تأرجح الوجود الإنساني بين الحرية و الضرورة ـ اسماعيل فائز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Anfasse02126يبدو أن كل تأمل في الوجود الإنساني يكشف عن توتر و مفارقة تتلخص في الأزواج المفهومية التالية: الحرية/الضرورة أو التناهي/اللاتناهي أو الذاتي/الموضوعي ...يتجسد ذلك في هذا الشعور الذي يتملكنا بين الفينة و الأخرى، و يجعلنا نعتقد أننا نملك مصيرنا و نبني ذواتنا وتاريخنا و مجتمعنا بإرادتنا...فجأة - و على حين غرة - ننصت لصوت آت من بعيد، و كأنه يخاطبنا بنبرة حادة داعيا إيانا إلى التخلص من وهم الحرية، و الإلتفات صوب كل ما يحطم هذا "السراب" الذي خلقه الخطاب الفلسفي و الميتافيزيقي لغايات أخلاقية ربما ( إقرار المسؤولية الأخلاقية و القانونية ...)، أو استجابة لنرجسية ( متوهمة ) تسمو بنا فوق الموجودات الأخرى، و تثبت أفضليتنا مقارنة بها.
ها نحن قد سقطنا في شرك الحيرة و القلق الذي تعمقه هذه الأبيات الشعرية لإيليا أبي ماضي، و التي تبرز ببساطة شفافة المفارقة التي أتينا على ذكرها : " هل أنا حر طليق أم أسير في قيود هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود" قد تتخذ الحرية الإنسانية صيغة إقرار ديكارتي إيجابي تسنده قناعة فلسفية راسخة قائمة على النظر إلى الإنسان كذات مفكرة واعية،وقد تتبدى على شكل مسلمة كانطية ضرورية لتأسيس الأخلاق، و يمكن اعتبارها كمبدأ معتزلي غايته نفي الظلم عن الذات الإلهية التي منحتنا حرية الإختيار، و التي تستوجب بالتالي تحمل المسؤولية. و ربما تتجسد هذه الحرية على شكل مطلب حقوقي حداثي بدونه لا يستقيم بناء الدولة المدنية الحديثة، أو على هيئة إجماع عالمي يتصدر المبادئ الأولى للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ( الذي يعتبر ثمرة تلاقح أنساق فكرية حداثية ليبرالية و اشتراكية...). و يذهب البعض أبعد من ذلك مبرزا أن تطور العلوم المعاصرة يجعل الوعي بالحتميات الطبيعية سبيلا للتغلب عليها أو على الأقل فتح الطريق لمناورتها أو استثمارها ( و تلك حالة الهندسة الوراثية التي مكنت الإنسان من التدخل لتغيير "القدر الوراثي" (على سبيل المثال).


لقد تشبثت تيارات فلسفية برفض نتائج العلوم الإنسانية التي عملت على تصوير الإنسان كريشة في مهب رياح الإكراهات و البنيات و القوى الخفية، فأكدت بالمقابل أسبقية الوجود على الماهية ( سارتر ) و قدرة الشخص على الإبداع الذاتي في حركة شخصنة لا تتوقف ( الشخصانية )، و يمكن لمفاهيم الذات الفاعلة ( آلان ) أو الديمومة ( برغسون )أن تسعفنا في تدعيم هذا الطرح... هذه الأصوات التي استمعنا إليها – و إن اختلفت منظوراتها و منطلقاتها – تتقاطع في تمجيد الحرية الإنسانية.
لكن مرة أخرى يطالعنا ذلك الصوت "المزعج" الذي يعيدنا إلى مملكة الضرورة و التناهي، و الذي يكشف خضوعنا لإكراهات موضوعية،تختلف مسمياتها و أسسها، لكنها تلتقي في "تعريتنا" أمام ذواتنا، و سلب الذات الإنسانية أعز ما تملك : الحرية . يصرخ الصوت "المزعج" بملئ حنجرته قائلا : أنت ( أيها الإنسان ) لست إلا مجرد ممثل على خشبة المسرح في "مسرحية" تولى إخراجها القدر ( الجبرية في الفكر الإسلامي و المدرسة الرواقية )، أو ألفها التاريخ بمكر (هيجل) أو سهرت على تأثيثها بنيات مادية أو ثقافية ( البنيويون ) أو تمسك بخيوطها غريزة قوية ( نيتشه ) أو إرادة حياة عمياء ( شوبنهاور ) ، أو توجهها من وراء الكواليس دوافع لا شعورية ( التحليل النفسي )...تتعدد المسميات و يتوحد الصوت، و قد يتسربل برداء لاهوتي أو فلسفي أو علمي أو أسطوري كذلك، فينكأ جراحا نرجسية تفضي في أقصى أشكالها إلى القول ب "موت الإنسان" في فلسفة "جنائزية"، ما تلبث أن تذكرنا بتناهينا الأنطولوجي ( الموت ).

فكيف السبيل إلى الخروج من هذا المأزق/الورطة ؟ يقترح البعض ضرورة نحت مفاهيم تشكل طريقا وسطا وتقرب وجهتي النظر السالفتي الذكر من خلال الحديث عن الحرية النسبية و الحرية المشروطة أو المسؤولة، أو البين- ذاتية ( ميرلوبونتي )، أو نظرية الكسب ( في الفكر الإسلامي)...فهل هذه الرؤى تحل فعلا مشكلة الحرية، أم أنها لا تعدو أن تكون مجرد تعميق لتلك الإحراجات ؟هل ينبغي أن نغير الوجهة و السؤال فننظر إلى مسألة الحرية من زاوية سياسية محضة ( تستبعد ما هو لاهوتي و ميتافييزيقي ووجداني) في علاقتها بالأنظمة الديمقراطية أو الكليانية ( حنا آرندت ) ؟ قد يبدو هذا الأمر ناجعا إذ يخلصنا على الأقل من تلك الحيرة التي تتملكنا كلما حاولنا التساؤل بصدد وجودنا.
لكن هل نستطيع فعلا الكف عن إثارة مثل هذه التساؤلات الوجودية ؟ أليست هذه هي "الضريبة " التي ينبغي أن نؤديها مقابل امتلاكنا القدرة على التساؤل و التفكير؟ ثم هل من حقنا أن نحسد الموجودات الأخرى إذ حرمت نقمة/متعة التساؤل؟

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟