الوجودية و الوجود الإلهي ـ مراد العبدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

20170221 233343الحديث عن أقسام الوجودية يضعنا أمام مجموعة من الاعتبارات التي على أساسها نميز هذا القسم عن ذاك و هي اعتبارات عدة منها العلاقة مع الوجود الإلهي فنتحدث بذلك من جهة عن اتجاه الوجودية المؤمنة التي تضع الإنسان في علاقة مباشرة مع الله كما ذهب Karl Jaspers (1883/1969)، الفيلسوف الألماني من التيار المؤمن في الوجودية. و كذا الأديب الفرنسي Gabriel Marcel (1889/ 1973) الذي أضفى على الوجودية طابعا مسيحيا تفاؤليا. و من جهة أخرى اتجاه الوجودية الملحدة التي ترى الإنسان وحيدا مهجورا، و التي بدأت مع إعلان Nietzscheعن موت الإله ممتدة إلى Heidegger و منه إلى Sartre. و يمكن بهذا الصدد اعتبار الاتجاهين السابقين  اتجاها واحدا ضمن تقسيم آخر يعتمد معطى التأثر بالدين، فيكونان اتجاها أولا متأثرا بالدين سواء بالسلب (الوجودية الملحدة) أو بالإيجاب (الوجودية المؤمنة)، في مقابل اتجاه ثان يتحدد بمعزل مطلق عن الدين و هو اتجاه أغلب الوجوديين الفرنسيين مثل Maurice Merleau-Ponty  (1908/1961) الفيلسوف الفرنسي المتأثر بفينومينولوجيا Husserl. التي تسعى إلى تحقيق الرجوع إلى عالم الحياة الأصلي والبدئي و "العودة إلى الأشياء ذاتها".
 
تقسيم كذلك نورده له علاقة بالمنهج المعتمد للتعاطي مع الوجودية و نجد ضمنه اتجاها يقتصر على التجربة الإنسانية كما فعل "كيركجرد" حيث الوجود واقعة زمانية بعيدة عن المطلق، دون السقوط في التقوقع داخل مذهب جامد. و نجد فيه اتجاها آخر  يرمي إلى إقامة انطولوجيا وجودية من أجل بلوغ المطلق كما عند "هيدجر"  و "سارتر". و هناك تصنيف آخر باعتبار الموقف من الماهيات و الطبائع؛ فيه فلسفات تؤكد على أولوية الوجود مع حذف الماهيات و الطبائع كما يرى "سارتر"، و فيه كذلك بالمقابل فلسفات تؤكد على أولوية الوجود و لكن مع إبقاء الماهيات و الطبائع. إلا أنه رغم كل هذه الاعتبارات في تقسيم الوجودية يبقى الموقف من الدين حجر الزاوية في تصنيف الوجودية و الوجوديين.
 


قبل الحديث عن أقسام الوجودية باعتبار موقفها من الدين لا بأس من إشارة بسيطة إلى أن هذا التصنيف ممعن في البساطة و لا يمكن تعميمه فبعض الوجوديين لا يمكن إخضاعهم لهذا التقسيم من قبيل "هيدجر" الذي يقول أنه لا هو مؤمن و لا هو غير مؤمن، كما أن من الوجوديين من يدين باليهودية، فهذا الاعتبار ليس حاسما مميزا لكون علاقة الفيلسوف الوجودي بمسيحيته أو إلحاده هي عادة. هذا التصنيف القائل بـ "مع" أو "ضد" الدين يطرح لنا إشكالية منطقية؛ فهل تقتضي الوجودية إلحادا؟ هل تقتضي إيمانا؟ هل يؤدي الإيمان أو الإلحاد إلى وجودية؟

1/ الوجودية الدينية المقيدة.
     مسألة الدينية في الوجودية تفرض علينا الانطلاق من منبع الوجودية "كيركجرد" الذي حدد ثلاث مراحل لتطور البشرية؛ من المرحلة الحسية الجمالية حيث الفرد يحمل شعار اللذة و المتعة دون أي ارتباط بمسؤولية ما فلا واجب و لا دين و لا زواج... مرورا بالمرحلة الأخلاقية في ارتباط وثيق بالمسؤولية و الواجب تجاه المجتمع و الإنسانية. و وصولا إلى المرحلة الدينية عبر التجرد التام من الدنيا في اتصال بالذات المطلقة و هذه المرحلة شبيهة بالتصوف. مع الإشارة إلى أن مسألة المسيحية التي يرى فيها أب الوجودية قمة الوجودية تتطلب قفزة نحو الإيمان، أما النظريات الجامدة و الطقوس الكنسية التقليدية فهي انحراف و ضلال و هو ما جعله يشن حربا على المؤسسة المسيحية لأنه رأى فيها أنها تنبذ العالم، و كذلك لأنها تحولت إلى تصورات عقلية نظرية مجردة. لقد كان تأثير المسيحية على Kierkegaard صريحا من خلال  الكآبة التي خيمت على فكره مع الخوف الدائم من الله الذي يعتبره العدو اللدود. فتوجهه الديني جعله يحصر الحياة الحقيقية في المسيحية فلا فلسفة و لا عقل على وجه الأرض يستطيع استنباط المقولات الرئيسية المؤسسة للوجود المسيحي.
 
وهنا نورد بعض أسس الوجودية الكيركجردية، حتى نقيس عليها المرتكزات التي استمدتها الوجودية من المعطى الديني. و منها؛
أ- الالتزام و المخاطرة، فلا وجود لحقيقة أو يقين إلا فيما أوافق على الالتزام به و المخاطرة بكل شيء في سبيله، إنه الإيمان في أعلى صورة للحقيقة لأنه من الله و كذا لاقتضائه أعلى درجات الذاتية بعيدا عن العقل و المعقول.
ب- أولوية الذاتية، لدرجة الاعتقاد بأنه كلما زاد الدليل الموضوعي عبر الأدلة نقص اليقين، فهذا الأخير يكون في الذروة عند العجز عن الإثبات. و نضيف أن الوجود هو أن يختار الفرد نفسه.
ج- اليأس و القلق، فالوجود خاضع لليأس و القلق و ذلك لأن الاختيار فيه من المخاطرة الكثير لكونه ينتزع الإنسان من المتناهي و يعيده إلى ذاته في الأبدي. اليأس يأتي قبل الحرية و القلق يأتي بعدها. اليأس من العناصر الانفعالية الضرورية في تكوين الوجود، و لا سبيل و لا معنى للخلاص منه، و الخلاص من اليأس هو العدم لأنه مصدر التفكير و مصدر التعالي الدائم. القلق هو شعور الفرد في فعله الحر بالخطيئة الناشئة بالضرورة عن الاختيار و هو ما عبر عنه "كيركجرد" و أوحى به لمن بعده من الوجوديين.
    كما نشير في هذا الصدد إلى أحد أبرز الشخصيات التي وضعت بصماتها على الوجودية الدينية، و الذي عبر عن علاقة العقيدة الدينية بالحياة الحضارية للإنسان المعاصر، إنه الفيلسوف الديني القسيس بروتستانتي و المنظر اللاهوتي Paul Tillich (1886/1965)، الذي يرى الدين أكثر من إجابة على تساؤلات نظرية، إنه إجابة لمشاكل عملية. فاللاهوت و الوجودية عنده متلاحمان. تلك العلاقة تجلت بوضوح عندما تحدث "تيليش" عن الأنماط الثلاثة للقلق الوجودي المتمثلة في؛ القلق "الأونطيقي ontic" بمعنى المتواجد الحقيقي الفعلي، و القلق الأخلاقي المرتبط بقلق الذنب و الإدانة ثم القلق الروحي قلق الخواء و اللامعنى. و لمواجهة هذا القلق بأنواعه اشترط "تيليش" شجاعة الكينونة المزدوجة، لكونها من جهة شجاعة المرء في أن يكون ذاته و يحقق وجوده الأصيل كنفس، و من جهة ثانية شجاعة المشاركة و التواجد مع الآخرين كعالم. و يضيف "تيليش" أن محاولات الحضارة المعاصرة لمواجهة القلق فشلت، فالرأسمالية مثلا نجحت في تحقيق شجاعة أن يكون المرء ذاته و لكنه يفقد شجاعة المشاركة. و في المقابل الاشتراكية تحقق شجاعة المشاركة و تعجز عن تحقيق المرء في أن يكون ذاته. و هنا يقر أن لا سبيل إلى تحقيق الشجاعتين إلا بشجاعة تضرب بجذورها في الألوهية، فشجاعة الكينونة شجاعة دينية حيث الإيمان بالعناية الإلهية يقهر القلق "الأونطيقي"، في حين الإيمان بالغفران يقهر القلق الأخلاقي و الإيمان بالرب ذاته، بالوجود ذاته يقهر القلق الروحي.
 
2/   الوجودية الملحدة الحرة.
يعد سارتر الممثل الرئيسي لهذا الاتجاه في فرنسا و غيرها، و قد وصل إلى الإلحاد بعد إمعان في الفردانية المحورية في فلسفته لدرجة جعلت الإنسان وحيدا في الكون ليس قبله شيء. فسارتر يرى الوجودية الحقة هي التي تحافظ على فردانية الإنسان حتى الثمالة و الغثيان. وبهذا يكون الإلحاد أسمى تعبير عن الذاتية الفردانية الحقة. و هو مذهب يقول بالإهمالية في إنكار تام لوجود الله و نفي أي تواصل بين الله و الإنسان، فسياسة مسح الطاولة من الله و القيم و غيرها جعلت الإنسان يعيش جبرية الحرية. و هنا يرى سارتر أنه ليس المهم ألا نؤمن بوجود الله، فالنتيجة سواء حتى و لو وجد، لكن المهم هو أن يجد الإنسان نفسه من جديد. و قد عبر سارتر عن ذلك صراحة [لكن الوجودية الملحدة التي أمثلها أنا، تعلن في وضوح و جلاء تامين، أنه إذا لم يكن الله موجودا، فإنه يوجد على الأقل مخلوق واحد قد تواجد قبل أن تتحدد معالمه. و هذا المخلوق هو الإنسان]. تداعيات هذا الموقف من سارتر جعلت الوجودية الملحدة تتموقف من الدول الدينية حيث ترى أنها تمارس سلطة دينية شمولية لها امتدادات سياسية تحاصر الفرد و تحد من حريته، فيكون الدين بذلك سلطة سياسية تقذف بالفرد في اللاوجود، و كذلك تفعل الوجودية الدينية. القضية الأساسية إذن في الفلسفة الوجودية هي تحرير الإنسان الفرد من كافة أشكال استلاب تلك الفردية، إنها قضية فردانية.

3/جدلية الوجود و الماهية وجوديا.
يعتبر تاريخ الفلسفة تاريخ مد و جزر بين من يسيطر على التفكير؛ هل هو الوجود (L'existence) أم الماهية(L'essence)؟ إنه نزاع قديم بينهما فكل وجود جهة اشتراك مع الموجودات الأخرى و هي الوجود، ثم جهة امتياز عن الآخرين و هي الماهية. و نشير هنا إلى أن الماهية تتسم بالتجريد و الكلية و تجري عليها عمليات التفكير العقلي من تحليل و مقارنة و تركيب على عكس الوجود. و لتوضيح الفرق بين الاثنين نورد قول "جون ماكوري" [إذا كان وجود الشيء يرتبط بواقعة أنه (موجود) فإن ماهيته تعتمد على واقعة (ما هو) فماهية موضوع ما تتألف من تلك السمات الأساسية التي تجعله موضوعا معينا]، في إشارة إلى الوجود العام و الوجود الخاص. و هنا نقف وقفة تأمل في الوجود، فأكثر معاني  الوجود شيوعا هو القول بأن الموجود هو ما سوف نلتقي به مصادفة في مكان ما من العالم، أي أن له مكانا و زمانا في العالم الفعلي. كما لا ننسى هنا أمرا مهما هو كون الوجود في الفلسفة الوجودية يقتصر على الوجود المتمثل في الإنسان دون الكائنات الأخرى لأنها لا توجد وجودا خارجيا كما الإنسان. الوجود البشري الذي نركز عليه يتحدد عبر سمات أساسية ندرجها فيما يلي:
أ‌-    الوجود يخرج عن ذاته، إنه ظهور إلى الخارج أو بالأحرى هو "خروج"، نظرا لدينامية الوجود و حركة الإنسان المستمرة. و الوجود البشري هو الوحيد الذي يظهر لا بوصفه كائنا فحسب، بل يستمد كينونته من إدراكه عن وعي ما هو و ما سيكون بالقياس إلى ما هو فيه لحظة بعينها. و هو ما يصطلح عليه وجوديا بـ"الوجود العيني". هكذا يبقى الطابع الهلامي الانبثاقي المتعالي، الخاصية الأساس في الوجود البشري، لكونه ينجذب دائما نحو وجود آخر. فإذا كانت معظم الأشياء الموجودة في العالم يمكن أن توصف بصفات قليلة محددة و ثابتة، كما هو الحال في المعادن مثلا، فنحن لا نستطيع قول الشيء نفسه بالنسبة للإنسان، إذ لا توجد مجموعة من الصفات تحدد وجوده لأنه يلقي بنفسه باستمرار في ممكنات الوجود العيني، أي في اللامتناهي.
يتفق الوجوديون على أن الإنسان لا يملك ماهية ثابتة محددة سلفا، رغم اختلافهم حول تموقع الماهية و الوجود من بعضهما البعض. ففي حين يرى "هيدغر" مثلا أن الماهية تكمن في الوجود، يرى سارتر أسبقية الوجود على الماهية. كذلك الفلاسفة المؤمنون ينظرون إلى الوجود البشري كتجاوز لذاته في اتجاهه إلى الله، بينما غير المؤمنين يرونه تجاوزا لذاته في اتجاهه إلى العدم.  
ب‌-    تفرد الوجود البشري العيني هي كذلك خاصية مميزة، من حيث أنني موجود عيني فريد unique، و ليس أي موجود آخر. على حد تعبير "كارل جسبرز" على أن الموجود البشري غير قابل لأن يحل محله وجود آخر، و غير قابل للاستبدال. هذا التفرد أصبح له أساس فيزيقي يكمن في علم الوراثة حيث لكل خريطته الجينية التي لا تقبل التعدد.
ت‌-    الوجود البشري يمتاز بالارتباط بالذات، لأنه سعي دائم لتكون واحدا مع ذاتك من غير انحلال.
إن الوجودية باختلاف نوعيها تؤمن بأسبقية الوجود على الماهية و أن الذاتية تبدأ أولا نتيجة كانت تتويجا لصيرورة للعلاقة بين الوجود و الماهية، فقد كنا عندما نصنع شيئا نكون بصدد صياغة فكرة مسبقة لدينا عن ذلك الشيء و الغاية منه فنكون أمام ماهية سابقة على وجود الشيء، هكذا نكون أمام خلق الله للإنسان حيث إرادة الله تتمثل في الفكرة التي لديه عن الفرد الذي يصوغه طبقا لها، في أسبقية للماهية على الوجود.
لكن مع مجيء النظريات الإلحادية في القرن الثامن عشر قضي على فكرة الله فلسفيا، و بقيت الماهية سابقة على الوجود. و هو ما نتحدث عنه حين نقول بالطبيعة البشرية كنموذج يصاغ عليه كل الأفراد بصفات عامة سابقة على الوجود الخاص المميز بين البشر عبر الفروق الفردية. و يعتبر رأي سارتر خيطا فاصلا في إشكالية الوجود و الماهية هذه حيث يصرح أن الإنسان يوجد أولا ثم يتعرف إلى نفسه و يختار لها ماهية. إذ لا وجود للرب الذي يحمل الطبيعة البشرية كفكرة مسبقة لديه. فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي تواجد قبل أن تتحدد معالمه، فهو يوجد أولا ثم يتعرف إلى نفسه ثم يتصل بالعالم الخارجي ثم تكون له صفاته التي يختارها، إذ ينطلق من الصفر دون أي طبيعة بشرية مسبقة فلا وجود للإله الذي يحمل الطبيعة الإنسانية كفكرة.

الصورة المرافقة للمقال هي لوحة للفنان التشكيلي التهامي أبادي