإله أو الألهة الذين يستحقون الطاعة والعبادة ،وبالعودة الى كتاب “اللفياثان” لطوماس هوبز (سنة 1651) ،نجده يبحث في السبب وراء نشأة الدين ،فهوبز من الفلاسفة الذين طرحوا مسألة الدين بعد حروب دينية طاحنة في انجلترا دعته إلى التساؤل عن منزلة الدين في المجتمع ،وهو سؤال حداثي بامتياز في علاقته بمفاهيم أخرى كالسياسة والأخلاق...، فجعل من الدين موضوعا للتفكير الفلسفي فاستشكل مفهوم الدين ،وكان على وعي تام بمسألة الدين ،كما أفرد في كتابه المواطن Le citoyen فصولا وطرح سؤالا بصورة جدرية؛ هل الدين سمة تميز الإنسان وحده؟ وكان جوابه عن هذا السؤال مطابقا لمذهبه الحسي؛ بما أن علامات ومظاهر وتمار الدين لا تظهر إلا في الإنسان وحده فهي أشياء محسوسة أي من خلال العلامات التي تظهر بشكل مباشر حسي في الإنسان"الدين تجلي خارجي للعبادة". ولكي لا نطيل نعود إلى تفكيك بنية التعريف الفينومينولوجي للدين. إذن: فالدين ظاهرة phénomène بشرية ،ومصدر الدين في الإنسان مرده إلى خوف الإنسان من المستقبل ،ومن القوى الطبيعية وهذا ما دفع الإنسان الى التسليم بوجود قوى فوق طبيعية تسير هذا الكون ؛لأن الإنسان من سماته أنه يبحث عن العلل بخلاف الحيوان. هذه الأسباب دفعت هوبز إلى القول بأن الدين ظاهرة تخص الإنسان وحده وهو ظاهرة ملازمة له ،فالدين مرتكز في طبيعة الإنسان لا يمكن اجتثاثه منه ،وبالتالى فأصل الدين مبني على الخوف من القوى الطبيعية الغيبية لذلك يقوم الإنسان بعبادة هذه القوى. إلا أن هوبز يميز بين دين حقيقي ودين غير حقيقي ،فالدين الغير الحق هو الدين المبني على الشعودة والخوف من المجهول ومن المصير وهو شعور تنتجه الوثنية والذي يؤدي إلى الرهبة ،بينما الدين الحق هو الدين المبني على الصدق الذي يؤدي إلى الرغبة.
أما فيما يخص التعريفين التأويلي السيكولوجي للدين باعتباره إحساسا وطاعة  يمكن تحليله من وجهتين الأولى تعتبره كذلك ،والثانية ترى فيه عكس ذلك ،في ما يخص النظرة الأولى نجد خير ممثل لها الفيلسوف واللاهوتي الألماني شلايرماخر الذي أتى في الحقبة الرومانسية وأخد على عاتقه مهمتين الأولى هي نقد تلك الأباطيل والدعاوى التي قال بها الفلاسفة المحدثين ،والثانية تخليص الدين من الشوائب التي امتزجت به ،ودعوته للعودة إلى نوع من الإيمان الصافي والى احترام الدين والمتدينين.
إن الدين الصافي لا يوجد في القشرة أو في السطح ومهمة الفيلسوف كسر هذه القشرة ويحددها في قشرتين الأولى قشرة الميتافيزيقا التي تحاول تفسير الكون/ الوجود ،وتحديد طبيعته ،والثانية قشرة الأخلاق. ليس الدين نظريا "الميتافيزيقا"، ولا عمليا "الأخلاق" ،وبنزع هذه الأمور سيظهر الدين على حقيقته فالدين الحق هو إحساس بالتعلق فيما لا يتناهى/ في المطلق "الله" ،فالدين شيء وجداني عاطفي وليس عقلي ؛ لأن الإنسان لا يتدين لكي يتجادل من هنا فالدين جهل بالله " le non-savoir de dieu " لأن العلم بالله يحول الدين إلى ميتافيزيقا. إذن فالدين عاطفة ووجدان وإحساس ليس فكرا أو منطق أو عمل ،فالدين هو ذوق للامتناهي وإحساس به فالإحساس ضروري في الدين لأن الإدراك وحده لا يكفي.
أما المقاربة الثانية فهي مخالفة لهذا التحديد للدين باعتباره إحساس وتعلق ،نمثل لها بالفيلسوف الألماني هيغل الذي عاصر شلايرماخر وكان يحاضر معه في نفس الجامعة وكانا على خلاف تام. هيغل كما هو معروف رجل عقلاني هل سيتقبل هذا الغزل الرومانسي؟
إذا اعتبرنا كما قال شلايرماخر أن الدين بلا نظر عقلي صار الدين لا عقلانيا ،والأصل في الدين بحسب هيغل أنه عقلاني ،وهو انعكاس للحياة الإجتماعية للناس يقول هيغل " في الدين أوضعت الشعوب أعز ما لدسها".
ويرد هيغل ردا لادعا على مسألة الإحساس بالتعلق الذي اعتبرها شلايرماخر جوهر الدين قائلا: هدا الدين المرتبط بالإحساس هو أصلح بالكلاب لأن الكلب يحس فيك بالتعلق عندما ترمي له عظما ،فالدين عكس ذلك تماما ،فالله يعبد بالعقل ،والروح يجب أن تلقى حريتها في الدين وهذه الحرية هي حرية إلهية ،فوحدها الروح الحرة من يكون لها دين أو ما يسميها هيغل بالروح الموضوعية (2) ؛ إذن الدين عقلاني ،ولكننا نحن نقرأه قراءة غير عقلانية.
إن موضوع فلسفة الدين الذي حاولت أن أقرب القارئ من سياق نشأته وبعض القضايا مثل الله والمعجزات... ،والمفاهيم التي يأخذها هذا المبحث بالتحليل والنقد والدراسة...، يظل حتى اليوم مدار اهتمام وسجال بين الفلاسفة والمفكرين الذين لا تتطابق رؤيتهم عادة لهذه القضايا مع آراء الكنيسة ولاهوت، ذلك أنّهم يفكرون فيها ويتأملونها في سياق مفاهيمهم للوجود والمعرفة والقيم ،وهو موضوع يصعب حصر جميع قضاياه في مقال. وكما يقول جون هيك أن التجربة الدينية هي عبارة عن استجابة عفوية حرة للحق المطلق وهذا يعني أن الحقائق الإيمانية ليس في مقدور العقل ولا يدان له بتكنهها بسهولة، بل تتطلب جهدا جهيداً، وبالتالي يكون الله معروفا بالنسبة لأولئك الذين يسعون وراءه بأفئدتهم التواقة المخلصة، حيث أعطاهم الله اشارات مرئية يراها فقط أولئك الذين خلصوا له نجيّا.(3)  كما يعلمنا هذا المبحث  أن المغاير لنا دينياً، ليس في حالة ضلال ، بل هو تعبير عن شكل مختلف في الاستجابة للحقيقة اللاهوتية، وهذه دعوى  إلى التحرر الأناسي ،وضرورة إعمال العقل وفحص  للقضايا الدينية.


(1) جون هيك: فلسفة الدين، ترجمة طارق عسلي (بتصرف). دار المعارف الحكيمة، بيروت 2010، ص.4-6
(2) د. عبدالرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1984، ج2، ص 589
(3) وجيه قانصو، التعددية الدينية في فلسفة جون هيك (المرتكزات المعرفية واللاهوتية)، المركز الثقافي العربي (المغرب)، الدار العربية للعلوم ناشرون (لبنان)، ط1،2007، ص 152 (بتصرف)
(*) الإعتماد على محاضرة للدكتور محمد الشيخ ،استاذ الفلسفة في جامعة الحسن الثاني /البيضاء. حول موضوع فلسفة الدين

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟